الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

صورة أخرى :

كنّا عند عمر فأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إنّما نمكث الشهر والشهرين ولا نجد الماء ، فقال عمر : أمّا أنا فلم أكن لأصلّي حتى أجد الماء. فقال عمّار : يا أمير المؤمنين تذكر حيث كنّا بمكان كذا ونحن نرعى الإبل فتعلم أنّا أجنبنا؟ قال : نعم ، قال : فإنّي تمرّغت في التراب فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحدّثته فضحك وقال : «كان الطيّب كافيك» وضرب بكفّيه الأرض ثمّ نفخ فيهما ثمّ مسح بهما وجهه وبعض ذراعه؟ قال : اتّق الله يا عمّار ، قال يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره ما عشت أو ما حييت. قال : كلاّ والله ولكن نولّيك من ذلك ما تولّيت.

مسند أحمد (٤ / ٣١٩) ، سنن أبي داود (١ / ٥٣) ، سنن النسائي (١ / ٦٠) (١).

تحريف وتدجيل :

هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (٢) (١ / ٤٥) في باب : المتيمّم هل ينفخ فيهما ، وفي أبواب بعده ، غير أنّه راقه أن يحرّفه صوناً لمقام الخليفة فحذف منه جواب عمر (لا تصلّ) أو : (أمّا أنا فلم أكن لأُصلّي) ذاهلاً عن أنّ كلام عمّار عندئذٍ لا يرتبط بشيء ، ولعلّ هذا عند البخاري أخفُّ وطأة من إخراج الحديث على ما هو عليه.

وذكره البيهقي محرّفاً في سننه الكبرى (١ / ٢٠٩) نقلاً عن الصحيحين ، وأخرجه النسائي في سننه (٣) (١ / ٦٠) وفيه مكان جواب عمر : فلم يدرِ ما يقول. وأخرجه

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٤١٧ ح ١٨٤٠٣. سنن أبي داود : ١ / ٨٨ ح ٣٢٢. السنن الكبرى : ١ / ١٣٣ ح ٣٠.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ١٢٩ ح ٣٣١.

(٣) السنن الكبرى : ١ / ١٣٤ ح ٣٠٤.

١٢١

البغوي في المصابيح (١) (١ / ٣٦) وعدّه من الصحاح ، غير أنّه حذف صدر الحديث وذكر مجيء عمّار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب.

وذكره الذهبي في تذكرته (٢) (٣ / ١٥٢) محرّفاً وأردفه بقوله : قال بعضهم : كيف ساغ لعمّار أن يقول مثل هذا فيحلّ له كتمان العلم؟ والجواب : إنّ هذا ليس من كتمان العلم فإنّه حدّث به واتّصل ـ ولله الحمد ـ بنا ، وحدّث في مجلس أمير المؤمنين ، وإنّما لاطف عمر بهذا لعلمه بأنّه كان ينهى عن الإكثار من الحديث خوف الخطأ ، ولئلاّ يتشاغل الناس به عن القرآن.

قال الأميني : هناك شيء هام أمثال هذه الكلمات المزخرفة والأبحاث الفارغة المعدّة لتعمية البسطاء من القرّاء عمّا في التاريخ الصحيح ، ليت شعري ما أغفلهم عن قول عمر : لا تصلّ ـ أو : ـ أمّا أنا فلم أكن لأُصلّي؟ يقوله وهو أمير المؤمنين والمسألة سهلة جدّا عامّة البلوى شائعة. وما أغفلهم عن قوله لعمّار : اتّق الله يا عمّار وعن تركه الصلاة يوم أجنب في السريّة بعد ما جاء الإسلام بالطهورين! وعن جهله بآية التيمّم وحكم القرآن الكريم وعن غضّه البصر عن تعليم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّاراً بكيفيّة التيمّم! ما أذهلهم عن هذه الطامّات الكبرى وأشغلهم بعمّار وكلمته! نعم ، الحبُّ يُعمي ويُصمّ ، ومن كان في هذه أعمى ، فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلاً.

ويظهر من العيني في عمدة القاري (٣) (٢ / ١٧٢) ، وابن حجر في فتح الباري (٤) (١ / ٣٥٢) ثبوت تينك الفقرتين (٥) من لفظ عمر في الحديث ولذلك جعلاه مذهباً له ، قال العيني :

__________________

(١) مصابيح السنّة : ١ / ٢٣٩ ح ٣٦٦.

(٢) تذكرة الحفّاظ : ٣ / ٩٥١ رقم ٨٩٧.

(٣) عمدة القاري : ٤ / ١٨ ـ ١٩.

(٤) فتح الباري : ١ / ٤٤٣.

(٥) أعني قول عمر : لا تصلّ. وقوله : أمّا أنا فلم أكن لأصلّي حتى أجد الماء. (المؤلف)

١٢٢

فيه ـ يعني في الحديث ـ أنّ عمر رضي‌الله‌عنه لم يكن يرى للجنب التيمّم لقول عمّار له أنت فلم تصلِّ ، وقال جعل آية : فأمّا خ التيمّم مختصّة بالحدث الأصغر ، وأدّى اجتهاده إلى أنّ الجنب لا يتيمّم.

