منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعلى الثاني يلزم التصويب المحال ، لأن العلم بالغيرية موقوف على وجود الوجوب الغيري قبل تعلق العلم به ، لتأخر العلم عن متعلقه تأخر المعلول عن علته ، والمفروض أن الغيرية منوطة بالعلم ، فيكون العلم حينئذ سابقا في الرتبة على الوجوب الغيري ، لكونه موضوعا له ، كما يكون العلم متأخرا عنه ، لكونه عارضا له كتأخر كل عرض عن معروضه ، فملاك استحالة الدور وهو اجتماع النقيضين موجود ، وهذا هو التصويب المحال.

وعليه فما أفاده المحقق النائيني وارتضاه سيدنا الأستاذ في مجلس الدرس غير واف بدفع الإشكال.

الخامس : ما اختاره بعض أعاظم العصر (مد ظله) على ما في تقرير بحثه الشريف ، ومحصله : الالتزام بصحة العمل المأتي به بمقتضى الدليل ، وبعدم استحقاق العقاب في هذه الموارد ، إذ مستنده الشهرة والإجماع ، ولا عبرة بهما في المسألة العقلية ، مضافا إلى عدم حجية الشهرة في نفسها في الأحكام الشرعية ، والإجماع غير محقق ، لعدم التعرض لها في كلمات كثير من الأصحاب ، فالجاهل بوجوب القصر لو صلى قصرا مع تمشي قصد القربة فاما أن يحكم بصحة صلاته بعد ارتفاع الجهل واما بفسادها.

فعلى الأول لا مناص من الالتزام بأن الحكم للجاهل هو التخيير بين القصر والتمام ، وهذا هو الصحيح ، فيحكم بصحة القصر بمقتضى إطلاقات الأدلة الدالة على وجوب القصر على المسافر ، غاية الأمر أنه يرفع اليد عن ظهورها في الوجوب التعييني بما دل على صحة التمام ، مضافا إلى استبعاد الحكم ببطلان المأتي به قصرا حال الجهل والأمر بإعادة الصلاة قصرا. ويحكم بصحة التمام أيضا للنص

٤٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الخاصّ ، فالجاهل بوجوب القصر مخير بين القصر والإتمام. وان لم يكن ملتفتا إلى التخيير ، فلا موجب لاستحقاق العقاب على الإتيان بالتمام.

وعلى الثاني فلا مناص من الالتزام بكون التمام واجبا تعيينيا عند الجهل بوجوب القصر ، ومعه كيف يمكن الحكم باستحقاق العقاب على ترك القصر. وكذا الحال في مسألة الجهر والإخفات فلا حاجة إلى الإعادة (١).

لكنه لا يخلو من محذور ثبوتا وإثباتا. أما الأول فلأن المجعول في حق الجاهل ان كان هو وجوب القصر والتمام بنحو التخيير ، فمن يكون حينئذ موضوع حكم الشارع بالوجوب التعييني؟ مع فرض استحالة الإهمال في مرحلة الجعل ، توضيحه : أن تشريع القصر تعيينا إما أن يكون على مطلق المكلف عالما كان بالحكم أم جاهلا به ، وإما أن يكون على خصوص العالم بالوجوب التعييني ، واما أن يكون على المكلف بنحو الإهمال من حيث العلم والجهل.

فعلى الأول يلزم خلاف المدعى ، لصيرورة القصر واجبا تعيينيا على الجاهل كالعالم. وعلى الثاني يلزم الدور أو اجتماع المتقابلين ، إذ الموضوع بجميع قيوده ـ ومنها العلم بالحكم ـ مقدم على الحكم رتبة ولحاظا ، فكيف يؤخذ العلم بالوجوب التعييني في موضوع هذا الحكم.

وعلى الثالث يصح الوجوب التعييني ، لكن المفروض أن إهمال الحاكم الملتفت في مقام التشريع لموضوع حكمه والأحوال الطارئة عليه محال كما يقول هو مد ظله بذلك ، بل إما أن يأخذها ويقيد الموضوع بها ، واما أن يرفضها ، لعدم دخلها في ملاك حكمه ، ولا يعقل الإهمال ، كما لا يعقل التقييد. فلا بد من تسليم

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٥٠٩

٤٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الإطلاق ، ومقتضاه شمول إطلاق الجعل لكل من العالم بالحكم والجاهل به ، وهو ينتج ضد المقصود الّذي هو تخيير الجاهل بين القصر والتمام ، ومعه كيف يتمشى من الشارع إنشاء الوجوب التخييري للجاهل مع فرض وجود ملاك الوجوب التعييني فيه؟

وعليه فدعوى كون المأتي به مأمورا به بالأمر التخييري قد عرفت عدم تماميتها على مبنى استحالة الإهمال في مقام الثبوت. والالتزام بمتمم الجعل الّذي مفاده في المقام نتيجة التقييد كما ذهب إليه المحقق النائيني أجنبي عن مقالة هذا المحقق مضافا إلى عدم تماميته في نفسه كما تقدم في مبحث القطع ، فلاحظ.

وأما إثباتا ، فلظهور أخبار الباب في عدم وجوب الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، لقوله : «رجل أجهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه» ولو كان الجهر واجبا تخييريا في حق الجاهل بوجوب الإخفات كان ما أتى به مما ينبغي لا مما لا ينبغي ، وهذا الظهور النافي لكون المأتي به مأمورا به مما لا ينكر.

