منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

النقص في النّفس أو الطرف أو العرض أو المال تقابل العدم والملكة

______________________________________________________

هذا ما ينسب إلى اللغويين. لكن العرف العام مخالف له ، حيث ان الضرر عندهم عدم التمام الّذي هو مقتضى طبيعة الشيء ، لا أنه مقابل للنفع الّذي هو شيء زائد على ما يقتضيه الخلقة الأصلية كما حرر في التعليقة ، فراجع.

هذا ما يرجع إلى معنى كلمة الضرر.

وأما الضرار فقيل : انه استعمل في معان :

أحدها : ما أشار إليه المصنف واستظهره في المقام من أن الضرار بمعنى الضرر ، فهو وان كان مصدرا من مصادر باب المفاعلة ، لكنه ليس هنا فعل الاثنين ، لوجوه :

منها : إطلاق لفظ «المضار» على سمرة في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية الحذاء : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارا» وفي مرسلة زرارة : «انك رجل مضار» مع وضوح أن الضرر في قضية سمرة لم يصدر إلّا من سمرة.

__________________

في تجارته يقال : زيد في ماله ، وإذا لم يربح ولم ينقص من رأس ماله شيء لا يطلق عليه الضرر ، لأنه لم ينقص شيء من ماله ، ولا النّفع ، إذ لم يزد شيء على ماله بل يطلق عليه التمام.

وتقابل التمام والضرر تقابل العدم والملكة ، إذ لا يطلق الضرر إلّا على ما لا ينبغي أن يكون ناقصا عما يقتضيه طبعه ، فوجود البصر للإنسان لا يصدق عليه النّفع ، بل يصدق عليه التمام ، وعدمه ضرر ، والنّفع مزية زائدة على ما تقتضيه الطبيعة ، كما إذا فرض أن مقدار رؤية البصر بحسب الطبع مسافة فرسخ ، فإذا كان مقدار رؤيتها في شخص فرسخين كان هذا مزية ، وهذه المزية نفع ، وعدمها عدم النّفع ، لا أنه ضرر ، فالضرر في النّفس أو الطرف أو العرض وان كان نقصا فيها ، لكنه نقص عما يقتضيه طبع الشيء ، لا أنه نقص عن الأوصاف الزائدة عليه ، فان نقصها ليس ضررا ، بل هو عدم النّفع.

٥٠١

كما أن الأظهر أن يكون «الضرار» بمعنى الضرر جيء به تأكيدا ،

______________________________________________________

ومنها : ما عن النهاية الأثيرية من أنه «قيل هما ـ أي الضرر والضرار ـ بمعنى ، والتكرار للتأكيد».

ومنها : ما عن المصباح من : «أن ضاره يضاره مضارة وضرارا يعني ضرّه».

ومنها : غير ذلك مما يشهد بوحدة الضرر والضرار معنى ، وأنه فعل الواحد مع كونه مصدر باب المفاعلة.

ثانيها : أن الضرار فعل الاثنين ، فعن النهاية الأثيرية أيضا : «والضرار فعل الاثنين».

ثالثها : أن الضرار الجزاء ، فعن النهاية أيضا : «والضرر ابتداء الفعل والضرار الجزاء عليه» ولعله يرجع إلى المعنى الثاني ، وان كان تعددهما غير بعيد.

__________________

فحق العبارة أن تكون هكذا : «فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل التمام من النقص في النّفس ... إلخ».

ثم ان النسبة بين الضرر المقابل للتمام وبين الضرر المقابل للنفع هي التباين ، وبين الضرر بالمعنى الأول وبين العيب الّذي هو المخالفة للخلقة الأصلية زيادة أو نقيصة هي الأعم والأخص المطلق ، إذ كل نقص طبيعي عيب ، ولا عكس ، إذ الزائد على الخلقة النوعية كالإصبع الزائدة عيب ، وليس بضرر ، إذ لا نقص فيما تقتضيه الطبيعة ، فتأمل.

وبين الضرر بالمعنى الثاني وهو المقابل للنفع وبين العيب هي التباين ، لعدم صدق شيء من نقص الوصف الزائد الّذي هو مزية للطبيعة على ما هو ناقص عن الطبيعة أو زائد عليها. وكذا العكس.

ثم ان جعل التقابل بين النّفع والضرر تقابل العدم والملكة لا التضاد كما عبر به بعض أهل اللغة ، لعله لأجل أن المتقابلين بنحو التضاد لا بد من كونهما وجوديين ،

٥٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

رابعها : أن تضر صاحبك من دون أن تنتفع به في قبال الانتفاع به ، كحفر

__________________

والمفروض أن الضرر هو النقص في المال ونحوه ، فهما متقابلان بنحو العدم والملكة.

لكنه نشأ من الخلط بين مصطلح أهل اللغة والمعقول في كلمة الضد ، فانه عرف في الميزان بالأمرين الوجوديين المندرجين تحت جامع. ولكنه في اللغة بمعنى مطلق المقابل للشيء ، والمباين والمخالف له الشامل لتمام أنحاء التقابل ، قال الراغب في المفردات : «قالوا : والضد هو أحد المتقابلات ، فان المتقابلين هما الشيئان المختلفان للذات ، وكل شيء قبالة الآخر ، ولا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد. وذلك أربعة أشياء : الضدان ... والمتناقضان ... والوجود والعدم كالبصر والعمى ، والموجبة والسالبة في الاخبار ، وكثير من المتكلمين وأهل اللغة يجعلون كل ذلك من المتضادات ويقول : ما لا يصح اجتماعهما» (١) وفي بعض التعبيرات : «الضدان الخلافان».

