الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

فقالت : إنّ صاحبك جاءني وزعم أنّك قد متّ فدفعتها إليه ، فاختصما إلى عمر فأراد أن يقضي عليها وقال لها : ما أراك إلاّ ضامنة. فقالت : أنشدك الله أن تقضي بيننا وارفعنا إلى عليّ بن أبي طالب. فرفعها إلى عليّ وعرف أنّهما قد مكرا بها ، فقال : «أليس قلتما لا تدفعيها إلى واحد منّا دون صاحبه؟» قال : بلى. قال : «فإنّ مالك عندنا اذهب فجئ بصاحبك حتى ندفعها إليكما» ، فبلغ ذلك عمر فقال : لا أبقاني الله بعد ابن أبي طالب. كتاب الأذكياء لابن الجوزي (ص ١٨) ، أخبار الظراف لابن الجوزي (ص ١٩) ، الرياض النضرة (٢ / ١٩٧) ، ذخائر العقبى (ص ٨٠) ، تذكرة سبط ابن الجوزي (ص ٨٧) ، مناقب الخوارزمي (ص ٦٠) (١).

ـ ٢٩ ـ

الخليفة والكلالة

١ ـ عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال : إنّ عمر بن الخطّاب خطب يوم الجمعة فذكر نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أبا بكر فقال : ثمّ إنّي لا أدع بعدي شيئاً أهمّ عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري وقال : يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ (٢) وإنّي (٣) إن أعش أقضِ فيها ـ بقضاء ـ بقضيّة

__________________

(١) الأذكياء : ص ٤١ ، أخبار الظراف والمتماجنين : ص ١٦ ، الرياض النضرة : ٣ / ١٤٥ ، تذكرة الخواص : ص ١٤٨ ، المناقب : ص ١٠٠ ح ١٠٣ و ١٠٤.

(٢) آية الكلالة تسمّى بآية الصيف لنزولها في الصيف في حجّة الوداع ، وهي قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكنْ لها ولدٌ فإنْ كانتا اثنتينِ فلهما الثُلُثانِ مِمّا تَرَكَ وإنْ كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فَلِلذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثيينِ يُبيِّنُ اللهُ لكم أَنْ تَضِلّوا واللهُ بكلِّ شَيْءٍ عَليم) (المؤلف)

(٣) قال النووي [في شرح صحيح مسلم : ١١ / ٥٧] في شرح هذا الحديث : قوله : وإنّي إن أعش إلى آخره ، من كلام عمر لا من كلام النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم. (المؤلف)

١٨١

يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لم يقرأ القرآن (١).

وفي لفظ الجصّاص (٢) : ما سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن شيء أكثر ممّا سألته عن الكلالة.

٢ ـ عن مسروق قال : سألت عمر بن الخطّاب عن ذي قرابة لي ورث كلالة ، فقال : الكلالة الكلالة. وأخذ بلحيته ثمّ قال : والله لأن أعلمها أحبّ إليّ من أن يكون لي ما على الأرض من شيء ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ألم تسمع الآية التي أُنزلت في الصيف؟». فأعادها ثلاث مرّات (٣).

٣ ـ أخرج أحمد في المسند (٤) (١ / ٣٨) عن عمر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكلالة ، فقال : «تكفيك آية الصيف» ، فقال : لأن أكون سألت رسول الله عنها أحبّ إليّ من أن يكون لي حمر النعم.

٤ ـ أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٢٥) عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنّه قال : ثلاث لأن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّنهنَّ أحبّ إليَّ من حمر النعم : الخلافة ، والكلالة ، والربا. وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (١ / ١٢).

٥ ـ أخرج الطبري في تفسيره (٥) (ج ٦) عن عمر أنّه قال : لأن أكون أعلم الكلالة أحبّ إليَّ من أن يكون لي مثل قصور الشام. كنز العمّال (٦) (٦ / ٢٠).

__________________

(١) صحيح مسلم كتاب الفرائض : ٢ / ٣ [٣ / ٤٢٨ ح ٩] ، مسند أحمد : ١ / ٤٨ [١ / ٧٩ ح ٣٤٣] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٦٣ [٢ / ٩١٠ ح ٢٧٢٦] ، أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ١٠٦ [٢ / ٨٧] ، سنن البيهقي : ٦ / ٢٢٤ و ٨ / ١٥٠ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٩ [٦ / ٢١]. (المؤلف)

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ٨٧.

(٣) تفسير الطبري : ٦ / ٣٠ [مج ٤ / ج ٦ / ٤٤] ، تفسير الدرّ المنثور : ٢ / ٢٥١ [٢ / ٧٥٧]. (المؤلف)

(٤) مسند أحمد : ١ / ٦٣ ح ٢٦٤.

(٥) جامع البيان : مج ٤ / ج ٦ / ٤٣.

(٦) كنز العمّال : ١١ / ٨٠ ح ٣٠٦٩٢.

١٨٢

٦ ـ أخرج ابن راهويه وابن مردويه عن عمر : إنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف تورث الكلالة؟ فأنزل الله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الآية. فكأنّ عمر لم يفهم فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيب نفس فسليه عنها ، فلمّا رأت منه طيب نفس فسألته فقال : «أبوكِ ذكر لك هذا ، ما أرى أباكِ يعلمها» ، فكان عمر يقول : ما أراني أعلمها وقد قال رسول الله ما قال (١). قال السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه الكنز : هو صحيح.

٧ ـ أخرج ابن مردويه عن طاووس : إنّ عمر أمر حفصة أن تسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكلالة فأملاها عليها في كتف فقال : من أمركِ بهذا؟ أعمر؟ ما أراه يقيمها وما تكفيه آية الصيف. تفسير ابن كثير (١ / ٥٩٤).