إلّا أن يدعى : أن «لا ينبغي» مثل «يكره» لا يدل على أزيد من مطلق المرجوحية ، لا خصوص ما ورد عنه منع شرعي ، فيمكن فرض تعلق الأمر التخييري به مع أفضلية أحد الفردين كما هو الحال في كثير من موارد التخييرات الشرعية. فتأمل.

ودعوى ظهور قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته ولا يعيد» في كون التمام مأمورا به حتى يكون واجبا تخييريا غير مسموعة ، ضرورة أنه وارد في مقام الامتثال وفراغ الذّمّة ، والاجتزاء به في مرحلة الفراغ لازم أعم من تعلق الأمر به ، لقوة احتمال كونه مسقطا للواجب من دون أن يكون نفسه واجبا ، فلا دليل على تعلق

٤٨٣

ثم انه ذكر (١) لأصل البراءة شرطان آخران (٢) (*):

______________________________________________________

(١) الذاكر هو الفاضل التوني في محكي الوافية ، ونسب إلى الفاضل النراقي أيضا ، ولا اختصاص للبراءة بهذين الشرطين ، بل جميع الأصول العدمية كما في الوافية كذلك ، قال الفاضل التوني (ره) فيما حكاه عنه المحقق الآشتياني (قده) في الشرح ما لفظه : «والتحقيق أن الاستدلال بالأصل بمعنى النفي والعدم انما يصح على نفي الحكم الشرعي بمعنى عدم ثبوت التكليف ، لا على إثبات الحكم الشرعي ، ولذا لم يذكره الأصوليون في الأدلة الشرعية ، وهذا يشترك فيه جميع أقسام الأصول المذكورة ، مثلا إذا كان أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذّمّة من جهة أخرى ، فحينئذ لا يصح الاستدلال بها ، كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين واشتبه بالآخر ، فان الاستدلال بأصالة عدم وجوب الاجتناب من أحدهما بعينه لو صح يستلزم وجوب الاجتناب من الآخر. وكذا في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما».

وقال في ذيل مسألة البراءة : «واعلم أن لجواز التمسك بأصالة براءة الذّمّة وبأصالة عدم تقدم الحادث شروطا أحدها : ما مر من عدم استلزامه لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى» (١).

(٢) يعني : غير شرط الفحص الّذي تقدم تفصيله ، بل له شروط أخر.

__________________

الأمر بالتمام الموجب لوجوبه التخييري.

هذه عمدة ما ظفرنا عليه من الوجوه المذكورة لحل الإشكال ، وقد عرفت أن شيئا منها غير واف بدفعه عدا ما اختاره المصنف.

(*) بل ذكر الفاضل التوني (ره) شروطا ثلاثة لمطلق الأصول العدمية ، لا لخصوص أصالة البراءة. والشرط الثالث الّذي أهمله المصنف قد أشار إليه الشيخ بعد بيان الشرط الثاني بقوله : «كما لا وجه لما ذكره من تخصيص مجرى

__________________

(١) بحر الفوائد ج ٢ ، ص ٢٢٢

٤٨٤

أحدهما (١) : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

______________________________________________________

(١) توضيح هذا الشرط : أن شأن أصالة البراءة نفي الحكم لا إثباته ، فان كانت نافية لحكم عن موضوع ومثبتة له لموضوع آخر لا تجري ، كما إذا اقتضى استصحاب الطهارة أو قاعدتها عدم نجاسة أحد الإناءين اللذين علم إجمالا بنجاسة أحدهما ، فان شيئا منهما لا يجري فيه ، لأن جريانه فيه يثبت وجوب الاجتناب عن الآخر.

وان شئت فقل : ان أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين في المثال المزبور تثبت وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر ، فلا تجري فيه ، لأن شأن البراءة نفي الحكم فقط ، لا النفي من جهة والإثبات من جهة أخرى ، ولذا لم تعدّ من الأدلة ، إذ لو كانت مثبتة لحكم شرعي لعدّت من الأدلة الشرعية.

وكذا استصحاب عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا ، أو استصحاب عدم تقدم الكرية مع العلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة حتى يقتضي الاستصحاب نجاسة الماء ووجوب الاجتناب عنه. وذكر الفاضل التوني (ره) أمثلة أخرى لعدم جريان الأصول العدمية فيها ، فراجع.

__________________

الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة بناء على أن المثبت لأجزاء العبادة هو النص» وغرضه أن الأصل لا يجري في جزء العبادة كالسورة لتعين به الواجب ، إذ لا بد من تعيين الواجب بالنص لا بالأصل.

أقول : هذا ليس شرطا مستقلا ، بل من مصاديق الشرط الأول ، لأنه مندرج فيما يكون أصل البراءة موجبا لحكم ، حيث ان نفي جزئية السورة للصلاة مثلا بالأصل ان كان مثبتا لوجوب الباقي فلا يجري ، لأن شأن أصل البراءة نفي الحكم لا إثباته ، ولعل هذا صار منشأ لعدم ذكر المصنف (قده) لهذا الشرط الثالث.