ومع الغض عنه ، فلو سلم تقابل العدم والملكة في المقام ، فانما هو بين الضرر والتمام لا النّفع ، والنّفع انما يقابل الضرر بالعرض لا بالذات كما أفاده المحقق الأصفهاني «لأن الزيادة تستدعي بقاء المزيد عليه على حده الوجوديّ ، فالنقص بمعنى عدم بقائه على صفة التمامية يستلزم عدم الزيادة ، فيقابل الزيادة بالعرض» (٢) إذ المقابل له بالذات هو التمام وبالعرض هو الزيادة لاستلزامها للتمامية.

إلّا أن يشكل أن المتقابلات إذا كانت ثلاثة أشياء لم يصح فرض التقابل بينها تقابل العدم والملكة ، لتقوم هذا النحو من التقابل كالسلب والإيجاب بموضوعين

__________________

(١) مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ص ٢٩٣

(٢) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٣١٧

٥٠٣

كما يشهد به (١) إطلاق «المضار» (*) على سمرة ، وحكي (٢) عن

______________________________________________________

بالوعة في قرب دار الجار مع تضرر الجار بها وانتفاع الحافر بها (**).

(١) أي : يشهد بكون الضرار بمعنى الضرر : إطلاق المضار الّذي هو من باب المفاعلة على سمرة مع تفرده في الإضرار ، وعدم مشاركة أحد معه في الضرر في تلك القضية ، وهذا أحد الشاهدين اللذين أقامهما المصنف على وحدة الضرر والضرار معنى ، وقد أوضحناه بقولنا : «منها إطلاق لفظ المضار على سمرة».

(٢) معطوف على «يشهد» يعني : كما يشهد ، وكما حكي عن النهاية ، ويمكن عطفه على «إطلاق» بعد تأويله بالمصدر ، يعني : كما يشهد به إطلاق «المضار» على سمرة ، ويشهد به أيضا حكاية اتحادهما معنى عن النهاية.

__________________

أحدهما عدمي ، إلّا أن شأنه أن يوجد ، بخلاف السلب والإيجاب ، لعدم اعتبار القابلية في العدمي منهما.

لكن يجاب عنه بأن المتقابلين بالأصالة هما الضرر والتمام ، وتقابل الضرر مع النّفع عرضي ، فتأمل.

(*) لم يظهر تقريب شهادته بالوحدة مع قوة احتمال إرادة الإضرار من الضرار فبمجرد عدم كونه فعل الاثنين لا يثبت اتحادهما معنى.

(**) خامسها : الضيق كما عن القاموس.

سادسها : أن الضرار هو السعي في إيصال الضرر. واستظهروا ذلك من بعض الآيات الشريفة كقوله تعالى : «والذين اتخذوا مسجدا ضرارا» وقوله تعالى : «وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ» وقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة : «انك رجل مضار» ويمكن أن يكون استعماله في هذا المعنى بقرينة نفس هذه الموارد ، لا أن يكون من معانيه اللغوية أو العرفية ، فلاحظ.

٥٠٤

النهاية ، لا فعل الاثنين (١) وان كان هو الأصل (٢) في باب المفاعلة ،

______________________________________________________

وكيف كان فهذا هو الشاهد الثاني على الوحدة ، قال في محكي النهاية : «وقيل هما بمعنى ، والتكرار للتأكيد» لكن حكاية ذلك عن الغير مضافا إلى اشعار كلمة «قيل» بالتمريض تنافي الشهادة ، فلا يبقى إلّا الشاهد الأول وهو إطلاق المضار على سمرة.

(١) يعني : لا أن يكون الضرار فعل الاثنين ، وهو المعنى الثاني من المعاني المتقدمة للضرار ، قال في محكي النهاية الأثيرية : «والضرار فعل الاثنين» والشاهدان المذكوران ينفيان كون «الضرار» هنا فعل الاثنين. لكن شهادة الشاهد الثاني مخدوشة بأن النهاية لم تشهد بوحدتهما ، لما عرفت من أن الحكاية بلفظ «وقيل» ليست ارتضاء للوحدة وقولا بها حتى تكون شهادة مثبتة للوحدة ، ونافية لكون «الضرار» فعل الاثنين ، بل الأمر بالعكس ، حيث ان قوله : «والضرار فعل الاثنين» ظاهر في جزمه بأن التعدد أحد معانيه اللغوية.

وكذا الحال في الشاهد الأول ، فان شهادته على الوحدة أيضا محل إشكال كما تقدم في التعليقة ، فدعوى أظهرية الوحدة غير ثابتة.

(٢) كما هو المشهور بين أهل العربية ، لكنه غير ثابت ان أريد بالأصل وضع

__________________

ففي المقام لا يبعد أن يراد بالضرار بقرينة المورد السعي في إيصال الضرر أو الإضرار ، فمعنى «لا ضرر ولا ضرار» لا ضرر ولا إضرار ، بأن يكون المراد بالأول نفي الحكم الضرري وبالثاني حرمة الإضرار بالغير ، فليسا متحدين معنى حتى يكون الثاني تأكيدا للأول.

ويمكن إرادة الاثنينية منه كما لعله المتبادر من باب المفاعلة ، فالمراد نفى الضرر الانفرادي والاشتراكي بنحو الضابط الكلي ، وأن الضرر بكلا قسميه منفي شرعا وان لم ينطبق الضرار على المورد ، إذ المنطبق عليه خصوص الضرر ، فتدبر.

٥٠٥

ولا الجزاء على الضرر (١) ، لعدم تعاهده من باب المفاعلة (٢).

