منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

طبيعة الحكم الضرري في الإسلام يناقض وجود أحكام ضررية كثيرة فيه كالواجبات المالية طرّا ، ووجوب الحج والجهاد ، وسلب مالية بعض الأموال العرفية كالخمر والخنزير ، وهيئات آلات القمار والطرب ، فان وجوب الخمس والزكاة والكفارات ضرر على المالكين ، وهو من أظهر أفراد طبيعي الحكم الشرعي الناشئ منه الضرر ، لأنه بتمام هويّته لا بإطلاقه علة للضرر ، فهو من أجلى مصاديق الحكم الضرري ، ومع وضوح تشريع هذا الوجوب كيف يصح نفي طبيعة الضرر شرعا؟

مضافا إلى : إباء مثله عن التخصيص ، لكونه من الأحكام الامتنانية كقاعدة نفى الحرج.

ودعوى خروج الموارد المزبورة عن حيّز القاعدة تخصصا لا تخصيصا ، إما لاختصاص القاعدة بما إذا كان الضرر ناشئا من إطلاق الحكم كالوضوء الضرري لا من نفس الحكم وطبعه كوجوب الخمس وغيره من الأمثلة المتقدمة ، وإما لكون الزكاة والخمس والكفارات حقا للفقراء ، والمكلف يؤدي إليهم حقهم ، فلا يتضرر المالك شيئا (غير مسموعة) إذ في الأول : أنه خلاف ظاهر كلام الشيخ (قده) : «ان الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد» لأن ظهوره في ترتب الضرر على نفس الحكم وطبعه أقوى بمراتب من ظهوره في ترتب الضرر عليه بواسطة أو وسائط. كما أن اسناد الضرر إليه بلا واسطة اسناد حقيقي ، لكونه إلى ما هو له ، بخلاف اسناده إليه مع الواسطة ، فانه اسناد مجازي ، لكونه إلى غير ما هو له ، فشمول «لا ضرر» بناء على احتمال الشيخ للحكم الّذي بهويته يوجب الضرر لا يحتاج إلى عناية ، بخلاف الحكم الّذي يوجبه بواسطة أو وسائط ، فان شموله له يحتاج إلى عناية.

وفي الثاني : أن حقيّة الخمس والزكاة للسادة والفقراء لا تدفع الإشكال بل تسجله ، إذ الحقيّة مترتبة على جعل مقدار من المال الزكوي والمتعلق للخمس

٥٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لغير المالك العرفي الّذي يتحمل المشاق في تحصيله ، وهذا الجعل ضرر على المالك ، وهذا هو الإشكال ، فلا تندفع بالحقيقة المزبورة كما هو واضح.

وخامسا : أن التخصيص بعد الغض عن إباء «لا ضرر» عنه كما مر آنفا مستهجن ، لكثرته بمثابة تنافي كبروية القاعدة بحسب المحاورات العرفية ، إذ وزان قوله : «لا ضرر» وتخصيصه بالمخصصات الكثيرة التي أشير إلى بعضها وزان قوله : «أكرم كل أمير» وتخصيصه بقوله : «لا تكرم فساق الأمراء» مع فرض فسق جميعهم إلّا واحدا منهم ، فهل يصح إبراز وجوب إكرام شخص واحد منهم بصورة كبرى كلية؟ وهل يرتفع استهجان الكلام بكون المخصص عنوانا مع فرض كثرة العناوين الخارجة عن عموم القاعدة كما يظهر من ملاحظة الأحكام الضررية المالية وغيرها في الشريعة المطهرة؟

وسادسا : أن الضرر وان كان ناشئا تارة من الحكم كوجوب الزكاة وغيرها من الواجبات المالية ، وأخرى من الموضوع كالصوم والوضوء الضرريين ، فلذا يكون نسبته إلى كل منهما نسبة المعلول إلى العلة ، ويصح نفي الضرر بلحاظ الحكم أو الموضوع ، إلّا أن المعهود في المحاورات من هذا التركيب هو إرادة الموضوع دون الحكم ، كما في «لا رهبانية ولا نجش ولا شغار ولا غش ، ولا بيع ولا عتق إلّا في ملك ، ولا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة وغيرهما ، ولم نعثر على مورد تعلق فيه النفي بالحكم مطلقا من التكليفي والوضعي ، ومع عدم الظفر بذلك في المحاورات يشكل صحة إرادة نفي الحكم من «لا ضرر» ويقوى إرادة خصوص الموضوع الضرري منه لا الحكم ، ولا الأعم منه ومن الموضوع الضرري.

فمحصل هذا الإشكال الإثباتي هو : كون إرادة الحكم من الضرر في حديثه خلاف الاستعمالات المتعارفة في هذا التركيب عند أبناء المحاورة.

٥٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

هذا حال الاحتمال الأول الّذي رجحه الشيخ الأعظم (قده) وجعله أقرب إلى المعنى الحقيقي الّذي هو الاخبار بنفي طبيعة الضرر. مع أن الترجيح بالأقربية على تقدير تسليمها ـ وعدم كون إرادة النهي أقرب إلى المعنى الحقيقي ـ ممنوع ، إذ المناط في حجية مداليل الألفاظ ببناء العقلاء هو الظهور ، والأقربية إلى المعنى الموضوع له ما لم توجب ذلك لا تكون حجة.