٤٨٥

ثانيهما (١) : أن لا يكون موجبا للضرر على آخر (٢).

ولا يخفى (٣) أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية

______________________________________________________

(١) هذا هو الشرط الثاني ، ومحصله : أنه يعتبر في جريان أصالة البراءة أن لا يكون موجبا لضرر الغير من مسلم أو من بحكمه ، كما إذا فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها أو أمسك رجلا فهربت دابته وضلّت ، ونحو ذلك ، فان إجراء البراءة عن الضمان في أمثال هذه الموارد يوجب الضرر على المالك ، فلا يصح إجراؤها فيها. قال الفاضل التوني (ره) في محكي الوافية «ثانيها : أن لا يتضرر بسبب التمسك به مسلم أو من في حكمه ، مثلا إذا فتح إنسان قفصا لطائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابته وضلت ، أو نحو ذلك ، فانه لا يصح حينئذ التمسك ببراءة الذّمّة ، بل ينبغي للمفتي التوقف عن الإفتاء ولصاحب الواقعة الصلح إذا لم يكن منصوصا بنص خاص أو عام ، لاحتمال اندراج مثل هذه الصورة في قوله : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وفيما تدل على حكم من أتلف ما لا لغيره ، إذ نفي الضرر غير محمول على حقيقته ، لأنه غير منفي ، بل الظاهر أن المراد به نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع.

والحاصل : أن في مثل هذه الصورة لا يحصل العلم بل ولا الظن بأن الواقعة غير منصوصة. وقد عرفت أن شرط التمسك بالأصل فقدان النص ، بل يحصل القطع حينئذ بتعلق حكم شرعي بالضار ، لكن لا يعلم أنه مجرد التعزير أو الضمان أو هما معا ، فينبغي للضار أن يحصل العلم ببراءة ذمته ، وللمفتي الكشف عن تعيين الحكم ، لأن جواز التمسك بأصالة براءة الذّمّة والحال هذه غير معلوم».

(٢) فضلا عن نفس من يجري الأصل ، إذ لا مقتضى لجريانه حينئذ ، لكونه خلاف الامتنان.

(٣) هذا شروع في رد الشرط الأول ، وهو : أن لا يكون جريان الأصل موجبا

٤٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لحكم شرعي. توضيح الرد : أن موضوع الحكم الشرعي تارة يكون أمرا ظاهريا أو أعم منه كعدم استحقاق العقوبة الّذي هو مقتضى البراءة العقلية ، أو الإباحة ، وعدم الحكم الّذي هو مقتضى البراءة الشرعية ، كما إذا فرض أن جواز البيع مترتب على كل ما يكون حلالا ولو ظاهرا ، فحينئذ إذا شك في حرمة شرب التتن ونحوه من الشبهات البدوية ، وبعد الفحص جرت فيه البراءة الشرعية المثبتة لحليته ثبت جواز بيعه أيضا ، إذ المفروض كون موضوع جواز بيعه حليته ولو ظاهرا ، إذ لو لم يترتب جواز بيعه على هذه الحلية لزم تخلف الحكم عن موضوعه ، وهو محال ، للخلف والمناقضة.

وأخرى يكون أمرا واقعيا ، كما إذا ترتب على عدم الحكم واقعا لا ظاهرا ، ولا أعم من الواقع والظاهر ، كما إذا فرض أن موضوع وجوب الحج ملكية الزاد والراحلة مع عدم الدين واقعا ، فان إجراء البراءة عن الدين لا يثبت وجوب الحج ، لعدم إحراز موضوعه وهو عدم الدين واقعا ، فعدم ترتب الحكم الشرعي على البراءة الشرعية في مثل هذا المثال انما هو لعدم تحقق موضوعه وهو عدم الدين واقعا ، حيث ان أصل البراءة لا يحرز الواقع.

فالمتحصل : أن موضوع الحكم الشرعي ان كان أعم من الواقع والظاهر ، فلا محالة يترتب عليه حكمه بمجرد جريان أصل البراءة فيه ، كترتب سائر الأحكام عند تحقق موضوعاتها. وان كان خصوص الواقع لا يترتب الحكم على البراءة ، لعدم إحراز موضوعه ، فلا محصل للشرط الأول الّذي ذكره الفاضل التوني (ره) إذ على تقدير لا محيص عن ثبوت الحكم ، لتحقق موضوعه بالبراءة ، وعلى تقدير آخر لا موضوع لذلك الحكم حتى يثبت بالبراءة.

فان كان غرض الفاضل التوني (ره) عدم جريان البراءة بعد الفحص في الصورة

٤٨٧

بعد الفحص لا محالة تكون جارية (١) ، وعدم (٢) استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية ، والإباحة (٣) ورفع التكليف الثابت بالبراءة النقليّة لو كان (٤) موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له (*)

______________________________________________________

الأولى وهي كون موضوع الحكم الشرعي أعم من الواقع والظاهر ، فهو خلاف أدلتها. وان كان غرضه جريانها بدون ترتب الحكم الشرعي عليها ، فهو خلاف دليل ذلك الحكم وطرح له بلا موجب.