وبالجملة : لم يثبت له (٣) معنى آخر غير الضرر.

كما أن الظاهر (٤) أن يكون «لا» لنفي الحقيقة ، كما هو

______________________________________________________

باب المفاعلة للمشاركة بين اثنين في صدور الفعل. وان أريد به الغلبة الاستعمالية ، ففيه مع عدم ثبوتها أيضا أنها لا تصلح لحمل الموارد المشكوكة عليها ، لتوقيفية اللغات وعدم حجية مجرد الغلبة وطريقيتها لإثباتها ، وللمحقق الأصفهاني (قده) تحقيق حول مفاد باب المفاعلة لم نذكره هنا روما للاختصار ونتعرض له في الرسالة المستقلة.

(١) هذا إشارة إلى المعنى الثالث للضرار ، وقد تقدم بقولنا : «ثالثها أن الضرار الجزاء ، فعن النهاية .... إلخ».

(٢) يكفي في تعاهده الكلام المتقدم عن النهاية ، فانه لم ينقله عن غيره ، فظاهره الجزم بذلك.

(٣) أي : للضرار معنى آخر غير الضرر ، فالمراد بهما واحد. وفيه : ما مر في التعليقة. هذا ما يتعلق بكلمتي الضرر والضرار.

وأما كلمة «لا» النافية ، فمحصل ما أفاده المصنف (قده) فيها هو : أن الأصل في مثل تركيب «لا ضرر» مما دخل فيه «لا» النفي على اسم النكرة كـ «لا رجل في الدار» هو نفي حقيقة مدخولها ، فمعنى «لا رجل نفي طبيعة الرّجل في الدار حقيقة أو ادعاء بلحاظ آثار تلك الطبيعة ، إذ انتفاء آثارها المطلوبة منها يصحح نفي نفس الطبيعة تنزيلا لوجودها الّذي لا يترتب عليه الأثر المرغوب منه منزلة عدمه.

(٤) هذا إشارة إلى معنى كلمة «لا» النفي ، وقد عرفت توضيحه بقولنا :

٥٠٦

الأصل (*) في هذا التركيب حقيقة (١) أو ادعاء (٢) كناية عن نفي الآثار ، كما هو (٣) الظاهر من مثل «لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد» (**)

______________________________________________________

«فمحصل ما أفاده المصنف فيها».

(١) قيد لنفي الحقيقة ، وضمير «هو» راجع إلى نفي الحقيقة ، والمراد بقوله : «في هذا التركيب» هو دخول «لا» النفي على اسم النكرة ، وحاصله : أن الأصل في «لا» النفي الداخلة على اسم الجنس هو نفي الطبيعة حقيقة أو مبالغة وادعاء ، تنبيها على أن الموجود الفاقد للأثر المرغوب منه كالمعدوم.

(٢) معطوف على «حقيقة» وقوله : «كناية» قيد لـ «ادعاء» ومنشأ له ، وقد مر آنفا توضيحه بقولنا : «إذ انتفاء آثارها المطلوبة منها يصحح نفي نفس الطبيعة ... إلخ».

(٣) أي : نفي الحقيقة ادعاء ظاهر الأمثلة المذكورة في المتن ، مثل «لا صلاة لجار المسجد ... إلخ».

__________________

(*) الأولى تأخيره عن قوله : «حقيقة» بأن يقال : «لنفي الحقيقة حقيقة كما هو الأصل في هذا التركيب أو ادعاء» إذ المراد بالأصل هو الوضع ، فيلزم انقسام الوضع إلى النفي الحقيقي والادعائي ، نظير انقسام الموضوع له إلى المعنى الحقيقي والمجازي ، وهذا الانقسام كما ترى.

نعم ان كان المراد بالأصل الغلبة فلا بأس بالعبارة المزبورة ، لأن المعنى حينئذ هو : أن «لا» النافية لنفي الحقيقة كما هو الغالب حقيقة أو ادعاء ، فانقسام الغلبة إلى النفي الحقيقي والادعائي صحيح ، دون المعنى الحقيقي.

(**) لعل الأولى تبديله بمثل «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» مما يكون المنفي فيه غير وصف الكمال ، إذ المصحح لنفي الطبيعة ادعاء ومبالغة يعتبر أن يكون من

٥٠٧

و «يا أشباه الرّجال ولا رجال» فان (١) قضية البلاغة (*) في الكلام

______________________________________________________

(١) هذا تمهيد لبيان ما اختاره من كون نفي الضرر من نفي الموضوع والحقيقة ادعاء وإرادة نفي الحكم منه. توضيح ذلك : أنه لمّا تعذرت إرادة المعنى الحقيقي وهو نفي الضرر حقيقة ، لكونه كذبا ، لوجود الضرر في الخارج ، دار أمره بين جملة من المعاني :

منها : إرادة الحكم من الضرر بعلاقة السببية ، حيث ان الضرر ينشأ من حكم الشارع ، كما إذا وجب الوضوء مع كون استعمال الماء مضرا ، أو لزم البيع الغبني ، فان الضرر في الأول ناش عن حكم الشارع بوجوب الوضوء ، وفي الثاني عن حكمه بلزوم البيع على المغبون ، فهذان الوجوب واللزوم منفيان بقاعدة الضرر ، فمرجع هذا الوجه إلى استعمال لفظ الضرر مجازا في سببه وهو الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي. وبهذا التصرف المجازي يصير النفي حقيقيا ، لعدم جعل طبيعة الحكم الّذي ينشأ منه الضرر حقيقة ، ففي وعاء التشريع لا ضرر حقيقة ، ويسمى هذا التصرف بالمجاز في الكلمة ، ويعبر عنه بأن الحكم الضرري لا جعل له ، فالضرر عنوان لنفس الحكم ومحمول عليه بالحمل الشائع ، كالحرج الّذي هو عنوان الحكم ومنفي في الشرع ، كما هو مقتضى قوله تعالى : «ما جعل عليكم في الدين من حرج» وهذا خيرة شيخنا الأعظم بل نسب إلى المشهور ، قال

__________________

الآثار المهمة التي يكون انتفاؤها مساوقا بنظر العرف لانتفاء الطبيعة. وأما انتفاء الصفات الكمالية مع وجود الصفات القوامية فلا يسوغ نفي الحقيقة ادعاء.

