الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

وأخرج أبو النضر هاشم بن القاسم الليثي المتوفّى (٢٠٧) المتسالم على ثقته بإسناد رجاله كلّهم ثقات عن هاشم بن يحيى المخزومي : أنّ رجلاً من ثقيف أتى عمر ابن الخطّاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ، ألها أن تنفر قبل أن تطهر؟ قال عمر : لا. فقال له الثقفي : فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفتاني في هذه المرأة بغير ما أفتيت به. فقام إليه عمر يضربه بالدرّة ويقول : لِمَ تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. إيقاظ الهمم للعمري الفلاني (ص ٩).

قال الأميني : أنا لا أدري كيف ذهب على عمر ما عرفته الصحابة أجمع ـ ويزعم موسى جار الله أنّه أعلمهم ـ فخالفوه في الفتيا وتبعتهم علماء الأمصار ، وأمّا زيد وابن عمر فوافقوه ردحاً من الزمن ولا أدري أكان فَرَقاً من درّته؟ أو موافقة له في رأيه؟ ولا أدري متى عدلا عن ذلك أبعد موته؟ أم إبّان حياته؟

وإن تعجب فعجب أنّه لم يعدل عن رأيه بعد ما وقف على السنّة لكنّه خاشن الحارث بن عبد الله وضرب الثقفيّ بدرّته لمّا أخبراه بها ، واستمرّ على مذهبه الخاصّ به خلاف السنّة المتّبعة ، لما ذا؟ أنا لا أدري.

ورأى ابن عبّاس أنّ لهذه السنّة أصلاً في الكتاب الكريم قد عزب عن الخليفة أيضاً ، أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (٥ / ١٦٣) عن عكرمة أنّ زيد بن ثابت قال : تقيم حتى تطهر ، ويكون آخر عهدها بالبيت. فقال ابن عبّاس : إذا كانت قد طافت يوم النحر فلتنفر ، فأرسل زيد بن ثابت إلى ابن عبّاس أنّي وجدت الذي قلت كما قلت ، قال : فقال ابن عبّاس : إنّي لأعلم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنساء ولكنّي أحببت أن أقول بما في كتاب الله ثمّ تلا هذه الآية (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (١) فقد قضت التفث ووفت النذر وطافت بالبيت ، فما بقي؟

__________________

(١) الحج : ٢٩.

١٦١

ـ ١٩ ـ

جهل الخليفة بالسنّة

أخرج ابن المبارك قال : حدّثنا أشعث عن الشعبي عن مسروق ، قال : بلغ عمر أنّ امرأة من قريش تزوّجها رجل من ثقيف في عدّتها ، فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما وقال : لا ينكحها أبداً وجعل الصداق في بيت المال وفشا ذلك بين الناس ، فبلغ عليّا كرّم الله وجهه فقال : «رحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال؟ إنّهما جهلا فينبغي للإمام أن يردّهما إلى السنّة». قيل : فما تقول أنت فيها؟ قال : «لها الصداق بما استحلّ من فرجها ، ويفرّق بينهما ، ولا جلد عليهما ، وتكمل عدّتها من الأوّل ثمّ تكمل العدّة من الآخر ، ثمّ يكون خاطباً». فبلغ ذلك عمر فقال ، يا أيّها الناس ردّوا الجهالات إلى السنّة. وروى ابن أبي زائدة عن أشعث مثله وقال فيه : فرجع عمر إلى قول عليّ. أحكام القرآن للجصّاص (١) (١ / ٥٠٤).

وفي لفظ عن مسروق : أُتي عمر بامرأة قد نُكحت في عدّتها ففرّق بينهما وجعل مهرها في بيت المال وقال : لا يجتمعان أبداً ، فبلغ عليّا فقال : «إن كان جهلاً فلها المهر بما استحلّ من فرجها ، ويفرّق بينهما ، فإذا انقضت عدّتها فهو خاطب من الخطّاب». فخطب عمر وقال : ردّوا الجهالات إلى السنّة. فرجع إلى قول عليّ.