(١) لإطلاق أدلة البراءة النقليّة الّذي لم يقيد إلّا بالفحص المفروض تحققه ، ولاحتمال عدم دخل شيء في البراءة العقلية الا الفحص ، فبعد حصوله لا وجه للتوقف في جريانها.

(٢) مبتدأ خبره «لو كان» والجملة مستأنفة ، و «الثابت» صفة لـ «عدم».

(٣) معطوف على «عدم» وقوله : «ورفع» معطوف على «الإباحة» و «الثابت» صفة لـ «الإباحة ورفع» والأولى تثنيته ، بأن يقال : «الثابتان» والتعبير بالإباحة تارة وبالرفع أخرى لرعاية مدلول أخبار البراءة ، لظهور حديث الحل في جعل الإباحة الظاهرية وحديث الرفع في مجرد نفي الإلزام المجهول.

(٤) يعني : لو كان عدم استحقاق العقوبة والإباحة موضوعا لحكم شرعي كإباحة شرب التتن ولو ظاهرا التي هي موضوع جواز البيع كما تقدم آنفا ، أو ملازما

__________________

(*) قد يتوهم أن ترتب الحكم الملازم على البراءة النقليّة مبني على الأصل المثبت الّذي لا نقول بحجيته ، فيقتصر في الترتب عليها على الحكم الّذي يكون موضوعه نفس البراءة النقليّة.

وبعبارة أخرى : يقتصر على الحكم اللازم دون الملازم.

لكنه فاسد ، لأن المفروض أن ذلك الحكم ملازم لنفس مضمون البراءة

٤٨٨

فلا محيص (١) عن ترتبه عليه بعد إحرازه (٢) ، فان (٣) لم يكن مترتبا عليه ، بل على نفي التكليف واقعا ، فهي وان كانت جارية ، إلّا أن ذاك الحكم لا يترتب ، لعدم (٤) ثبوت ما يترتب عليه بها ،

______________________________________________________

لحكم شرعي ، كما إذا دخل وقت الفريضة وشك في اشتغال ذمته بواجب فوري كأداء دين من نفقة زوجته أو غيرها ، فانه بجريان البراءة في الدين يثبت وجوب الصلاة فعلا الملازم لنفي الدّين ظاهرا.

(١) إذ عدم ترتبه على البراءة مخالف لأدلة ذلك الحكم ، فقوله : «فلا محيص» جواب «فلو كان» وضميرا «له ، ترتبه» راجعان إلى الحكم.

(٢) أي : إحراز عدم استحقاق العقوبة ورفع التكليف بإجراء البراءة بعد الفحص ، وضمير «عليه» راجع إلى عدم استحقاق العقوبة ورفع الحكم ، وضمير «فهي» راجع إلى البراءة.

(٣) هذا بيان للصورة الثانية ، وهي كون التكليف مترتبا على عدم الحكم واقعا وأصالة البراءة تجري فيها ، ولكن لا يترتب عليه الحكم ، لعدم تحقق موضوعه وهو عدم الحكم واقعا ، حيث ان الثابت بالبراءة عدم الحكم ظاهرا لا واقعا ، واسم «يكن» ضمير مستتر راجع إلى الحكم ، و «بل على» معطوف على «مترتبا» وقد تقدم مثال ترتب الحكم على عدم التكليف بوجوده الواقعي في مثال الحج المنوط بعدم الدين.

(٤) تعليل لعدم ترتب ذلك الحكم على نفي التكليف بأصل البراءة ، وحاصله :

__________________

النقليّة ، وهو عدم الحكم ، كما مر في وجوب الصلاة فعلا في سعة الوقت الثابت بنفي واجب فوري كأداء دين أو إزالة النجاسة عن مسجد ، فان نفيه بالبراءة النقليّة يلازم بلا واسطة وجوب الصلاة فعلا.

٤٨٩

وهذا (١) ليس بالاشتراط.

وأما اعتبار (٢) أن لا يكون موجبا للضرر ، فكل مقام تعمه

______________________________________________________

أن عدم ترتبه عليه كعدم ترتب وجوب الحج على نفي الدين بأصل البراءة انما هو لعدم الموضوع أعني عدم الدين واقعا ، لا لأجل اشتراط جريان البراءة بعدم ترتب حكم شرعي عليه ، فالمراد بـ «ما» الموصول هو الموضوع ، والضمير المستتر في «يترتب» راجع إلى الحكم ، وضمير «عليه» راجع إلى الموصول ، وضمير «بها» إلى البراءة.

(١) يعني : وعدم ترتب التكليف على البراءة حينئذ ليس لأجل اشتراط البراءة بعدم ترتب حكم شرعي عليه ، بل انما هو لأجل انتفاء موضوع ذلك الحكم ، إذ موضوعه بالفرض عدم الحكم واقعا ، وهو لا يثبت بالبراءة ، إذ الثابت بها نفى الحكم ظاهرا كما مرّ آنفا.

(٢) هذا شروع في رد الشرط الثاني الّذي ذكره الفاضل التوني (ره) وهو أن لا يكون جريان البراءة في مورد موجبا للضرر على آخر. ومحصل الرد هو : أن المورد ان كان مما تجري فيه قاعدة الضرر فلا مجال لجريان البراءة فيه ، لكون القاعدة دليلا اجتهاديا ، والبراءة أصلا عمليا ، وقد ثبت في محله عدم المجال للأصل مع الدليل ، لوروده أو حكومته على الأصل كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وان كان مما لا تجري فيه قاعدة الضرر ، فلا مانع من جريان البراءة فيه ، ومجرد احتمال صغرويته لقاعدة الضرر لا يمنع عن جريان البراءة فيه مع فرض الفحص وعدم الظفر بدليل على حكم الضرر.