ولعله لذا عدل المحققان النائيني والعراقي (قدهما) من هذا الاستعمال المجازي إلى كون المنفي نفس طبيعة الضرر في صقع التشريع حقيقة. وقد أصر عليه الميرزا وشيّد أركانه بتمهيد أمور أهمها كون المنفي في وعاء التشريع هو الحكم حقيقة ، فالجملة إنشائية ، وذلك بعد أن أتعب نفسه الزكية في إثبات كون الضرر عنوانا ثانويّا لنفس الأحكام الشرعية من التكليفية والوضعيّة ، أما في الثاني فلأن حكم الشارع بلزوم العقد الغبني تشريع للضرر وعلة تامة له من دون توسط أمر آخر. وأما في التكليفية «فلأن نفس الإلزام كإيجاب الوضوء وان لم يكن علة تامة للضرر ، لتوسط إرادة المكلف واختياره ، إلّا أن إرادته حيث كانت مقهورة في عالم التشريع لهذا البعث والجعل الشرعي فبالأخرة ينتهي الضرر إلى البعث والجعل كانتهاء المعلول الأخير إلى العلة الأولى ، لا كانتهائه إلى المعدّ ، فانه فرق بين سقي الزارع وحرثه وبين أمر الشارع وجعله ...» (١)

لكن قد عرفت فيما أورد على كلام الشيخ أن إيجاب الشارع للوضوء معدّ لا علة تامة للضرر. وعلى تقدير تسليم العلية التامة ، فلا يوجب ذلك كون الاستعمال حقيقيا ، فان علاقة السببية والمسببية من أظهر علائق المجاز.

ومنه يظهر غموض ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) في مقالاته في مقام الاستظهار من الهيئة الكلامية بقوله : «أظهرها الحمل على نفي الحقيقة بضميمة تقييده

__________________

(١) قاعدة لا ضرر ، ص ٢٠٧

٥٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالشريعة ولو من جهة أن نفي تشريع ما يوجب الضرر موجب لنفي نفس المعلول الناشئ من قبله ...» (١) إذ نفي الطبيعة حقيقة يتوقف على انعدام تمام أفرادها خارجا ، وأما النفي بلحاظ وعاء التشريع فلا يخرج عن الاستعمال المجازي بالعناية.

وأما استظهار نفي الحكم بما أفاده الشيخ الأعظم بقوله : «والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الأول» فغير تام. أما نفس الجملة فلاحتمال كل من النفي والنهي فيها ، بل ربما يكون إرادة التحريم منها أقرب كما سيأتي.

وأما فهم الأصحاب فان كان المراد استظهارهم ذلك كان معارضا بفهم اللغويين حيث فسروا الجملة بالنهي ، ولولاه أمكن الاستناد إليه ، لأنهم من أهل المحاورة بل من أفصح أبنائها وأعرف بأساليب الكلام. وان كان المراد فهمهم ولو بمعونة قرائن كانت لديهم ، فلا عبرة به ، لعدم حجيته على غيره إلّا بناء على جبر ضعف الدلالة كالسند بعمل المشهور ، لكن تحقق الشهرة محل تأمل ، مضافا إلى منع الكبرى.

هذا كله في الاحتمال الأول.

٢ ـ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع

ثانيها : ما اختاره المحقق الخراسانيّ (قده) في الكفاية من أن المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، توضيحه : أن الضرر في الخارج موجود ، فنفيه لا بد أن يكون بلحاظ حكمه ، فالمنفي حقيقة حكمه لا نفسه ، والمصحح لتعلق النفي بنفس الضرر مع وجوده تكوينا هو ادعاء عدمه ، لأجل عدم ترتب آثاره عليه ، وكل شيء لا يترتب عليه أثره المترقب منه ينزّل منزلة العدم ، كالرجل غير الشجاع الخائف

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ٢ ، ص ١١٣

٥٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

القاعدة عن القتال في ميادين الحرب والجدال ، فانه يصح سلب الرجولية عنه ويقال : أنه ليس برجل لعدم الأثر البارز للرجال وهو الشجاعة مثلا فيه.

وبالجملة : فالمنفي حقيقة هو الحكم ، لأنه القابل للوضع والرفع التشريعيين ، دون الموضوع الخارجي ، إلّا أنه لعدم ترتب الأثر على الضرر نزّل وجوده منزلة العدم.

ثم انه يعتبر في نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أن يثبت لطبيعة حكم شرعا أو عرفا حتى يكون النفي رافعا لذلك الحكم عن تلك الطبيعة أو بعض أفرادها كـ «لا رهبانية في الإسلام» و «لا قياس في الدين» و «لا سرف في الضوء» و «لا ربا بين الوالد والولد» و «لا غيبة لمن تجاهر بالفسق» فان جواز الرهبانيّة الثابت في الشرائع السابقة وجواز القياس الثابت عند العامة قد ارتفعا عن جميع أفراد الرهبانيّة والقياس في الإسلام ، وحرمة الرّبا والإسراف والغيبة قد ارتفعت عن بعض أفراد الرّبا والغيبة والإسراف ، ومرجع الأول إلى النسخ ، والثاني إلى التخصيص.

والوجه في اعتبار هذا الشرط واضح ، إذ المفروض أن نفي الموضوع الخارجي شرعا لا يصح إلّا بنفي ما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع ، وليس ذلك إلّا الحكم ، فنفي الرّبا وهي الزيادة لا معنى له إلّا نفي حكمها الثابت لطبيعة الرّبا وهو الحرمة ، فمعنى «لا ضرر» حينئذ هو نفي الحكم الثابت لعنوان الضرر ، فلو فرض أن الضرر كان حكمه الجواز ، فقاعدة نفيه تنفي ذلك الحكم ، فكل حكم تكليفي أو وضعي مجعول لعنوان الضرر ينفي بقاعدة نفي الضرر ، هذا.