(*) لا يخفى أن البلاغة غير ملحوظة في روايات الأحكام خصوصا إذا لم تكن الرّواة من أهل العلم ، فان المقصود فيها تفهيم السائلين بعبارات واضحة جدا بحيث لا يتطرق إليها احتمال خلاف. وعليه فلا تكون الأقربية إلى البلاغة مزية توجب أرجحية إرادته من غيره.

٥٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الشيخ (قده) : «ان المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى : أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا أو وضعيا ، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفى».

ومنها : إرادة نفي نوع من طبيعة الضرر حقيقة بنحو المجاز في الحذف ، بأن يقال ان الضرر غير المتدارك لا جعل له شرعا ، فالمنفي هو الضرر ، لا مطلقا ، بل خصوص الضرر الّذي لا يجبر ولا يتدارك ، كإتلاف مال الغير بدون الضمان ، أو صحة البيع الغبني بدون جبران ضرر المغبون بالخيار ، فكل ضرر متدارك بجعل الشارع للضمان أو الخيار أو غيرهما ، وهذا مختار الفاضل التوني وبعض الفحول.

ومنها : جعل كلمة «لا» ناهية ، بأن يراد من «لا ضرر» الزجر عنه وطلب تركه ، نحو قوله تعالى : «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» وقوله تعالى : «ولا تكتموا الشهادة» وقوله تعالى : «فلا يقربوا المسجد الحرام» إلى غير ذلك من الآيات.

والحاصل : أن «لا ضرر» بناء على هذا الوجه مساوق لقوله : «يحرم الضرر» وهو مختار صاحب العناوين وشيّد أركانه العلامة المتتبع شيخ الشريعة الأصفهاني (قده)

ومنها : ما اختاره المصنف (قده) من إرادة نفي حقيقة الضرر ادعاء تنزيلا لوجود الضرر الّذي لا يترتب عليه الأثر منزلة عدمه ، فالوضوء الضرري منفي شرعا بلحاظ عدم ترتب أثره وهو الوجوب عليه ، فكأنه قيل : «وجوب الوضوء الضرري معدوم» لأن مرجع نفي الضرر تشريعا مع وجوده تكوينا إلى نفي حكمه شرعا. وهذا من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كإثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع نظير «الميسور لا يسقط بالمعسور» وإثبات المتيقن في ظرف الشك ،

٥٠٩

هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء (١) ، لا نفي الحكم (٢) أو الصفة (٣) كما لا يخفى. ونفى (٤) الحقيقة ادعاء

______________________________________________________

ويعبر عنه بأن الموضوع الضرري لا حكم له.

ومرجع الوجه الأول الّذي اختاره الشيخ الأعظم إلى أن الحكم الضرري لا جعل له ، وهو مفاد ليس التامة ، والعدم المحمولي ، فالنفي بسيط. ومرجع مختار المصنف إلى النفي المركب أعني به نفي الحكم عن الموضوع الضرري ، وهو مفاد ليس الناقصة والعدم النعتيّ.

(١) غرضه : أن نفي الحقيقة ادعاء لمّا كان أوقع في النّفس وأوفق بالبلاغة تعيّن إرادته بعد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي ، فيكون هذا المعنى بقرينة البلاغة أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي.

(٢) هذا تعريض بشيخنا الأعظم (قده) وقد تقدم مختاره وهو إرادة الحكم من الضرر باستعمال الضرر في الحكم بعلاقة السببية ، وأن هذا المعنى أقرب المجازات عنده بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي.

والمصنف أورد عليه بأن البلاغة في الكلام تقتضي إرادة نفي الحقيقة ، لا نفى الحكم ابتداء ، وان كان مرجع نفي الحقيقة في وعاء التشريع إلى نفي الحكم أيضا ، لكن البلاغة قرينة على إرادة نفي الحقيقة ادعاء.

(٣) معطوف على «الحكم» وهو ثالث المعاني المذكورة أعني الضرر غير المتدارك ، بمعنى أن كل ضرر غير متدارك منفي شرعا ، فكل ضرر متدارك بجعل الشارع للضمان أو الخيار أو غيرهما.

(٤) إشارة إلى توهم ودفع. أما التوهم فهو : أن القائل بنفي الحكم كالشيخ القائل بالمجاز في الكلمة ، أو القائل بالمجاز في التقدير كتقدير «غير المتدارك» قائلان أيضا بنفي الطبيعة أي طبيعة الحكم الضرري ، أو طبيعة الضرر غير المتدارك ،

٥١٠

بلحاظ الحكم (١) أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة (٢) مما (٣) لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.

