الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

المعاصي تستوجب تعزيراً؟ أولم يكن من رأي الخليفة جلد صائمٍ أُخِذ على شراب كما يأتي في نادرة (٧٢)؟

أولم يكن من رأيه ضرب خمسين على من وجد مع امرأة في لحافها على فراشها (١)؟

أولم يكن مقرّراً حكم عبد الله بن مسعود في رجل وجد مع امرأة في لحاف ، فضرب عبد الله كلّ واحد منهما أربعين سوطاً وأقامهما للناس ، فذهب أهل المرأة وأهل الرجل فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطّاب ، فقال عمر لابن مسعود : ما يقول هؤلاء؟ قال : قد فعلت ذلك. قال : أورأيت ذلك؟ قال : نعم. فقال : نعمَ ما رأيت. فقالوا : أتيناه نستأذنه فإذا هو يسأله (٢).

نعم ؛ للقارئ أن يفرّق بين ما نحن فيه وبين تلكم المواقف التي حكم فيها بالتعزير بأنّ الحكم هناك قد دار مدار اللحاف ولم يكن لحاف على المغيرة وأُمّ جميل في فحشائهما ، والقول بمثل هذه الخزاية أهون من تلكم الكلم التي توجد في الدفاع عن الخليفة حول هذه القضيّة ولدتها.

هذا مغيرة وهذه إلى أمثالها بوائقه ، وكان يُعرف بها في إسلامه وقبله ، وقد أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام عندما تولّى الخلافة يظهر بزعمه النصح له بإقرار معاوية في ولايته على الشام ردحاً ثمّ يفعل به ما أراد ، وبما أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يكن ممّن يداهن ويجامل أعداء الله في أمر الدين ولا يؤثر الدهاء على حكم الشريعة ، وكان يرى أنّ مفاسد إبقاء معاوية على الأمر لا تكافئ مصلحة إغفاله عن المقاومة ، فإنّه غير صالح لتولّي أمر المسلمين فيومه لدة سنته ، وساعته كمثل عمره في الفساد ، رفض

__________________

(١) أخرجه إمام الشافعية في كتاب الأُم : ٧ / ١٧٠ [٧ / ١٨٣]. (المؤلف)

(٢) أخرجه الطبراني [المعجم الكبير ٩ / ٣٤١ ح ٩٦٩٤ ، وفيه : أتيناه نستأديه] والهيثمي في مجمع الزوائد : ٦ / ٢٧٠ وقال : رجاله رجال الصحيح. (المؤلف)

٢٠١

ذلك الرأي المغيريّ ، ولم يكن بالذي يتّخذ المضلّين عضداً ، فبهض ذلك المغيرة فولّى عنه منشداً :

نصحت عليّا في ابن هندٍ نصيحةً

فرُدّتْ فلم أُسمع لها الدهرَ ثانيه

وقلت له : أوجز عليه بعهدِهِ

وبالأمر حتى يستقرَّ معاويه

وتعلمَ أهلُ الشامِ أن قد ملكتَهُ

وأنّ اذنه صارت لأمرِك واعيه

فتحكمُ فيه ما تريدُ فإنّه

لداهيةٌ فارقْ به أيّ داهيه

فلم يقبل النصح الذي قد نصحته

وكانت له تلك النصيحةُ كافيه (١)

وأجاب عنها العلاّمة الأوردبادي بقوله :

أتيتَ إمام المسلمين بغدرةٍ

فلم تلفِ نفساً منه للغدرِ صاغيه

وأسمعته إدّا من القول لم يُصِخْ

له إذ رأى منه الخيانةَ باديه

رغبتَ إليه في ابن هندٍ ولايةً

أبى الدينُ إلاّ أن ترى عنه نائيه

أيؤتمنُ الغاوي على إمرةِ الهدى

تعاد على الدينِ المعرّة ثانيه

ويرعى القطيعَ الذئبُ والذئبُ كاسرٌ

ويأمن منه في الأويقةِ عاديه

وهل سمعت أُذناك قل لي هنيهةً

بزوبعةٍ هبّت فلم تعدُ سافيه

وهل يأمنُ الأفعى السليمُ سويعةً

ومن شدقِها قتّالةُ السمِّ جاريه

فيومُ ابنِ هندٍ ليس إلاّ كدهرِه

فصفقتُه كانت من الخيرِ خاليه

ولَلشرُّ منه والمزنّمُ جروُه (٢)

ووالده شيخ الفجور زبانيه

متى كان للتقوى علوجُ أُميّةٍ

وللغيّ منهم كلُّ باغٍ وباغيه

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ١٦ [٢ / ٣٧١] ، تاريخ الطبري : ٥ / ١٦٠ [٤ / ٤٤٠ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٢٨ [٨ / ١٣٧ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، الاستيعاب : ١ / ٢٥١ [القسم الرابع / ١٤٤٧ رقم ٢٤٨٣] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٧٢. (المؤلف)

(٢) أي ابنه يزيد.