وقال ابن حجر : هذا مذهب مشهور عن عمر.

يعرب الحديث عن أنّ هذا الاجتهاد من الخليفة كان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أعجب شيء طرق أُذن الدهر ، كيف أكمل الله دينه ومثل مسألة التيمّم العامّة البلوى كانت غير معلومة في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقي فيها مجالٌ لمثل الخليفة أن يجهل بها أو يجتهد فيها؟ وكيف فتح باب الاجتهاد بمصراعيه على الأُمّة مع وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين ظهرانيها؟

فهلاّ سأل الرجل رسول الله بعد ما خالفه عمّار ، ورآه يتمعّك بالتراب فيصلّي. وهلاّ أخبره عمّار يوم أجنبا بما علّمه رسول الله من هديه وسنّته في التيمّم.

وهلاّ علم رسول الله ترك عمر الصلاة ـ وهي أهمّ الفرائض وأكملها ـ مهما أجنب ولم يجد الماء وأخبره بما جاء به الإسلام وقرّر في شرعه المقدّس.

وهلاّ سأل عمر بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجالاً خالفوه في رأيه هذا مثل عليّ أمير المؤمنين وابن عبّاس وأبي موسى الأشعري والصحابة كلّهم غير عبد الله بن مسعود.

وهل كان عمل أُولئك القائلين بالتيمّم على الجنب الفاقد للماء اتِّباعاً للسنّة الثابتة المسموعة من رسول الله؟ أو كان مجرّد رأي واجتهاد أيضاً لِدة اجتهاد الخليفة؟

وهلاّ كان الخليفة يثق بعمّار يوم أخبره عن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعدل عن رأيه. ولم ير ابن مسعود أنّ عمر قنع بقول عمّار (١).

__________________

(١) صحيح البخاري [١ / ١٣٢ ح ٣٣٨] ، صحيح مسلم [١ / ٣٥٤ ح ١١٠ كتاب الحيض] ، سنن البيهقي : ١ / ٢٢٦ ، تيسير الوصول : ٣ / ٩٧ [٣ / ١١٤ ح ٦]. (المؤلف)

١٢٣

وهل خفي على الخليفة ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين ، قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ في القوم فقال : «يا فلان ما منعك أن تصلّي في القوم؟» فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء ، فقال : «عليك بالصعيد فإنّه يكفيك» (١).

وهل عزب عنه ما رواه سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة؟ قال : جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّا نكون في الرمل وفينا الحائض والجنب والنفساء فيأتي علينا أربعة أشهر لا نجد الماء. قال : «عليك بالتراب» يعني التيمّم.

وفي لفظ آخر : إنّ أعراباً أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنّا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ولا نرى الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النفساء والحائض والجنب. قال : «عليكم بالأرض».

وفي لفظ الأعمش : جاء الأعراب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنّا نكون بالرمل ونعزب عن الماء الشهرين والثلاثة وفينا الجنب والحائض. فقال : «عليكم بالتراب» (٢).

وهل ذهب عليه ما أخبر به أبو ذر من السنّة؟ قال : كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأُصلّي بغير طهور ، فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصف النهار وهو في رهط من أصحابه وهو في ظلِّ المسجد فقال : «أبو ذر؟» فقلت : نعم ؛ هلكت يا رسول الله ؛ فقال : «وما أهلكك؟» قال : إنّي كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأُصلّي بغير طهور ، فأمر لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بماء فجاءت به جارية

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ١٢٩ [١ / ١٣٤ ح ٣٤١] ، صحيح مسلم [٢ / ١٣١ ح ٣١٢ كتاب المساجد] ، مسند أحمد : ٤ / ٤٣٤ [٥ / ٦٠٠ ح ١٩٣٩٧] ، سنن النسائي : ١ / ١٧١ [١ / ١٣٦ ح ٣١] ، سنن البيهقي : ١ / ٢١٩ ، تيسير الوصول : ٣ / ٩٨ [٣ / ١١٥ ح ١١]. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ١ / ٢١٦ ، ٢١٧. (المؤلف)

١٢٤

سوداء بعسّ يتخضخض ما هو بملآن فتستّرتُ إلى بعيري فاغتسلت ، ثمّ جئت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر إنّ الصعيد الطيِّب طهور وإن لم تجد الماء إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأَمسِسه جلدك» (١).

وهلاّ قرع سمعه حديث الأسقع ، قال : كنت أرحِّل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأصابتني جنابة فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رحِّل لنا يا أسقع». فقلت : بأبي أنت وأُمّي أصابتني جنابة وليس في المنزل ماء. فقال : «تعال يا أسقع أُعلّمك التيمّم مثل ما علّمني جبرئيل» فأتيته فنحّاني عن الطريق قليلاً فعلّمني التيمّم (٢).

وقبل كلِّ شيء آيتا التيمّم ، إحداهما في سورة النساء آية (٤٣) ، وهي قوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أُنزلت هذه الآية [في المسافر] إذا أجنب فلم يجد الماء تيمّم وصلّى حتى يدرك الماء ، فإذا أدرك الماء اغتسل» (٣).