٨ ـ عن طارق بن شهاب قال : أخذ عمر كتفاً وجمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال : لأقضينّ في الكلالة قضاء تحدّث به النساء في خدورهنّ ، فخرجت حينئذٍ حيّة من البيت فتفرّقوا فقال : لو أراد الله عزّ وجلّ أن يتمّ هذا الأمر لأتمّه (٢). قال ابن كثير : إسناد صحيح.

٩ ـ عن مرّة بن شرحبيل ، قال : قال عمر بن الخطّاب : ثلاثٌ لأن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّنهنَّ أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها : الكلالة ، والربا ، والخلافة (٣).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ١٠٥ [٢ / ٨٧] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٩٤ ، الدرّ المنثور : ٢ / ٢٤٩ [٢ / ٧٥٣] ، كنز العمّال : ٦ / ٢ [١١ / ٧٨ ح ٣٠٦٨٨]. (المؤلف)

(٢) تفسير الطبري : ٦ / ٦٠ [مج ٤ / ج ٦ / ٤٣] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٩٤. مرّ نظير هذه القضية من طريق طارق في صفحة ١١٧ ، راجع. (المؤلف)

(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٦٤ [٢ / ٩١١ ح ٢٧٢٧] ، تفسير ابن جرير : ٦ / ٣٠ [مج ٤ / ج ٦ / ٤٣] ، أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ١٠٥ [٢ / ٨٧] ، مستدرك الحاكم : ٢ / ٣٠٤ [٢ / ٣٣٣ ح ٣١٨٨] وصحّحه ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٩ [٦ / ٢١] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٩٥ نقلاً عن الحاكم وصحّحه ، تفسير السيوطي : ٢ / ٢٥٠ [٢ / ٧٥٥]. (المؤلف)

١٨٣

١٠ ـ أخرج الحاكم وصحّحه ؛ عن محمد بن طلحة ، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : لأن أكون سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ثلاث أحبّ إليَّ من حمر النعم : من الخليفة بعده ، وعن قوم قالوا : نقرّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤدّيها إليك أيحلّ قتالهم ، وعن الكلالة (١).

١١ ـ عن حذيفة في حديث قال : نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) فلقّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حذيفة ، فلقّاها حذيفة عمر ، فلمّا كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال : والله إنّك لأحمق ، إن كنت ظننت أنّه لقّانيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقّيتكها كما لقّانيها رسول الله ، والله لا أزيدك عليها شيئاً أبداً (٢).

١٢ ـ أخرج ابن جرير الطبري (٣) في تفسيره في رواية : لمّا كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها فقال حذيفة : لقد لقّانيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقّيتكها كما لقّاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والله إنّي لصادق ، وو الله لا أزيدك على ذلك شيئاً أبداً ، وكان عمر يقول : اللهمّ إن كنت بيّنتها له فإنّها لم تبيّن لي. تفسير ابن كثير (١ / ٥٩٤).

١٣ ـ عن الشعبي ، قال : سُئل أبو بكر رضى الله عنه عن الكلالة ، فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان ، أراه ما خلا الولد والوالد ، فلمّا استخلف عمر رضى الله عنه قال : إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر (٤).

١٤ ـ أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٢٤) عن الشعبي قال : قال

__________________

(١) المستدرك : ٢ / ٣٠٣ [٢ / ٣٣٢ ح ٣١٨٦] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٩٥ ، تفسير السيوطي : ٢ / ٢٤٩ [٢ / ٧٥٤]. (المؤلف)

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٢٩ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٥٩٤. (المؤلف)

(٣) جامع البيان : مج ٤ / ج ٦ / ٤٢.

(٤) سنن الدارمي : ٢ / ٣٦٥ ، السنن الكبرى : ٦ / ٢٢٣. (المؤلف)

١٨٤

عمر رضى الله عنه : الكلالة ما عدا الولد ، قال أبو بكر : الكلالة ما عدا الولد والوالد ، فلمّا طعن عمر قال : إنّي لأستحيي أن أُخالف أبا بكر ، الكلالة ما عدا الولد والوالد.

١٥ ـ في السنن الكبرى (٦ / ٢٢٤) : أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : أتى عليّ زمان ما أدري ما الكلالة ، وإذا الكلالة من لا أب له ولا ولد.

١٦ ـ عن ابن عبّاس قال : كنت آخر الناس عهداً بعمر رضى الله عنه فسمعته يقول : القول ما قلت. قلت : وما قلت؟ قال : الكلالة من لا ولد له. السنن الكبرى (٦ / ٢٢٥) ، مستدرك الحاكم (١) (٢ / ٣٠٤).

قال الأميني : ما أعضل الكلالة على الخليفة! وما أبهمها وأبهم حكمها عنده! وهي شريعة مطّردة سمحة سهلة ، وهل هو حين أكثر السؤال عنها أجاب عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لم يجب؟ فإن كان الأوّل فلم لم يحفظه أو قصر فهمه عن عرفانه وهو أحبّ إليه من حمر النعم ، أو من الدنيا وما فيها ، أو من أن يكون له مثل قصور الشام؟ وإن كان الثاني فحاشا رسول الله أن يؤخّر البيان عن وقت الحاجة وهو يعلم أنّه سوف يتربّع على منصّة الخلافة فترفع إليه المسائل والخصومات وإنّ من أكثرها اطّراداً مسألة الكلالة ، لكن الحقيقة هي ما نوّه به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله لحفصة : «ما أرى أباكِ يعلمها» أو بقوله : «ما أراه يقيمها» ، وهو يعرب عن جليّة الحال ، ويوقف القارئ على الواقع إن لم يضلّه الهوى.