وبالجملة : فمع الظفر بالدليل الاجتهادي مطلقا من دليل الضرر ، وغيره من الأدلة الاجتهادية لا مجال للبراءة ، لعدم المقتضي لها ، حيث ان الدليل رافع لموضوعها ، فعدم جريانها مع الدليل انما هو لعدم المقتضي ، لا لعدم شرطه ، ضرورة أن الشرط

٤٩٠

قاعدة نفي الضرر وان لم يكن مجال فيه (١) لأصالة البراءة ، كما هو (٢) حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية ، إلّا أنه (٣)

______________________________________________________

متأخر رتبة عن المقتضي ، فلا يطلق الشرط إلّا مع إحراز المقتضي ، ومع عدم المقتضي لا يطلق الشرط كالمقام.

فان كان مراد الفاضل من الاشتراط أن جريان البراءة مشروط بعدم ترتب الضرر عليها ، ففيه أولا : أن إطلاق الشرط عليه لا يخلو من المسامحة ، لما مر آنفا من أن عدم الجريان حينئذ مستند إلى عدم المقتضي ، لا إلى عدم الشرط.

وثانيا : أنه لا اختصاص للضرر ، بل جريان البراءة منوط بعدم الدليل الاجتهادي مطلقا من دليل الضرر وغيره ، كما أن عدم الجريان لا يختص بالبراءة ، بل كل أصل عملي يتوقف جريانه على عدم دليل اجتهادي في مورده.

(١) أي : في المقام الّذي تجري فيه قاعدة الضرر.

(٢) يعني : كما أن عدم المجال لجريان البراءة مع قاعدة نفي الضرر حال البراءة مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية ، وضمير «حالها» راجع إلى أصالة البراءة.

(٣) الضمير للشأن ، وحاصله : أن أصالة البراءة وان لم يكن لها مجال في موارد الضرر ، إلّا أن عدم جريانها فيها ليس لأجل شرطية عدم قاعدة الضرر لجريان البراءة ، بل لعدم المقتضي لجريانها معها ، لما مرّ من أن دليل قاعدة الضرر كسائر الأدلة الاجتهادية يرفع الشك الّذي هو موضوع أصل البراءة وغيره من الأصول العملية ، فالدليل الاجتهادي رافع لموضوع الأصل ولو ظاهرا كما هو مقتضى الأدلة غير العملية ، فمع الدليل لا مقتضي لأصالة البراءة ، لا أن عدم الدليل شرط لجريان البراءة ، فقوله : «إلّا أنه حقيقة» إشارة إلى عدم المقتضي للبراءة ، وضمير «لها» راجع إلى أصالة البراءة.

٤٩١

حقيقة لا يبقى لها مورد ، بداهة (١) أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا (٢). فان كان المراد من الاشتراط ذلك (٣) فلا بد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي ، لا خصوص قاعدة الضرر (٤) فتدبر ، والحمد الله على كل حال.

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا يبقى لها مورد» وتوضيحه ما تقدم بقولنا : «بل لعدم المقتضي لجريانها».

(٢) يعني : فلا يكون موردا للبراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان ولا للبراءة النقليّة ، لتحقق البيان بالدليل الاجتهادي ، ومعه ينتفي موضوع كلتا البراءتين ، ولا يبقى مقتض لجريانهما.

(٣) أي : عدم بقاء مورد لأصل البراءة مع قاعدة نفي الضرر ، فان كان هذا مراد الفاضل (ره) من الاشتراط ، فلا بد من اشتراط عدم مطلق دليل اجتهادي على خلاف أصل البراءة ، لا خصوص قاعدة الضرر ، إذ الوجه في عدم جريانها مع قاعدة الضرر هو كونها رافعة لموضوع البراءة ، وهذا الوجه جار في جميع الأدلة الاجتهادية ، وقد عرفت سابقا أن إطلاق الشرط على الدليل الاجتهادي الرافع لموضوع البراءة مبني على المسامحة. وضمير «خلافها» راجع إلى أصالة البراءة.

(٤) لما مر من عدم الفرق بين قاعدة الضرر وبين سائر القواعد الاجتهادية في رفع الشك الّذي هو موضوع البراءة.

٤٩٢

ثم انه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار ، وتوضيح مدركها وشرح مفادها وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية (١) أو الثانوية (٢) وان كانت أجنبية (٣) عن مقاصد الرسالة ، إجابة لالتماس بعض الأحبة ، فأقول وبه أستعين : انه قد استدل عليها (٤) بأخبار كثيرة :

______________________________________________________

(قاعدة لا ضرر ولا ضرار)

(١) كأدلة وجوب الصلاة والصيام والحج وغيرها من العناوين الأولية.