والآية الثانية في سورة المائدة آية (٦) ، وهي قوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً

__________________

(١) سنن البيهقي : ١ / ٢١٧ ، ٢٢٠. (المؤلف)

(٢) تاريخ الخطيب البغدادي : ٨ / ٣٧٧ [رقم ٤٤٧٧]. (المؤلف)

(٣) سنن البيهقي : ١ / ٢١٦ [والزيادة في المتن من المصدر]. (المؤلف)

١٢٥

طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ).

فإنّ المراد من الملامسة في آية النساء هو الجماع لا محالة ، كما عن أمير المؤمنين وابن عبّاس وأبي موسى الأشعري ، وتبعهم في ذلك الحسن وعبيدة والشعبي وآخرون ، وهذا مذهب كلِّ من نفى الوضوء بمسِّ المرأة كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي وغيرهم. وذلك أنّ المولى سبحانه أسلف بيان حكم الجنب عند وجدان الماء بقوله : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ، وقوله : (فَاطَّهَّرُوا) ، ثمّ شرع في صور حكم عدم التمكّن من استعمال الماء لمرض أو سفر أو فقدانه واستطرد هنا ذكر الحدث الأصغر بقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، فنوّه بذكر الجنابة بقوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ولو أريد به غير الجماع لكان مختزلاً عمّا قبله. وعبّر عن الجماع باللمس المرادف للمسِ (١) الذي أُريد به الجماع فحسب في قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) (٢) وقوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (٣) وقوله تعالى : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (٤).

ولغير واحد من فقهاء القوم وأئمّتهم كلمات ضافية في المقام تكشف عن جليّة الحال نقتصر منها بكلمة الإمام أبي بكر الجصّاص الحنفي المتوفّى (٣٧٠) ، قال في أحكام القرآن (٥) (٢ / ٤٥٠ ـ ٤٥٦):

أمّا قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) ؛ فإنّ السلف قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية ، فقال عليّ وابن عبّاس

__________________

(١) راجع معاجم اللغة : [أنظر : لسان العرب : ١٢ / ٣٢٦ ، تاج العروس : ٤ / ٢٤٨]. (المؤلف)

(٢) البقرة : ٢٣٦.

(٣) البقرة : ٢٣٧.

(٤) الأحزاب : ٤٩.

(٥) أحكام القرآن : ٢ / ٣٦٩.

١٢٦

وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي : هي كناية عن الجماع وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مسّ امرأته. وقال عمر وعبد الله بن مسعود : المراد اللّمس باليد ، وكانا يوجبان الوضوء بمسِّ المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمّم ، فمن تأوّله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوضوء من مسِّ المرأة ، ومن حمله على اللّمس باليد أوجب الوضوء من مسِّ المرأة ولم يجز التيمّم للجنب.

ثمّ أثبت عدم نقض الوضوء بمسِّ المرأة على كلِّ حال لشهوة أو لغير شهوة بالسنّة النبويّة ، فقال : اللّمس يحتمل الجماع على ما تأوّله عليّ وابن عبّاس وأبو موسى ، ويحتمل اللّمس باليد على ما روي عن عمر وعبد الله بن مسعود ، فلمّا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قبّل بعض نسائه ثمّ صلّى ولم يتوضّأ ، أبان ذلك عن مراد الله تعالى.

ووجه آخر يدلّ على أنّ المراد منه الجماع وهو أنّ اللّمس وإن كان حقيقة للمسِّ باليد فإنّه لمّا كان مضافاً إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء كما أنّ الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أُضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع ، كذلك هذا ونظيره قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ، يعني من قبل أن تجامعوهنّ.

وأيضاً فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الجنب بالتيمّم في أخبار مستفيضة ، ومتى ورد عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنّما صدر عن الكتاب ، كما أنّه قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولاً بالآية ، وكسائر الشرائع التي فعلها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا ينطوي عليه ظاهر الكتاب.

ويدلُّ على أنّ المراد الجماع دون لمس اليد أنّ الله تعالى قال : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، إلى قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، أبان به عن حكم الحديث في حال وجود الماء ثمّ عطف عليه قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) ،

١٢٧

إلى قوله : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء فوجب أن يكون قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) على الجنابة لتكون الآية منتظمة لها مبيّنة لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه ، ولو كان المراد اللّمس باليد لكان ذكر التيمّم مقصوراً على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء ، وحمل الآية على فائدتين أولى من الاقتصار بها على فائدة واحدة ، وإذا ثبت أنّ المراد الجماع انتفى اللّمس باليد لما بيّنا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد.