وأورد عليه أولا : بعدم صحة نفي الحقيقة ادعاء مطلقا ، وذلك لأن الجملة إما خبرية وإما إنشائية ، فان كانت خبرية فلا يصح النفي لا حقيقة ولا ادعاء أما حقيقة فواضح ، وأما ادعاء فلأن نفي الطبيعة ادعاء وتنزيل وجودها منزلة العدم

٥٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

انما يصح فيما إذا كانت الطبيعة فاقدة للأثر المهم المترقب منها كالشجاعة مثلا في الرّجل فانه يصح أن يقال في حق فاقديها : «يا أشباه الرّجال ولا رجال» وأما إذا فقدت غير ذلك الأثر فلا يصحح فقدانه التنزيل المزبور ، ومن المعلوم أن الأحكام التكليفية ليست من آثار الأفعال الخارجية حتى يصح نفيها بنفي تلك الأحكام ، ضرورة أنها أفعال اختيارية للشارع ، وآثار تلك الأفعال هي خواصها القائمة بها المسماة بالمصالح والمفاسد ، فالمصحح لنفي طبيعة الصلاة هو عدم ترتب مصلحتها الداعية لتشريع حكمها ، هذا.

مضافا إلى : أن الأفعال الخارجية ليست موضوعات الأحكام الشرعية حتى يتوجه نفيها ادعاء ، ضرورة كون الخارج ظرفا لسقوطها لا ثبوتها.

نعم في الأحكام الوضعيّة كصحة المعاملة نظير البيع يصح نفي الطبيعة بلحاظ عدم صحتها ، فيصح أن يقال : «أن المعاطاة بناء على افادتها الإباحة دون التمليك ليست بيعا» لعدم ترتب أثر البيع وهو الملكية عليها وان قصد بها البيع.

وبالجملة : فنفي الموضوع ادعاء بلحاظ حكمه الشرعي لا يقاس بسلب الرجولية عمن يفقد أثرها البارز ، هذا.

وان كانت الجملة إنشائية كان النفي حقيقيا لا ادعائيا ، لوجود الموضوع بعين وجود الحكم ، لكون عروض الحكم عليه من قبيل عروض الوجود على الماهية بناء على أصالة الوجود واعتبارية الماهية ، وليس كعوارض الوجود المنوطة بوجود المعروض ، وذلك لأن حقيقة الحكم هي الإرادة والكراهة القائمتان بنفس المولى ، وحيث ان طبيعة هذين الوصفين تعلّقية ، لاستحالة الشوق المطلق بدون المشتاق إليه ، واستحالة كون الخارج طرف الإضافة ، وإلّا لزم خارجية الأمر النفسانيّ أو نفسانية الخارج ، وامتناع قيام الصفة بشخص ومقوّمها بشخص آخر ،

٥٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وجب أن يكون موضوع الحكم الشرعي هو الصورة العلمية في أفق نفس الحاكم ، وحينئذ فنفي الحكم المترتب على الموضوع الضرري نفي للموضوع حقيقة لا ادعاء (١).

ويمكن الجواب عنه سواء أكانت الجملة خبرية أم إنشائية. أما إذا كانت خبرية فلأن الأحكام وان لم تكن آثار موضوعاتها ، لأنها منشئات الشارع ومجعولاته ، لكن حيث ان الملاكات التي هي آثار الموضوعات تكون بوجوداتها العلمية داعية لانقداح الإرادة والكراهة في المبادئ العالية ، صحّ نفي تلك الموضوعات ادعاء بلحاظ الربط المتحقق بين كل موضوع وحكمه ، لكفاية هذا المقدار من الترتب فيه ، فللشارع نفي أصل الرّبا بين الوالد والولد باعتبار نفي صفته البارزة أعني الحرمة.

وما أفاده من أن موطن الموضوع كنفس الحكم هو النّفس لا الخارج فهو وان كان متينا ، لكن لا يراد به الصورة العلمية للموضوع مع الغض عن الوجود الخارجي ، لوضوح أن ما يدعو الشارع إلى الجعل والإنشاء ملاحظة قيام الملاك بالموضوع ، ومن المعلوم اعتبار وجود الموضوع في وعاء العين ، إذ لو لا تأثير الخارج في الملاك لم تكن الصورة العلمية المحضة داعية للتشريع. ولذا كان شيخنا المحقق العراقي (قده) مع التزامه بأن المتعلقات هي الصور الذهنية يقول بأنها الصور الذهنية التي ترى خارجية ، فوجود المطابق الخارجي للصور النفسيّة ولو بنحو فرض وجوده لازم حتى تنقدح الإرادة في المبادئ العالية.

وأما إذا كانت إنشائية فلا يناط صحة نفي الموضوع بعدم أثره البارز ، ضرورة أنه يصح نفي جعله موضوعا للحكم في صفحة التشريع ولو بتبع نفي جعل حكمه ، فيصح أن يقال : «الرهبانيّة مثلا لم تجعل موضوعا للحكم» فان موضوعية الموضوع مجعولة تبعا لجعل الحكم لا أصالة.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٣١٨ و ٣١٩

٥٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وما أفاده من كون الحكم بالنسبة إلى الموضوع كعارض الماهية فهو كلام متين ، وقد أشرنا إليه في الجزء الأول ، لكن الظاهر أن مثل هذه الدقائق العقلية لا تتطرق في باب الاستظهار من الأدلة الشرعية الملقاة إلى العرف وان لم نقل باعتبار مسامحاته في مقام التطبيق ، فان الأحكام الشرعية أمور اعتبارية ، وموضوعاتها من الأمور المتأصلة عندهم ، ففي مثل «لا تشرب الخمر» يرون الموضوع بالنظر الدقي هو الخمر الخارجي ، لا الصورة العلمية منه القائمة بنفس المولى.