٢٠٢

وللزورِ والفحشاءِ منهم زبائنٌ

وللجور منهم كلّ دهياءَ داهيه

همُ أرهجوها فتنةً جاهليّة

إذا انتهزوا للشرّ أجواءَ صافيه

فما ذا على حلفِ التقى وهو لا يُرى

يُراوغُ في أمرِ الخلافة طاغيه

وشتّانَ في الإسلامِ هذا وهذه

فدينُ عليٍّ غيرُ دنيا معاويه

أتنقمُ منه أنّ شرعةَ أحمدٍ

تجذّ يميناً لابن سفيانَ عاديه

وتحسبُ أن قد فاته الرأيُ عندَه

كأنّك قد أبصرتَ ما عنه خافيه

ولولا التقى ألفيتَ صنو محمدٍ

لتدبيرِ أمرِ الملكِ أكبرَ داهيه

عرفناك يا أزنى ثقيفٍ ووغدَها

عليك بيوميكَ الشنارُ سواسيه

وإنّك في الإسلامِ مثلُكَ قبلَهُ

وأُمُّ جميلٍ للخزاية راويه

وكان المغيرة في مقدّم أُناس كانوا ينالون من أمير المؤمنين عليه‌السلام. قال ابن الجوزي : قدمت الخطباء إلى المغيرة بن شعبة بالكوفة ، فقام صعصعة بن صوحان فتكلّم ، فقال المغيرة : أخرجوه فأقيموه على المصطبة فليلعن عليّا. فقال : لعن الله من لعن الله ولعن عليّ بن أبي طالب ، فأخبره بذلك فقال : أقسم بالله لتقيدنّه. فخرج فقال : إنّ هذا يأبى إلاّ عليّ بن أبي طالب ؛ فالعنوه لعنه الله. فقال المغيرة : أخرجوه أخرج الله نفسه.

رسائل الجاحظ (١) (ص ٩٢) ، الأذكياء (ص ٩٨) (٢).

وأخرج أحمد في مسنده (٣) (٤ / ٣٦٩) عن قطبة بن مالك قال : نال المغيرة بن شعبة من عليّ ، فقال زيد بن أرقم : قد علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينهى عن سبّ الموتى ، فلم تسبّ عليّا وقد مات؟

__________________

(١) رسائل الجاحظ السياسية : ص ٤٣٥.

(٢) الأذكياء : ص ١٦٨.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٤٩٦ ح ١٨٨٠٢.

٢٠٣

وأخرج في المسند (١) أيضاً (١ / ١٨٨) أحاديث نيله من أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته واعتراض سعيد بن زيد عليه.

ـ ٤٢ ـ

كلٌّ أفقه من عمر حتى العجائز

لمّا رجع عمر بن الخطّاب من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليعرف أخبارهم ، فمرّ بعجوز في خبائها فقصدها ، فقالت : يا هذا ما فعل عمر؟ قال : هو ذا قد أقبل من الشام. قالت : لا جزاه الله عنّي خيراً ، قال : ويحك ولِمَ؟ قالت : لأنّه والله ما نالني من عطائه منذ ولي إلى يومنا هذا دينارو لا درهم ، فقال : ويحك وما يدري عمر حالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت : سبحان الله ما ظننت أنّ أحداً يلي على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها ، قال : فأقبل عمر وهو يبكي ويقول : وا عمراه وا خصوماه ، كلّ واحد أفقه منك يا عمر. الحديث.

وفي لفظ : كلّ واحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر.

الرياض النضرة (٢ / ٥٧) ، الفتوحات الإسلاميّة (٢ / ٤٠٨) ، نور الأبصار (ص ٦٥) (٢).

قال الأميني : نحن ندرس من هذه القصّة أنّ فكرة إحاطة علم الإمام بالأشياء كلّها أو جلّها فضلاً عن الشرائع والأحكام فكرة بسيطة عامّة يشترك في لزومها الرجال والنساء ، فهي غريزة لا تعزب عن أيّ ابن أُنثى ، وقد فقدها الخليفة واعترف بأنّ كلّ واحد أفقه منه.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣٠٧ ح ١٦٣٤ ، ص ٣٠٨ ح ١٦٤٠ ، ١٦٤١.

(٢) الرياض النضرة : ٢ / ٣٣٢ ، الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٢٦١ ، نور الأبصار : ص ١٣٣.

٢٠٤

ـ ٤٣ ـ

استشارة الخليفة في متسابّين

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٢٥٢) : أنّ رجلين استبّا في زمن عمر بن الخطّاب ، فقال أحدهما للآخر : والله ما أرى أبي بزانٍ ولا أُمّي بزانية. فاستشار عمر الناس في ذلك ، فقال قائل : مدح أباه وأُمّه. وقال آخرون. قد كان لأبيه وأُمّه مدح غير هذا ، نرى أن تجلده الحدّ. فجلده عمر الحدّ ثمانين.

وذكره النيسابوري في تفسيره (١) في سورة النور عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (٢).

قال الأميني : أنا لا أدري لأيّ المصيبتين أنحب؟ أبقصور الخليفة عن حكم المسألة؟ أم بقصر المعلّمين له عن حقيقته؟ وكلّ يفوه برأي ضئيل ، والأفظع جري العمل على ما قالوه.

أمّا الحدّ فليس إلاّ بالقذف البيّن وهو المستفاد من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) ، وعلى هذا كان عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما قال القاسم ابن محمد : ما كنّا نرى الجلد إلاّ في القذف البيّن والنفي البيّن (٣). وأمّا قول ـ ليس أبي بزانٍ ـ فنناقش أوّلاً في كونه تعريضاً ؛ إذ لعلّه يريد طهارة منبته التي تزعه عن النزول إلى الدنايا من بذاءة في القول ، أو خسّةٍ في الطبع ، أو حزازة في العمل ، فمن الممكن أنّه لا يريد إلاّ هذا فحسب ، وهو الذي فهمه فريق من الصحابة فقالوا : إنّه مدح أباه. وإن لم يجدوا لما أبدوه أُذناً واعية ، وعلى فرض كونه تعريضاً فإنّما يوجب الحدّ إذا كانت

__________________

(١) تفسير النيسابوري : ٥ / ١٥٣.

(٢) النور : ٤.

(٣) السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٢٥٢. (المؤلف)

٢٠٥

دلالته مقطوعاً بها ، أو أن يعترف المعرّض بأنّه لم يقصد إلاّ القذف ، وإلاّ فالحدود تدرأ بالشبهات. ألا ترى سقوط الحكم عمّن عرّض بسبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصرّح كما في الصحاح.