وقد انقدح بذلك (٤)

______________________________________________________

كالمصنف القائل بنفي الطبيعة ، والمفروض أن المنفي لبّا في الكل هو الحكم ، لأن النفي تشريعي ، فلا بد من كون المنفي مما تناله يد الوضع والرفع التشريعيين ، فما الفرق بين هذه المعاني الثلاثة؟

وأما الدفع فهو : وان ظهر من قوله : «فان قضية البلاغة ... إلخ» لكنه أعاده توضيحا ، وحاصله : أن نفي الحكم بلسان نفي الحقيقة والموضوع أبلغ في الكلام من نفي نفس الحكم ابتداء ، فقوله : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» غير قوله : «لا صلاة كاملة في غير المسجد» ففي الأول تكون الطبيعة منفية ، وفي الثاني أثرها وهو الحكم. والأول أوفق بالبلاغة.

(١) أي : نفي الحكم حقيقة كما هو مختار المصنف مغاير لنفي الحكم ابتداء كما اختاره الشيخ ، أو لنفي الصفة كذلك كما عن الفاضل التوني وغيره.

(٢) الأول كتقدير «غير المتدارك» والثاني كجعل كلمة «ضرر» بمعنى الحكم بعلاقة السببية كما مر تفصيله.

(٣) الصواب «كما» بدل «مما» لعدم كون «مما» خبرا لقوله : «ونفي الحقيقة» وانما خبره «غير نفى» وبه تم الكلام ، ولعله من سهو الناسخ.

(٤) أي : بسبب كون نفي الحقيقة ادعاء أقرب إلى البلاغة من نفي الحكم أو الصفة ، وغرضه الإشارة إلى ضعف إرادة غير نفي الحقيقة من المعاني المتقدمة من نفي الحكم الضرري كما أفاده الشيخ (قده) ، والضرر غير المتدارك كما نسب إلى الفاضل التوني (ره) ، وإرادة النهي من النفي كما اختاره شيخ الشريعة الأصفهاني وغيره.

٥١١

بعد (١) إرادة نفي الحكم الضرري (٢) ، أو الضرر غير المتدارك (٣) ، أو إرادة النهي من النفي (٤) جدا ، ضرورة (٥) (*) بشاعة استعمال الضرر

______________________________________________________

والوجه في ضعفها هو : أقربية نفي الحقيقة ادعاء إلى المعنى الحقيقي من سائر المعاني ، فيتعين حمل «لا ضرر» عليه ، إذ الأقربية توجب ظهور الكلام فيه ، وبعد إرادة غيره من المعاني المزبورة ، لخلوّها عن قرينة توجب حمله عليها.

(١) بضم الباء فاعل «انقدح» و «جدا» قيد له.

(٢) وهو المجاز في الكلمة بعلاقة السببية كما ذهب إليه الشيخ (قده).

(٣) وهو المجاز في التقدير المعبر عنه بنفي الصفة التي هي غير المتدارك ، يعني : أن المنفي هو الضرر غير المتدارك ، وهو المنسوب إلى الفاضل التوني (ره).

(٤) كما اختاره بعض كشيخ الشريعة الأصفهاني (قده) في رسالته المعمولة في قاعدة الضرر ، وقد مر تفصيل الجميع.

(٥) تعليل لقوله : «بعد» ومحصله : أن استعمال الضرر في سبب خاص من أسبابه ـ وهو الحكم الشرعي كلزوم البيع الغبني ، مع عدم انحصار السبب فيه ووجود أسباب تكوينية له كالضرر الناشئ من استعمال الماء في الوضوء مثلا ، وغير ذلك كما هو مرجع كلام الشيخ (قده) ـ مستبشع ، لوجهين :

الأول : استعمال الضرر في سببه ، وهو الحكم مجازا.

والثاني : أن الضرر عام يشمل الضرر الناشئ عن الحكم وغيره ، فإرادة

__________________

(*) الأولى أن يقال : «مضافا إلى بشاعة ... إلخ» لأنه وجه آخر لعدم إرادة ما عدا نفي الموضوع والحقيقة من سائر المعاني ، والوجه الأول هو الّذي أشار إليه بقوله : «بذلك» لأن الباء للسببية ، فكأنه قيل : «وقد انقدح بسبب أقربية نفي الحقيقة ادعاء بالبلاغة بعد إرادة نفي الحكم الضرري ... إلخ مضافا إلى بشاعة استعمال الضرر ...».

٥١٢

وإرادة خصوص سبب (١) من أسبابه ، أو خصوص غير المتدارك منه (٢). ومثله (٣) لو أريد ذاك (٤) بنحو التقييد ، فانه (٥) وان لم يكن ببعيد ،

______________________________________________________

الحكم فقط من أسبابه من قبيل استعمال العام وإرادة الخاصّ منه بلا موجب وقرينة ، وهذا من الاستعمالات المستنكرة.

(١) وهو الحكم الشرعي الّذي ينشأ منه الضرر كما عرفت ، ولازمه عدم تعرضه لحكم الضرر الناشئ من أسبابه التكوينية والأفعال الخارجية ، وضمير «أسبابه» راجع إلى «الضرر».

(٢) أي : من الضرر ، هذا هو المجاز في الحذف ، وقد تقدم توضيحه ، و «خصوص» معطوف على «خصوص».

(٣) أي : ومثل استعمال الضرر في الحكم مجازا بعلاقة السببية وفي الضرر غير المتدارك مجازا في الحذف في البشاعة لو أريد الحكم أو الضرر غير المتدارك من «لا ضرر» بنحو الحقيقة ، بأن يراد ذلك بنحو التقييد أي تعدد الدال والمدلول ، ففي الأول يقال : «لا حكم ضرريا» وفي الثاني : «لا ضرر غير متدارك».