فإن قيل : إذا حمل على اللّمس باليد كان مفيداً لكون اللّمس حدثاً وإذا جعل مقصوراً على الجماع لم يُفد ذلك ، فالواجب على قضيّتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعاً فيفيد كون اللّمس حدثاً ، ويفيد أيضاً جواز التيمّم للجنب ، فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتّفاق السلف على أنّهما لم يرادا ولامتناع كون اللفظ مجازاً وحقيقةً أو كنايةً وصريحاً ، فقد ساويناك في إثبات فائدة مجدّدة بحمله على اللّمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه ، فما جعلك إثبات فائدة من جهة إباحة التيمّم للجنب أولى ممّن أثبت فائدته من جهة كون اللّمس باليد حدثاً؟

قيل له : لأنّ قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) مفيد لحكم الأحداث في حال وجود الماء ونصّ مع ذلك على حكم الجنابة ، فالأَولى أن يكون ما في نسق الآية من قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، إلى قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، بياناً لحكم الحدث والجنابة في حال عدم الماء ، كما كان في أوّل الآية بياناً لحكمهما في حال وجوده ، وليس موضع الآية في بيان تفصيل الأحداث وإنّما هي في بيان حكمها ، وأنت متى حملت اللّمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها فلذلك كان ما ذكرناه أولى.

ودليل آخر على ما ذكرناه من معنى الآية وهو أنّها قد قرئت على وجهين : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، ولمستم ، فمن قرأ : (أَوْ لامَسْتُمُ) فظاهره الجماع لا غير ، لأنّ

١٢٨

المفاعلة لا تكون إلاّ من اثنين إلاّ في أشياء نادرة كقولهم : قاتله الله وجازاه وعافاه الله ونحو ذلك ، وهي أحرف معدودة لا يُقاس عليها أغيارها ، والأصل في المفاعلة أنّها بين اثنين كقولهم : قاتله ، وضاربه ، وسالمه ، وصالحه ، ونحو ذلك ، وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعاً ، ويدلّ على ذلك أنّك لا تقول لامست الرجل ولامست الثوب إذا مسسته بيدك لانفرادك بالفعل ، فدلّ على أنّ قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ) بمعنى أو جامعتم النساء فيكون حقيقته الجماع ؛ وإذا صحّ ذلك وكانت قراءة من قرأ : (أو لمستم) يحتمل اللّمس باليد ويحتمل الجماع وجب أن يكون ذلك محمولاً على ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً ؛ لأنّ ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً فهو المحكم ، وما يحتمل معنيين فهو المتشابه ، وقد أمرنا الله تعالى بحمل المتشابه على المحكم وردّه إليه بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (١) الآية ، فلمّا جعل المحكم أُمّا للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه ، وذمّ متّبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون ردِّه إلى غيره بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) فثبت بذلك أنّ قوله : (أو لمستم) لمّا كان محتملاً للمعنيين كان متشابهاً وقوله : (أَوْ لامَسْتُمُ) لمّا كان مقصوراً في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكماً ، فوجب أن يكون معنى المتشابه مبيّناً عليه.

ويدلّ على أنّ اللّمس ليس بحدث : أنّ ما كان حدثاً لا يختلف فيه الرجال والنساء ، ولو مسّت امرأة امرأة لم يكن حدثاً ، كذلك مسُّ الرجل إيّاها (٢) وكذلك مسُّ الرجل الرجل ليس بحدث. فكذلك مسُّ المرأة ، ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين ؛ أحدهما : أنّا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء ، فكلّ ما كان حدثاً من الرجل فهو من المرأة حدث ، وكذلك ما كان حدثاً من المرأة فهو حدث من

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) يعني ليس بحدث بالنسبة إلى المرأة. (المؤلف)

١٢٩

الرجل ، فمن فرّق بين الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأُصول. ومن جهة أخرى : أنّ العلّة في مسِّ المرأة المرأة والرجل الرجل أنّه مباشرة من غير جماع فلم يكن حدثاً ، كذلك الرجل والمرأة. انتهى.

فترى بعد هذه كلّها أنّ رأي الخليفة شاذّ عن الكتاب والسنّة الثابتة وإجماع الأُمّة ، واجتهاد محض تجاه النصوص المسلّمة ، ولذلك خالفته الأُمّة الإسلاميّة جمعاء من يومها الأوّل حتى اليوم ، وأصفقت على وجوب التيمّم على الجنب الفاقد للماء ، ولم يتّبعه فيما رآه أحد إلاّ عبد الله بن مسعود إن صحّت النسبة إليه.

ويظهر من صحيحة الشيخين ـ البخاري ومسلم ـ عن شقيق أنّ الاجتهاد المذكور في آيتي التيمّم والتأويل في قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ) كما ذكر من مختلقات التابعين ومن بعدهم ، وكان مفاد الآيتين متّفقاً عليه عند الصحابة ولم يكن قطُّ اختلاف بينهم فيه وإنّما كره عمر وتابِعه الوحيد التيمّم للجنب الفاقد للماء لغاية أخرى.

