الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

الشمس ـ فرأى أبو سعيد ابن الزبير يصلّيها. قال : فنهيته فأخذ بيدي فذهبنا إلى عائشة ، فقال لها : يا أُمّ المؤمنين إنّ هذا ينهاني ... فقالت : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّيها.

واقتفت أثره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها الصحابة والتابعون طيلة حياته وبعدها ، وممّن رُوي عنه الرخصة في التطوّع بعد العصر : الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، الزبير ، ابن الزبير ، تميم الداري ، النعمان بن بشير ، أبو أيّوب الأنصاري ، عائشة أُمّ المؤمنين ، الأسود بن يزيد ، عمرو بن ميمون ، عبد الله بن مسعود وأصحابه ، بلال ، أبو الدرداء ، ابن عبّاس ، مسروق ، شريح ، عبد الله بن أبي الهذيل ، أبو بردة ، عبد الرحمن بن الأسود ، عبد الرحمن ابن البيلماني ، الأحنف بن قيس (١) وكانوا على هذا ، حتى تقيّض صاحب الدرّة وليس عنده ما يتعلّل به على النهي عنها والزجر عليها سوى خيفة أن يأتي قوم فيواصلوا بين العصر والمغرب بالصلاة.

ألا من مسائل إيّاه عن علّة كراهته ذلك الوصال وليس له من الشريعة أيّ وازع عنه؟ وهب أنّه ارتأى كراهة ذلك الوصال ، فما باله ينهى عن الركعتين وليستا مالئتين للفراغ بين الوقتين العصر والمغرب؟ وعلى فرضه كان الواجب أن ينهى عن الصلاة في أوّل وقت المغرب غير الفريضة التي رأى كراهتها هو ، ولكن أيّ قيمة لرأيه وقد صلّوها على العهد النبويّ بمرأى من صاحب الرسالة ومشهد فلم ينههم عنها (٢)؟

ثمّ الذي خافه عمر من أن يأتي قوم يصلون بين الوقتين بالصلاة هل عزب علمه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشرّع لهم تينك الركعتين بعد العصر؟ أو أنّه علم ذلك ولم يكترث له؟ أم كانت بصيرة الخليفة في الأُمور أقوى من بصيرة النبيِّ الأعظم؟

__________________

(١) طرح التثريب في شرح التقريب للحافظ العراقي : ٢ / ١٨٦. (المؤلف)

(٢) كما في صحيح مسلم ١ / ٣١٠ [٢ / ٢٤٧ ح ٣٠٢ كتاب صلاة المسافرين] ، ومسند أبي داود : ص ٢٧٠ [ح ٢٠٢١] وغيرهما. (المؤلف)

٢٦١

لاها الله لا ذلك ولا هذا ، لكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم ذلك كلّه ولم يرَ بأساً بما خافه عمر.

وبما ذا استحقّ أُولئك الأخيار من الصحابة الضرب بالدرّة والفضيحة بملإ من الأشهاد نصب عيني النبيّ الأقدس قرب مشهده الطاهر؟ والذين يأتون بما كرهه أقوام من رجال المستقبل لم يرتكبوه بعد ، أو أنّه لم تنعقد نطفهم حتى تلك الساعة وهو يعترف بأنّهم ليسوا من أُولئك ، ولعلّ الخليفة كان يرى جواز القصاص قبل جناية غير المقتصّ منه. هلمَّ وأعجب!

وكأنّ الخليفة في آرائه هذه الخاصّة به كان ذاهلاً عن قوله هو : احذروا هذا الرأي على الدين فإنّما كان الرأي من رسول الله مصيباً لأنّ الله كان يريه ، وإنّما هو هنا تكلّف وظنّ ، وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً (١).

ـ ٦٣ ـ

رأي الخليفة في العجم

روى مالك ـ إمام المالكيّة ـ عن الثقة عنده أنّه سمع سعيد بن المسيّب يقول : أبى عمر بن الخطّاب أن يورّث أحداً من الأعاجم إلاّ أحداً ولد في العرب.

قال مالك : وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدوّ فوضعته في أرض العرب فهو ولدها يرثها إن ماتت ، وترثه إن مات ، ميراثها في كتاب الله. الموطّأ (٢) (٢ / ١٢).

قال الأميني : هذا حكم حدت إليه العصبيّة المحضة ، وإنّ التوارث بين المسلمين عامّة عرباً كانوا أو أعاجم أينما ولدوا وحيثما قطنوا من ضروريات دين الإسلام ،

__________________

(١) أخرجه أبو عمر في العلم : ٢ / ١٣٤ [ص ٣٦٣ ح ١٧٥٩] ، وابن أبي حاتم كما في الدرّ المنثور : ٦ / ١٢٧ [٧ / ٦٥٤]. (المؤلف)

(٢) موطّأ مالك : ٢ / ٥٢٠ ح ١٤ كتاب الفرائض.

٢٦٢

وعليه نصوص الكتاب والسنّة ، فعمومات الكتاب لم تُخصَّص ، وليس من شروط التوارث الولادة في أرض العرب ولا العروبة من شروط الإسلام ، وهذه العصبيّة إلى أمثالها في موارد لا تحصى هي التي تفكّك عرى الاجتماع ، وتشتّت شمل المسلمين ، وإنّما المسلمون كأسنان المشط لا تفاضل بينهم إلاّ بالتقوى ، والله سبحانه يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١). ويقول : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢). ويقول : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) (٣).

وهذا هتاف النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له يوم الحجّ الأكبر في ذلك المحتشَد الرحيب بقوله :

«أيّها الناس إنّما المؤمنون إخوة ، ولا يحلّ لامرئً مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه ، ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد. فلا ترجعُنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلّوا بعده : كتاب الله (٤) ، ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد.