وفي لفظ الخوارزمي : ردّوا قول عمر إلى عليّ. وفي التذكرة : فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر.

وأخرج البيهقي في سننه عن مسروق قال : قال عمر رضى الله عنه في امرأة تزوّجت في عدّتها : النكاح حرام ، والصداق حرام ، وجعل الصداق في بيت المال وقال : لا يجتمعان ما عاشا.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٢٥.

١٦٢

وأخرج عن عبيد بن نضلة ـ نضيلة ـ قال : رُفع إلى عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه امرأة تزوّجت في عدّتها فقال لها : هل علمت أنّك تزوّجت في العدّة؟ قالت : لا. فقال لزوجها : هل علمت ، قال : لا. قال : لو علمتما لرجمتكما فجلدهما أسياطاً وأخذ المهر فجعله صدقة في سبيل الله ، قال : لا أُجيز مهراً لا أُجيز نكاحه. وقال : لا تحلّ لك أبداً.

صورة أخرى للبيهقي :

أُتي عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بامرأة تزوّجت في عدّتها فأخذ مهرها فجعله في بيت المال وفرّق بينهما وقال : لا يجتمعان ، وعاقبهما ، فقال عليّ رضى الله عنه : «ليس هكذا ولكن هذه الجهالة من الناس ، ولكن يفرّق بينهما ، ثمّ تستكمل بقيّة العدّة من الأوّل ، ثمّ تستقبل عدّة أخرى» ، وجعل لها عليّ رضى الله عنه المهر بما استحلّ من فرجها ، قال : فحمد الله عمر رضى الله عنه وأثنى عليه ثم قال : يا أيّها الناس ردّوا الجهالات إلى السنّة (١).

قال الأميني : لما ذا جلدهما الخليفة؟ ولما ذا أخذ المهر؟ وبأيّ كتاب أم بأيّة سنّة جعل الصداق في بيت المال وصيّره صدقة في سبيل الله ، ولِمَ وبِمَ حرّم المرأة على الرجل؟ أنا لا أدري (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢).

وليت الخليفة لا ينسى نفسه ويأخذ بقوله : ردّوا الجهالات إلى السنّة. قبل قضائه بالأقضية الشاذّة عن الكتاب والسنّة.

وإن تعجب فعجب قول الجصّاص في أحكام القرآن (٣) (١ / ٥٠٥) : وأمّا

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي : ٧ / ٤٤١ ، ٤٤٢ ، الموافقات لابن السمّان ، كتاب العلم لأبي عمر ٢ / ١٨٧ [ص ٤٢٤ ح ٢٠٤٩] ، الرياض النضرة : ٢ / ١٩٦ [٣ / ١٤٤] ، ذخائر العقبى : ص ٨١ ، مناقب الخوارزمي : ص ٥٧ [ص ٩٥ ح ٩٥] ، تذكرة السبط : ص ٨٧ [ص ١٤٧]. (المؤلف)

(٢) النحل : ٤٣.

(٣) أحكام القرآن : ١ / ٤٢٦.

١٦٣

ما رُوي عن عمر أنّه جعل المهر في بيت المال فإنّه ذهب إلى أنّه مهر حصل لها من وجه محظور فسبيله أن يتصدّق به ؛ فلذلك جعله في بيت المال ثمّ رجع فيه إلى قول عليّ رضى الله عنه ، ومذهب عمر في جعل مهرها لبيت المال إذ قد حصل لها ذلك من وجه محظور يشبه ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشاة المأخوذة بغير إذن مالكها ، قدّمت إليه مشويّة لم يكد يسيغها حين أراد الأكل منها فقال : إنّ هذه الشاة تخبرني أنّها أُخذت بغير حقّ ، فأخبروه بذلك فقال : أطعموها الأسارى. ووجه ذلك عندنا أنّما صارت لهم بضمان القيمة فأمرهم بالصدقة بها ، لأنّها حصلت لهم من وجه محظور ولم يكونوا قد أدّوا القيمة إلى أصحابها. انتهى.