وحينئذ فالمنفي هو الحكم بلسان نفي موضوعه نفيا ادعائيا لا حقيقيا ، لفرض تقوم النفي الحقيقي بانعدام أفراد الطبيعة خارجا كما في «لا رجل في الدار» وأما مع وجودها خارجا فالنفي بالعناية والادعاء.

وبالجملة : يكفي في صحة نفي الموضوع في الإنشاء نفي موضوعيته للحكم من دون اعتبار عدم ترتب أثره البارز عليه.

وثانيا : بما في تقرير بعض أعاظم العصر (مد ظله) من : «أن المنفي في المقام هو عنوان الضرر ، والضرر ليس عنوانا للفعل الموجب للضرر ، بل مسبب عنه ومترتب عليه ، فلو كان النفي نفيا للحكم بلسان نفي موضوعه لزم أن يكون المنفي في المقام الحكم الثابت لنفس الضرر ، لا الحكم المترتب على الفعل الضرري» (١).

لكن يرد عليه نقضا بما اختاره من كون المنفي نفس الحكم ابتداء وفاقا للشيخ الأعظم والمحقق النائيني ، حيث ان الضرر ليس عنوانا لنفس الحكم ، ولا يحمل عليه بالحمل الشائع ، بل مترتب عليه ، لعدم كون نفس وجوب الوضوء ضررا على المكلف وانما هو ضرري ، فلو لم يصح تعنون العلة والسبب بوصف المعلول والمسبب لم يفرق فيه بين كون الضرر المنفي عنوانا للموضوع أم للحكم ، إذ ليس الضرر محمولا على الموضوع ولا على الحكم حينئذ ، وهذا لا يلتئم مع جعل

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٥٢٧

٥٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مفاد الجملة نفي الحكم ، لتوقفه على صحة تعنونه بالضرر.

وحلّا بورود نظائر هذا الاستعمال في الروايات ، من وقوع الضرر عنوانا للفعل الخارجي ، وقد تقدم في معنى الضرار ذكر بعض الروايات كطلاق الزوج ضرارا ، فليس هذا الكلام مستبعدا عن استعمالات أبناء المحاورة حتى لا يلتزم به.

وثالثا : بأن الضرر موضوع للحكم ، والموضوع مقتض لحكمه ، فكيف يمكن أن يكون رافعا له؟ فيمتنع أن يندرج «لا ضرر» في نفي الحكم بلسان نفى الموضوع. فدلالة الاقتضاء توجب حمل الكلام على بعض الوجوه الآتية من النهي أو إرادة الضرر غير المتدارك ، هذا.

ويمكن دفعه نقضا وحلّا.

أما الأول فبالنقض بمثل «لا رهبانية» مما كان موضوعا في الشرائع السابقة لأحكام قد ارتفعت في هذه الشريعة ، فان الرهبانيّة مع موضوعيتها للحكم السابق قد ارتفع عنها ذلك الحكم في هذه الشريعة ، فيلزم كون الرهبانيّة مقتضية للحكم ورافعة له. وامتناع اقتضاء شيء واحد لطرفي النقيض بديهي.

وأما الثاني فبأن الحكم الثاني ناسخ للأول ورافع لموضوعية موضوع الحكم الأول ان كان المرفوع نفس طبيعة الموضوع ، إذ لا معنى لرفع الحكم عن موضوعه مع تماميته وعدم زوال جزء وقيد عنه إلّا النسخ الّذي حقيقته إنهاء أمد موضوعية موضوع الحكم المنسوخ ، أو مقيد له ان كان المرفوع حصة من الطبيعة كـ «لا ربا بين الوالد والولد» وإلّا يلزم اجتماع الضدين أو النقيضين.

ورابعا : بأن الضرر ان كان حراما ، فنفيه بلا ضرر يوجب جوازه ، وهذا ضد المقصود ، إذ الغرض إثبات ما يناسبه من الحرمة ، فيمتنع أن يكون «لا ضرر» من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

ويمكن دفعه بأن قاعدة نفي الضرر من الأحكام الامتنانية ، ومن المعلوم أن

٥٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الإضرار بالغير لا منّة فيه ، بل هو خلاف الامتنان ، فشرط جريان هذه القاعدة أن يكون فيها منة على العباد ، وإلّا فلا تجري ، نظير جريان أصل البراءة في كونه من الأحكام الامتنانية.

نعم عمدة الإشكال على هذا الوجه هي عدم انطباق ضابط نفي الحكم بلسان نفي الموضوع عليه ، حيث ان ضابطه كما مر آنفا نفي الحكم الثابت لطبيعة عن نفسها أو عن بعض أنواعها أو أصنافها ، فلا يشمل حكما ثبت لموضوع طرأ عليه ذلك العنوان تصادفا.

وعليه فليس وجوب الوضوء الضرري ولزوم الوفاء بالبيع الغبني وسلطنة المالك إذا صارت ضررية ونظائرها من صغريات قاعدة نفي الحكم بلسان نفى الموضوع ، ضرورة أن الأحكام في هذه الأمثلة ثبتت لعناوين خاصة من الوضوء والبيع وسلطنة المالك على ماله ولم تثبت لعنوان الضرر حتى ترتفع بقاعدة نفيه.

والحاصل : أن لا ضرر بناء على كونه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع لا يشمل أمثال هذه الموارد مع بناء الأصحاب على شموله لها رفع أحكامها به ، فلا بد من إرادة معنى آخر من «لا ضرر» ولا موجب لحمله على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما التزم به صاحب الكفاية (قده) في رفع الخطاء والنسيان في حديث الرفع ، حيث جعل رفع الحكم فيهما من هذا الباب.