أيّها الناس إنّ ربّكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، كلّكم لآدم ، وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربيّ على عجميّ فضل إلاّ بالتقوى ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد ، قالوا : نعم. قال : فليبلّغ الشاهد الغائب» (٥).

وفي لفظ أحمد (٦) : «ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ ، ولا لعجميّ على عربيّ ،

__________________

(١) الحجرات : ١٠.

(٢) الحجرات : ١٣.

(٣) فصّلت : ٤٤.

(٤) في تاريخ اليعقوبي والعقد الفريد بعد هذه العبارة : وأهل بيتي.

(٥) البيان والتبيين : ٢ / ٢٥ [٢ / ٢٣] ، العقد الفريد : ٢ / ٨٥ [٣ / ٢٣٨] ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٩١ [٢ / ١١١]. (المؤلف)

(٦) مسند أحمد : ٦ / ٥٧٠ ح ٢٢٩٧٨.

٢٦٣

ولا أسود على أحمر ، ولا أحمر على أسود إلاّ بالتقوى» (٧). قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح.

وفي لفظ الطبراني في الكبير (٨) :

«يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم. فليس لعربيّ على عجميّ فضل ، ولا لعجمي على عربي فضل ، ولا لأسود على أحمر فضل ، ولا لأحمر على أسود فضل إلاّ بالتقوى». الحديث مجمع الزوائد (٣ / ٢٧٢).

وفي لفظ ابن القيّم : «لا فضل لعربي على عجميّ ، ولا لعجميّ على عربيّ ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض إلاّ بالتقوى ، الناس من آدم وآدم من تراب». زاد المعاد (٩) (٢ / ٢٢٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحيحة أخرجها البيهقي (١٠) : «ليس لأحد على أحد فضل إلاّ بالدين أو عمل صالح». الجامع الصغير للسيوطي (١١) وصحّحه.

ولو فرضنا مفاضلة بالعنصريات فتلك في غير الأحكام والنواميس المطّردة ، وما أحوج المسلمين من أوّل يومهم إلى التآخي والتساند تجاه سيل الإلحاد الأتيّ ، لكن كثيراً منهم يتأثّرون بتسويلات أجنبية من حيث لا يشعرون ، فأهواء مردية تحدوهم إلى التشعّب ، وآراء فاسدة تفتّ في عضد الجامعة ، ونزعات طائفية ، ونعرات قومية ، وعوامل داخلية ، وعواطف حزبية تلهينا عن سدّ الثغور.

__________________

(٧) مجمع الزوائد : ٣ / ٢٦٦. (المؤلف)

(٨) المعجم الكبير : ١٨ / ١٣ ح ١٦.

(٩) زاد المعاد : ٤ / ٢٢.

(١٠) شعب الإيمان : ٥ / ٢٨٦ ح ٦٦٧٧.

(١١) الجامع الصغير : ٢ / ٤٦٣ ح ٧٦٦٢.

٢٦٤

أضف إلى ذلك كلّه نزعات شعوبية ، وتبجّحات بالعروبة فحسب ، فهذه كلّها تفضي إلى شقّ العصا ، وتفريق الكلمة ، ونصب عين الكلّ تعليمات النبيّ الأقدس ، وتقديره الشخصيات المحلاّة بالفضائل من مختلف العناصر بمثل قوله : «سلمان منّا أهل البيت» (١) وقوله : «لو كان العلم بالثريّا لتناوله ناس من أبناء فارس» (٢) إلى الكثير الطيّب من أمثاله.

فعلى المسلم أن لا يتّخذ تلكم الآراء الشاذة خطّة لنفسه ، ولا يصفح عن قول النبيّ الأمين : «ليس منّا من دعا إلى عصبية ، وليس منّا من قاتل على عصبية ، وليس منّا من مات على عصبية» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قاتل تحت راية عميّة يغضب للعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية». سنن البيهقي (٨ / ١٥٦).

ـ ٦٤ ـ

تجسّس الخليفة بالسعاية

أخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن الحسن رضى الله عنه ، قال : أتى عمر بن الخطّاب رجل فقال : إنّ فلاناً لا يصحو. فدخل عليه عمر رضى الله عنه فقال : إنّي لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا؟ فقال الرجل : يا ابن الخطّاب وأنت بهذا؟ ألم ينهك الله أن تجسّس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه. الدرّ المنثور (٤) (٦ / ٩٣)

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ٥٩٨ [٣ / ٦٩١ ح ٦٥٣٩] ، شرح مختصر صحيح البخاري لأبي محمد الأزدي : ٢ / ٤٦. (المؤلف)

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٤٢٠ ، ٤٢٢ [٣ / ١٤٩ ح ٩١٥٣ و ١٥٣ ح ٩١٧٧] ، وأخرجه ابن قانع بإسناده بلفظ : «لو كان الدين معلّقاً بالثريّا لتناوله قوم من أبناء فارس» ، الإصابة : ٣ / ٤٥٩ [رقم ٨٢١١]. (المؤلف)

(٣) سنن أبي داود : ٢ / ٣٣٢ [٤ / ٣٣٢ ح ٥١٢١]. (المؤلف)

(٤) الدرّ المنثور : ٧ / ٥٦٧.

٢٦٥

قال الأميني : أترى الخليفة كيف رتّب الأثر على التهمة من غير بيّنة؟ من دون أن ينهى المخبر المتّهم عمّا ارتكبه من الوقيعة في أخيه المسلم بالبهت وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا أو اغتياب الرجل ، فوقع من جرّاء ذلك كلّه في محظور آخر من التجسّس المنهيّ عنه بنصّ الذكر الحكيم ، لكنّه سرعان ما ارتدع بلفت الرجل نظره إلى الحكم الشرعي.