قال شقيق : كنت بين عبد الله بن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهما ، فقال أبو موسى : أرأيت يا أبا عبد الرحمن لو أنّ رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة؟ فقال : لا يتيمّم وإن لم يجد الماء شهراً. فقال أبو موسى : كيف بهذه الآية في سورة المائدة : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)؟ قال عبد الله : لو رُخّص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا بالصعيد. فقال له أبو موسى : وإنّما كرهتم هذا لذا؟ قال : نعم. فقال أبو موسى لعبد الله : ألم تسمع قول عمّار لعمر رضي الله عنهما : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصعيد كما تتمرّغ الدابّة ثمّ أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت له ذلك ، فقال : «إنّما كان يكفيك أن تصنع هكذا» ، وضرب بكفّيه ضربةً على الأرض ثمّ نفضها ثمّ مسح بها ظهر كفِّه بشماله وظهر شماله بكفه ثمّ مسح بهما وجهه؟ فقال عبد الله : أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمّار؟

١٣٠

صورة أخرى للبخاري :

قال شقيق : كنت عند عبد الله وأبي موسى ، فقال له أبو موسى : أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال عبد الله : لا يصلّي حتى يجد الماء.

قال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كان يكفيك»؟ قال : أوَلم ترَ أنّ عمر لم يقنع منه بذلك؟ فقال له أبو موسى : فدعنا من قول عمّار ، كيف تصنع بهذه الآية؟ فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمّم ، فقلت لشقيق : فإنّما كره عبد الله لهذا؟ قال : نعم (١).

ما أرأف هذا القائل بالجنب الفاقد للماء وأشفقه عليه إذ رأى له ترك الصلاة ولو لم يجد الماء شهراً! وما أقساه على من برد عليه الماء وأوشك أن يتيمّم! فنهى عن التيمّم شدّةً على هذا ورأفةً بذاك ، فكأنّ ترك الجنب الفاقد للماء الصلاة وإعراضه عمّا في الكتاب والسنّة أخفُّ وطأة عنده من تيمّم من اتّخذ البرد عذراً وترك الغسل ، وكأنّه أعرف بصالح المجتمع الدينيِّ من مشرِّع الدين لهم ، وكأنّه يرى أنّ الشارع الأقدس فاتته رعاية ما تنبّه له من المفسدة من التيمّم عند برد الماء فتداركه هذا الفقيه الضليع في الفقاهة برأيه الفطير وحجّته الداحضة ، وكأنّه وكأنّه ....

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ١٢٨ ، ١٢٩ [١ / ١٣٣ ح ٣٣٩] ، صحيح مسلم : ١ / ١١٠ [١ / ٣٥٤ ح ١١ كتاب الحيض] ، سنن أبي داود : ١ / ٥٣ [١ / ٨٧ ح ٣٢١] ، وفي تيسير الوصول : ٣ / ٩٧ [٣ / ١١٤] : أخرجه الخمسة إلاّ الترمذي ، سنن البيهقي : ١ / ٢٢٦. (المؤلف)

١٣١

ـ ٢ ـ

الخليفة لا يعرف حكم الشكوك

أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (١) (١ / ١٩٣) بإسناده عن مكحول أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا صلّى أحدكم فشكّ في صلاته فإن شكّ في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة ، وإن شكّ في الثنتين والثلاث فليجعلها ثنتين ، وإن شكّ في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثاً ، حتى يكون الوهم في الزيادة ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم ثمّ يسلّم» قال محمد بن إسحاق : وقال لي حسين بن عبد الله : هل أسنده لك؟ فقلت : لا. فقال : لكنّه حدّثني أنّ كريباً مولى ابن عبّاس حدّثه عن ابن عبّاس ، قال : جلست إلى عمر بن الخطّاب فقال : يا ابن عبّاس إذا اشتبه على الرجل في صلاته فلم يدرِ أزاد أم نقص؟ قلت : يا أمير المؤمنين ما أدري ما سمعت في ذلك شيئاً ، فقال عمر : والله ما أدري ـ وفي لفظ البيهقي ـ : لا والله ما سمعت منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه شيئاً ولا سألت عنه.

فبينا نحن على ذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف فقال : ما هذا الذي تذكران؟ فقال له عمر : ذكرنا الرجل يشكُّ في صلاته كيف يصنع؟ فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول هذا. الحديث.

وفي لفظ آخر في مسند أحمد :

عن كريب عن ابن عبّاس أنّه قال له عمر : يا غلام هل سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من أحد من أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ما ذا يصنع؟ قال : فبينا هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فقال : فيم أنتما؟ فقال عمر : سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد من أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ما ذا يصنع؟ فقال

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣١٧ ح ١٦٨٠.

١٣٢

عبد الرحمن : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا شكّ أحدكم» الحديث (١).

ألا تعجب من خليفة لا يعرف حكم شكوك الصلاة ، وهو مبتلىً بها في اليوم والليلة خمساً؟ ولم يهتم بأمرها حتى يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها إلى أن يؤول أمره إلى السؤال من غلام لا يعرفها أيضاً فينبئه بها عبد الرحمن بن عوف! أنا لا أدري كيف كان يفعل وهو بتلك الحال لو شكّ في صلاة يؤمّ فيها المؤمنين؟ وطبع الحال يقضي بوقوع ذلك لكلِّ أحد في عمره ولو دفعات يسيرة ، وأنا في بهيتة من الحكم الباتّ بأعلميّة رجل هذا مبلغ علمه ، وهذه سعة اطّلاعه على الأحكام ، زهٍ بأُمّةٍ هذا شأن أعلمها (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (٢).