والخطب الفظيع أنّه بعد هذه كلّها ومع قوله : إنّها لم تبيَّن لي لم يتزحزح عن الحكم فيها ، وكان يقضي فيها برأيه ما شاء ذاهلاً عن قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢) ، وعن قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٣٢ ح ٣١٨٧.

(٢) الإسراء : ٣٦.

١٨٥

مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (١) ، وتراه يتّبع أبا بكر وهو يعلم أنّه شاكلته وقد سمع منه قوله : إني سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢).

وقد رأى ابن حجر كثرة الخلاف في الكلالة بأنّها : من ليس له الوالد والولد ، إنّها من سوى الوالد ، من سوى الوالد وولد الولد. من سوى الولد ، الكلالة الإخوة ، الكلالة هي المال. وقيل : الفريضة. وقيل : بنو العمّ ونحوهم وقيل : العصبات وإن بعدوا.

ثمّ قال : ولكثرة الاختلاف فيها صحّ عن عمر أنّه قال : لم أقل في الكلالة شيئاً (٣). فكأنّه يراها عذراً للخليفة في ربيكته بالكلالة ، وأين هو من آية الكلالة؟ وكيف تخفى على أحد وهي بين يديه وفيها قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) فكيف بيّنها الله ومثل الخليفة يقول : لم تبيّن لي؟ ومن أين أتى الخلاف وكثر وهي مبيّنة؟ وكيف يرى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية الصيف كافيةً في البيان لمن جهل الكلالة؟

على أنّ الخليفة هو إمام الأُمّة ومرجعها الوحيد في خلافها ، وبه القدوة والأُسوة في التخاصم والتنازع في الآراء والمعتقدات ، فلا عذر له في جهله بشيء منها على كلّ حال خالفت الأُمّة أم لم تخالف.

ـ ٣٠ ـ

رأي الخليفة في الأرنب

عن موسى بن طلحة : أنّ رجلاً سأل عمر عن الأرنب ، فقال عمر : لو لا أنّي أزيد في الحديث أو أنقص منه ، وسأرسل لك إلى رجل. فأرسل إلى عمّار فجاء ، فقال :

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

(٢) النجم : ٢٨.

(٣) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : ٨ / ٢١٥ [٨ / ٢٦٨]. (المؤلف)

١٨٦

كنّا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلنا في موضع كذا وكذا فأهدى إليه رجل من الأعراب أرنباً فأكلناها ، فقال الأعرابي : يا رسول الله إنّي رأيتها تدمي أي تحيض ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا بأس بها».

أخرجه (١) ابن أبي شيبة ، وابن جرير الطبري كما في كنز العمّال (٨ / ٥٠) ، وأخرجه أبو يعلى في مسنده ، والطبراني في الكبير من رواية ابن الحوتكيّة كما في عمدة القاري (٦ / ٢٥٩) ، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ / ١٩٥) نقلاً عن أحمد من طريق ابن الحوتكيّة.

أنا لا أقول : إنّ الذي أخاف الخليفة من الزيادة أو النقيصة في الحديث هو عدم معرفته بالحكم ، ولا أقول : إنّ عمّاراً كان أبصر منه في القضيّة وأوثق منه في الرواية والنقل. ولا أقول : أين كانت تلك الحيطة منه في غير الأرنب ممّا استبدّ بحكمه من دون أيّ اكتراث من مئات المسائل في الأموال والأنفس والعقود والإيقاعات وهو يعلم أنّه لم يحط بها علماً ، لكنّي أكِلُ ذلك إلى وجدانك الحرّ.

وفي النفس ما فيها في نفي البأس عن لحم الأرنب ، وهو قول الأئمّة الأربعة وكافّة العلماء إلاّ ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعكرمة مولى ابن عبّاس أنَّهم كرهوا أكلها. عمدة القاري (٢) (٦ / ٢٥٩).

ـ ٣١ ـ

رأي الخليفة في القود

عن ابن أبي حسين : أنّ رجلاً شجّ رجلاً من أهل الذمّة ، فهمّ عمر بن الخطّاب

__________________

(١) المصنّف : ٨ / ٢٤٧ ح ٤٣٢٩ ، تهذيب الآثار : ٢ / ٨٤٢ ح ١١٧٩ من مسند عمر بن الخطّاب ، كنز العمّال : ١٥ / ٤٤٥ ح ٤١٧٦٢ ، مسند أبي يعلى : ٣ / ١٨٦ ح ١٦١٢ ، عمدة القاري : ١٣ / ١٣٢ ، مسند أحمد : ١ / ٥٢ ح ٢١٠.

(٢) عمدة القاري : ١٣ / ١٣١.

١٨٧

أن يقيده منه ، فقال معاذ بن جبل : قد علمت أنّ ليس ذلك لك. وأثر ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعطاه عمر بن الخطّاب في شجّته ديناراً فرضي به.

أخرجه الحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (١) (٧ / ٣٠٤).

ـ ٣٢ ـ

لو لا معاذ لهلك عمر

عن أبي سفيان ، عن أشياخ لهم : أنّ امرأة غاب عنها زوجها سنتين ثمّ جاء وهي حامل ، فرفعها إلى عمر فأمر برجمها ، فقال له معاذ : إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها ، فقال عمر : احبسوها حتى تضع فوضعت غلاماً له ثنيّتان ، فلمّا رآه أبوه عرف الشبه فقال : ابني ابني وربّ الكعبة ، فبلغ ذلك عمر فقال : عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ ، لو لا معاذ لهلك عمر.