فالفرق بين قوله : «ومثله» وقوله : «ضرورة بشاعة» هو : أن الاستعمال في باب التقييد حقيقي ، وفي قوله : «بشاعة» مجازي مع وحدة المراد في كليهما ، إذ الملحوظ في كل منهما ليس مجرد ذات الضرر ، بل الضرر المقيد بكونه ناشئا من الحكم فقط ، أو خصوص الضرر غير المتدارك.

(٤) أي : استعمال الضرر مجازا في الحكم أو غير المتدارك منه كما مر آنفا.

(٥) أي : فان التقييد وان لم يكن ببعيد ، لشيوعه في الاستعمالات المتعارفة ، لكنه منوط بقرينة ، وبدونها لا يصح المصير إليه. وضميرا «أنه ، عليه» راجعان إلى التقييد ، و «غير» خبر «فانه».

٥١٣

إلّا أنه بلا دلالة عليه غير سديد. وإرادة النهي (١) من النفي وان كان ليس بعزيز (٢) ، إلّا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب (٣).

وعدم (٤) إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى تضعيف إرادة النهي والزجر من «لا» النافية ، بأن يراد من «لا ضرر» حرمة الإضرار مطلقا بالنفس وبالغير ، كحرمة إهانة المؤمن وشرب الخمر والسرقة وغير ذلك من المحرمات ، فوزان «لا ضرر» وزان «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و «لا غش بين المسلمين» و «لا شغار في الإسلام» ونحو ذلك.

ومحصل تضعيف المصنف (قده) له : أن إرادة النهي من النفي وان لم تكن بعزيز ، لكن موردها هو «لا» النافية الداخلة على الفعل ، كقوله تعالى : «لا ينال عهدي الظالمين» و «لا يمسه إلّا المطهرون» وغير ذلك من الآيات والروايات. وأما إرادة النهي من هذا التركيب يعني «لا» النافية الداخلة على اسم الجنس فلم تعهد في الاستعمالات المتعارفة ، فان «لا» النهي من خواص الفعل ، فاستعمال «لا» الموضوعة لنفي الجنس في النهي غير معهود في الاستعمالات المتداولة ، فكيف يحمل النفي في المقام على النهي؟

(٢) يعني : في «لا» الداخلة على الأفعال كما تقدم آنفا.

(٣) وهو ما دخل فيه «لا» على اسم الجنس كقوله : «لا رجل وكيف يصح إرادة النهي من النفي في بعض الموارد ، مثل «لا ربا بين الوالد والولد». و «لا سرف في الضوء» وغير ذلك مما أريد به الجواز من هذا التركيب؟

(٤) توضيحه : أن تعين أحد المعاني المجازية بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي لوجود الضرر تكوينا الموجب لكذب النفي الحقيقي منوط بقيام قرينة معيّنة لأحد المجازات ، ولا يكفي في تعين أحدها مجرد تعذر المعنى الحقيقي. ولعله تعريض بما قد يظهر من كلام الشيخ (قده) في الرسائل ، حيث قال فيها : «فاعلم أن

٥١٤

لا يكاد (١) يكون قرينة على إرادة واحدة منها بعد (٢) إمكان حمله على نفيها ادعاء ، بل كان (٣) هو الغالب في موارد استعماله.

______________________________________________________

المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى أن الشارع لم يشرّع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا كان أو وضعيا» وقريب منه ما في رسالته المستقلة المعمولة في قاعدة الضرر ، فانه ربما يظهر منه تعين إرادة المعنى المزبور بمجرد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي.

والمصنف (قده) أورد عليه بأن مجرد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي لا يكفي في إرادة المعنى الّذي اختاره الشيخ ، كما لا يكفي في إرادة غيره من المعاني المجازية ، بل يحتاج تعيّن واحد منها إلى قرينة معيّنة كما لا يخفى.

(١) خبر «وعدم» وهذا هو التعريض الّذي أشرنا إليه ، وضمير «منها» راجع إلى ما ذكره من المعاني المجازية.

(٢) غرضه : أن القرينة على تعين أحد المعاني المجازية وهو حمله على نفى الحقيقة ادعاء موجودة وهي ما تقدم منه من أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني ، وضمير «حمله» راجع إلى «نفى» وضمير «نفيها» إلى الحقيقة.

(٣) هذه قرينة أخرى على حمله على نفي الحقيقة ادعاء ، وهي الغلبة بحسب الاستعمال ، ففي الحمل على هذا المعنى قرينتان :

إحداهما : أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني المجازية المتقدمة.

ثانيتهما : غلبة إرادة نفي الحقيقة ادعاء بحسب الاستعمالات.

فهاتان القرينتان تعيّنان إرادة هذا المعنى. ومع هاتين القرينتين لا يبقى مجال للحمل على غير نفي الحقيقة ادعاء. والضمير المستتر في «كان» الّذي هو اسمه راجع إلى «حمله» يعني : بل كان حمله على نفي الحقيقة ادعاء هو الغالب في موارد استعمال مثل هذا التركيب. فقوله : «بعد إمكان» ناظر إلى إمكان حمل النفي على نفي الحقيقة ادعاء ، وقوله : «بل كان هو الغالب» ناظر إلى وقوعه في

٥١٥

ثم الحكم الّذي أريد نفيه بنفي الضرر (١) هو الحكم الثابت للافعال بعناوينها (٢) أو المتوهم (٣) ثبوته لها كذلك.

______________________________________________________

الاستعمالات المتعارفة.