ـ ٣ ـ

جهل الخليفة بكتاب الله

أخرج الحافظان ابن أبي حاتم والبيهقي عن الدؤلي : أنّ عمر بن الخطّاب رُفعت إليه امرأة ولدت لستّة فهمّ برجمها ، فبلغ ذلك عليّا فقال : «ليس عليها رجمٌ» فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه فأرسل إليه فسأله فقال : «قال الله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٣) وقال : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (٤) فستّة أشهر حمله وحولان فذلك ثلاثون شهراً». فخلّى عنها.

وفي لفظا لنيسابوري والحفّاظ الكنجي : فصدّقه عمر وقال : لو لا عليّ لهلك عمر. وفي لفظ سبط ابن الجوزي : فخلّى عنها وقال : اللهمّ لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٩٠ ، ١٩٥ [١ / ٣١٢ ح ١٦٥٩ ، ص ٣١٩ ح ١٦٩١] ، سنن البيهقي : ٢ / ٣٣٢ بعدّة طرق. (المؤلف)

(٢) الكهف : ٥.

(٣) البقرة : ٢٣٣.

(٤) الأحقاف : ١٥.

١٣٣

صورة أخرى :

أخرج الحافظ عبد الرزّاق (١) وعبد بن حميد وابن المنذر بإسنادهم عن الدؤلي قال : رفع إلى عمر امرأة ولدت لستّة أشهر فأراد عمر أن يرجمها ، فجاءت أُختها إلى عليِّ بن أبي طالب فقالت : إنّ عمر يرجم أُختي ، فأنشدك الله إن كنت تعلم أنّ لها عذراً لمّا أخبرتني به ، فقال عليّ : «إنّ لها عذراً». فكبّرت تكبيرةً سمعها عمر ومن عنده ، فانطلقت إلى عمر فقالت : إنّ عليّا زعم أنّ لأُختي عذراً ، فأرسل عمر إلى عليّ ما عذرها؟ قال : «إنّ الله يقول : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وقال : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (٢) وكان الحمل هنا ستّة أشهر». فتركها عمر ، قال : ثمّ بلغنا أنّها ولدت آخر لستّة أشهر.

صورة ثالثة :

أخرج الحافظان العقيلي وابن السمّان عن أبي حزم بن الأسود : أنّ عمر أراد رجم المرأة التي ولدت لستّة أشهر ، فقال له عليّ : «إنّ الله تعالى يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) فالحمل ستّة أشهر والفصال في عامين». فترك عمر رجمها وقال : لو لا عليّ لهلك عمر.

السنن الكبرى (٧ / ٤٤٢) ، مختصر جامع العلم (ص ١٥٠) ، الرياض النضرة (٢ / ١٩٤) ، ذخائر العقبى (ص ٨٢) ، تفسير الرازي (٧ / ٤٨٤) ، أربعين الرازي (ص ٤٦٦) ، تفسير النيسابوري (ج ٣) في سورة الأحقاف ، كفاية الكنجي (ص ١٠٥) ، مناقب الخوارزمي (ص ٥٧) ، تذكرة السبط (ص ٨٧) ، الدر

__________________

(١) المصنّف : ٧ / ٣٥٠ ح ١٣٤٤٤.

(٢) لقمان : ١٤.

١٣٤

المنثور (١ / ٢٨٨ ، ٦ / ٤٠) نقلاً عن جمع من الحفّاظ ، كنز العمّال (٣ / ٩٦) نقلاً عن خمس من الحفّاظ و (٣ / ٢٢٨) نقلاً عن غير واحد من أئمّة الحديث (١).

العجب العجاب

أخرج الحفّاظ عن بعجة (٢) بن عبد الله الجهني قال : تزوّج رجل منّا امرأة من جهينة فولدت له تماماً لستّة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان فأمر بها أن تُرجم ، فبلغ ذلك عليّا رضى الله عنه فأتاه فقال : «ما تصنع؟ ليس ذلك عليها قال الله تبارك وتعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً والحمل ستّة أشهر». فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، فأمر بها عثمان أن تردّ فوجدت قد رُجمت ، وكان من قولها لأُختها : يا أُخيّة لا تحزني فو الله ما كشف فرجي أحد قطّ غيره ، قال : فشبّ الغلام بعدُ فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به قال : فرأيت الرجل بعدُ يتساقط عضواً عضواً على فراشه (٣).

أليس عاراً أن يُشغل فراغ النبيّ الأعظم أُناس هذا شأنهم في القضاء؟ أمنَ العدل أن يُسلّط على الأنفس والأعراض والدماء رجال هذا مبلغهم من العلم؟ أمن الإنصاف أن تفوّض النواميس الإسلاميّة وطقوس الأُمّة وربقة المسلمين إلى يد

__________________

(١) مختصر جامع بيان العلم : ص ٢٦٥ ، الرياض النضرة : ٣ / ١٤٢ ، التفسير الكبير : ٢٨ / ١٥ ، تفسير النيسابوري : ٦ / ١٢٠ ، كفاية الطالب : ص ٢٢٦ ، المناقب : ص ٩٤ ح ٩٤ ، تذكرة الخواص : ص ١٤٨ ، الدرّ المنثور : ١ / ٦٨٨ و ٧ / ٤٤١ ، كنز العمّال : ٥ / ٤٥٧ ح ١٣٥٩٨ و ٦ / ٢٠٥ ح ١٥٣٦٣.