توضيح عدم الموجب له في المقام ما عرفت من عدم انطباق ضابط نفي الحكم بلسان نفي الموضوع عليه ، وعدم دليل خارجي أيضا على لزوم الالتزام بذلك فيه بعد إمكان حمله على معنى آخر من المعاني المحتملة في «لا ضرر» وهذا بخلاف رفع الخطأ والنسيان ، فانه بعد امتناع نفيهما تكوينا ، لوجودهما في الخارج فيلزم الكذب ، وتشريعا بمعنى نفي الحكم المترتب على عنوانهما ، للزوم كون الشيء مقتضيا لحكمه ورافعها له ، ولغوية تشريع الحكم لعنوانهما كوجوب سجود

٥٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

السهو لمن نسي بعض أجزاء الصلاة ، أو بمعنى عدم جعلهما شرعا موضوعا لحكم وتنزيلهما منزلة العدم بحيث يكون الفعل الصادر معهما كالفعل الصادر عمدا لكونه خلاف الامتنان ، والمفروض أن رفعهما من الأحكام الامتنانية (لا بد) بمقتضى دلالة الاقتضاء أن يكون المرفوع حكم الفعل إذا صدر خطأ أو نسيانا ، فصون الكلام عن اللغوية يقتضي معاملة نفي الحكم معهما معاملة نفيه بلسان نفي الموضوع وان لم ينطبق عليه ضابطه.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنه لا سبيل إلى ما اختاره المحقق الخراسانيّ (قده).

٣ ـ تشريع حرمة الضرر

ثالثها : ما اختاره بعض كصاحب العناوين (ره) وشيّده العلامة شيخ الشريعة الأصفهاني (قده) في رسالته المعمولة في قاعدة نفي الضرر من إرادة النهي من النفي كإرادة البعث من الجملة الخبرية ، ببيان : أنه كما يمكن أن يكون الاخبار بالوقوع كناية عن طلب الفعل وإرادته ، إذ الاخبار بالوقوع يناسب البعث على الإيجاد ، كذلك يمكن أن يكون الاخبار بعدم الوقوع كناية عن كراهة الفعل والزجر عنه ، إذ المناسب للوقوع وعدمه من الدواعي هو الزجر والبعث دون التهديد والتعجيز وغيرهما من الدواعي ، إذ لا مساس لها بالوقوع وعدمه ، قال (قده) في رسالته المشار إليها : «والظاهر الراجح عندي بين المعاني الأربعة هو الأول ، وهو الّذي لا تسبق الأذهان الفارغة عن الشبهات العلمية إلّا إليه ... إلى أن قال : وليعلم أن المدعى أن حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه ، سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداء ، أو أنه استعمل معناه الحقيقي وهو النفي ، ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي ... إلى أن قال : فالمدعى ان الحديث يراد به إفادة النهي ، لا نفي الحكم الضرري ، ولا نفي الحكم المجعول للموضوعات عنها ،

٥٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولا يتفاوت في هذا المدعى أن استعمال النفي في النهي بأي وجه ، وربما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي مقدمة للانتقال إلى طلب الترك أدخل في إثبات المدعى ، حيث لا يتجه حينئذ ما يستشكل في المعنى الأول من أنه تجوز لا يصار إليه».

ولا يخفى أن كلامه هذا ينادي بأعلى صوته بعدم توقف إرادة النهي من هذا التركيب على استعمال النفي في النهي مجازا ، فلا يرد عليه ما في الكفاية من عدم معهودية إرادة النهي من النفي من مثل هذا التركيب حتى يجاب عنه بشيوع إرادة النهي من «لا» التي لنفي الجنس ، وبيان موارد كثيرة من هذا التركيب مما علم بإرادة النهي فيها ، نظير قوله تعالى : «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» (١) وقوله تعالى : «فان لك في الحياة أن تقول لا مساس» (٢) أي لا تمسني ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا أخصاء في الإسلام» و «لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام» و «لا غش بين المسلمين» و «لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام» و «لا حمى الا ما حمى الله ورسوله» و «لا حمى في الإسلام ولا مناجشة» وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة وكلمات الفصحاء.

وبالجملة : فإرادة النهي من الاخبار بعدم الوقوع كإرادة البعث من الاخبار بالوقوع في غاية الكثرة من غير توقف على ارتكاب المجاز في الكلمة باستعمال النفي في النهي حتى يقال : بعدم معهودية إرادة النهي من النفي في مثل هذا التركيب ، فان القائل بهذا الوجه الثالث لا يريد النهي بنحو استعمال النفي فيه ، بل وزان إرادته وزان إرادة البعث من الجملة الخبرية الدالة على وقوع شيء.

والضابط في إرادة النهي من النفي هو كون المنفي فعلا اختياريا للمكلف ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٩٣

(٢) سورة طه الآية ٩٧

٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إذ المفروض تعلق النهي به ، ومن المعلوم اعتبار القدرة في متعلقه كغيره من متعلقات الأحكام طرّا ، فلا يشمل مثل «لا شك لكثير الشك» و «لا سهو للإمام مع حفظ المأموم» و «لا سهو في سهو» و «لا سهو في نافلة» ونظائرها مما لا يكون متعلق «لا» النافية فعلا اختياريا.

وهذا الضابط ينطبق على المقام ، ويكون كبرى لفعل سمرة كما يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله له لعنه الله : «انك رجل مضار» فانه بمنزلة الصغرى ، لأن فعله مضارة وكل مضارة حرام ، ففعله لعنه الله حرام ، فحمل «لا» على النهي يناسب المورد ، بخلاف حمله على غير النهي ، فبناء على نفي الحكم الضرري يصير المعنى «انك رجل مضار والحكم الضرري منفي» وعلى نفي الموضوع الضرري «انك رجل مضار والفعل الضرري لا حكم له» وبرودة كلا المعنيين غير خفية على الأذهان المستقيمة.