ـ ٦٥ ـ

[استئذان الخليفة من عائشة]

عن عمرو بن ميمون قال : قال عمر بن الخطّاب لابنه عبد الله : انطلق إلى عائشة أُمّ المؤمنين فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل : أمير المؤمنين ، فإنّي لست اليوم للمؤمنين أميراً وقل : يستأذن عمر بن الخطّاب أن يدفن مع صاحبيه. فمضى فسلّم واستأذن ثمّ دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. قالت : كنت أُريده لنفسي ولأوثرنَّ به اليوم على نفسي. فلمّا أقبل قيل : هذا عبد الله بن عمر قد جاء ، فقال : ارفعوني. فأسنده رجل إليه فقال : ما لديك؟ قال : الذي يحبّ أمير المؤمنين أذنت ، قال : الحمد لله ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك المضجع ، فإذا أنا قضيت فاحملوني وإن ردّتني فردّوني إلى مقابر المسلمين (١).

قال الأميني : ليت الخليفة عرّفنا ما وجه الاستئذان من عائشة؟ فهل ملكت هي حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإرث؟ فأين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المزعوم : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة؟ وبذلك زحزحوا عن الصديقة الطاهرة فدكاً ، وبذلك منع

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٢٦٣ و ٥ / ٢٦٦ [١ / ٤٦٩ ح ١٣٢٨ ، و ٣ / ١٣٥٥ ح ٣٤٩٧] ، وأخرجه جمع كثير من الحفّاظ وأئمّة الحديث لا نطيل بذكرهم المقام. (المؤلف)

٢٦٦

أبو بكر عائشة وبقيّة أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا جئن إليه يطلبن ثُمنهنّ (١) ، وإن كان الخليفة عدل عن ذلك الرأي لما انكشف له من عدم صحّة الرواية فإنّ ورثة ابنة رسول الله كانوا أولى بالإذن فإنّها هي المالكة إذن ، وأمّا عائشة فلها التسع من الثمن فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي عن تسع ، فكان الذي يلحق عائشة من الحجرة الشريفة التسع من الثمن ، وما عسى أن يكون من ذلك لها إلاّ شبراً أو دون شبرين وذلك لا يسع دفن جثمان الخليفة ، وهب أنّه كان يضمّ إلى ذلك نصيب ابنته حفصة فإنّ الجميع يقصر عن ذلك المضطجع ، فالتصرّف في تلك الحجرة الشريفة من دون رخصة من يملكها من العترة النبويّة الطاهرة وأُمّهات المؤمنين لا يلائم ميزان الشرع المقدّس.

ربّما يقرأ القارئ في المقام ما جاء به ابن بطّال من قوله : إنّما استأذنها عمر لأنّ الموضع كان بيتها وكان لها فيه حقّ (٢). فيحسب هناك حقّا لأُمِّ المؤمنين يستدعي ذلك الاستئذان ويصحّحه ، وإن هو إلاّ حقّ السكنى ومجرّد إضافة البيت إلى عائشة وهما لا يوجبان الملك ، قال ابن حجر في فتح الباري (٣) (٧ / ٥٣) : استدلّ به وباستئذان عمر لها على ذلك على أنّها كانت تملك البيت وفيه نظر ، بل الواقع أنّها كانت تملك منفعته بالسكنى فيه والإسكان ولا يورث عنها ، وحكم أزواج النبيّ كالمعتدّات لأنّهنّ لا يتزوّجن بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. انتهى.

وقال (٤) في (٦ / ١٦٠) : ويؤيّده ـ يعني عدم الملك ـ أنّ ورثتهنّ لم يرثن عنهنّ منازلهنّ ، ولو كانت البيوت ملكاً لهنّ لانتقلت إلى ورثتهنّ وفي ترك ورثتهنّ حقوقهم دلالة على ذلك ، ولهذا زيدت بيوتهنّ في المسجد النبويّ بعد موتهنّ لعموم نفعه

__________________

(١) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٩٠ [٣ / ٣٦١]. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ٣ / ٢٠٠ [٧ / ٦٦]. (المؤلف)

(٣) فتح الباري : ٧ / ٦٦.

(٤) فتح الباري : ٦ / ٢١١.

٢٦٧

للمسلمين كما فعل فيما كان يصرف لهنّ من النفقات. والله أعلم. انتهى.

وقال العيني في عمدة القاري (١) (٧ / ١٣٢) في حديث عائشة : لمّا ثقل رسول الله استأذن أزواجه أن يمرّض في بيتي ، أسندت البيت إلى نفسها ، ووجه ذلك أنّ سكنى أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيوت النبيّ من الخصائص ، فلمّا استحققن النفقة لحبسهنّ استحققن السكنى ما بقين ، فنبّه البخاري بسوق أحاديث هذا الباب وهي سبعة على أنّ بهذه النسبة تحقّق دوام استحقاق سكناهنّ للبيوت ما بقين. انتهى.

وقال القسطلاني في إرشاد الساري (٢) (٥ / ١٩٠) : أسندت عائشة البيت إلى نفسها ، ووجه ذلك أنّ سكن أزواجه عليه الصلاة والسلام في بيوته من الخصائص ، فكما استحققن النفقة لحبسهنّ استحققن السكنى ما بقين ، فنبّه على أنّ بهذه النسبة تحقّق دوام استحقاقهنّ لسكنى البيوت ما بقين. انتهى.