أعمى الجصّاص حبّ الخليفة ، فرام أن يدافع عنه ولو بما يسمه بسمة الجهل ، ألا مسائل هذا المدافع الوحيد عن المال المحصّل من وجوه الحظر متى كان سبيله أن يُتصدّق به حتى يتّخذه الخليفة مذهباً وإن لم يكن الموضوع من مصاديقه؟ ولما ذا لا يُردّ إلى صاحبه ولا يحلّ مال امرئٍ إلاّ بطيب نفسه؟ ثمّ ما وجه الشبه بين مال استحقّت به المرأة بما استحلّ من فرجها ، وبين شاة حلّلته اليد لرسول الله ، وسوّغت له التصرّف فيها؟ غير أنّ حسن الوقوف عند الشبهات وإن علمت من غير طريق عاديّ دعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الكفّ عنها ، من دون ترتّب أحكام الغصب عليها من ردّها إلى صاحبها عُرف أو لم يُعرف ، فلا صلة بين الموضوعين ، على أنّ جهل الخليفة في المسألة ليس من ناحية جعل الصداق في بيت المال فحسب حتى يُرقّع ، وإنّما خالف السنّة من شتّى النواحي كما عرفت.

ـ ٢٠ ـ

اجتهاد الخليفة في الجدّ

أخرج الدارمي في سننه (٢ / ٣٥٤) عن الشعبي أنّه قال : أوّل جدّ ورث في

١٦٤

الإسلام عمر فأخذ ماله ، فأتاه عليّ وزيد فقالا : ليس لك ذلك إنّما كنت كأحد الأخوين.

وفي لفظ البيهقي :

إنّ أوّل جدٍّ ورث في الإسلام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه ، مات ابن فلان بن عمر فأراد عمر أن يأخذ المال دون إخوته ، فقال له عليّ وزيد : ليس لك ذلك. فقال عمر : لو لا أنّ رأيكما اجتمع لم أر أن يكون ابني ولا أكون أباه. السنن الكبرى (٦ / ٢٤٧)

وأخرج الدارمي (١) أيضاً عن مروان بن الحكم : أنّ عمر بن الخطّاب لمّا طعن استشارهم في الجدّ ، فقال : إنّي كنت رأيت في الجدّ رأياً فإن رأيتم أن تتّبعوه فاتّبعوه. فقال له عثمان : إن نتّبع رأيك فإنّه رشد وإن نتّبع رأي الشيخ فلنعم ذو الرأي كان. مستدرك الحاكم (٢) (٤ / ٣٤٠).

قال الشعبي : كان من رأي أبي بكر وعمر أن يجعلا الجدّ أولى من الأخ ، وكان عمر يكره الكلام فيه ، فلمّا صار عمر جدّا قال : هذا أمر قد وقع لا بدّ للناس من معرفته ، فأرسل إلى زيد بن ثابت فسأله ، فقال : كان من رأي أبي بكر رضى الله عنه أن نجعل الجدّ أولى من الأخ. فقال : يا أمير المؤمنين لا تجعل شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب في الغصن غصن ، فما يجعل الغصن الأوّل أولى من الغصن الثاني وقد خرج الغصن من الغصن؟ قال : فأرسل إلى عليّ رضى الله عنه فسأله فقال له كما قال زيد ، إلاّ أنّه جعل سيلاً سال فانشعب منه شعبة ثمّ انشعبت منه شعبتان ، فقال : «أرأيت لو أنّ ماء هذه الشعبة الوسطى يبس أكان يرجع إلى الشعبتين جميعاً؟» (٣). السنن الكبرى (٦ / ٢٤٧).

__________________

(١) سنن الدارمي : ٢ / ٣٥٤.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٣٧٧ ح ٧٩٨٣ ، مصنّف عبد الرزاق : ١٠ / ٢٦٣ ح ١٩٠٥١.