وكيف كان ، فإرادة النهي من النفي والاخبار بعدم الوقوع كإرادة البعث من الاخبار بالوقوع وان كانت شائعة في الكتاب والسنة وكلمات الفصحاء ، لكن شيوعها ليس بمثابة يوجب الانسباق إلى الذهن عند الإطلاق ، بل يتوقف إرادته على قيام قرينة عليه ، لشيوع إرادة غير النهي من هذا التركيب أيضا ، نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يتم بعد احتلام ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك ، ولا يمين لولد مع والده ، ولا للمملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها ، ولا نذر في معصية ، ولا يمين في قطيعة» (١) و «لا يمين في غضب ولا في قطيعة رحم ولا في جبر ولا في إكراه» (٢) و «لإطلاق إلّا على كتاب الله ولا عتق إلّا لوجه الله» (٣) و «لإطلاق إلّا لمن أراد

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٦ ، كتاب الإيمان ، الباب ١١ ، الحديث : ١ ، ص ١٢٩

(٢) المصدر ، الباب ١٦ ، الحديث : ١ ، ص ١٤٣

(٣) المصدر ، الباب ١٤ ، الحديث : ٩ ، ص ١٤٠

٥٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الطلاق» (١) و «لا طلاق الا بعد نكاح ولا عتق إلّا بعد ملك» (٢) و «لا طلاق إلّا ببينة» (٣) و «لا طلاق الا على السنة ولإطلاق إلّا على طهر» (٤) و «لا ظهار الا ما أريد به الظهار» (٥) و «لا إيلاء حتى يدخل بها» (٦) و «لا سهو على من أقر على نفسه بسهو» (٧) و «لا صيام لمن لا يبيّت الصيام بالليل» (٨) و «لا نكاح الا بولي مرشد وشاهدي عدل» (٩) و «لا رهن إلّا مقبوضا» (١٠) و «لا قطع إلّا من حرز» (١١) و «لا شفعة إلّا لشريك غير مقاسم» (١٢) و «لا شفعة في سفينة ولا في نهر ولا في طريق» (١٣) وغير ذلك مما يعثر عليه المتتبع.

والحاصل : أن إشكال إرادة النهي من النفي هو عدم القرينة عليه بعد ما عرفت من شيوع استعمال هذا التركيب في النهي وغيره بحيث يصير الكلام بدون القرينة

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٥ ، الباب ١١ من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث ٤ و ٥ ، ص ٢٨٦

(٢) الصدر ، الباب ١٢ ، الحديث : ١ ، ص ٢٨٦

(٣) المصدر ، الباب ١٠ ، الحديث : ١٣ ، ص ٢٨٥

(٤) المصدر ، الباب ٩ ، الحديث : ٣ ، ص ٢٨٠

(٥) المصدر ، الباب ٣ من أبواب الظهار ، الحديث : ٢ ، ص ٥١٠

(٦) المصدر ، الباب ٦ من أبواب الإيلاء الحديث : ٣ ، ص ٥٣٩

(٧) الوسائل ، ج ٥ الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث : ٨ ص ٣٣٠

(٨) عوالي اللئالي ، ج ٣ ص ١٣٢

(٩) المصدر ، ص ٣١٣

(١٠) الوسائل ، ج ١٢ ، كتاب الرهن ، الباب ٣ الحديث : ١

(١١) المستدرك ، ج ٣ كتاب الحدود والتعزيرات ، ص ٢٣٨ ، رواه عن عوالي اللئالي

(١٢) الوسائل ، ج ١٧ ، كتاب الشفعة ، الباب ٦ ، الحديث : ٢ ص ٣٢٠

(١٣) المصدر ، الباب ٨ ، الحديث : ١ ، ص ٣٢٣

٥٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على أحدهما مجملا ، هذا.

مضافا إلى : أنه ـ مع الاعتراف باستعمال «لا» النافية في معناها الحقيقي وكون النهي مرادا جديا للمولى ـ يتوجه عليه : أن أصالة التطابق بين الإرادتين الاستعمالية والجدية تقتضي إرادة النفي من «لا ضرر» إلّا بقرينة توجب التفكيك بين الإرادتين ، وإرادة الحرمة من الأمثلة المستشهد بها لا تصلح لرفع اليد عن أصالة الحقيقة في حرف النفي في المقام.

وأما استدلاله بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» على إرادة التحريم ، فيرده : أنه وان كان كذلك ، إلّا أنك عرفت في مدخل البحث أن مرسلة زرارة وخبر الحذاء غير واجدين لشرائط حجية الخبر حتى يستظهر ذلك من كلمة «مضار».

وأما تأييد مدعاه بكلام جمع من اللغويين حيث فسّروا الجملة بـ «لا يضر أحدهما صاحبه» فيكفي في رده عدم اعتبار قول اللغوي في تعيين الأوضاع ، ومعارضته بفهم قدماء الأصحاب كالشيخ والسيد ابن زهرة المستدلين بها على خيار الغبن المقتضي لاستفادة النفي منه. خصوصا وقد ادعى فخر الدين تواتر الأخبار على نفي الضرر ، فكأن الذوق الفقهي المستقيم آب عن استظهار غير النفي منه.

ومنه يظهر المنع من دعوى تبادر الحرمة إلى الأذهان الصافية ، إذ المختلفون في فهم النهي أو النفي كلهم من أبناء المحاورة.