(٢) كأدلة نفي العسر والحرج والإكراه ونحوها من العناوين الثانوية العارضة للعناوين الأولية ، كالصلاة وغيرها من العبادات والمعاملات. ثم ان في قاعدة الضرر جهات من البحث أشار إليها المصنف ، ونتعرض لها عند تعرضه لها إن شاء الله تعالى.

(٣) لكون قاعدة الضرر من القواعد الفقهية ، فمحل بحثها هو الفقه الشريف.

(٤) أي : على قاعدة الضرر. هذه إحدى جهات البحث ، ومحصلها : أن مدرك قاعدة الضرر أخبار كثيرة : منها : موثقة زرارة ، وتوصيفها بالموثقة لوقوع ابن

٤٩٣

منها : موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «ان سمرة (١) ابن جندب كان له عذق (٢) في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان سمرة يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن فكلّفه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فجاء الأنصاري إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه ، فأخبره بالخبر ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه ، فقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه ، فقال : لك بها عذق في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فانه لا ضرر ولا ضرار» (١).

وفي رواية الحذاء (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام مثل ذلك (٤) ،

______________________________________________________

بكير الفطحي الموثق في سنده ، ولا يخفى اختلاف ما في المتن مع ما نقله الوسائل عن المشايخ الثلاثة ، لكنه غير قادح في الاستدلال ، لأنه في حكاية القصة لا في الذيل الّذي هو مورد الاستدلال.

(١) بفتح السين المهملة وضم الميم وفتح الراء المهملة وهو من الأشقياء ، فلاحظ ترجمته.

(٢) بفتح العين المهملة والدال المعجمة النخلة بحملها ، وبالكسر عنقود التمر.

(٣) هو أبو عبيدة زياد بن عيسى ، وروايته خالية عن جملة «لا ضرر ولا ضرار»

(٤) مع اختلاف يسير لا يقدح في دلالة الخبر على المطلوب.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، كتاب إحياء الموات ، الباب ١٢ ، الحديث : ٣ ، ص ٣٤٠

٤٩٤

إلّا أنه فيها بعد الآباء : «ما أراك يا سمرة الا مضارا ، اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه» (١) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة (١) وغيرها ، وهي كثيرة (٢). وقد ادعي تواترها (٣) مع اختلافها

______________________________________________________

(١) وهي رواية ابن مسكان عن زرارة ، رواها الوسائل عن الكافي ، وفيها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة : «انك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال : ثم أمر بها فقلعت ورمي بها إليه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انطلق فاغرسها حيث شئت» (٢).

(٢) مثل روايتي عقبة بن خالد في الشفعة (٣) ومنع فضل الماء (٤) ، حيث تذيل كل منهما بجملة «لا ضرر ولا ضرار». وكذا مرسلة (٥) الصدوق «لا ضرر ولا ولا ضرار في الإسلام» ورواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام قال : «لا ضرر ولا ضرار» (٦).

(٣) المدعي للتواتر هو فخر المحققين (قده) في رهن الإيضاح ، قال فيه في مسألة إقرار راهن العبد بعد رهنه بأن العبد مغصوب أو معتق أو جان ولم يصدّقه المرتهن : «وثالثها : العتق ، فنقول : يجب عليه فك الرهن بأداء الدين ، فإذا تعذر وبيع في الرهن وجب افتكاكه ، فان بذله المشتري بقيمته أو بأقل وجب فكّه. ولو بذله بالأزيد ولو بأضعاف قيمته ، فالأصح وجوب فكّه عليه ، لوجوب تخليص الحر ، فانه لا عوض له إلّا التخليص ، ولا يمكن إلّا بالأزيد من القيمة ، وما لا يتم الواجب

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، كتاب إحياء الموات ، الباب ١٢ ، الحديث : ١ ص ٣٤٠

(٢) الوسائل ، ج ١٧ ، كتاب إحياء الموات ، الباب ١٢ ، الحديث : ٤ ص ٣٤٠

(٣) المصدر ، كتاب الشفعة ، الباب ٥ ، الحديث : ١ ، ص ٣١٩

(٤) المصدر ، كتاب إحياء الموات ، الباب ٧ ، الحديث : ٢ ، ص ٣٣٣

(٥) المصدر ، كتاب الفرائض والمواريث ، الباب ١ ، الحديث ١٠ ، ص ٣٧٦

(٦) المصدر ، ص ٣٤١ ، الحديث ٥

٤٩٥

لفظا (١) وموردا (*) فليكن المراد به (٢) تواترها إجمالا بمعنى

______________________________________________________

إلّا به فهو واجب. واحتمال عدمه لإمكان استلزامه الضرر بأن يحيط بمال الراهن والضرر منفي بالحديث المتواتر ضعيف ، ولا وجه له عندي ...» (١).

(١) هذا إشكال على دعوى التواتر ، ومحصل الإشكال : أن التواتر بكلا قسميه من اللفظي والمعنوي مفقود هنا ، إذ التواتر اللفظي وهو حصول التواتر على لفظ أو ألفاظ مخصوصة كحديث الغدير غير حاصل هنا قطعا ، لوضوح عدم تحقق التواتر على كلمة «لا ضرر ولا ضرار». وكذا التواتر المعنوي ، وهو حصول النقل المتواتر على قضية خاصة بألفاظ مختلفة ، كتواتر شجاعة المولى أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين بنقل ما صدر منه صلوات الله عليه في الحرب مع عمرو ابن عبد ود من قتله مع كونه لعنه الله من أشجع شجعان العرب ، فان التواتر المعنوي أيضا مفقود في المقام ، لعدم مورد واحد نقل متواترا كالشجاعة ، لتعدد الموارد هنا ، فان مورد بعض نصوص الباب قصة سمرة ، ومورد بعضها الآخر الشفعة ، وبعضها الآخر منع فضل الماء ، وبعضها شيء آخر.