وإلى نفي الحدّ بالتعريض ذهب أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وزفر ومحمد ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح وبين يديهم الحديث المذكور ، وما رواه الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : كان عمر يضرب الحدّ في التعريض (١).

قال أبو بكر الجصّاص في أحكام القرآن (٢) (٣ / ٣٣٠) : ثمّ لمّا ثبت أنّ المراد بقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) ، هو الرمي بالزنا لم يجز له إيجاب الحدّ على غيره ، إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس ، وإنّما طريقها الاتّفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض ، ومشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنّه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنّه قال اجتهاداً ورأياً ، وأيضاً فإنّ التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني وغير جائز إيجاب الحدّ بالاحتمال لوجهين : أحدهما : أنّ الأصل أنّ القائل بريء الظهر من الجلد فلا نجلده بالشكّ والمحتمل مشكوك فيه ، ألا ترى أنّ يزيد ابن ركانة لمّا طلّق امرأته البتّة استحلفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما أردت إلاّ واحدة فلم يلزمه الثلاث بالاحتمال ، ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق : إنّها لا تجعل طلاقاً إلاّ بدلالة.

والوجه الآخر ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ادرءوا الحدود بالشبهات». وأقلّ أحوال التعريض حين كان محتملاً للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه.

وأيضاً قد فرّق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدّة وبين التصريح فقال : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ

__________________

(١) السنن الكبرى : ٨ / ٢٥٢. (المؤلف)

(٢) أحكام القرآن : ٣ / ٢٦٨.

٢٠٦

سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) (١). يعني نكاحاً فجعل التعريض بمنزلة الإضمار في النفس فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف ، والمعنى الجامع بينهما أنّ التعريض لمّا كان فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه. انتهى.

هذه كلّها كانت بمنتأى عن مبلغ الخليفة من العلم ، غير أنّه كان يستشير الناس كائناً من كان في كلّ مشكلة ثمّ يرى فيه رأيه وافق دين الله أم خالفه.

ـ ٤٤ ـ

رأي الخليفة في شجرة الرضوان

عن نافع قال : كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحتها بيعة الرضوان فيصلّون عندها ، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت (٢).

الطبقات الكبرى لابن سعد (ص ٦٠٧) ، سيرة عمر لابن الجوزي (ص ١٠٧) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ١٢٢) ، السيرة الحلبية (٣ / ٢٩) ، فتح الباري لابن حجر (٧ / ٣٦١) وقد صحّحه ، إرشاد الساري (٦ / ٣٣٧) وحكى تصحيح ابن حجر ، شرح المواهب للزرقاني (٢ / ٢٠٧) ، الدرّ المنثور (٦ / ٧٣) ، عمدة القاري (٨ / ٢٨٤) وقال : إسناد صحيح.

وذكره ابن أبي الحديد في شرحه (٣) (١ / ٦٠) ولفظه : كان الناس بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلّون عندها ، فقال

__________________

(١) البقرة : ٢٣٥.

(٢) الطبقات الكبرى : ٢ / ١٠٠ ، تاريخ عمر بن الخطّاب : ص ١١٥ ، شرح نهج البلاغة : ١٢ / ١٠١ خطبة ٢٢٣ ، السيرة الحلبيّة : ٣ / ٢٥ ، فتح الباري : ٧ / ٤٤٨ ، إرشاد الساري : ٩ / ٢٣١ ح ٤١٦٥ ، الدرّ المنثور : ٧ / ٥٢٢ ، عمدة القاري : ١٧ / ٢٢٠ ح ١٩٢.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٧٨ خطبة ٣.

٢٠٧

عمر : أراكم أيّها الناس رجعتم إلى العزّى ، ألا لا أُوتى منذ اليوم بأحدٍ عاد لمثلها إلاّ قتلته بالسيف كما يقتل المرتدّ. ثمّ أمر بها فقطعت.

ـ ٤٥ ـ

رأي الخليفة في آثار الأنبياء

عن معرور ، قال : خرجنا مع عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه في حجّة حجّها قال : فقرأ بنا في الفجر : ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ولإيلاف قريش فلمّا انصرف فرأى الناس مسجداً فبادروه فقال : ما هذا؟ قالوا : هذا مسجد صلّى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم ، اتّخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً ، من عرضت له صلاة فليصلّ ومن لم تعرض له صلاة فليمضِ (١).

قال الأميني : ليت شعري ما المانع من تعظيم آثار الأنبياء وفي مقدّمهم سيّد ولد آدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا لم يكن خارجاً عن حدود التوحيد كالسجود إلى تماثيلهم واتّخاذها قبلة؟ (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٢) ، ومتى هلكت الأُمم باتّخاذهم آثار أنبيائهم بِيَعاً؟ وأيّ مسجد تكون الصلاة فيه أزلف إلى الله سبحانه من مسجد صلّى فيه رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وأيّ مكان أشرف من مكان حلّ به النبيّ الأعظم وبويع فيه بيعة الرضوان وحظي المؤمنون فيه برضى الله عنهم؟ أولا يكسب ذلك كلّه المحلّ فضلاً يزيد في زلفة المتعبدين بفنائه؟ وما ذنب الشجرة المسكينة حتى اجتثت أُصولها؟ ولا من ثائرٍ لها أو مدافع عنها. أوليس ذلك توهيناً للمحلّ ولمشرّفه؟ أيسوّغ أدب الدين للخليفة قوله : أراكم أيّها الناس رجعتم إلى العزّى؟ والذين كانوا

__________________

(١) سيرة عمر لابن الجوزي : ص ١٠٧ [ص ١١٦] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ١٢٢ [١٢ / ١٠١ خطبة ٢٢٣] وفيه بدل معرور : المغيرة بن سويد ، فتح الباري : ١ / ٤٥٠ [١ / ٥٦٩]. (المؤلف)

(٢) الحج : ٣٢.