وقد استدل على إرادة التحريم بوجوه أخرى أيضا.

منها : ما في العناوين تارة من «أن المنع والتحريم هو الأنسب بملاحظة كون الشارع في مقام الحكم من حيث هو كذلك ، لا في مقام ما يوجد في الدين وما لا يوجد» وأخرى بأن «سياق الروايات يرشد إلى إرادة

٥٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

النهي من ذلك ، وأن المراد تحريم الضرر والضرار والمنع عنهما ، وذلك إما بحمل (لا) على معنى النهي ، وإما بتقدير كلمة مشروع ، ومجوّز ، ومباح في خبره مع بقائه على نفيه ، وعلى التقديرين يفيد المنع والتحريم».

ومنها : ما في حاشية المحقق الخراسانيّ على الرسائل من «أن الشارع لم يشرع جواز الإضرار بالغير أو وجوب تحمل الضرر عنه كما يظهر من مراجعة ما يوازنه من مثل لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج مثلا ، أو يقال مثلا : لا قمار ولا سرقة ولا أكل أموال الناس بالباطل في الإسلام ، حيث ان الظاهر منها نفي تشريع ما يناسب الموضوع المنفي فيها من الأحكام».

ومنها : ما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) من قوله : «ولكن هنا شبهة ربما تقوي إرادة النهي .... إلخ».

ومحصله : أن الضرر هو النقص ، وحمل العنوان المنتزع من المعلول على العلة بالحمل الشائع غير سديد ، فلا يقال : «النار حرارة» بل الصحيح أن يشتق من المعلول وصف ثم حمله عليها بأن يقال : «النار حارة» وحيث ان الضرر معلول الحكم الشرعي كما يراه الشيخ أو موضوع حكمه كما اختاره المحقق الخراسانيّ فلا بد من صحة أن يقال : «الوجوب ضرر أو الوضوء ضرر» مع أن الصحيح كون الوضوء أو وجوبه مضرا لا ضررا ، ولذا قد يضاف إليه ياء النسبة ويقال : «الوضوء الضرري ليس مجعولا في الإسلام».

وهذا أجنبي عما هو المنفي في الحديث ، لورود حرف النفي على نفس الضرر لا المشتق منه ، والمفروض فساد حمل العنوان القائم بالمعلول على علته ، ولا يمكن تصحيح الكلام الا بكون النفي بلحاظ الحكم المتوهم وهو الجواز ونتيجته حرمة الضرر ، وهذا التقدير أقرب إلى المعنى الحقيقي من احتمال إرادة

٥٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

النفي منه (١).

لكن للمناقشة في الوجوه المتقدمة مجال ، أما ما أفاده صاحب العناوين أوّلا فيرده : أن الشارع الأقدس المحيط بحقائق الأمور له الاخبار عن الواقعيات كما له إنشاء الأحكام الاعتبارية. وبناء على كون الجملة خبرية لم يتعين حملها على الاخبار عن نفي الضرر خارجا حتى يكون كذبه موجبا لإرادة إنشاء التحريم ، لجواز حمله على نفي الضرر في وعاء التقنين والتشريع ، وهو مناسب جدا لمقام شارعيته فضلا عن منافاته له ، وهذا المعنى أوفق بما اشتمل على كلمة «في الإسلام» ومجرد هذا الاحتمال كاف في عدم استقرار ظهور الجملة في النهي.

وأما ما أفاده ثانيا من وحدة السياق فيرده : أن ورود النهي عن الضرار والمضارة انما يقتضي رفع اليد عن أصالة الحقيقة في «لا» النافية الواردة على «ضرار» ولكنه لا يقتضي رفع اليد عنه في خصوص «لا ضرر» لأنه بلا موجب ، كما هو واضح.

وأما رفع اليد عن النفي بتقدير «مجوّز ومباح» فيكفي في رده كونه خلاف الأصل ، ولا ملزم للالتزام به ، لصحة الكلام بدونه.

وأما كلام المحقق الخراسانيّ في الحاشية ، فيمكن الخدشة فيه ـ مضافا إلى عدم انطباق ضابط نفي الحكم المناسب بلسان نفي الموضوع عليه ـ بأن الحكم المناسب للضرر هو الحرمة لا الجواز خصوصا بملاحظة الأخبار الناهية عن المضارة والإضرار والضرر ، ونفي هذا الحكم المناسب خلاف المقصود الّذي هو إثبات حرمة الضرر ، إذ نفي الحرمة مستلزم للجواز ، فيكون حينئذ نظير «لا ربا بين الوالد والولد» في كون المنفي هو الحرمة المجعولة للطبيعة.

وأما كلام المحقق الأصفهاني ، فان الأمر وان كان كما أفاده ، لكن يبقى مجال

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٣٢٢

٥٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

النقض عليه بنفي الحرج في الدين مما لا ريب في كون المنفي هو نفس الحكم الشرعي ، مع أن الحرج والمشقة ليس وصفا للحكم ، لقيامه بالمكلف ، وانما الحكم حرجي أو ملق في الحرج ، فالمحمول المنفي في الشريعة هو الحرج لا ما يشتق منه ، وقد تعنون الحكم في لسان الدليل بوصف ما هو كالمعلول له ، وعليه فمجرد ما أفيد لا يقتضي رفع اليد عن أصالة الحقيقة في «لا» هذا.

مضافا إلى : احتمال عدم كون «ضرر» مصدرا ، بل هو كـ «حسن» صفة مشبهة ، ولا ريب في صحة تعنون علته به ، لاشتراك بعض الصيغ بين المصدر والصفة المشبهة ، أو بين اسم الفاعل والصفة.