(٣) مصنّف عبد الرزاق : ١٠ / ٢٦٥ ح ١٩٠٥٨.

١٦٥

وعن سعيد بن المسيّب عن عمر قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف قسم الجدّ؟ قال : «ما سؤالك عن ذلك يا عمر؟ إنّي أظنّك تموت قبل أن تعلم ذلك». قال سعيد بن المسيّب : فمات عمر قبل أن يعلم ذلك.

أخرجه الطبراني في الأوسط (١) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٢٢٧) وقال : رجاله رجال الصحيح. وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٢) (٦ / ١٥) نقلاً عن عبد الرزّاق والبيهقي وأبي الشيخ في الفرائض.

وأخرج البيهقي في سننه (٦ / ٢٤٧) عن زيد بن ثابت : إنّ عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه استأذن عليه يوماً فأذن له فقال : يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ جئتك. فقال عمر رضى الله عنه : إنّما الحاجة لي إنّي جئتك لتنظر في أمر الجدّ ، فقال زيد : لا والله ما نقول فيه. فقال عمر رضى الله عنه : ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص منه إنّما هو شيء نراه ، فان رأيته ووافقني تبعتهُ وإلاّ لم يكن عليك فيه شيء. فأبى زيد فخرج مغضباً ، قال : قد جئتك وأنا أظنّك ستفرغ من حاجتي ، ثمّ أتاه مرّة أخرى في الساعة التي أتاه المرّة الأُولى فلم يزل به حتى قال : فسأكتب لك فيه ، فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلاً إنّما مثله مثل شجرة نبتت على ساقٍ واحدٍ فخرج فيها غصن ثمّ خرج في الغصن غصن آخر ، فالساق يسقي الغصن ، فإن قطع الغصن الأوّل رجع الماء إلى الغصن يعني الثاني ، وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأوّل فأتي به. فخطب الناس عمر ثمّ قرأ قطعة القتب عليهم ثمّ قال : إنّ زيد بن ثابت قد قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته ، قال : وكان أوّل جدّ كان ، فأراد أن يأخذ المال كلّه مال ابن ابنه دون إخوته ، فقسّمه بعد ذلك عمر بن الخطّاب.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٤٥) عن عبيدة قال : إنّي لأحفظ عن

__________________

(١) المعجم الأوسط : ٥ / ١٣٥ ح ٣٩١٤.

(٢) كنز العمّال : ١١ / ٥٧ ح ٣٠٦١١.

١٦٦

عمر في الجدّ مائة قضيّة كلّها ينقض بعضها بعضاً.

وعن عبيدة قال : حفظت عن عمر مائة قضيّة في الجدّ ، قال : وقال : إنّي قد قضيت في الجدّ قضايا مختلفة كلّها لا آلو فيه عن الحقّ ، ولئن عشت إن شاء الله إلى الصيف لأقضينّ فيها بقضيّة تقضي به المرأة وهي على ذيلها.

وأخرج البيهقي في السنن عن طارق بن شهاب قال : أخذ عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه كتفاً وجمع أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكتب في الجدّ وهم يرون أنّه يجعله أباً ، فخرجت عليه حيّة فتفرّقوا ، فقال : لو أنّ الله أراد أن يمضيه لأمضاه.

وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (١) (١ / ٦١) : كان عمر يفتي كثيراً بالحكم ثمّ ينقضه ويفتي بضدّه وخلافه ، قضى في الجدّ مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة ، ثمّ خاف من الحكم في هذه المسألة فقال : من أراد أن يقتحم جراثيم جهنّم فليقل في الجدّ برأيه.