فالقارئ جِدّ عليم عندئذٍ بأنّ أُمّ المؤمنين لم يكن لها من حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ السكنى فيها كالمعتدّة ، وليس لها قطّ أن تتصرّف فيها بما يترتّب على الملك.

والخطب الفظيع عدّ الحفّاظ هذا الاستئذان وهذا الدفن من مناقب الخليفة ذاهلين عن قانون الإسلام العامّ في التصرّف في أموال الناس.

ولست أدري بأيّ حقّ أوصى الإمام الحسن السبط الزكي صلوات الله عليه أن يدفن في تلك الحجرة الشريفة؟ وهل منعته عائشة عن أن يدفن بها؟ أو أذنت له وما أُطيعت؟ ـ ولا رأي لمن لا يُطاع ـ فتسلّح بنو أُميّة وقالوا : لا ندعه يدفن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكاد أن تقع الفتنة (٣) لمَ هذه كلّها؟ أنا لا أدري.

__________________

(١) عمدة القاري : ١٥ / ٢٩.

(٢) إرشاد الساري : ٧ / ١٩ ح ٣٠٩٩.

(٣) تاريخ ابن كثير : ٨ / ٤٤ [٨ / ٤٨ حوادث سنة ٤٩ ه‍] وجملة أُخرى من معاجم السِّيَر. (المؤلف)

٢٦٨

ـ ٦٦ ـ

خطبة الخليفة في الجابية

عن عليّ بن رباح اللخمي ، قال : إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه خطب الناس فقال : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أُبيّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأتِ معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأتِ زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإنِّي له خازن. وفي لفظ : فإنّ الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً.

أخرجه (١) أبو عبيد المتوفّى (٢٢٤) في كتابه الأموال (ص ٢٢٣) بإسناد رجاله كلّهم ثقات ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢١٠) ، والحاكم في المستدرك (٣ / ٢٧١ ، ٢٧٢) ، مجمع الزوائد (١ / ١٣٥) ، ويُذكر في العقد الفريد (٢ / ١٣٢) ، وسيرة عمر لابن الجوزي (ص ٨٧) ، وأُشير إليه في معجم البلدان (٣ / ٣٣) فقال : في الجابية خطب عمر ابن الخطّاب رضى الله عنه خطبته المشهورة. وجاء في ترجمة كثيرين أنَّهم سمعوا خطبة عمر في الجابية.

إسناده من طريق أبي عبيد :

١ ـ الحافظ عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي ، أبو صالح الكوفي المتوفّى (٢٢١) ، وثّقه ابن معين ، وابن خراش ، وابن بكر الأندلسي ، وابن حبّان (٢) ، وهو من مشايخ البخاري في صحيحه (٣).

__________________

(١) كتاب الأموال : ص ٢٨٥ ح ٥٤٨ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٠٥ ح ٥١٨٧ و ٣٠٦ ح ٥١٩١ ، العقد الفريد : ٣ / ٢٤٠ ، تاريخ عمر بن الخطّاب : ص ٩٤ ، معجم البلدان : ٢ / ٩١.

(٢) الثقات : ٨ / ٣٥٢.

(٣) تهذيب التهذيب : ٥ / ٢٦١ [٥ / ٢٢٩] ، خلاصة الكمال : ص ١٧٠ [٢ / ٦٦ رقم ٣٥٦٨]. (المؤلف)

٢٦٩

٢ ـ موسى بن عليّ بن رباح اللخمي ، أبو عبد الرحمن المصري المتوفّى (١٦٣) ، وثّقه (١) أحمد ، وابن سعد ، وابن معين ، والعجلي ، والنسائي ، وأبو حاتم ، وابن شاهين ، واحتجّ به أربعة من أئمّة الصحاح الستّة (٢).

٣ ـ عليّ بن رباح اللخمي التابعي ، أبو عبد الله ـ أبو موسى ـ المولود سنة (١٠) والمتوفّى (١١٤ ، ١١٧) ، وثّقه (٣) ابن سعد ، والعجلي ، ويعقوب بن سفيان ، والنسائي ، وابن حبّان ، واحتجّ به أربعة من أئمّة الصحاح (٤).

في هذه الخطبة الثابتة المرويّة عن الخليفة بطرق صحيحة كلّ رجالها ثقات ، وصحّحها الحاكم والذهبي ، اعتراف بأنّ المنتهى إليه في العلوم الثلاثة أُولئك النفر المذكورون فحسب ، وليس للخليفة إلاّ أنّه خازن مال الله ، وهل ترى من المعقول أن يكون خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أُمّته في شرعه ودينه وكتابه وسنّته وفرائضه فاقداً لهاتيك العلوم؟ ويكون مرجعه فيها لفيفاً من الناس كما تُنبئ عنه سيرته ، فعلامَ هذه الخلافة؟ وهل تستقرُّ بمجرّد الأمانة ، وليست بعزيزة في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وما وجه الاختصاص به؟ نعم ، وقع النصُّ عليه ممّن سبقه في الخلافة على غير طريقة القوم في الخليفة الأوّل.

وشتّان بين هذا القائل وبين من لم يزل يعرض نفسه لعويصات المسائل ومشكلات العلوم فيحلّها عند السؤال عنها من فوره ، ويرفع عقيرته على صهوات المنابر بقوله سلام الله عليه : «سلوني قبل أن لا تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي».

__________________

(١) العلل ومعرفة الرجال : ٢ / ٢٠٨ رقم ٢٠٣٢ ، الطبقات الكبرى : ٧ / ٥١٥ ، تاريخ الثقات : ص ٤٤٤ رقم ١٦٦٢ ، الجرح والتعديل : ٨ / ١٥٣ رقم ٦٩١ ، تاريخ أسماء الثقات : ص ٣٠٤ رقم ١٢٨٣.