(٢) في تفسير ابن كثير : عن معمر.

(٣) أخرجه مالك في الموطأ : ٢ / ١٧٦ [٢ / ٨٢٥ ح ١١] ، والبيهقي في السنن الكبرى : ٧ / ٤٤٢ ، وأبو عمر في العلم : ص ١٥٠ [ص ٣١١ ح ١٥٦٢] ، وابن كثير في تفسيره : ٤ / ١٥٧ ، وابن الديبع في تيسير الوصول : ٢ / ٩ [٢ / ١١] ، والعيني في عمدة القاري : ٩ / ٦٤٢ [٢١ / ١٨] ، والسيوطي في الدرّ المنثور : ٦ / ٤٠ [٧ / ٤٤١] نقلاً عن ابن المنذر وابن أبي حاتم. (المؤلف)

١٣٥

خلائف هذه سيرتهم؟ لاها الله (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (٢) ، (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣).

ـ ٤ ـ

امرأة أخرى وضعت لستّة أشهر

أخرج عبد الرزّاق (٤) وابن المنذر عن نافع بن جبير : أنّ ابن عباس أخبره قال : إنّي لصاحب المرأة التي أُتي بها عمر ، وضعت لستّة أشهر ، فأنكر الناس ذلك فقلت لعمر : لا تظلم ، قال : كيف؟ قلت : إقرأ (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ، (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ، كم الحول؟ قال : سنة ، قلت : كم السنة؟ قال : اثنا عشر شهراً ، قلت : فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان ، ويؤخِّر الله من الحمل ما شاء ويقدِّم ، قال : فاستراح عمر إلى قولي.

الدرّ المنثور (٥) ـ سورة الأحقاف ـ (٦ / ٤٠) ، وأوعز إليه ابن عبد البرّ في كتاب العلم (٦) (ص ١٥٠).

ـ ٥ ـ

كلُّ الناس أفقه من عمر

عن مسروق بن الأجدع قال : ركب عمر بن الخطّاب منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ

__________________

(١) القصص : ٦٨.

(٢) يوسف : ١٠٢.

(٣) التغابن : ٥.

(٤) المصنّف : ٧ / ٣٥٢ ح ١٣٤٤٩.

(٥) الدرّ المنثور : ٧ / ٤٤٢.

(٦) جامع بيان العلم : ص ٣١١ ح ١٥٦٢.

١٣٦

قال : أيّها الناس ما إكثاركم في صداق النساء؟ وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفنّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال : ثمّ نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال : نعم. فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال : وأيّ ذلك؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) (١)؟ قال : فقال : اللهمّ غفراً ، كلُّ الناس أفقه من عمر ، ثمّ رجع فركب المنبر فقال : أيّها الناس إنّي كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ـ أو : فمن طابت نفسه ـ فليفعل.

أخرجه (٢) أبو يعلى في مسنده الكبير ، وسعيد بن منصور في سننه ، والمحاملي في أماليه ، وابن الجوزي في سيرة عمر (ص ١٢٩) ، وابن كثير في تفسيره (١ / ٤٦٧) عن أبي يعلى وقال : إسناده جيّد قويّ ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٢٨٤) ، والسيوطي في الدرّ المنثور (٢ / ١٣٣) ، وفي جمع الجوامع كما في ترتيبه (٨ / ٢٩٨) ، وفي الدرر المنتثرة (ص ٢٤٣) نقلاً عن سبعة من الحفّاظ ومنهم أحمد وابن حبّان والطبراني ، وذكره الشوكاني في فتح القدير (١ / ٤٠٧) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٦٩) نقلاً عن أبي يعلى وقال : سنده جيّد ، وابن درويش الحوت في أسنى المطالب (ص ١٦٦) وقال : حديث : كلُّ أحد أعلم أو أفقه من عمر ، قاله عمر لمّا نهى عن المغالاة في الصداق وقالت امرأة : قال الله (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) ، رواه أبو يعلى وسنده جيّد ، وعند البيهقي منقطع.

__________________

(١) النساء : ٢٠.

(٢) سنن سعيد بن منصور : ١ / ١٦٦ ح ٥٩٨ ، سيرة عمر : ص ١٣٧ ، الدرّ المنثور : ٢ / ٤٦٦ ، كنز العمّال : ١٦ / ٥٣٥ ح ٤٥٧٩٠ ، الدرر المنتثرة : ص ١٥٢ ح ٤٨٨ ، فتح القدير : ١ / ٤٤٣ ، أسنى المطالب : ص ٣٣٥ ح ١٠٨٢ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٧ / ٢٣٣.

١٣٧

صورة أخرى :

عن عبد الله بن مصعب قال : قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية وإن كانت بنت ذي الفضة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال ، فقامت امرأة من صفِّ النساء طويلة في أنفها فطس. فقالت : ما ذاك لك. قال : ولِمَ؟ قالت : إنّ الله تعالى يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً). الآية. فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ.