قال الأميني : أنا لا أدري أنّ هذه القضايا المتناقضة البالغة عددها إلى المائة في موضوع واحد هل كلّها موافقة للواقع؟ وليس من المعقول ذلك. أو أنّ بعضها موافق؟ فلم لم يرجع إليه في جميع الموارد؟ وهل هي كلّها عن اجتهاد الخليفة؟ أو أنّها متّخذة من الصحابة؟ وهل الصحابة كانوا يفتون بذلك عن آرائهم؟ أو اتّخذوها عن النبيّ الأمين؟ فإن كان سماعاً فلا تختلف الفتيا فيه ولا سيّما مع قرب العهد به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإن كان اجتهاداً منهم فمن ذا الذي يعترف لهم يعترف لجميعهم بالتأهّل للاجتهاد؟ على أنّ لنا بعد التنازل لهم بالأهليّة حقّ النظر فيما اجتهدوا وفيما استندوا إليه ، ومثل هذا الاجتهاد الفارغ لا حجّة فيه حتى من نفس الخليفة.

ثمّ إنّ خليفة المسلمين كيف يسوغ له الجهل بما شرّعه نبيّ الإسلام حتى يربكه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٨١ خطبة ٣.

١٦٧

ذلك في التناقض؟ فيأخذ الحقّ في بعض الموارد من أفواه الرجال ، ويمضي على ضلّته حيث لم يصادف أحداً منهم.

وما أعضل هذه المسألة على الخليفة؟ ولم يمكن من تعلّمها طيلة حياته ، وما شأنه وقد ظنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يموت قبل أن يعلمها ومات ولم يعلم؟ وما سوّغ له القضاء في تلكم القضايا الجمّة وهو لا يعلم حكمها وقد أخبره النبيّ الأعظم بذلك؟

ولست أدري كيف حفظتها الأُمّة وتلقّتها في قرونها الخالية من دون أن تصعب على أيّ فقيهٍ أو متفقّهٍ ، وقد أشكلت على الخليفة ، وهو مع ذلك أعلم الصحابة في زمانه على الإطلاق عند صاحب الوشيعة؟

ـ ٢١ ـ

رأي الخليفة في امرأة تسرّرت غلامها

عن قتادة : أنّ امرأة اتّخذت مملوكها وقالت : تأوّلت آيةً من كتاب الله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (١) فأُتي بها عمر بن الخطّاب رضى الله عنه ، وقال له ناس من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تأوّلت آيةً من كتاب الله عز وجل على غير وجهها ، قال : فضرب العبد وجزّ رأسه ، وقال : أنت بعده حرام على كلّ مسلم.

صورة اخرى للقرطبي :

تسرّرت امرأة غلامها ، فذُكر ذلك لعمر فسألها : ما حملكِ على ذلك؟ قالت : كنت أراه يحلّ لي بملك يميني كما يحلّ للرجل المرأة بملك اليمين. فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : تأوّلت كتاب الله على غير تأويله لا رجم عليها. فقال عمر : لا جرم ؛ والله لا أُحلّك لحرّ بعده أبداً. عاقبها بذلك ودرأ الحدّ

__________________

(١) المؤمنون : ٦.

١٦٨

عنها ، وأمر العبد ألاّ يقربها (١).

قال الأميني : ليتني أدري وقومي ما هذه العقوبات الفادحة بعد سقوط الحدّ عن المرأة ومملوكها بالجهل والتأويل؟ وما معنى عذابهما بعد عفو المولى سبحانه عنهما؟ وبأيّ كتاب أم بأيّة سنّة ضرب العبد ، وجزّ رأسه ، وحرّم المرأة على كلّ مسلم ، ونهى العبد عن قربها؟ فهل دين الله مفوّض إلى الخليفة؟ أم أنّ الإسلام ليس إلاّ الرأي المجرّد؟ فإن كان هذا أو ذاك؟ فعلى الإسلام السلام ، وإن لم يكن لا هذا ولا ذاك ، فمرحباً بالخلافة الراشدة ، وزه بتلك الآراء الحرّة.