(١) لا يخفى أن المصنف (قده) لمّا بيّن المراد من «لا ضرر» وأنه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع والحقيقة ادعاء أراد أن يبين الحكم الّذي ينفي بقاعدة الضرر ، فقال : ان المراد بذلك الحكم هو الثابت لموضوع بعنوانه الأوّلي كلزوم البيع ووجوب الصوم وإباحة السفر وغير ذلك ، أو المتوهم ثبوته لموضوع بعنوانه الأولي ، كبعض ما اعتقده أهل الجاهلية وارتكبوه من جواز قتل البنات ، وعدم توريثهن ، ونكاح الشغار ، فلو قال الشارع : «لا قتل للبنات» فمراده رفع ما توهموه من جواز قتلهن.

وبالجملة : فنفي الحكم يقتضي ثبوته حقيقة أو توهما حتى يصح ورود النفي عليه بلسان نفي موضوعه ، فالصوم مثلا إذا صار مضرا ارتفع حكمه بقاعدة الضرر.

وعليه فالضرر سبب لارتفاع حكم الموضوع الّذي طرأ عليه الضرر. وهذا من غير فرق بين نفي الضرر حقيقة بأن يراد بالضرر نفس الحكم كما اختاره الشيخ ، وبين نفيه ادعاء الّذي مرجعه إلى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما هو مذهب المصنف ، لأن مرجع الوجهين إلى نفي الحكم سواء كان ابتداء ، أم بنفي موضوعه ، فلزوم البيع الغبني مثلا منفي على التقديرين.

(٢) أي : عناوين الأفعال الثابتة لها ذاتا كالصلاة والحج والبيع وغير ذلك من العناوين الأولية. ولا يبعد أن يكون المراد بالأفعال كل ما يتعلق به الحكم الشرعي وجوديا كان كالوضوء والبيع أم عدميا كالصوم وتروك الإحرام ، ولو قال : «الثابت لكل شيء بعنوانه الأولي» كان أحسن.

(٣) معطوف على «الثابت» يعني : أن المنفي بقاعدة الضرر هو الحكم

٥١٦

في حال (١) الضرر ، لا الثابت (٢) له بعنوانه ، لوضوح (٣) أنه العلة للنفي ، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه ، بل يثبته ويقتضيه (٤).

______________________________________________________

الثابت للأفعال أو الحكم المتوهم ثبوته لها كاعتقاد أهل الجاهلية بجواز قتل البنات كما مر آنفا ، وضمير «ثبوته» راجع إلى الحكم ، وضمير «لها» إلى الأفعال ، والمشار إليه في «كذلك» قوله : «بعناوينها».

(١) متعلق بـ «نفيه» يعني : أن الحكم الّذي أريد نفيه في حال الضرر ... إلخ.

(٢) يعني : لا الحكم الثابت للضرر بعنوانه كوجوب الزكاة والخمس والجهاد ، فان موضوع الوجوب في هذه الأمور ضرر مالي وهو الزكاة والخمس ، ونفسي وهو الجهاد ، والحكم الثابت لعنوان الضرر لا يرتفع بقاعدة الضرر ، لأن الضرر الموضوع لحكم كسائر الموضوعات مقتض لحكمه ، والمقتضي للشيء لا يكون رافعا له ، فيمتنع أن يكون الضرر نافيا لحكمه الّذي شرّع له بعنوانه. وضميرا «له ، بعنوانه» راجعان إلى الضرر.

(٣) تعليل لكون المنفي بقاعدة الضرر خصوص الحكم الثابت للعنوان الأوّلي الشامل إطلاقه لصورة إيجابه الضرر كوجوب الوضوء ولزوم البيع ، فان مقتضى إطلاق دليلهما ثبوت هذين الحكمين مطلقا حتى في حال الضرر ، دون الحكم الثابت لعنوان الضرر. وقد عرفت تقريب هذا التعليل بقولنا : «لأن الضرر الموضوع لحكم ... إلخ» فلا يمكن أن يكون المنفي بقاعدة الضرر الحكم الثابت لعنوان الضرر ، لأنه موضوع لحكمه ، ومن المعلوم أن الموضع كالعلة ، فكما أن العلة تقتضي وجود المعلول ، فكذلك الموضوع ، فانه يقتضي الحكم ، فلا يعقل أن يكون رافعا له ، لامتناع اقتضاء شيء لطرفي النقيض.

(٤) لما مر من أن الموضوع لما فيه من ملاك التشريع مقتض للحكم كاقتضاء العلة لوجود المعلول ، وضمير «أنه» راجع إلى الضرر ، وضمير «حكمه»

٥١٧

ومن هنا (١) لا يلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام ، وتقدم أدلته

______________________________________________________

راجع إلى «الموضوع» ، وضمائر «ينفيه ، يثبته ، يقتضيه» راجعة إلى «حكمه».

(١) أي : ومن أن المنفي بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها الأولية ، ومن أن الضرر علة لنفيه لا يلاحظ النسبة ... إلخ.

وهذا إشارة إلى الجهة الثالثة من الجهات الثلاث المتعلقة بقاعدة الضرر ، وهي نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة الأحكام. ولا يخفى أن في هذه الجهة يبحث تارة عن نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة أحكام الأفعال بعناوينها الأولية ، وأخرى عن نسبتها مع أدلة أحكام العناوين الثانوية غير الضرر. وثالثة عن نسبتها مع دليل خصوص الضرر من العناوين الثانوية ، وهذا هو المسمى بتعارض الضررين ، فهنا مباحث :