وبالجملة : فالتواتر اللفظي والمعنوي يشتركان في وحدة المورد ، ويفترقان في اعتبار وحدة اللفظ أو الألفاظ في الأول ، والاختلاف في الثاني.

فملخص الإشكال على التواتر : أن التواتر الّذي ادعاه الفخر (قده) لا لفظي ولا معنوي ، ولذا التجأ المصنف إلى توجيه التواتر بالإجمالي. وضميرا «تواترها ، اختلافها» راجعان إلى الروايات.

(٢) هذا إشارة إلى دفع الإشكال المزبور ، ومحصله : أنه يمكن أن يراد

__________________

(*) مقتضى هذه العبارة اعتبار الاتفاق الموردي في التواتر اللفظي والمعنوي بأن تكون قضية شخصية موردا للتواتر اللفظي ان كان نقلها متواترا بألفاظ معينة ،

__________________

(١) إيضاح الفوائد ، ج ٢ ص ٤٨

٤٩٦

القطع بصدور بعضها (١)

______________________________________________________

بالتواتر هنا التواتر الإجمالي ، وهو القطع بصدور بعض الروايات الواردة في قضايا متعددة غير مرتبطة ، كما إذا وردت رواية في وجوب سجدة السهو لكل زيادة ونقيصة مثلا ، ورواية في وجوب القصر على المسافر ، ورواية في وجوب التمام على المقيم عشرة أيام أو العاصي بسفره ، وهكذا ، فان العلم الإجمالي بصدور بعضها يسمى بالتواتر الإجمالي ، فيقال فيما نحن فيه : يعلم إجمالا بصدور رواية من روايات قاعدة الضرر ، وضمير «به» راجع إلى «تواترها» وضميرا «تواترها ، بعضها» راجعان إلى الروايات.

(١) وهو موافق لما ذكره أيضا في بحث حجية الخبر من المتن وحاشية الرسائل من «أن كثرتها توجب القطع بصدور واحد منها ، وهو كاف في الحجية».

__________________

وموردا للتواتر المعنوي ان كان نقلها بألفاظ مختلفة ، كشجاعة مولانا أمير المؤمنين المنقولة متواترا بنقل ما صدر منه صلوات الله عليه في الحروب ، فان القضايا الصادرة منه عليه‌السلام في الحروب وان كانت على أنحاء مختلفة ، لكنها بأسرها تحكي عن شجاعته عليه‌السلام ، فتكون الشجاعة حينئذ من المتواتر المعنوي.

لكن على تقدير اعتبار وحدة القضية في التواتر المعنوي يندرج هذا في التواتر الإجمالي ، دون المعنوي. إلّا أن اعتبار وحدة المورد غير معلوم ، فالتواتر منحصر في اللفظي والمعنوي ، والتواتر الإجمالي الّذي أفاده المصنف من الاختلاف لفظا ومعنى أجنبي عن التواتر المصطلح عندهم كما نبهنا عليه في بحث حجية الخبر الواحد.

فالإنصاف أن كثرة روايات الباب ان بلغت حدّ التواتر ولم تكن المرسلات عين المسندات ولم تكن مضامينها وقائع مختلفة كانت من التواتر المعنوي ، وان كانت وقائع مختلفة لم يفد التواتر الإجمالي بالمعنى المذكور في المتن شيئا

٤٩٧

والإنصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك (١) جزاف ، وهذا (٢) مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها ، وانجبار (٣) ضعفها (*)

______________________________________________________

(١) أي : إجمالا بمعنى القطع بصدور بعضها.

(٢) أي : التواتر الإجمالي مع عمل المشهور بتلك الروايات واستنادهم إليها في الفتوى موجب لكمال الوثوق والاطمئنان بصدورها وسبب لانجبار ضعف سندها.

(٣) معطوف على «كمال» وانجبار ضعف أسنادها باستناد المشهور إلى الروايات الضعيفة مبني على ما هو المشهور المنصور من جابرية عملهم لضعف الرواية ، وحيث ان أسناد كثير من الروايات المحتج بها على المقام ضعيفة على المشهور احتج لاعتبارها باستناد المشهور إليها ، وضمائر «إليها ، بها ضعفها» راجعة إلى الروايات.

__________________

في المقام ، إذ لم يتحقق التواتر على مدرك القاعدة ، مع أجنبية جملة من النصوص المزبورة عن قاعدة الضرر أولا ، وعدم ثبوت النقل من المعصوم عليه‌السلام إلّا بالنسبة إلى روايتين وهما رواية زرارة وأبي عبيدة الحذاء ، وبذلك لا يثبت الاستفاضة فضلا عن التواتر ، فيكون مدركها خبر الواحد ، ولا بد في صحة الاستناد إليه من اجتماع شرائط الحجية فيه.