ثمّ أنّى هذه العقوبات من صحيحة عمر نفسه وعائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلّوا سبيله ، فإنّ الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ بالعقوبة» (٢)

ـ ٢٢ ـ

الخليفة وامرأة مغنّية (٣)

عن الحسن قال : أرسل عمر بن الخطّاب إلى امرأة مغنّية كان يُدخَل عليها ، فأنكر ذلك فأرسل إليها فقيل لها : أجيبي عمر. فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر؟! فبينما هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت داراً فألقت ولدها فصاح الصبيّ

__________________

(١) تفسير ابن جرير الطبري : ٦ / ٦٨ [مج ٤ / ج ٦ / ١٠٦] ، سنن البيهقي : ٧ / ١٢٧ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٢٣٩ ، تفسير القرطبي : ١٢ / ١٠٧ [١٢ / ٧٢] ، الدرّ المنثور : [٦ / ٨٨]. (المؤلف)

(٢) كتاب الأُم للشافعي : ٧ / ٢١٤ [٧ / ٣٤٥] ، مستدرك الحاكم : ٤ / ٣٨٤ [٤ / ٤٢٦ ح ٨١٦٣] ، صحيح الترمذي : ١ / ٢٦٧ [٤ / ٢٥ ح ١٤٢٤] ، تاريخ الخطيب البغدادي : ٥ / ٣٣١ [رقم ٢٨٥٦] ، سنن البيهقي : ٨ / ٢٣٨ ، مشكاة المصابيح : ص ٣٠٣ [٢ / ٣١١ ح ٣٥٧٠] ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٠ [٢ / ٢٣] ، جامع مسانيد أبي حنيفة : ٢ / ٢١٤. (المؤلف)

(٣) في كنز العمّال وكذا في مصنّف عبد الرزّاق : مُغَيّبة ، وهي التي غاب عنها زوجها.

١٦٩

صيحتين ثمّ مات ، فاستشار عمر أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأشار عليه بعضهم : أن ليس عليك شيء إنّما أنت دالٌّ ومؤدّب ، وصمت عليّ ، فأقبل على عليٍّ فقال : ما تقول؟ قال : «إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم ، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك ، أرى أنّ ديته عليك ؛ فإنّك أنت أفزعتها وألقت ولدها في سبيلك» فأمر عليّا أن يقسّم عقله على قريش يعني يأخذ عقله من قريش لأنّه أخطأ.

صورة أخرى :

استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر وكانت حاملاً فلشدّة هيبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنيناً ميتاً ، فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك ، فقالوا : لا شيء عليك إنّما أنت مؤدّب. فقال له عليّ عليه‌السلام : «إن كانوا راقبوك فقد غشّوك ، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا ، عليك غرّة ـ يعني عتق رقبة ـ» ، فرجع عمر والصحابة إلى قوله.

أخرجه (١) ابن الجوزي في سيرة عمر (ص ١١٧) ، وأبو عمر في العلم (ص ١٤٦) ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٧ / ٣٠٠) نقلاً عن عبد الرزّاق ، والبيهقي ، وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج (١ / ٥٨).

قال الأميني : ما شأن هذا الخليفة لا يحمل في دين الله علماً ناجعاً يقيه عن هوايا (٢) الهلكة ، ويحميه عن سقطات القضاء؟ وما باله يعوّل في كلّ سهل ومشكل في طقوس الإسلام حتى في مهامّ الفروج والدماء على آراء أُناس غشّوه إن راقبوه ، وغاية جهد رأيهم الخطأ؟ وما يسعنا أن نقول وبين يدي الباحث هذه الأقضية؟

__________________

(١) سيرة عمر : ص ١٢٥ ، جامع بيان العلم : ص ٣٠٦ ح ١٥٣٧ ، كنز العمّال : ١٥ / ٨٤ ح ٤٠٢٠١ ، المصنّف : ٩ / ٤٥٨ ح ١٨٠١٠ ، السنن الكبرى : ٦ / ١٢٣ ، شرح نهج البلاغة : ١ / ١٧٤ خطبة ٣.

(٢) الهوايا : جمع هَوِيّة. وهي الحفرة بعيدة القعر.