الأول : في نسبة أدلة نفي الضرر مع أدلة أحكام الأفعال بعناوينها الأولية. ومحصل ما أفاده المصنف (قده) في ذلك : أن دليل نفي الضرر يقدم على دليل الحكم الأولي ، لأن العرف المتبع نظره في استظهار المعاني من الألفاظ يوفّق بين دليلي نفي الضرر والحكم الأولي بحمل الأول على الفعلي والثاني على الاقتضائي. وبعبارة أخرى : يرى العرف أن العنوان الثانوي وهو الضرر رافع لفعلية الحكم الأولي الّذي كان قبل عروض الضرر فعليا ، ومع هذا التوفيق العرفي لا تلاحظ النسبة ـ وهي العموم من وجه ـ بين دليلي نفي الضرر والحكم الأوّلي حتى يجب الرجوع في المجمع الّذي هو مورد تعارضهما إلى قواعد التعارض ، أو الأصل العملي ، فلا يقال : ان دليل وجوب الوضوء مثلا يشمل الوضوء الضرري وغيره ، ودليل نفي الضرر يشمل الوضوء وغيره كالصوم والحج والبيع وغيرها ، ففي الوضوء الضرري يتعارض الدليلان ، فيرجع فيه إلى أحكام التعارض ، بل يقال : ان المرجع فيه دليل نفي الضرر ، فيحكم بعدم وجوب الوضوء الضرري ،

٥١٨

على أدلتها (١) ، مع أنها (٢) عموم من وجه ، حيث (٣) انه يوفق بينهما

______________________________________________________

ولا يرجع فيه إلى دليل وجوب الوضوء.

(١) أي : أدلة الأحكام ، وضميرا «نفيه ، أدلته» راجعان إلى الضرر ، و «تقدم» معطوف على «لا يلاحظ» أي : ومن هنا تقدم أدلته.

(٢) يعني : مع أن النسبة بين أدلة نفي الضرر وأدلة الأحكام الأولية عموم من وجه ، وقد قرر في محله أن حكم العامين من وجه هو الرجوع إلى قواعد التعارض أو الأصل العملي ، لكن لا تلاحظ هذه النسبة بينهما ، بل يقدم دليل نفي الضرر للتوفيق العرفي المزبور ، فقوله : «مع» قيد لقوله : «لا تلاحظ النسبة».

(٣) الظاهر أنه تعليل لعدم ملاحظة النسبة بين الدليلين مع كونها عموما من وجه ، ومحصله : أن التوفيق العرفي بين الدليلين منع عن ملاحظة النسبة التي بينهما وهي العموم من وجه ، وعليه فلعل الأولى تقديمه على عدم ملاحظة النسبة بأن يقال : «ومن هنا يوفق بينهما عرفا .... إلى قوله : من عنوان الضرر بأدلته ، ولذا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الأحكام .. إلى قوله : مع أنها عموم من وجه» والوجه في التقديم عليّة التوفيق العرفي بين الدليلين لعدم ملاحظة النسبة بينهما ، والظاهر أن نظرهم في هذا التوفيق إلى حفظ موضوعية كلا العنوانين للحكم ، فان موضوعية العنوان الأوّلي للحكم مطلقة شاملة لجميع الحالات التي منها العنوان الثانوي ، والأخذ بإطلاقها يسقط العنوان الثانوي عن الموضوعية رأسا ، فالجمع بينهما بالاقتضائية والفعلية يوجب بقاء موضوعيتهما معا ويكون جمعا بين الدليلين في مقام الإثبات. وهو متبع ما لم ينهض دليل على أهمية ملاك الحكم الثابت للعنوان الأوّلي ، وتبعية فعلية الحكم له في كل حال حتى حال عروض العنوان الثانوي ، وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «بينهما» راجع إلى «أدلة نفيه وأدلة الأحكام».

٥١٩

عرفا بأن الثابت (١) للعناوين الأولية اقتضائي يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من (٢) عنوان الضرر بأدلته ، كما هو (٣) الحال في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة (٤) أو النافية لحكم الأفعال (٥) بعناوينها الثانوية

______________________________________________________

(١) أي : بأن الحكم الثابت للعناوين الأولية اقتضائي ، والضرر العارض عليها رافع لفعلية ذلك الحكم الثابت للعنوان الأوّلي.

(٢) بيان لـ «ما» الموصول الّذي هو فاعل «يمنع» و «فعلا» قيد لـ «يمنع» وضمير «عنه» راجع إلى «الثابت» وضمير «عليها» إلى «العناوين» يعني : يمنع عنوان الضرر الّذي يعرض العناوين الأولية عن فعلية الحكم الثابت لها ، و «بأدلته» متعلق بـ «يمنع» يعني : يمنع عنوان الضرر بأدلته فعلية الحكم الثابت للعناوين الأوّلية.

(٣) يعني : أن التوفيق العرفي بحمل حكم العناوين الأولية على الاقتضائي وحكم عنوان الضرر على الفعلي المطرد في كل عنوان ثانوي مع عنوان أوّلي ، ولا يختص بعنوان الضرر من العناوين الثانوية. وعليه فيقدم دليل الحرج والنذر والعهد واليمين والشرط وغيرها من العناوين الثانوية أيضا على أدلة أحكام العناوين الأولية مع كون النسبة بينهما أيضا عموما من وجه.

(٤) كأدلة الشرط والنذر واليمين وغيرها من الأدلة الرافعة لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية ، فإذا شرط في ضمن عقد لازم فعل صلاة الليل مثلا ، أو نذر ذلك ، أو حلف عليه ، فانها تقدم على أدلة استحباب صلاة الليل ، ويحكم بفعلية وجوب فعلها بمقتضى وجوب الوفاء بالشرط والنذر واليمين ، ويحمل استحبابها على الاقتضائي.

(٥) كأدلة رفع الحرج والخطاء والنسيان ، نظير الوضوء فيما إذا توقف شراء

٥٢٠