(٢) تهذيب التهذيب : ١٠ / ٣٦٣ [١٠ / ٣٢٣] ، خلاصة الكمال : ص ٣٣٦ [٣ / ٦٨ رقم ٧٢٩٥]. (المؤلف)

(٣) الطبقات الكبرى : ٧ / ٥١٢ ، تاريخ الثقات : ص ٣٤٦ رقم ١١٨٤ ، الثقات : ٥ / ١٦١.

(٤) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣١٨ [٧ / ٢٨٠] ، خلاصة الكمال : ص ٢٣١ [٢ / ٢٤٨ رقم ٤٩٨٢]. (المؤلف)

٢٧٠

أخرجه الحاكم في المستدرك (١) ، (٢ / ٤٦٦) وصحّحه هو والذهبي في تلخيصه.

وقوله عليه‌السلام : «لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا سنّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنبأتكم بذلك». أخرجه ابن كثير في تفسيره (٤ / ٢٣١) من طريقين وقال : ثبت أيضاً من غير وجه.

وقوله عليه‌السلام : «سلوني ، والله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل».

أخرجه (٢) أبو عمر في جامع بيان العلم (١ / ١١٤) ، والمحبّ الطبري في الرياض (٢ / ١٩٨) ، ويوجد في تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١٢٤) ، والإتقان (٢ / ٣١٩) ، تهذيب التهذيب (٧ / ٣٣٨) ، فتح الباري (٨ / ٤٨٥) ، عمدة القاري (٩ / ١٦٧) ، مفتاح السعادة (١ / ٤٠٠).

وقوله عليه‌السلام : «ألا رجل يسأل فينتفع وينفع جلساءه».

أخرجه (٣) أبو عمر في جامع بيان العلم (١ / ١١٤) ، وفي مختصره (ص ٧٥).

وقوله عليه‌السلام : «والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم أُنزلت ، وأين أُنزلت ، إنّ ربِّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً».

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (١ / ٦٨) ، وذكره صاحب مفتاح السعادة (١ / ٤٠٠).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٥٠٦ ح ٣٧٣٦ ، وكذا في تلخيصه.

(٢) جامع بيان العلم : ص ١٣٧ ح ٦٧٣ ، الرياض النضرة : ٣ / ١٤٧ ، تاريخ الخلفاء : ص ١٧٣ ، الإتقان في علوم القرآن : ٤ / ٢٠٤ ، تهذيب التهذيب : ٧ / ٢٩٧ ، فتح الباري : ٨ / ٥٩٩ ، عمدة القاري : ١٩ / ١٩٠ ، مفتاح السعادة : ٢ / ٥٥.

(٣) جامع بيان العلم : ص ١٣٧ ح ٦٧١ ، مختصر جامع بيان العلم : ص ١٠٤ رقم ٨٢.

٢٧١

وقوله عليه‌السلام : «سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، وما من آية إلاّ وأنا أعلم حيث أُنزلت بحضيض جبل أو سهل أرض ، وسلوني عن الفتن فما من فتنة إلاّ وقد علمت من كسبها ومن يُقتل فيها».

أخرجه إمام الحنابلة أحمد وقال : روي عنه نحو هذا كثيراً. ينابيع المودّة (١) (ص ٢٧٤).

وقوله عليه‌السلام ، وهو على منبر الكوفة وعليه مدرعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو متقلّد بسيفه ، ومتعمّم بعمامته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجلس على المنبر وكشف عن بطنه فقال : «سلوني قبل أن تفقدوني فإنّما بين الجوانح منِّي علم جمّ ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا ما زقّني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زقّا زقّا ، فو الله لو ثُنِيتْ لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى يُنطق الله التوراة والإنجيل فيقولان : صدق عليّ قد أفتاكم بما أُنزل فيَّ وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون».

أخرجه شيخ الإسلام الحمّوئي في فرائد السمطين (٢) ، عن أبي سعيد.

وقال سعيد بن المسيّب : لم يكن أحد من الصحابة يقول : سلوني ، إلاّ عليّ بن أبي طالب (٣) وكان إذا سُئل عن مسألة يكون فيها كالسكّة المحماة ويقول :

إذا المُشْكِلاتُ تصدَّين لي

كشفتُ حقائقَها بالنظرْ

فإن بَرِقَتْ في مخيل الصوا

ب عمياء لا يجتليها البصرْ

__________________

(١) ينابيع المودّة : ١ / ٧٢ باب ١٤.

(٢) فرائد السمطين : ١ / ٣٤١ ح ٢٦٣ باب ٦٣.

(٣) أخرجه أحمد في المناقب [ص ١٥٣ ح ٢٢٠] ، والبغوي في المعجم ، وأبو عمر في العلم : ١ / ١١٤ [ص ١٣٧ ح ٦٧٢] وفي مختصره : ص ٥٨ [ص ١٠٤ ح ٨٢] ، والمحب الطبري في الرياض : ٢ / ١٩٨ [٣ / ١٤٦] ، وابن حجر في الصواعق : ص ٧٦ [ص ١٢٧]. (المؤلف)

٢٧٢

مقنَّعة بغيوبِ الأُمورِ

وضعتُ عليها صحيحَ الفكرْ

لساناً كشقشقةِ الأرحبيِ

أو كالحسامِ اليمانيّ الذكرْ

وقلباً إذا استنطقتْهُ الفنو

نُ أبرّ عليها بواهٍ دررْ

ولستُ بإمّعة في الرجا

لِ يُسائل هذا وذا ما الخبرْ

ولكنّني مذربُ الأصغرينِ (١)

أُبيّنُ مع ما مضى ما غبرْ

أخرجها (٢) أبو عمر في العلم (٢ / ١١٣) ، وفي مختصره (ص ١٧٠) ، والحافظ العاصمي في زين الفتى شرح سورة هل أتى ، والقالي في أماليه ، والحصري القيرواني في زهر الآداب (١ / ٣٨) ، والسيوطي في جمع الجوامع كما ترتيبه (٥ / ٢٤٢) ، والزبيدي الحنفي في تاج العروس (٥ / ٢٦٨) نقلاً عن الأمالي ، وذكر منها البيتين الأخيرين الميداني في مجمع الأمثال (٢ / ٣٥٨).