١٧٠

ـ ٢٣ ـ

حكم الخليفة برجم مضطرّة

عن عبد الرحمن السلمي ، قال : أُتي عمر بامرأة أجهدها العطش فمرّت على راعٍ فاستسقته ، فأبى أن يسقيها إلاّ أن تُمكّنه من نفسها ففعلت ، فشاور الناس في رجمها ، فقال عليّ : «هذه مضطرّة أرى أن يُخلى سبيلها». ففعل.

سنن البيهقي (٨ / ٢٣٦) ، الرياض النضرة (١) (٢ / ١٩٦) ، ذخائر العقبى (ص ٨١) الطرق الحكميّة (ص ٥٣).

صورة مفصلة :

إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أُتي بامرأة زنت فأقرّت فأمر برجمها ، فقال عليّ رضى الله عنه : «لعلّ بها عذراً» ثمّ قال لها : «ما حملكِ على الزنا؟» قالت : كان لي خليط وفي إبله ماء ولبن ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن ، فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي فأبيت عليه ثلاثاً ، فلمّا ظمئت وظننت أنّ نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. فقال عليّ : «الله أكبر ، (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢)».

الطرق الحكميّة لابن القيّم الجوزيّة (ص ٥٣) ، كنز العمال (٣) (٣ / ٩٦) نقلاً عن البغوي.

قال الأميني : ليت الخليفة كان يحمل شيئاً من علم الكتاب والسنّة حتى يحكم

__________________

(١) الرياض النضرة : ٣ / ١٤٤.

(٢) البقرة : ١٧٣.

(٣) كنز العمّال : ٥ / ٤٥٦ ح ١٣٥٩٦.

١٧١

بما أنزل الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليتني أدري ما كان صيّره ، وأيّ مبلغ كانت تبلغ بوائق أقضيته إن لم يكن في الأُمّة عليّ أمير المؤمنين؟ أو لم يكن يُقيم أوده ويُزيل أمْته (١)؟ نعم ؛ حقّا قال الرجل : لو لا عليّ لهلك عمر.

ـ ٢٤ ـ

الخليفة لا يدري ما يقول

أُتي عمر بن الخطّاب رضى الله عنه برجل أسود ومعه امرأة سوداء ، فقال : يا أمير المؤمنين إنّي أغرس غرساً أسود وهذه سوداء على ما ترى فقد أتتني بولد أحمر. فقالت المرأة : والله يا أمير المؤمنين ما خنته وإنّه لولده. فبقي عمر لا يدري ما يقول ، فسُئل عن ذلك عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فقال للأسود : «إن سألتك عن شيء أتصدقني؟» قال : أجل والله. قال : «هل واقعت امرأتك وهي حائض؟» قال : قد كان ذلك ، قال عليّ : «الله أكبر إنّ النطفة إذا خلطت بالدم فخلق الله منها خلقاً كان أحمر ، فلا تنكر ولدك فأنت جنيت على نفسك».

الطرق الحكميّة (ص ٤٧).

ـ ٢٥ ـ

قضاياه في عسّه وتجسّسه

١ ـ عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يعسّ ليلة فمرّ بدار سمع فيها صوتاً ، فارتاب وتسوّر ، فرأى رجلاً عند امرأة وزقّ خمر ، فقال : يا عدوّ الله أظننت أنّ الله يسترك وأنت على معصيته؟ فقال : لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث : قال الله تعالى (وَلا تَجَسَّسُوا) (٢) وقد تجسّست ، وقال : (وَأْتُوا

__________________

(١) الأمْت : الاعوجاج.

(٢) الحجرات : ١٢.

١٧٢

الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) (١) وقد تسوّرت ، وقال : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا) (٢) وما سلّمت. فقال : هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال : نعم ، والله لا أعود. فقال : اذهب فقد عفوت عنك.