٢٠٨

يرون حرمة تلكم الآثار ويعظّمونها ويصلّون عندها إنّما هم حملة علم الدين من الصحابة العدول ، مراجع الخليفة في الأحكام والشرائع ، كان يعوّل عليهم حيثما أعيته المسائل قائلاً : كلّ الناس أفقه منك يا عمر.

هذه أسئلة جمّة عزب عن الخليفة العلم بالجواب عنها ، أو أنّها لم تدر في خلده ، أو أنّه متأوّل فيها جمعاء وأنت ترى ...

ومن الصحابة التي كانت تتبرّك بتلك الأماكن وتصلّي فيها عبد الله بن عمر ، قال موسى بن عقبة (١) : رأيت سالم بن عبد الله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها ويحدّث أنّ أباه كان يصلّي فيها ، وأنّه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي في تلك الأمكنة. وعن نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلّي في تلك الأمكنة.

فالراجع إلى الصحاح والسنن يجد كثيراً من لدة هذه يعلم بها أنّ رأي الخليفة إنّما يخصّ به ولا يُتّبع ولم يُتّبع ولن يُتّبع.

ـ ٤٦ ـ

الخليفة وقوم من أحبار اليهود

لمّا ولي أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الخلافة أتاه قوم من أحبار اليهود فقالوا : يا عمر أنت وليّ الأمر بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاحبه ، وإنّا نريد أن نسألك عن خصال إن أخبرتنا بها علمنا أنّ الإسلام حقّ وأنّ محمداً كان نبيّا ، وإن لم تخبرنا به علمنا أنّ الإسلام باطل وأنّ محمداً لم يكن نبيّا ، فقال : سلوا عمّا بدا لكم ، قالوا : أخبرنا عن أقفال السموات ما هي؟ وأخبرنا عن مفاتيح السموات ما هي؟ وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه ما هو؟ وأخبرنا عمّن أنذر قومه لا هو من الجنّ ولا هو من

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب الصلاة باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلّى فيها النبي صلي الله عليه وآله وسلم [١ / ١٨٣ ح ٤٦٩]. (المؤلف)

٢٠٩

الإنس؟ وأخبرنا عن خمسة أشياء مشوا على وجه الأرض ولم يخلقوا في الأرحام؟ وأخبرنا ما يقول الدرّاج في صياحه؟ وما يقول الديك في صراخه؟ وما يقول الفرس في صهيله؟ وما يقول الضفدع في نقيقه؟ وما يقول الحمار في نهيقه؟ وما يقول القنبر في صفيره؟

قال : فنكّس عمر رأسه في الأرض ثمّ قال : لا عيب بعمر إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول : لا أعلم ، وأن يُسأل عمّا لا يعلم. فوثبت اليهود وقالوا : نشهد أنّ محمداً لم يكن نبيّا وأنّ الإسلام باطل ، فوثب سلمان الفارسي وقال لليهود : قفوا قليلاً ، ثمّ توجّه نحو عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه حتى دخل عليه فقال : يا أبا الحسن أغِثِ الإسلام. فقال : «وما ذاك؟» فأخبره الخبر ، فأقبل يرفل في بردة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا نظر إليه عمر وثب قائماً فاعتنقه وقال : يا أبا الحسن أنت لكلّ معضلة وشدّة تُدعى. فدعا عليّ كرّم الله وجهه اليهود فقال : «سلوا عمّا بدا لكم فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّمني ألف باب من العلم فتشعّب لي من كلّ باب ألف باب» ، فسألوه عنها. فقال عليّ كرّم الله وجهه : «إنّ لي عليكم شريطة إذا أخبرتكم كما في توراتكم دخلتم في ديننا وآمنتم» فقالوا : نعم. فقال : «سلوا عن خصلة خصلة».

قالوا : أخبرنا عن أقفال السموات ما هي؟

قال : «أقفال السموات الشرك بالله ؛ لأنّ العبد والأَمة إذا كانا مشركين لم يرتفع لهما عمل».

قالوا : فأخبرنا عن مفاتيح السموات ما هي؟

قال : «شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله». قال : فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويقولون : صدق الفتى.

قالوا : فأخبرنا عن قبرٍ سار بصاحبه؟

٢١٠

فقال : «ذلك الحوت الذي التقم يونس بن متّى فسار به في البحار السبع».

فقالوا : أخبرنا عمّن أنذر قومه لا هو من الجنّ ولا هو من الإنس؟

قال : «هي نملة سليمان بن داود قالت : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١)».

قالوا : فأخبرنا عن خمسة مشوا على الأرض ولم يُخلقوا في الأرحام؟

قال : «ذلكم : آدم ، وحواء ، وناقة صالح ، وكبش إبراهيم ، وعصا موسى».

قالوا : فأخبرنا ما يقول الدرّاج في صياحه؟ قال : «يقول : الرحمن على العرش استوى».

قالوا : فأخبرنا ما يقول الديك في صراخه؟

قال : «يقول : اذكروا الله يا غافلين».

قالوا : أخبرنا ما يقول الفرس في صهيله؟

قال : «يقول إذا مشى المؤمنون إلى الكافرين للجهاد : اللهمّ انصر عبادك المؤمنين على الكافرين».

قالوا : فأخبرنا ما يقول الحمار في نهيقه؟

قال : «يقول : لعن الله العشّار ، وينهق في أعين الشياطين».

قالوا : فأخبرنا ما يقول الضفدع في نقيقه؟

قال : «يقول : سبحان ربّي المعبود المسبّح في لجج البحار».

قالوا : فأخبرنا ما يقول القنبر في صفيره؟

__________________

(١) النمل : ١٨.