أخرجه (١) الزبير بن بكّار في الموفّقيات ، وابن عبد البرّ في جامع العلم كما في مختصره (ص ٦٦) ، وابن الجوزي في سيرة عمر (ص ١٢٩) ، وفي كتابه الأذكياء (ص ١٦٢) ، والقرطبي في تفسيره (٥ / ٩٩) ، وابن كثير في تفسيره (١ / ٤٦٧) ، والسيوطي في الدرّ المنثور (٢ / ١٣٣) ، وفي جمع الجوامع كما في ترتيبه الكنز (٨ / ٢٩٨) ، عن ابن بكّار وابن عبد البرّ ، والسندي في حاشية سنن ابن ماجة (١ / ٥٨٤) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٧٠ و ٢ / ١١٨).

صورة ثالثة :

أخرج البيهقي في سننه الكبرى (٧ / ٢٣٣) ، عن الشعبي قال : خطب عمر بن الخطاب رضى الله عنه الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : ألا لا تغالوا في صداق النساء فإنّه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سيق إليه إلاّ جعلت فضل ذلك في بيت المال ثمّ نزل ، فعرضت له امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين

__________________

(١) جامع بيان العلم : ص ١٥٨ ح ٧٩٩ ، مختصر جامع بيان العلم : ص ١٢٠ ، سيرة عمر : ص ١٣٦ ، الأذكياء : ص ٢٦٦ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٦٦ ، الدرّ المنثور : ٢ / ٤٦٦ ، كنز العمّال : ١٦ / ٥٣٨ ح ٤٥٨٠٠.

١٣٨

أكتاب الله تعالى أحقُّ أن يتّبع أو قولك؟ قال : بل كتاب الله تعالى ، فما ذاك؟ قالت : نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صداق النساء والله تعالى يقول في كتابه : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) فقال عمر رضى الله عنه : كلُّ أحد أفقه من عمر ـ مرّتين أو ثلاثاً ـ الحديث.

وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز (١) (٨ / ٢٩٨) نقلاً عن سنن سعيد ابن منصور (٢) والبيهقي ، ورواه السندي في حاشية السنن لابن ماجة (١ / ٥٨٣) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٦٩ و ٢ / ١١٨).

صورة رابعة :

قام عمر خطيباً فقال : أيّها الناس لا تغالوا بصداق النساء فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة فقالت له : يا أمير المؤمنين لِمَ تمنعنا حقّا جعله الله لنا؟ والله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً). فقال عمر : كلُّ أحد أعلم من عمر ، ثمّ قال لأصحابه : تسمعونني أقول مثل هذا القول فلا تنكرونه عليّ حتى تردّ عليّ امرأة ليست من أعلم النساء.

تفسير الكشّاف (١ / ٣٥٧) ، شرح صحيح البخاري للقسطلاني (٨ / ٥٧) (٣)

صورة خامسة :

أخرج الحافظان عبد الرزّاق (٤) وابن المنذر ، بالإسناد عن عبد الرحمن السلمي

__________________

(١) كنز العمّال : ١٦ / ٥٣٦ ح ٤٥٧٩٦.

(٢) سنن سعيد بن منصور : ١ / ١٦٦ ح ٥٩٨.

(٣) تفسير الكشّاف : ١ / ٤٩١ ، إرشاد الساري : ١١ / ٤٩٢.

(٤) المصنّف : ٦ / ١٨٠ ح ١٠٤٢٠.

١٣٩

قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إنّ الله يقول : وآتيتم إحداهنّ قنطاراً من ذهب ـ قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود ـ فلا يحلُّ لكم أن تأخذوا منه شيئاً ، فقال عمر : إنّ امرأة خاصمت عمر فخصمته.

تفسير ابن كثير (١ / ٤٦٧) ، إرشاد الساري للقسطلاني (١) (٨ / ٥٧) ، حاشية السندي على سنن ابن ماجة (١ / ٥٨٣) ، كنز العمّال (٢) (٨ / ٢٩٨) ، كشف الخفاء (١ / ٢٦٩ و ٢ / ١١٨).

صورة سادسة :

قال عمر رضى الله عنه على المنبر : لا تغالوا بصدقات النساء ، فقالت امرأة : أنتّبع قولك أم قول الله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) ، فقال عمر : كلُّ أحد أعلم من عمر ، تزوّجوا على ما شئتم.

تفسير النسفي (٣) هامش تفسير الخازن (١ / ٣٥٣) ، كشف الخفاء (١ / ٣٨٨)

صورة سابعة :

إنّ عمر قال على المنبر : ألا لا تغالوا في مهور نسائكم ، فقامت امرأة فقالت : يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنعنا؟ وتلت الآية فقال : كلُّ الناس أفقه منك يا عمر.

تفسير القرطبي (٥ / ٩٩) ، تفسير النيسابوري (ج ١) سورة النساء ، تفسير

__________________

(١) إرشاد الساري : ١١ / ٤٩٢

(٢) كنز العمّال : ١٦ / ٥٣٨ ح ٤٥٧٩٩.

(٣) تفسير النسفي : ١ / ٢١٦.

١٤٠