لفظ البيهقي : جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إنّي غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى ، فشاور عمر رضى الله عنه ناساً في رجمها ، فقال معاذ بن جبل رضى الله عنه : يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل فاتركها حتى تضع. فتركها فولدت غلاماً قد خرجت ثناياه فعرف الرجل الشبه فيه ، فقال : ابني وربّ الكعبة ، فقال عمر رضى الله عنه : عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ ، لو لا معاذ لهلك عمر.

أخرجه (٢) البيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٤٤٣) ، وأبو عمر في العلم (ص ١٥٠) ، والباقلاني إيعازاً إليه في التمهيد (ص ١٩٩) ، وابن أبي شيبة كما في كنز العمّال (٧ / ٨٢) ،

__________________

(١) كنز العمّال : ١٥ / ٩٧ ح ٤٠٢٤٣.

(٢) المصنّف في الأحاديث والآثار : ١٠ / ٨٨ ح ٨٨٦١ ، جامع بيان العلم : ص ٣١١ ح ١٥٦٢ ، كنز العمّال : ١٣ / ٥٨٣ ح ٣٧٤٩٩ ، فتح الباري : ١٢ / ١٤٦ ، شرح نهج البلاغة : ١٢ / ١٧٩ خ ٢٢٣.

١٨٨

وفتح الباري لابن حجر (١٢ / ١٢٠) وقال : أخرجه ابن أبي شيبة ورجاله ثقات ، والإصابة (٣ / ٤٢٧) نقلاً عن فوائد محمد بن مخلد العطّار ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج (٣ / ١٥٠) متسالماً عليه.

ـ ٣٣ ـ

رأي الخليفة في القود

عن مكحول : أنّ عبادة بن الصامت دعا نبطيّا يمسك له دابّته عند بيت المقدس فأبى فضربه فشجّه ، فاستدعى عليه عمر بن الخطّاب فقال له : ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟ فقال : يا أمير المؤمنين أمرته أن يمسك دابّتي فأبى وأنا رجل فيّ حدّة فضربته ، فقال : اجلس للقصاص. فقال زيد بن ثابت : أتقيد عبدك من أخيك؟ فترك عمر عنه القود وقضى عليه بالدية.

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٣٢) ، وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز (١) (٧ / ٣٠٣).

ـ ٣٤ ـ

رأي الخليفة في ذمّي مقتول

عن مجاهد : قال : قدم عمر بن الخطّاب الشام فوجد رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمّة فهمّ أن يقيده ، فقال له زيد بن ثابت : أتقيد عبدك من أخيك؟ فجعله عمر دية.

أخرجه عبد الرزّاق (٢) ، وابن جرير الطبري كما في كنز العمّال (٣) (٧ / ٣٠٤).

__________________

(١) كنز العمّال : ١٥ / ٩٤ ح ٤٠٢٣٢.

(٢) المصنّف : ١٠ / ١٠٠ ح ١٨٥٠٩.

(٣) كنز العمّال : ١٥ / ٩٧ ح ٤٠٢٤٢.

١٨٩

ـ ٣٥ ـ

قصّة أخرى في ذمّي مقتول

عن عمر بن عبد العزيز : أنّ رجلاً من أهل الذمّة قُتل بالشام عمداً وعمر بن الخطّاب إذ ذاك بالشام ، فلمّا بلغه ذلك قال عمر : قد ولعتم (١) بأهل الذمّة لأقتلنّه به. قال أبو عبيدة بن الجرّاح : ليس ذلك لك ، فصلّى ثمّ دعا أبا عبيدة فقال : لم زعمت لا أقتله به؟ فقال أبو عبيدة : أرأيت لو قتل عبداً له أكنت قاتله به؟ فصمت عمر ، ثمّ قضى عليه بالدية بألف دينار تغليظاً عليه.

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٣٢) ، وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٢) (٧ / ٣٠٣).

ـ ٣٦ ـ

رأي الخليفة في قاتلٍ معفوٍّ عنه

عن إبراهيم النخعي : أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أُتي برجل قد قتل عمداً فأمر بقتله فعفا بعض الأولياء فأمر بقتله ، فقال ابن مسعود : كانت النفس لهم جميعاً ، فلمّا عفا هذا أحيا النفس فلا يستطيع أن يأخذ حقّه حتى يأخذ غيره قال : فما ترى؟ قال : أرى أن تجعل الدية عليه في ماله وترفع حصّة الذي عفا ، فقال عمر رضى الله عنه : وأنا أرى ذلك (٣).

إن كان الحكم في هذه القضايا هو ما ارتآه الخليفة أوّلاً فلما ذا عدل عنه؟ وإن

__________________

(١) في سنن البيهقي وكنز العمّال : (وقعتم) مكان (ولعتم).

(٢) كنز العمّال : ١٥ / ٩٤ ح ٤٠٢٣٤.

(٣) كتاب الأُم للشافعي : ٧ / ٢٩٥ [٧ / ٣٢٩] ، سنن البيهقي : ٨ / ٦٠. (المؤلف)

١٩٠

كان ما لفتوا نظره إليه أخيراً فلما ذا همّ أن ينوء بالأوّل؟ وهل من المستطاع أن نقول : إنّ الحكم كان عازباً عن فكرة خليفة المسلمين في كلّ هذه الموارد؟ أو أنّ تلكم الأقضية كانت مجرّد رأي وتحكّم؟ أو هذه هي سيرة أعلم الأمّة؟

ـ ٣٧ ـ

رأي الخليفة في الأصابع

عن سعيد بن المسيّب : أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قضى في الأصابع : في الإبهام بثلاث عشرة ؛ وفي التي تليها باثنتي عشرة ، وفي الوسطى بعشر ، وفي التي تليها بتسع ، وفي الخنصر بستّ.