والحاصل : أن دعوى التواتر الإجمالي بالمعنى المذكور غير ثابتة هنا أولا ، وعلى تقدير ثبوتها غير مجدية ثانيا ، إذ القطع بصدور واحدة من تلك الروايات مع عدم العلم التفصيليّ بها ، وأجنبية بعضها عن القاعدة لا يوجب صحة الاستناد إلى ما ينطبق منها على القاعدة ، لاحتمال كون الصادر غيرها.

(*) لا ينبغي الإشكال في انجبار ضعف الروايات بعمل المشهور بها واستنادهم

٤٩٨

مع أن بعضها (١) موثقة ،

______________________________________________________

(١) وهو موثقة زرارة المتقدمة ، فان صاحب الوسائل رواها عن الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام. وهذا السند معتبر ، إذ في العدة علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير ، وهو ثقة. وأحمد بن محمد البرقي وثقه الشيخ والنجاشي وغيرهما ، واعتماده على المراسيل وروايته عن الضعفاء ليس طعنا فيه ، إذ نقل الثقة عن الضعيف لا يقدح في وثاقته.

وأما محمد البرقي فقد وثقه الشيخ والعلامة ، وما عن النجاشي من «أنه كان ضعيفا في الحديث» غير ظاهر في الجرح حتى يلزم الاعتماد عليه ، لكون النجاشي أسطوانة أهل هذا الفن ، إذ من المحتمل قويا أن مراده روايته عن الضعفاء ، وهو غير قادح في وثاقته ، لأن النقل عن غير الثقة مع عدم عمله به لا يقدح في وثاقته ، ضرورة أن مناط اعتبار قوله وهو تحرزه عن الكذب لا يزول بالنقل عن غير الثقة مع الإسناد إليه وعدم العمل بقوله. ومع فرض الشك في قادحية مثل هذا لا نرفع اليد عن توثيق مثل الشيخ (قده).

وأما ابن بكير فهو وان كان فطحيا ، لكنه من أصحاب الإجماع.

وأما زرارة فجلالته في غاية الظهور بحيث لا تحتاج إلى البيان ، فالرواية معتبرة ، وضمير «بعضها» راجع إلى الروايات.

__________________

إليها ، لكنه بالنسبة إلى خصوص مضامينها دون غيرها ، وقد عرفت أن جملة من تلك الروايات أجنبية عن قاعدة الضرر ، فانجبار ضعفها بعملهم لا يصحح الاستدلال بها على القاعدة ، إلّا أن يثبت عملهم بكل واحدة من تلك الروايات ، وان لم يثبت ذلك فالدليل عليها هو موثقة زرارة المذكورة في المتن ، وهي معتبرة كما عرفت في التوضيح.

٤٩٩

فلا مجال (١) للإشكال فيها من جهة سندها كما لا يخفى.

وأما دلالتها (٢) فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النّفع (*) من

______________________________________________________

(١) قد عرفت أن للإشكال فيها مجالا ، فراجع التعليقتين السابقتين ، وضميرا «فيها ، سندها» راجعان إلى الروايات.

(٢) أي : دلالة قاعدة الضرر ، وهذا إشارة إلى الجهة الثانية من الجهات الثلاث المتعلقة بقاعدة الضرر ، وتوضيحها يتوقف على شرح معاني مفردات الألفاظ الواقعة في متن الحديث من كلمات «لا» و «ضرر» و «ضرار».

أما «ضرر» فالمحكي عن جملة من كتب اللغويين كالصحاح والنهاية الأثيرية التي هي عند العامة كمجمع البحرين عندنا والقاموس هو «أنه ما يقابل النّفع» كما أن المحكي عن الصحاح والمصباح «أن الضرر اسم مصدر والمصدر الضرّ» فالضر الّذي هو فعل الضار نتيجته الضرر ، وهو النقص في المال أو النّفس أو العرض أو الطرف وهو الأعضاء كاليدين والرجلين ونحوهما من الأطراف. ولكنه لا يطلق على مطلق النص ، بل خصوص النقص من الشيء الّذي من شأنه عدم ذلك النقص ، مثلا لا يطلق الأعمي على مطلق فاقد البصر ، بل على خصوص فاقده الّذي من شأنه أن يكون بصيرا كالحيوان ، فلا يطلق على الجدار ونحوه.

وعليه فالتقابل بين النّفع والضرر تقابل العدم والملكة ، فوجود البصر للإنسان مثلا نفع ، وعدمه ضرر ، وكذا وجود اليدين له نفع وعدم إحداهما أو كلتيهما ضرر ، بل وجود كل ما يقتضيه طبيعة الشيء وخلقته الأصلية نفع له ، وعدمه ضرر.

__________________

(*) هذا خلاف ما عليه العرف العام ، إذ الضرر عندهم ما يقابل التمام ، فان كان شيء ناقصا عما يقتضيه طبعه كما إذا كان إنسان فاقد العين أو غيرها من الأعضاء فانه يطلق الضرر على هذا الفقدان ، كما يطلق عليه النقص ، فالضرر ما يقابل التام الّذي هو مقتضى طبع الشيء ، فهنا أضداد ثلاثة : التمام والضرر والنّفع ، فالتاجر إذا ربح

٥٠٠