٢١١

قال : «يقول : اللهمّ العن مبغضي محمد وآل محمد».

وكان اليهود ثلاثة نفر ؛ قال اثنان منهم : نشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله. ووثب الحبر الثالث فقال : يا عليّ لقد وقع في قلوب أصحابي ما وقع من الإيمان والتصديق وقد بقي خصلة واحدة أسألك عنها.

فقال : «سل عمّا بدا لك».

فقال : أخبرني عن قوم في أوّل الزمان ماتوا ثلاثمائة وتسع سنين ثمّ أحياهم الله فما كان من قصّتهم؟

قال عليّ رضى الله عنه : «يا يهوديّ هؤلاء أصحاب الكهف ، وقد أنزل الله على نبيّنا قرآناً فيه قصّتهم وإن شئت قرأت عليك قصّتهم».

فقال اليهوديّ : ما أكثر ما قد سمعنا قراءتكم إن كنت عالماً فأخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم ، وأسماء مدينتهم ، واسم ملكهم ، واسم كلبهم ، واسم جبلهم ، واسم كهفهم ، وقصّتهم من أوّلها إلى آخرها.

فاحتبى عليّ ببردة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال :

«يا أخا العرب حدّثني حبيبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان بأرض روميّة مدينة يقال لها : أفسوس ، ويقال هي : طرطوس ، وكان اسمها في الجاهليّة : أفسوس ، فلمّا جاء الإسلام سمّوها : طرطوس. قال : وكان لهم ملك صالح فمات ملكهم وانتشر أمرهم فسمع به ملك من ملوك فارس يقال له : دقيانوس ، وكان جبّاراً كافراً ، فأقبل في عساكر حتى دخل أفسوس فاتّخذها دار ملكه وبنى فيها قصراً».

فوثب اليهوديّ وقال : إن كنت عالماً فصف لي ذلك القصر ومجالسه.

فقال : «يا أخا اليهود ابتنى فيها قصراً من الرخام طوله فرسخ وعرضه فرسخ واتّخذ فيه أربعة آلاف أسطوانة من الذهب وألف قنديل من الذهب لها سلاسل من

٢١٢

اللجين تسرج في كلّ ليلة بالأدهان الطيّبة ، واتّخذ لشرقي المجلس مائة وثمانين كوّة ولغربيّه كذلك ، وكانت الشمس من حين تطلع إلى حين تغيب تدور في المجلس كيفما دارت ، واتّخذ فيه سريراً من الذهب طوله ثمانون ذراعاً في عرض أربعين ذراعاً مرصّعاً بالجواهر ، ونصب على يمين السرير ثمانين كرسيّا من الذهب فأجلس عليها بطارقته ، واتّخذ أيضاً ثمانين كرسيّا من الذهب عن يساره فأجلس عليها هراقلته ، ثمّ جلس هو على السرير ووضع التاج على رأسه».

فوثب اليهوديّ وقال : يا عليّ إن كنت عالماً فاخبرني ممّ كان تاجه؟

قال : «يا أخا اليهود كان تاجه من الذهب السبيك له تسعة أركان على كلّ ركن لؤلؤة تضيء كما يضيء المصباح في الليلة الظلماء ، واتّخذ خمسين غلاماً من أبناء البطارقة فمنطقهم بمناطق من الديباج الأحمر ، وسرولهم بسراويل القزّ الأخضر ، وتوّجهم ودملجهم وخلخلهم وأعطاهم عمد الذهب وأقامهم على رأسه ، واصطنع ستّة غلمان من أولاد العلماء وجعلهم وزراءه ، فما يقطع أمراً دونهم وأقام منهم ثلاثةً عن يمينه ، وثلاثةً عن شماله».

فوثب اليهودي وقال : يا عليّ إن كنت صادقاً فأخبرني ما كانت أسماء الستّة؟ فقال عليّ كرّم الله وجهه : «حدّثني حبيبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الذين كانوا عن يمينه أسماؤهم : تمليخا ، ومكسلمينا ، ومحسلمينا. وأمّا الذين كانوا عن يساره فمرطليوس ، وكشطوس ، وسادنيوس ، وكان يستشيرهم في جميع أُموره ، وكان إذا جلس كلّ يوم في صحن داره واجتمع الناس عنده دخل من باب الدار ثلاثة غلمة في يد أحدهم جام من الذهب مملوء من المسك ، وفي يد الثاني جام من فضّة مملوء من ماء الورد ، وعلى يد الثالث طائر ، فيصيح به فيطير الطائر حتى يقع في جام ماء الورد فيتمرّغ فيه فينشف ما فيه بريشه وجناحيه ، ثمّ يصيح به الثاني فيطير فيقع في جام المسك فيتمرّغ فيه فينشف ما فيه بريشه وجناحيه ، فيصيح به الثالث فيطير فيقع على تاج الملك