وفي لفظ آخر :

إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قضى في الإبهام بخمس عشرة ، وفي التي تليها بعشر ، وفي الوسطى بعشر ، وفي التي تلي الخنصر بتسع ، وفي الخنصر بستّ.

وعن أبي غطفان : أنّ ابن عبّاس كان يقول في الأصابع عشر عشر ، فأرسل مروان إليه فقال : أتُفتي في الأصابع عشر عشر وقد بلغك عن عمر رضى الله عنه في الأصابع؟ فقال ابن عبّاس : رحم الله عمر ، قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ أن يتّبع من قول عمر رضي‌الله‌عنه (١)

قال الأميني : ثبت في الصحاح والمسانيد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : في الأصابع عشر عشر على ما أفتى به ابن عبّاس ، وهذه سنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلّمة وهديه الثابت فيها ، وما قضى به عمر فمن آرائه الخاصّة به ، والأمر كما قال ابن عبّاس : قول

__________________

(١) كتاب الأُمّ للشافعي : ١ / ٥٨ ، ١٣٤ [١ / ١٥١] ، واختلاف الحديث للشافعي أيضاً ـ هامش كتاب الأُمّ : ٧ / ١٤٠ [ص ٤٧٨] ، وكتاب الرسالة له : ص ١١٣ [ص ٤٢٢ ح ١١٦٠] ، سنن البيهقي : ٨ / ٩٣. (المؤلف)

١٩١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ أن يُتّبع من قول عمر. وأنا لا أدري أنّ الخليفة كان يعلم ذلك ويخالف أم لم يكن يعلم؟

فإن كان لا يدري فتلك مصيبة

وإن كان يدري فالمصيبة أعظم

ـ ٣٨ ـ

رأي الخليفة في دية الجنين

عن المسور بن مخرمة ، قال : استشار عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الناس في إملاص المرأة ، فقال المغيرة بن شعبة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بغرّة عبد أو أَمة. فقال : ائتني بمن يشهد معك ، فشهد معه محمد بن مسلمة (١).

وعن عروة : أنّ عمر رضى الله عنه سأل ـ نشد ـ الناس من سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى في السقط؟ فقال المغيرة بن شعبة : أنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى فيه بغرّة عبد أو أمة ، فقال : ائت بمن يشهد معك على هذا. فقال محمد بن مسلمة : أنا أشهد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل هذا (٢).

وفي لفظ أبي داود : فقال عمر : الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا (٣).

وفي حديث : نشد عمر الناس في دية الجنين ، فقال حمل بن النابغة : إنّ

__________________

(١) صحيح البخاري كتاب الديات باب جنين المرأة [٦ / ٢٥٣١ ح ٦٥٠٩] ، صحيح مسلم : ٢ / ٤١ [٣ / ٥١٥ ح ٣٩ كتاب القسامة والمحاربين] ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٥٥ [٤ / ١٩١ ح ٤٥٧٠] ، مسند أحمد : ٤ / ٢٤٤ و ٢٥٣ [٥ / ٢٩٦ ح ١٧٦٧٠ ، ص ٣٠٩ ح ١٧٧٤٨] ، سنن البيهقي : ٨ / ١١٤ ، تذكرة الحفّاظ : ١ / ٧ [رقم ٢]. (المؤلف)

(٢) صحيح البخاري كتاب الديات باب جنين المرأة [٦ / ٢٥٣١ ح ٦٥١٠] ، السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ١١٤ ، ١١٥. (المؤلف)

(٣) سنن أبي داود : ٢ / ٢٥٦ [٤ / ١٩٢ ح ٤٥٧٣]. (المؤلف)

١٩٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى فيه بغرّة عبد أو وليدة فقضى به عمر (١). وزاد الشافعي : فقال عمر رضى الله عنه لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا. وفي لفظ : إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.

قال ابن حجر في الإصابة (٢ / ٢٥٩) : أخرجه أحمد وأصحاب السنن بإسنادٍ صحيح من طريق طاووس عن ابن عبّاس.

قال الأميني : ما أحوج الخليفة إلى العقل المنفصل في كلّ قضيّة حتى إنّه يركن إلى مثل المغيرة أزنى ثقيف وأكذبها في شريعة إلهيّة! وهو لم يُجز شهادة المغيرة للعبّاس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعواه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقطع له البحرين (٢) ، أو يستند إلى مثل محمد بن مسلمة الذي ما جاء عنه غير ستّة أحاديث (٣) ، أو إلى مثل حمل بن النابغة الذي ليس له عندهم غير هذا الحديث (٤).

قال ابن دقيق العيد : استشارة عمر في ذلك أصل في سؤال الإمام عن الحكم إذا كان لا يعلمه ، أو كان عنده شكّ ، أو أراد الاستثبات (٥). لكنّا لا نرى في مستوى الإمامة مقيلاً لمن يجهل حكماً من الأحكام ، أو يشكّ فيما علمه ، أو يحتاج إلى التثبّت فيما اتّصل به يقينه بقول هذا وذاك ، فإنّه المقتدى في الأحكام كلّها ، فلو جاز له الجهل في شيء منها أو الشكّ أو الحاجة إلى التثبّت لجاز أن يقع ذلك حيث لا يجد من يسأله فيرتبك في الجواب ، أو يربك صاحبه في الضلال ، أو يتعطّل الحكم الإلهيّ من جرّاء

__________________

(١) كتاب الرسالة للشافعي : ص ١١٣ [ص ٤٢٦ ح ١١٧٤] ، اختلاف الحديث له ـ في هامش كتاب الأُم ـ : ٧ / ٢٠ [ص ٤٧٩] ، عمدة القاري : ٥ / ٤١٠ [٢٤ / ٦٧] ، تهذيب التهذيب : ٣ / ٣٦ [٣ / ٣٢]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن خلكان : ٢ / ٤٥٦ [٦ / ٣٦٧ رقم ٨٢١] في ترجمة يزيد بن ربيعة. (المؤلف)

(٣) تهذيب التهذيب : ٩ / ٤٥٥ [٩ / ٤٠٢]. (المؤلف)

(٤) تهذيب التهذيب : ٣ / ٣٦ [٣ / ٣٢]. (المؤلف)

(٥) إرشاد الساري للقسطلاني : ١٠ / ٦٧ [١٤ / ٣٧٧]. (المؤلف)

١٩٣

ذلك ، ألا تسمع قول عمر : الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا. أو : إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.