لفت نظر :

لم أرَ في التاريخ قبل مولانا أمير المؤمنين من عرض نفسه لمعضلات المسائل وكراديس الأسئلة ، ورفع عقيرته بجأش رابط بين الملأ العلمي بقوله : سلوني ، إلاّ صنوه النبيّ الأعظم ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكثر من قوله : «سلوني عمّا شئتم». وقوله : «سلوني ، سلوني». وقوله : «سلوني ولا تسألوني عن شيء إلاّ أنبأتكم به» (٣). فكما ورث أمير المؤمنين علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورث مكرمته هذه وغيرها ، وهما صنوان في المكارم كلّها.

__________________

(١) قال أبو عمر : المذرب : الحادّ. وأصغراه : قلبه ولسانه. (المؤلف)

(٢) جامع بيان العلم : ص ٣٤٠ ح ١٦٧١ ، مختصر جامع بيان العلم : ص ٢٩٧ ح ٢٢٢ ، الأمالي للقالي : ٢ / ١٠١ ، زهر الآداب : ١ / ٧٧ ، كنز العمّال : ١٠ / ٣٠٣ ح ٢٩٥٢١ ، مجمع الأمثال : ٣ / ٤٨٣ رقم ٤٥٤٥.

(٣) صحيح البخاري : ٢ / ٤٦ ، ١٠ / ٢٤٠ ، ٢٤١ [١ / ٢٠٠ ح ٥١٥ و ٦ / ٢٦٦٠ ح ٦٨٦٤] ، مسند أحمد : ١ / ٢٧٨ [١ / ٤٥٨ ح ٢٥١٠] ، مسند أبي داود : ص ٣٥٦ [ح ٢٧٣١]. (المؤلف)

٢٧٣

وما تفوّه بهذا المقال أحد بعد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلاّ وقد فضح ووقع في ربيكة ، وأماط بيده الستر عن جهله المطبق نظراء :

١ ـ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي ، والي مكة والمدينة والموسم لهشام بن عبد الملك ، حجَّ بالناس سنة (١٠٧) وخطب بمنى ثمّ قال : سلوني فأنا ابن الوحيد ، ولا تسألوا أحداً أعلم منّي. فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأُضحية أواجبة هي؟ فما درى أيّ شيء يقول له ، فنزل عن المنبر. تاريخ ابن عساكر (١) (٢ / ٣٠٥)

٢ ـ مقاتل بن سليمان ، قال إبراهيم الحربي : قعد مقاتل بن سليمان فقال : سلوني عمّا دون العرش إلى لويانا. فقال له رجل : آدم حين حجَّ من حلق رأسه؟ قال : فقال له : ليس هذا من عملكم ، ولكنّ الله أراد أن يبتليني بما أعجبتني نفسي. تاريخ الخطيب البغدادي (١٣ / ١٦٣).

٣ ـ قال سفيان بن عيينة ، قال مقاتل بن سليمان يوماً : سلوني عمّا دون العرش. فقال له إنسان : يا أبا الحسن أرأيت الذرّة أو النملة أمعاؤها في مقدّمها أو مؤخّرها؟ قال : فبقي الشيخ لا يدري ما يقول له. قال سفيان : فظننت أنّها عقوبة عوقب بها. تاريخ الخطيب البغدادي (١٣ / ١٦٦)

٤ ـ قال موسى بن هارون الحمّال : بلغني أنّ قتادة قدم الكوفة فجلس في مجلس له وقال : سلوني عن سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أُجيبكم. فقال جماعة لأبي حنيفة : قم إليه فسله. فقام إليه فقال : ما تقول يا أبا الخطّاب في رجل غاب عن أهله فتزوّجت امرأته ، ثمّ قدم زوجها الأوّل فدخل عليها ، وقال : يا زانية تزوّجت وأنا حيّ؟ ثمّ دخل زوجها الثاني فقال لها : تزوّجتِ يا زانية ولك زوج. كيف اللعان؟ فقال قتادة : قد وقع هذا؟

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٧ / ٢٥٩ رقم ٥٣٥ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٤ / ١٧٥.

٢٧٤

فقال له أبو حنيفة : وإن لم يقع نستعدّ له. فقال له قتادة : لا أُجيبكم في شيء من هذا سلوني عن القرآن. فقال له أبو حنيفة : ما تقول في قوله عزّ وجلّ : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ) (١) من هو؟ قال قتادة : هذا رجل من ولد عمِّ سليمان ابن داود كان يعرف اسم الله الأعظم. فقال أبو حنيفة : أكان سليمان يعلم ذلك الاسم؟ قال : لا. قال : سبحان الله ويكون بحضرة نبيّ من الأنبياء من هو أعلم منه؟ قال قتادة : لا أُجيبكم في شيء من التفسير ، سلوني عمّا اختلف الناس فيه. فقال له أبو حنيفة : أمؤمن أنت؟ قال أرجو. قال له أبو حنيفة : فهلاّ قلت كما قال إبراهيم فيما حكى الله عنه حين قال له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) (٢) قال قتادة : خذوا بيدي والله لا دخلت هذا البلد أبداً. الانتقاء لأبي عمر ـ صاحب الاستيعاب (ص ١٥٦)