٢١٣

فينفض ريشه وجناحيه على رأس الملك بما فيه من المسك وماء الورد ، فمكث الملك في ملكه ثلاثين سنة من غير أن يصيبه صداع ولا وجع ولا حمّى ولا لعاب ولا بصاق ولا مخاط ، فلمّا رأى ذلك من نفسه عتا وطغى وتجبّر واستعصى وادّعى الربوبيّة من دون الله تعالى ودعا إليه وجوه قومه ، فكلّ من أجابه أعطاه وحباه وكساه وخلع عليه ، ومن لم يجبه ويتابعه قتله ، فأجابوه بأجمعهم فأقاموا في ملكه زماناً يعبدونه من دون الله تعالى ، فبينما هو ذات يوم جالس في عيدٍ له على سريره والتاج على رأسه إذ أتى بعض بطارقته فأخبره أنّ عساكر الفرس قد غشيته يريدون قتله ، فاغتمّ لذلك غمّا شديداً حتى سقط التاج عن رأسه وسقط هو عن سريره ، فنظر أحد فتيته الثلاثة الذين كانوا عن يمينه إلى ذلك وكان عاقلاً يقال له تمليخا ، فتفكّر وتذكّر في نفسه وقال : لو كان دقيانوس هذا إلهاً كما يزعم لما حزن ولما كان ينام ولما كان يبول ويتغوّط ، وليست هذه الأفعال من صفات الإله ، وكانت الفتية الستّة يكونون كلّ يوم عند واحد منهم ، وكان ذلك اليوم نوبة تمليخا فاجتمعوا عنده فأكلوا وشربوا ولم يأكل تمليخا ولم يشرب ، فقالوا : يا تمليخا ما لك لا تأكل ولا تشرب؟ فقال : يا إخواني قد وقع في قلبي شيء منعني عن الطعام والشراب والمنام. فقالوا : وما هو يا تمليخا؟ فقال : أطلت فكري في هذه السماء فقلت : من رفعها سقفاً محفوظاً بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها؟ ومن أجرى فيها شمسها وقمرها؟ ومن زيّنها بالنجوم؟ ثمّ أطلت فكري في هذه الأرض ؛ من سطحها على ظهر اليمّ الزاخر؟ ومن حبسها وربطها بالجبال الرواسي لئلاّ تميد؟ ثمّ أطلت فكري في نفسي فقلت : من أخرجني جنيناً من بطن أُمّي؟ ومن غذّاني وربّاني؟ إنّ لهذا صانعاً ومدبّراً سوى دقيانوس الملك ، فانكبّت الفتية على رجليه يقبّلونهما وقالوا : يا تمليخا لقد وقع في قلوبنا ما وقع في قلبك ، فأشر علينا. فقال : يا إخواني ما أجد لي ولكم حيلة إلاّ الهرب من هذا الجبّار إلى ملك السموات والأرض. فقالوا : الرأي ما رأيت ، فوثب تمليخا فابتاع تمراً بثلاثة دراهم وصرّها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا ، فلمّا ساروا قدر ثلاثة أميال من المدينة

٢١٤

قال لهم تمليخا : يا إخوتاه! قد ذهب عنّا ملك الدنيا وزال عنّا أمره ، فانزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعلّ الله يجعل من أمركم فرجاً ومخرجاً. فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبع فراسخ حتى صارت أرجلهم تقطر دماً لأنّهم لم يعتادوا المشي على أقدامهم ، فاستقبلهم رجل راعٍ فقالوا : أيّها الراعي أعندك شربة ماء أو لبن؟ فقال : عندي ما تحبّون ولكنّي أرى وجوهكم وجوه الملوك وما أظنّكم إلاّ هِراباً فأخبروني بقصّتكم. فقالوا : يا هذا إنّا دخلنا في دين لا يحلّ لنا الكذب أفينجينا الصدق؟ قال : نعم. فأخبروه بقصّتهم فانكبّ الراعي على أرجلهم يقبّلها ويقول : قد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم فقفوا لي هاهنا حتى أردّ الأغنام إلى أربابها وأعود إليكم. فوقفوا له حتى ردّها وأقبل يسعى فتبعه كلب له».

فوثب اليهوديّ قائماً وقال : يا عليّ إن كنت عالماً فأخبرني ما كان لون الكلب واسمه؟

فقال : «يا أخا اليهود حدّثني حبيبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الكلب كان أبلق بسواد وكان اسمه قطمير ، قال : فلمّا نظر الفتية إلى الكلب قال بعضهم لبعض : إنّا نخاف أن يفضحنا هذا الكلب بنبيحه فألحّوا عليه طرداً بالحجارة ، فلمّا نظر إليهم الكلب وقد ألحّوا عليه بالحجارة والطرد أقعى على رجليه وتمطّى وقال بلسان طلق ذلق : يا قوم لم تطردونني وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، دعوني أحرسكم من عدوّكم وأتقرّب بذلك إلى الله سبحانه وتعالى. فتركوه ومضوا ، فصعد بهم الراعي جبلاً وانحطّ بهم على كهف».

فوثب اليهودي وقال : يا عليّ ما اسم ذلك الجبل؟ وما اسم الكهف؟

قال أمير المؤمنين : «يا أخا اليهود اسم الجبل : ناجلوس ، واسم الكهف : الوصيد. وقيل : خيرم. قال : وإذا بفناء الكهف أشجار مثمرة وعين غزيرة ، فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء وجنّهم الليل فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف

٢١٥

ومدّ يديه عليه ، وأمر الله ملك الموت بقبض أرواحهم ، ووكّل الله تعالى بكلّ رجل منهم ملكين يقلّبانه من ذات اليمين إلى ذات الشمال ، ومن ذات الشمال إلى ذات اليمين ، قال : وأوحى الله تعالى إلى الشمس فكانت تزاور عن كهفهم ذات اليمين إذا طلعت ، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ، فلمّا رجع الملك ـ دقيانوس ـ من عيده سأل عن الفتية فقيل له : إنّهم اتّخذوا إلهاً غيرك وخرجوا هاربين منك ، فركب في ثمانين ألف فارس وجعل يقفو آثارهم حتى صعد الجبل وشارف الكهف ، فنظر إليهم مضطجعين فظنّ أنّهم نيام ، فقال لأصحابه : لو أردت أن أُعاقبهم بشيء ما عاقبتهم بأكثر ممّا عاقبوا به أنفسهم فآتوني بالبنّائين ، فأُتي بهم فردموا عليهم باب الكهف بالجبس والحجارة ثمّ قال لأصحابه : قولوا لهم يقولوا لإلههم الذي في السماء إن كانوا صادقين يخرجهم من هذا الموضع. فمكثوا ثلاثمائة وتسع سنين ، فنفخ الله فيهم الروح وهمّوا من رقدتهم لمّا بزغت الشمس ، فقال بعضهم لبعض : لقد غفلنا هذه الليلة عن عبادة الله تعالى ، قوموا بنا إلى العين ، فإذا بالعين قد غارت والأشجار قد جفّت ، فقال بعضهم لبعض : إنّا من أمرنا هذا لفي عجب ، مثل هذه العين قد غارت في ليلة واحدة ، ومثل هذه الأشجار قد جفّت في ليلة واحدة ، فألقى الله عليهم الجوع ، فقالوا : أيّكم يذهب بورقكم هذه إلى المدينة فليأتنا بطعام منها ، ولينظر أن لا يكون من الطعام الذي يعجن بشحم الخنازير ، وذلك قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) (١) أي أحلّ وأجود وأطيب ، فقال لهم تمليخا : يا إخوتي لا يأتيكم أحد بالطعام غيري ولكن أيّها الراعي ادفع لي ثيابك وخذ ثيابي. فلبس ثياب الراعي ومرّ ، وكان يمرّ بمواضع لا يعرفها وطريق ينكرها حتى أتى باب المدينة ، فإذا عليه علم أخضر مكتوب عليه : لا إله إلاّ الله عيسى روح الله صلّى الله على نبيّنا وعليه وسلّم ، فطفق الفتى ينظر إليه ويمسح عينيه ويقول : أراني نائماً. فلمّا طال عليه ذلك

__________________

(١) الكهف : ١٩.

٢١٦

دخل المدينة فمرّ بأقوام يقرءون الإنجيل ، واستقبله أقوام لا يعرفهم حتى انتهى إلى السوق فإذا هو بخبّاز ، فقال له : يا خبّاز ما اسم مدينتكم هذه؟ قال : أفسوس. قال : وما اسم ملككم؟ قال : عبد الرحمن. قال تمليخا : إن كنت صادقاً فإنّ أمري عجيب ادفع إليّ بهذه الدراهم طعاماً ، وكانت دراهم ذلك الزمان الأوّل ثقالاً كباراً فعجب الخبّاز من تلك الدراهم».

فوثب اليهودي وقال : يا عليّ إن كنت عالماً فأخبرني كم كان وزن الدرهم منها؟

فقال : «يا أخا اليهود : أخبرني حبيبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزن كلّ درهم عشرة دراهم وثلثا درهم. فقال له الخبّاز : يا هذا إنّك قد أصبت كنزاً فأعطني بعضه وإلاّ ذهبت بك إلى الملك. فقال تمليخا : ما أصبت كنزاً وإنّما هذا من ثمن تمر بعته بثلاثة دراهم منذ ثلاثة أيّام وقد خرجت من هذه المدينة وهم يعبدون دقيانوس الملك. فغضب الخبّاز وقال : ألا ترضى أن أصبت كنزاً أن تعطيني بعضه حتى تذكر رجلاً جبّاراً كان يدّعي الربوبيّة قد مات منذ ثلاثمائة سنة وتسخر بي ، ثمّ أمسكه واجتمع الناس ، ثمّ إنّهم أتوا به إلى الملك وكان عاقلاً عادلاً ، فقال لهم : ما قصّة هذا الفتى؟ قالوا : أصاب كنزاً. فقال له الملك : لا تخف فإنّ نبيّنا عيسى عليه‌السلام أمرنا أن لا نأخذ من الكنوز إلاّ خمسها فادفع إليّ خمس هذا الكنز وامضِ سالماً. فقال : أيّها الملك تثبّت في أمري ، ما أصبت كنزاً وإنّما أنا من أهل هذه المدينة. فقال له : أنت من أهلها؟ قال : نعم. قال : أفتعرف فيها أحداً؟ قال : نعم. قال : فسمّ لنا ، فسمّى له نحواً من ألف رجل فلم يعرفوا منهم رجلاً واحداً. قالوا : يا هذا ما نعرف هذه الأسماء ، وليست هي من أهل زماننا ، ولكن هل لك في هذه المدينة دار؟ فقال : نعم أيّها الملك ، فابعث معي أحداً ، فبعث معه الملك جماعة حتى أتى بهم داراً أرفع دار في المدينة وقال : هذه داري ثمّ قرع الباب فخرج لهم شيخ كبير قد استرخى حاجباه من الكبر على عينيه وهو