ـ ٣٩ ـ

رأي الخليفة في سارق

عن عبد الرحمن بن عائذ ، قال : أُتي عمر بن الخطّاب برجل أقطع اليد والرجل قد سرق ، فأمر به عمر أن يقطع رجله ، فقال عليّ رضى الله عنه : «إنّما قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، الآية (١) ، فقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها ، إمّا أن تعزّره وإمّا أن تستودعه السجن». قال : فاستودعه السجن.

السنن الكبرى للبيهقي (٨ / ٢٧٤) ، كنز العمّال (٢) (٣ / ١١٨).

ـ ٤٠ ـ

اجتهاد الخليفة في هديّة ملكة الروم

[١ ـ] عن قتادة قال : بعث عمر رسولاً إلى ملك الروم ، فاستقرضت أُمّ كلثوم بنت عليّ ـ وكانت امرأة عمر ـ ديناراً فاشترت به عطراً وجعلته في قارورة وبعثت به مع الرسول إلى امرأة ملك الروم ، فلمّا أتاها بعثت لها شيئاً من الجواهر وقالت للرسول : اذهب به إلى امرأة عمر ، فلمّا أتاها أفرغته على البساط فدخل عمر فقال : ما هذا؟ فأخبرته فأخذ الجواهر وخرج بها إلى المسجد ونادى الصلاة جامعة.

__________________

(١) المائدة : ٣٣.

(٢) كنز العمّال : ٥ / ٥٥٣ ح ١٣٩٢٨.

١٩٤

فلمّا اجتمع الناس أخبرهم الخبر وأراهم الجواهر وقال : ما ترون في ذلك؟ فقالوا : إنّا نراها تستحقّ ذلك لأنّه هديّة جاءتها من امرأة لا جزية ولا خراج عليها ولا يتعلّق بها حكم من أحكام الرجال. فقال : لكن الزوجة زوجة أمير المؤمنين ، والرسول رسول أمير المؤمنين ، والراحلة التي ركبها للمؤمنين ، وما جاء ذلك كلّه لو لا المؤمنون ، فأرى أنّ ذلك لبيت مال المسلمين ، ونعطيها رأس مالها ، فباع الجواهر ودفع لزوجته ديناراً وجعل ما بقي في بيت مال المسلمين (١).

٢ ـ يُروى أنّ امرأة أبي عبيدة أرسلت إلى امرأة ملك الروم هديّة فكافأتها بجوهر ، فبلغ ذلك عمر فأخذه فباعه وأعطاها ثمن هديّتها وردّ باقيه إلى بيت مال المسلمين (٢).

قال الأميني : كلّ ما ذكره الخليفة ليس من المملك ولا من المخرجات من الملك ، أمّا كونها زوجة الخليفة فمن الدواعي لإهداء زوجة ملك الروم ، وأمّا وجود المؤمنين فهو من بواعث شوكة الخليفة التي من جهتها تكون زوجته معتنىً بها عند أزواج الملوك ، وكون الرسول رسول الخليفة لا يبيح ما ائتُمن عليه الرسول في إيصاله إلى صاحبه. ودابّة المؤمنين لا تستبيح ما حمله الراكب عليها.

نعم ؛ من الممكن إن كان له ثقل يعتدّ به أن يأخذ المؤمنون الأُجرة على حمله.

ولا أدري كيف فعل الخليفة ما فعل؟ وكيف استساغ المسلمون ذلك المال أخيراً بعد أن رأوا أنّها تستحقّه أوّلاً؟ ثمّ ما وجه إعطاء ثمن الهديّة في القضيّتين؟ فإن كان لحقّ لصاحبتيهما في الجوهر ، فهو لهما في كلّه ، وإلاّ فقد أقدمتاهما إلى إتلاف مالهما ، فلا وجه لإعطاء بدله من مال المسلمين.

__________________

(١) الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٤١٣ [٢ / ٢٦٥]. (المؤلف)

(٢) الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٤١٣ [٢ / ٢٦٥]. (المؤلف)

١٩٥

ـ ٤١ ـ

رأي الخليفة في جلد المغيرة

عن عبد الرحمن بن أبي بكرة : أنّ أبا بكرة وزياداً ونافعاً وشبل بن معبد كانوا في غرفة والمغيرة في أسفل الدار فهبّت ريح ففتحت الباب ورفعت الستر فإذا المغيرة بين رجليها ، فقال بعضهم لبعض : قد ابتلينا. قال : فشهد أبو بكرة ونافع وشبل ، وقال زياد : لا أدري نكحها أم لا ، فجلدهم عمر رضى الله عنه إلاّ زياداً ، فقال أبو بكرة رضى الله عنه : أليس قد جلدتموني؟ قال : بلى. قال : فأنا أشهد بالله لقد فعل. فأراد عمر أن يجلده أيضاً ، فقال عليّ : «إن كانت شهادة أبي بكرة شهادة رجلين فارجم صاحبك ، وإلاّ فقد جلدتموه» ، يعني لا يجلد ثانياً بإعادة القذف.