٥ ـ حكي عن قتادة أنّه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس فقال : سلوا عمّا شئتم وكان أبو حنيفة حاضراً ـ وهو يومئذٍ غلام حدث ـ فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أُنثى؟ فسألوه فأُفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أُنثى. فقيل له : كيف عرفت ذلك؟ فقال : من قوله تعالى : (قالَتْ). ولو كانت ذكراً لقال : قال نملة ، مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأُنثى. حياة الحيوان (٣) (٢ / ٣٦٨)

٦ ـ قال عبيد الله بن محمد بن هارون : سمعت الشافعي بمكة يقول : سلوني عمّا شئتم أُحدّثكم من كتاب الله وسنّة نبيّه ، فقيل : يا أبا عبد الله ما تقول في محرم قتل زنبوراً؟ قال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (٤). طبقات الحفّاظ للذهبي (٥) (٢ / ٢٨٨)

__________________

(١) النمل : ٤٠.

(٢) البقرة : ٢٦٠.

(٣) حياة الحيوان : ٢ / ٣٧٧.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) تذكرة الحفّاظ : ٢ / ٧٥٥ رقم ٧٥٦.

٢٧٥

ـ ٦٧ ـ

[الخليفة وتعلّم سورة البقرة]

أخرج الخطيب في رواة مالك ، والبيهقي في شعب الإيمان (١) ، والقرطبي في تفسيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال : تعلّم عمر سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة ، فلمّا ختمها نحر جزوراً (٢).

وقال القرطبي في تفسيره (٣) (١ / ١٣٢) : تعلّمها عمر رضى الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة.

قال الأميني : هذا ينمُّ إمّا عن عدم انعطاف الخليفة على القرآن واهتمامه به مع أنّه أهمُّ أُصول الإسلام ، وقد انطوى فيه مهمّات علومه حتى أنّه تبطّأ في تعلّم سورة منه إلى غاية ذلك الأمد المتطاول ، ولعلّه كان قد ألهاه عن ذلك الصفق بالأسواق كما ورد في غير واحد من هذه الآثار ، واعتذر به هو وغيره من الصحابة ، وإمّا عن قصور في فطنته وذكائه وجمود في القريحة يأبى عن انعكاس ما يُلقى إليه فيها ، فيحتاج إلى تكرار ومثابرة كثيرة وترديد حتى ينتقش ما همَّ بتعلّمه في الذاكرة.

وقد يؤكّد الثاني ما مرّ في صحيفة (١١٦) من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «إنّي أظنّك تموت قبل أن تعلم ذلك» وما ذكر في (ص ١٢٨) من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحفصة : «ما أرى أباك يعلمها». وقوله : «ما أراه يقيمها».

__________________

(١) شعب الإيمان : ٢ / ٣٣١ ح ١٩٥٧.

(٢) تفسير القرطبي : ١ / ٣٤ [١ / ٣٠ وفي ص ٣١ : أنّه حفظها في بضع عشرة سنة] ، سيرة عمر لابن الجوزي : ص ١٦٥ [ص ١٧١] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ١١١ [١٢ / ٦٦ خطبة ٢٢٣] ، الدرّ المنثور : ١ / ٢١ [١ / ٥٤]. (المؤلف)

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ١ / ١٠٧.

٢٧٦

ويساعد هذا ما في الكتب من أنّ عمر كان أعلم وأفقه من عثمان ، ولكن كان يعسر عليه حفظ القرآن (١).

وأيّا ما كان فإنّ مدّة التعلّم هذه لا يمكن أن تكون على العهد النبوي ، فإنّ سورة البقرة نزلت بالمدينة عند جميع المفسّرين غير آيات نزلت في حجّة الوداع ، وقالت عائشة : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلاّ وأنا عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وتوفِّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ربيع الأوّل ـ على ما ذهب إليه القوم ـ من السنة الحادية عشرة من مهاجرته ، ومع ذلك لم يؤثر تعلّمه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا بدّ أن يكون تعلّمه عند أحد الصحابة أو عند لفيفٍ منهم ، وهم الذين يقول القائل : فإنّ الخليفة كان أعلمهم على الإطلاق!

ويشهد هذا أيضاً على خلوّ الرجل من أكثر علوم القرآن الموجودة في بقية السور ، فإنّ تعلّمها على هذا القياس يستدعي أكثر من مائة وثلاثين عاماً حسب أجزاء القرآن الكريم ، فيفتقر الخليفة على هذا الحساب في تعلّم جميع القرآن إلى ما يقرب من مائة وخمسين عاماً ، ولا يفي بذلك عمر الخليفة ، على أنّ الأحكام في غير البقرة من السور أكثر ممّا فيها ، فكان خليفةً ومتعلّماً ـ والخليفة هو معلّم الناس لا المتعلّم منهم ـ ولهذا كان لا يهتدي إلى جملة من الأحكام الموجودة في القرآن ، وكان يحسب أبسط شيء من معانيه تعمّقاً وتكلّفاً ويدّعي أنّه نُهي عنه (٣) ، وكان يقول : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أُبيّ بن كعب. إلى آخر ما مرّ عنه (ص ١٩١).

هذا شأن الخليفة قبل طروّ النسيان عليه ، وأمّا بعده فروى محمد بن سيرين : أنّ عمر في آخر أيّامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة ، فجعل أمامه

__________________

(١) عمدة القاري : ٢ / ٧٣٣ [٥ / ٢٠٣] نقلاً عن النهاية. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ٨ / ١٣٠ [٨ / ١٦٠]. (المؤلف)

(٣) راجع صحيفة : ٩٩ ، ١٠٠ من هذا الجزء. (المؤلف)

٢٧٧

رجلاً يلقّنه ، فإذا أومأ إليه أن يقوم أو يركع فعل (١).