بل يمكن الجواب الحلي بأن المصحح لأمثال هذا الاستعمال هو صحة الحمل عرفا وان لم يخل عن بعض مراتب المجاز كما في «زيد عدل» بداعي المبالغة في ثبوت الصفة له ، وفي حديث «لا ضرر» كذلك ، لشدة الربط بين فعل المكلف وحكم الشارع من جهة تبعية الإرادة المأمورية للإرادة الآمرية ومقهوريتها لها ، فكأن الشارع هو الملقي له في الضرر والحرج ، وهذا المقدار مصحح لاستعمال «لا» النافية مجازا في النفي.

هذا ما استدل به على إرادة النهي من جملة «لا ضرر» وقد عرفت عدم وفاء شيء منها بإثباته ، وان كان احتمال إرادته غير مستبعد من هذا التركيب.

وأما الإشكال عليه تارة بما في مقالات شيخنا المحقق العراقي من «أن هذا المعنى لا يناسب التخفيف على الأمة الموجب للامتنان عليهم ، بل كان تحملا آخر وإلزاما زائدا عليهم ، وهو ينافي بناءهم على سوقه الوارد مساق حديث الرفع وعمومات نفي الحرج من حيث التخفيف على الأمة ، بشهادة تصريحهم بعدم شمول عمومه للمقدم على الضرر في المعاملات الغبنية ...» (١).

وأخرى بما في تقريرات بعض الأعاظم دام ظله من «أن هذا الاحتمال ـ وهو

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ٢ ، ص ١١٣

٥٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إرادة النهي ـ وان كان ممكنا في نفسه ، إلّا أنه لا يمكن الالتزام به في المقام. أما بناء على اشتمال الرواية على كلمة (في الإسلام) كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير فظاهر ، لأن هذا القيد كاشف عن أن المراد هو النفي في مقام التشريع ، لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر».

فلا يخلو من غموض. أما الأول فلأن القاعدة وان وردت مورد الامتنان بناء على إرادة النفي ، إلّا أن الاستناد فيه إلى المتن المشتمل على «على مؤمن» غير ظاهر ، لما عرفت من عدم ثبوته في رواية معتبرة ، ودعوى الجبر بعمل الأصحاب بخصوص هذا المتن ممنوعة ، إذ الموجود في خلاف شيخ الطائفة وغنية السيد ابن زهرة (قدهما) خال عنه ، والمحكي عن تذكرة العلامة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فإحراز استنادهم إلى خصوص ما اشتمل على «على مؤمن» مشكل ولو سلم ذلك لم ينفع ، لاستدلالهم على خيار الغبن بوجوه أخرى كتخلف الشرط الضمني ، وسقوط خيار العالم بالغبن يستند إلى إسقاط هذا الحق ، لا امتنانية قاعدة الضرر.

وأما الثاني ، فلأن نفي الوجود بداعي الزجر تشريع أيضا لحرمة الإضرار في الإسلام كحرمة الرفث في الحج ، فانه لا فرق في صدق التشريع بين كون المجعول نفي الحكم الضرري وبين كونه حرمة الإضرار ، لأنه على التقديرين تكون القضية خبرية سلبية حاكمية عن عدم وقوع الضرر سواء أريد به نفي الحكم الضرري أم الموضوع الضرري ، أم حرمة الضرر ، فكلمة «الإسلام» لا تشهد بتعين شيء من هذه الاحتمالات الثلاثة ، فتأمل جيدا.

ولا بأس بالتنبيه على أمر ، وهو : أن الشيخ الأعظم بعد استظهاره لنفي الحكم من الحديث قال : «ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن ضرر النّفس أو الغير ابتداء أو مجازاة ، لكن لا بد أن يراد بالنهي زائدا على التحريم الفساد وعدم

٥٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المضي ، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف ، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء بالشروط والعقود ، فكل إضرار بالنفس أو الغير محرم غير ماض على من أضره ، وهذا المعنى قريب من الأول بل راجع إليه ...».

لكنه لا يخلو من غموض ، لتوقفه على الملازمة بين حرمة الإضرار بالغير تكليفا ووضعا ، مع أن الأمثلة التي ذكرها المختارة وهو النفي أجنبية عن هذا التلازم ، فانه (قده) مثل للنفي بقوله : «فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر ، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك ، وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلّا بثمن كثير ، وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري ، وكذلك حرمة الترافع إلى حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه ، ومنه براءة ذمة الضار عن تدارك ما أدخله من الضرر».

والملازمة المزبورة انما تتجه في مثال سلطنة المالك ، لأنها منشأ لتضرر الأنصاري ، فيمكن القول بزوال سلطنته من جهة حرمة الإضرار. وأما في سائر الفروع المذكورة فلا ، حيث ان المرفوع في مسألة شراء ماء الوضوء بثمن كثير هو الإلزام والوجوب لا حرمة الشراء حتى يستلزم فساد الوضوء به. وكذا في مثال حرمة الترافع ، فان مجرد تضرر صاحب المال لا يوجب جواز الترافع إليهم لإنقاذ حقه. وعقد الغابن ليس حراما تكليفا حتى يلازم حكمه الوضعي وهو جواز العقد. وبيع الشريك حصته ليس حراما حتى يكون سلطنة الشريك على فسخه لأجله.

هذا كله مع الغض عما في تنظير «لا ضرر» بآية وجوب الوفاء بالعقود الدالة على حليتها تكليفا ووضعا بالملازمة العرفية من الإشكال ، لإمكان تحريم الشارع للضرر من دون أن يكون من موجبات الضمان ، كما هو واضح لمن تأمل.

٦٠٠