وفي لفظ آخر : فهمّ عمر أن يعيد عليه الحدّ فنهاه عليّ رضى الله عنه وقال : «إن جلدته فارجم صاحبك» ، فتركه ولم يجلده.

وفي لفظ ثالث : فهمّ عمر بضربه ، فقال عليّ : «لئن ضربت هذا فارجم ذاك» (١).

صورة مفصّلة :

عن أنس بن مالك : أنّ المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار ، وكان أبو بكرة ـ نفيع الثقفي ـ يلقاه فيقول له : أين يذهب الأمير؟ فيقول : إلى حاجة ، فيقول له : حاجة ما؟ إنّ الأمير يُزار ولا يزور ، قال : وكانت المرأة ـ أُمّ جميل بنت الأفقم ـ التي يأتيها جارة لأبي بكرة ، قال : فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أصحابه وأخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له شبل بن معبد ، وكانت غرفة تلك المرأة بحذاء

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٢٣٥. (المؤلف)

١٩٦

غرفة أبي بكرة ، فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته. فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها ، فقال أبو بكرة : هذه بليّة ابتليتم بها فانظروا. فنظروا حتى أثبتوا ، فنزل أبو بكرة حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة ، فقال له : إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا ، قال : وذهب ليصلّي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة وقال له : والله لا تصلّي بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس : دعوه فليصلّ فإنّه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمر. فكتبوا إليه ، فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعاً المغيرة والشهود.

قال مصعب بن سعد : إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه جلس ودعا بالمغيرة والشهود ، فتقدّم أبو بكرة فقال له : أرأيته بين فخذيها؟ قال : نعم والله لكأنّي أنظر تشريم جدري بفخذيها ، فقال له المغيرة : لقد ألطفت النظر ، فقال له : ألم أك قد أثبتّ ما يخزيك الله به؟ فقال له عمر : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه كما يلج المرود في المكحلة. فقال : نعم أشهد على ذلك ، فقال له : اذهب مغيرة ذهب ربعك ، ثمّ دعا نافعاً فقال له : علام تشهد؟ قال : على مثل شهادة أبي بكرة. قال : لا حتى تشهد أنه يلج فيه ولوج المرود في المكحلة ، فقال : نعم حتى بلغ قذذه (١). فقال : اذهب مغيرة ذهب نصفك ، ثمّ دعا الثالث فقال : علام تشهد؟ فقال : على مثل شهادة صاحبيّ. فقال له : اذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك ، ثمّ كتب ـ عمر ـ إلى زياد فقدم على عمر ، فلمّا رآه جلس له في المسجد واجتمع له رءوس المهاجرين والأنصار ، فقال المغيرة : ومعي كلمة قد رفعتها لأحلم القوم ، قال : فلمّا رآه عمر مقبلاً قال : إنّي لأرى رجلاً لن يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. فقال : يا أمير المؤمنين أما إن أحقّ ما حقّ القوم فليس ذلك عندي ، ولكنّي رأيت مجلساً قبيحاً وسمعت أمراً حثيثاً وانبهاراً ، ورأيته متبطّنها ، فقال له : أرأيته يدخله كالميل في المكحلة؟ فقال : لا.

وفي لفظ قال : رأيته رافعاً برجليها ، ورأيت خصيتيه تتردّدان بين فخذيها ،

__________________

(١) أي : أصله.

١٩٧

ورأيت حفزاً شديداً ، وسمعت نفساً عالياً.

وفي لفظ الطبري قال : رأيته جالساً بين رجلي امرأة ، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان ، واستين مكشوفتين ، وسمعت حفزاناً شديداً.

فقال له : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال : لا ، فقال عمر : الله أكبر قم إليهم فاضربهم ، فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين وأعجبه قول زياد ودرأ عن المغيرة الرجم ، فقال أبو بكرة بعد أن ضُرب : فإنّي أشهد أنّ المغيرة فعل كذا وكذا. فهمّ عمر بضربه ، فقال له عليّ عليه‌السلام : «إن ضربته رجمت صاحبك ونهاه عن ذلك» (١).

قال الأميني : لو كان للخليفة قسط من حكم هذه القضيّة لما همّ بجلد أبي بكرة ثانياً ، ولا عزب عنه حكم رجم المغيرة إن جُلد.

وإن تعجب فعجب إيعاز الخليفة إلى زياد لمّا جاء يشهد بكتمان الشهادة بقوله : إنّي لأرى رجلاً لن يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين (٢) أو بقوله : أما إنّي أرى وجه رجل أرجو أن لا يُرجم رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يده ولا يخزى بشهادته (٣).

أو بقوله : إنّي لأرى غلاماً كيّساً لا يقول إلاّ حقّا ولم يكن ليكتمني شيئاً (٤).

__________________

(١) الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني : ١٤ / ١٤٦ [١٦ / ١٠٥] ، تاريخ الطبري : ٤ / ٢٠٧ [٤ / ٦٩ ـ ٧٢ حوادث سنة ١٧ ه‍] ، فتوح البلدان للبلاذري : ص ٣٥٢ [ص ٣٣٩] ، تاريخ الكامل لابن الأثير : ٢ / ٢٢٨ [٢ / ١٥٩ حوادث سنة ١٧ ه‍] ، تاريخ ابن خلّكان : ٢ / ٤٥٥ [٦ / ٣٦٤ رقم ٨٢١] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ٨١ [٧ / ٩٤ حوادث سنة ١٧ ه‍] ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ١٦١ [١٢ / ٢٣٤ ـ ٢٣٧ خطبة ٢٢٣] ، عمدة القاري : ٦ / ٣٤٠ [١٣ / ٢٠٨]. (المؤلف)