وإن تعجب فعجب أنّه مع ذلك كلّه ما كان يتنصّل عن الحكم ، ولا يرعوي عن الإفتاء ، وإن كان يظهر خطؤه في كثير منها.

وبأبه اقتدى عديّ في الكرم!

أخرج مالك في الموطّأ (٢) (١ / ١٦٢) : إنّ عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلّمها ، وذكره القرطبي في تفسيره (٣) (١ / ٣٤) ، وقال العيني في عمدة القاري (٤) (٢ / ٧٣٢) : حفظ عبد الله بن عمر سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة ، وفي طبقات ابن سعد (٥) كما في تنوير الحالك في شرح الموطّأ لمالك (٦) (١ / ١٦٢) : إنّ ابن عمر تعلّم سورة البقرة في أربع سنين. قال الباجي : لأنّه كان يتعلّم فرائضها وأحكامها وما يتعلّق بها.

رأي الخليفة في المتعتين

ـ ٦٨ ـ

متعة الحجّ

١ ـ عن أبي رجاء قال : قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحجّ ، ولم ينه عنها

__________________

(١) سيرة عمر بن الخطّاب لابن الجوزي : ص ١٣٥ [ص ١٦٩] ، شرح بن أبي الحديد : ٣ / ١١٠ [١٢ / ٦٥ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٢) موطّأ مالك : ١ / ٢٠٥ ح ١١.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٣٠ ، ١٠٧.

(٤) عمدة القاري : ٥ / ٢٠٣.

(٥) الطبقات الكبرى : ٤ / ١٦٤.

(٦) تنوير الحالك في شرح الموطّأ لمالك : ١ / ٢٠٩.

٢٧٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى مات ، قال رجل برأيه بعد ما شاء (١).

صورة أخرى لمسلم (٢) :

تمتّعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينزل فيه القرآن ، قال رجل برأيه ما شاء. وفي لفظ آخر له : تمتّع نبيُّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتمتّعنا معه. وفي لفظ رابع له : أعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع بين حجٍّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما ، قال فيها رجل برأيه ما شاء.

لفظ البخاري : تمتّعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل القرآن ، قال رجل برأيه ما شاء (٣).

وفي لفظ آخر له :

أُنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينزل قرآن يحرِّمه ، ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء (٤).

وفي بعض نسخ صحيح البخاري ؛ قال محمد ـ أي البخاري ـ يقال : إنّه عمر. قال القسطلاني في الإرشاد (٥) : لأنّه كان ينهى عنها. وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٣٣) نقلاً عن البخاري فقال : هذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرّحاً به : إنّ عمر كان ينهى الناس عن التمتّع.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٤٧٤ [٣ / ٧١ ح ١٧٢ كتاب الحج] ، وأخرجه القرطبي بهذا اللفظ في تفسيره : ٢ / ٣٦٥ [٢ / ٢٥٨]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٧١ ح ١٦٩ ـ ١٧١ كتاب الحج.

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ١٥١ [٢ / ٥٦٩ ح ١٤٩٦] ، طبع سنة ١٢٧٢. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : كتاب التفسير / سورة البقرة ٧ / ٢٤ [٤ / ١٦٤٢ ح ٤٢٤٦] ، طبع سنة ١٢٧٧. (المؤلف)

(٥) إرشاد الساري : ١٠ / ٦١ ح ٤٥١٨.

٢٧٩

وقال ابن حجر في فتح الباري (١) (٤ / ٣٣٩) : ونقله الإسماعيلي عن البخاري كذلك فهو عمدة الحميدي في ذلك ، ولهذا جزم القرطبي والنووي وغيرهما ، وكان البخاري أشار بذلك إلى رواية الحريري عن مطرف ، فقال في آخره : ارتأى رجل برأيه ما شاء ـ يعني عمر ـ. كذا في الأصل ، أخرجه مسلم ، وقال ابن التين : يحتمل أن يريد عمر أو عثمان ، وأغرب الكرماني فقال : إنّ المراد به عثمان ، والأولى أن يفسّر بعمر ، فإنّه أوّل من نهى عنها وكان من بعده تابعاً له في ذلك. ففي مسلم : أنّ ابن الزبير كان ينهى عنها وابن عبّاس يأمر بها ، فسألوا جابراً فأشار إلى أنّ أوّل من نهى عنها عمر.

وقال القسطلاني في الإرشاد (٢) (٤ / ١٦٩) : قال رجل برأيه ما شاء ، هو عمر بن الخطّاب لا عثمان بن عفّان ؛ لأنّ عمر أوّل من نهى عنها ، فكان من بعده تابعاً له في ذلك. ففي مسلم ... إلى آخر كلمة ابن حجر المذكورة.

وقال النووي في شرح مسلم (٣) : هو عمر بن الخطّاب ؛ لأنّه أوّل من نهى عن المتعة ، فكان من بعده من عثمان وغيره تابعاً له في ذلك.

لفظ الشيخين :

تمتّعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل فيه القرآن ، فليقل رجل برأيه ما شاء. السنن الكبرى (٥ / ٢٠).

لفظ النسائي :

إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تمتّع وتمتّعنا معه ، قال فيها قائل برأيه.

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٤٣٣.

(٢) إرشاد الساري : ٤ / ٨٨.

(٣) شرح صحيح مسلم : ٨ / ٢٠٥.

٢٨٠