٢١٧

فزع مرعوب مذعور. فقال : أيّها الناس ما بالكم؟ فقال له رسول الملك : إنّ هذا الغلام يزعم أنّ هذه الدار داره ، فغضب الشيخ والتفت إلى تمليخا وتبيّنه وقال له : ما اسمك؟ قال : تمليخا بن فلسين. فقال له الشيخ : أعد عليّ ، فأعاد عليه. فانكبّ الشيخ على يديه ورجليه يقبّلهما وقال : هذا جدّي وربّ الكعبة وهو أحد الفتية الذين هربوا من دقيانوس الملك الجبّار إلى جبّار السموات والأرض ، ولقد كان عيسى عليه‌السلام أخبرنا بقصّتهم وأنّهم سيُحيون. فأنهي ذلك إلى الملك وأتى إليهم وحضرهم ، فلمّا رأى الملك تمليخا نزل عن فرسه وحمل تمليخا على عاتقه ، فجعل الناس يقبّلون يديه ورجليه ويقولون له : يا تمليخا ما فعل بأصحابك؟ فأخبرهم أنّهم في الكهف. وكانت المدينة قد وليها رجلان ملك مسلم وملك نصراني ، فركبا في أصحابهما وأخذا تمليخا ، فلمّا صاروا قريباً من الكهف قال لهم تمليخا : يا قوم إنّي أخاف أنّ إخوتي يحسّون بوقع حوافر الخيل والدواب وصلصلة اللجم والسلاح فيظنّون أنّ دقيانوس قد غشيهم فيموتون جميعاً ، فقفوا قليلاً حتى أدخل إليهم فأُخبرهم. فوقف الناس ودخل عليهم تمليخا فوثب إليه الفتية واعتنقوه وقالوا : الحمد لله الذي نجّاك من دقيانوس. فقال : دعوني منكم ومن دقيانوس كم لبثتم؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم. قال : بل لبثتم ثلاثمائة وتسع سنين ، وقد مات دقيانوس وانقرض قرن بعد قرن وآمن أهل المدينة بالله العظيم وقد جاءوكم. فقالوا له : يا تمليخا تريد أن تصيّرنا فتنةً للعالمين؟ قال : فما ذا تريدون؟ قالوا : ارفع يدك ونرفع أيدينا ، فرفعوا أيديهم وقالوا : اللهمّ بحقّ ما أريتنا من العجائب في أنفسنا إلاّ قبضت أرواحنا ولم يطّلع علينا أحد. فأمر الله ملك الموت فقبض أرواحهم وطمس الله باب الكهف ، وأقبل الملكان يطوفان حول الكهف سبعة أيام فلا يجدان له باباً ولا منفذاً ولا مسلكاً ، فأيقنا حينئذٍ بلطيف صنع الله الكريم ، وأنّ أحوالهم كانت عبرة أراهم الله إيّاها. فقال المسلم : على ديني ماتوا وأنا أبني على باب الكهف مسجداً. وقال النصراني : بل ماتوا على ديني فأنا أبني على باب الكهف ديراً. فاقتتل الملكان فغلب المسلم النصراني فبنى على باب الكهف مسجداً ،

٢١٨

فذلك قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١) ، وذلك يا يهوديّ ما كان من قصّتهم».

ثمّ قال عليّ كرّم الله وجهه لليهودي : «سألتك بالله يا يهودي أوافق هذا ما في توراتكم؟»

فقال اليهودي : ما زدت حرفاً ولا نقصت حرفاً يا أبا الحسن ، لا تسمّني يهودياً أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّك أعلم هذه الأُمّة.

قال الأميني : هذه هي سيرة أعلم الأُمّة ، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان. والقصّة ذكرها أبو إسحاق الثعلبي المتوفّى (٤٢٧ ، ٤٣٧) في كتابه العرائس (٢) (ص ٢٣٢ ـ ٢٣٩).

ـ ٤٧ ـ

رأي الخليفة في الزكاة

عن حارثة قال : جاء ناس من أهل الشام إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقالوا : إنّا قد أصبنا أموالاً وخيلاً ورقيقاً نحبّ أن يكون لنا فيها زكاة وطهور. قال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله. واستشار أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيهم عليّ رضى الله عنه فقال عليّ : «هو حسن إن لم يكن جزية راتبة دائبة يؤخذون بها من بعدك».

وعن سليمان بن يسار : أنّ أهل الشام قالوا لأبي عبيدة الجرّاح رضى الله عنه : خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة ؛ فأبى ، ثمّ كتب إلى عمر بن الخطّاب ؛ فأبى ، فكلّموه أيضاً فكتب إليه عمر بن الخطّاب : إن أحبّوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم. قال

__________________

(١) الكهف : ٢١.

(٢) عرائس المجالس : ص ٤١٣ ـ ٤١٩. وانظر أيضاً : قصص الأنبياء لقطب الدين الراوندي : ص ٢٥٥ فصل ٨.

٢١٩

مالك : أي ارددها على فقرائهم (١).

وقال العسكري في أولياته (٢) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (٣) (ص ٩٣) : إنّ عمر أوّل من أخذ زكاة الخيل.

قال الأميني : ظاهر الرواية الأُولى أنّ الخليفة لم يكن يعلم بعدم تعلّق الزكاة بالخيل والرقيق ولذا أناط الحكم بما فعله صاحباه من قبله ، ولم يكن يعلم أيضاً ما فعلاه إلى أن استشار الصحابة ، فأشار مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عدم الزكاة ، واستحسن أن يُؤخذ منهم برّا مطلقاً لو لا أنّه يكون بدعة متّبعة من بعده يؤخذ كجزية ، لكن الخليفة لم يصخ إلى تلك الحكمة البالغة ، ولا أتّبع من سبقه ، فأمر بأخذها وردّها عليهم أو على فقرائهم.

وما علم في الرواية الثانية أنّ حبّ صاحب المال لا يثبت حكماً شرعياً ، وقد نبّهه الإمام عليه‌السلام بأنّها تكون جزية ، هكذا سبق الخليفة في عمله حتى جاء قوم من بعده وجعلوه أوّل من أخذ الزكاة على الخيل ، واعتمدوا على عمله فوقع الشجار بينهم وبين من اتّبع السنّة النبويّة في عدم تعلّق الزكاة بالخيل.

ـ ٤٨ ـ

رأي الخليفة في ليلة القدر

عن عكرمة قال : قال ابن عبّاس : دعا عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) موطّأ مالك : ١ / ٢٠٦ [١ / ٢٧٧ ح ٣٨] ، مسند أحمد : ١ / ١٤ [١ / ٢٦ ح ٨٣] ، سنن البيهقي : ٤ / ١١٨ ، مستدرك الحاكم : ١ / ٤٠١ [١ / ٥٥٧ ح ١٤٥٦ ، وكذا في تلخيصه] ذكر الحديث الأوّل وصحّحه هو والذهبي ، مجمع الزوائد : ٣ / ٦٩ ، ذكر الحديث الأوّل فقال : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات. (المؤلف)

(٢) الأوائل : ص ١٢٢.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٢٨.

٢٢٠