(٢) الأغاني كما مرّ. (المؤلف)

(٣) فتوح البلدان للبلاذري : ص ٣٥٣ [ص ٣٤٠]. (المؤلف)

(٤) سنن البيهقي : ٨ / ٢٣٥. (المؤلف)

١٩٨

أو بقوله : إنّي أرى غلاماً كيّساً لن يشهد إن شاء الله إلاّ بحقّ (١) وهو يوعز إلى أنّ الذين تقدّموه أغرار شهدوا بالباطل ، وعلى أيٍّ فقد استشعر زياد ميل الخليفة إلى درء الحدّ عن المغيرة فأتى بجمل لا تقصر عن الشهادة ، لكنّه تلجلج عن صراح الحقيقة لمّا انتهى إليه ، وكيف يصدّق في ذلك ، وقد رأى أستاهاً مكشوفة ، وخصيتين متردّدتين بين فخذي أُمّ جميل ، وقدمين مخضوبتين مرفوعتين ، وسمع حفزاناً شديداً ونفساً عالياً ، ورآه متبطّناً لها ، وهل تجد في هذا الحدّ مساغاً لأن يكون الميل في خارج المكحلة؟ أو أن يكون قضيب المغيرة جامحاً عن فرج أُمّ جميل؟

نعم ؛ كان في القضيّة تأوّل واجتهاد أدّى إلى أهميّة درء الحدّ في المورد خاصّة ، وإن كان الخليفة نفسه جازماً بصدق الخزاية كما يعرب عنه قوله للمغيرة : والله ما أظنّ أبا بكرة كذب عليك ، وما رأيتك إلاّ خفت أن أُرمى بالحجارة من السماء. قاله لمّا وافقت أُمّ جميل عمر بالموسم والمغيرة هناك فسأله عنها فقال : هذه أُمّ كلثوم بنت عليّ ، فقال عمر : أتتجاهل عليّ؟ والله ما أظنّ ... إلخ (٢).

وليت شعري لما ذا كان عمر يخاف أن يُرمى بالحجارة من السماء؟ ألردّه الحدّ حقّا؟ وحاشا الله أن يرمي مقيم الحقّ ، أو لتعطيله الحكم؟ أو لجلده مثل أبي بكرة الذي عدّوه من خيار الصحابة وكان من العبادة كالنصل؟ أنا لا أدري.

وكان عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يصافق عمر على ما ظنّ أو جزم به فخاف أن يرمى بالحجارة ، وينمّ عن ذلك قوله عليه‌السلام : «لئن لم ينته المغيرة لأتبعنّه أحجاره». أو قوله : «لئن أخذت المغيرة لأتبعنّه أحجاره» (٣).

وقد هجاه حسّان بن ثابت في هذه القصّة بقوله :

__________________

(١) كنز العمّال : [٥ / ٤٢٣ ح ١٣٤٩٧]. (المؤلف)

(٢) الأغاني : ١٤ / ١٤٧ [١٦ / ١٠٩] ، شرح النهج ٣ / ١٦٢ [١٢ / ٢٣٨ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ١٤ / ١٤٧ [١٦ / ١٠٩]. (المؤلف)

١٩٩

لو انّ اللؤمَ يُنسَبُ كان عبداً

قبيحَ الوجهِ أعورَ من ثقيفِ

تركتَ الدينَ والإسلامَ لمّا

بدتْ لك غدوةً ذاتُ النصيفِ

وراجعت الصبا وذكرت لهواً

من القيناتِ في العمرِ اللطيفِ (١)

ولا يشكّ ابن أبي الحديد المعتزلي في أنّ المغيرة زنى بأُمّ جميل وقال : إنّ الخبر بزناه كان شائعاً مشهوراً مستفيضاً بين الناس (٢) ، غير أنّه لم يخطئ عمر بن الخطّاب في درء الحدّ عنه ، ويدافع عنه بقوله : لأنّ الإمام يستحبّ له درء الحدّ وإن غلب على ظنّه أنّه قد وجب الحدّ عليه.

عزب عن ابن أبي الحديد أنّ درء الحدّ بالشبهات لا يخصّ بالمغيرة فحسب بل للإمام رعاية حال الشهود أيضاً ودرء الحدّ عنهم ، فأنّى لإمام درأ الحدّ عمّن يقال : إنّه كان أزنى الناس في الجاهليّة ، فلمّا دخل في الإسلام قيّده الإسلام وبقيت عنده منه بقيّة ظهرت في أيّام ولايته بالبصرة (٣)؟ أنّى له رفع اليد عن مثل الرجل وقد غلب على ظنّه وجوب الحدّ عليه ، وحكمه بالحدّ على أبرياء ثلاثة يشكّ في الحدّ عليهم وفيهم من يعدّ من عبّاد الصحابة؟ وأنّى يتأتّى الاحتياط في درء الحد عن واحد مثل المغيرة برمي ثلاثة بالكذب والقذف وتشويه سمعتهم في المجتمع الدينيّ وتخذيلهم بإجراء الحدّ عليهم؟

ثمّ هلاّ اجتمعت كلمة الشهود الأربعة على ما شهد به زياد من معاصي المغيرة دون إيلاج المرود في المكحلة؟ فلما ذا لم يعزّره على ما اقترفه من الفاحشة؟ أولم تكن

__________________

(١) الأغاني : ١٤ / ١٤٧ [١٦ / ١١٠] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ١٦٣ [١٢ / ٢٣٨ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٦٣ [١٢ / ٢٤١ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ١٦٣ [١٢ / ٢٣٩ خطبة ٢٢٣] ، نقلاً عن المدائني. (المؤلف)

٢٠٠