الرياض النضرة (٢ / ٤٦) ، شرح النهج لابن أبي الحديد (١ / ٦١ ، ٣ / ٩٦) ، الدرّ المنثور (٦ / ٩٣) ، الفتوحات الإسلاميّة (٢ / ٤٧٧) (٣).

٢ ـ خرج عمر بن الخطّاب في ليلة مظلمة فرأى في بعض البيوت ضوء سراج وسمع حديثاً ، فوقف على الباب يتجسّس فرأى عبداً أسود قدّامه إناء فيه مزر (٤) وهو يشرب ، ومعه جماعة فهمّ بالدخول من الباب فلم يقدر من تحصين البيت فتسوّر على السطح ونزل إليهم من الدرجة ومعه الدرّة ، فلمّا رأوه قاموا وفتحوا الباب وانهزموا ، فمسك الأسود فقال له : يا أمير المؤمنين قد أخطأت وإنّي تائب فاقبل توبتي ، فقال : أريد أن أضربك على خطيئتك ، فقال : يا أمير المؤمنين إن كنت قد أخطأت في واحدة فأنت قد أخطأت في ثلاث : فإنّ الله تعالى قال : (وَلا تَجَسَّسُوا) ، وأنت تجسّست ، وقال تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) ، وأنت أتيت من السطح ، وقال تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) (٥) ، وأنت دخلت وما سلّمت. إلى آخره.

المستطرف لشهاب الدين الأبشيهي (٦) (٢ / ١١٥) في الباب الحادي والستّين.

__________________

(١) البقرة : ١٨٩.

(٢) النور : ٦١.

(٣) الرياض النضرة : ٢ / ٣١٩ ، شرح نهج البلاغة : ١ / ١٨٢ خطبة ٣ ، ١٢ / ١٧ خطبة ٢٢٣ ، الدرّ المنثور : ٧ / ٥٦٨ ، الفتوحات الإسلامية ٢ / ٣١١.

(٤) المزر : النبيذ.

(٥) النور : ٢٧.

(٦) المستطرف : ٢ / ١٠٦.

١٧٣

ويظهر من القرائن أنّ هذه القضيّة غير سابقتها والله أعلم.

وقد عدّ ابن الجوزي (١) هذه الفضيحة المخزية من مناقب عمر ، وتبعه شاعر النيل حافظ إبراهيم ونظمها في قصيدته العمريّة ، فقال تحت عنوان : مثال رجوعه إلى الحقّ :

وفتية ولعوا بالراح فانتبذوا

لهم مكاناً وجدّوا في تعاطيها

ظهرتَ حائطَهمْ لمّا علمتَ بهمْ

والليلُ معتكرُ الأرجاء ساجيها

حتى تبيّنتهمْ والخمرُ قد أخذتْ

تعلو ذؤابةَ ساقيها وحاسيها

سفّهتَ آراءهم فيها فما لبثوا

أن أوسعوك على ما جئت تسفيها

ورمت تفقيهَهم في دينِهمْ فإذا

بالشرب قد برعوا الفاروقَ تفقيها

قالوا مكانك قد جئنا بواحدةٍ

وجئتنا بثلاثٍ لا تباليها

فائتِ البيوتَ من الأبوابِ يا عمر

فقد يُزَنّ (٢) من الحيطانِ آتيها

واستأذنِ الناسَ لا تغشى بيوتَهمُ

ولا تلمَّ بدارٍ أو تمحّيها

ولا تجسّسْ فهذي الآيُ قد نزلتْ

بالنهيِ عنه فلم تذكر نواهيها

فعدتَ عنهمْ وقد أكبرتَ حجّتهمْ

لمّا رأيتَ كتابَ الله يمليها

وما أنفتَ وإن كانوا على حرجٍ

من أن يحجّكَ بالآياتِ عاصيها

قال الأميني : هكذا يعمي الحبّ ويصّم ، ويجعل الموبقات مكرمات ، ويبدّل السيّئات حسنات.

٣ ـ عن عبد الرحمن بن عوف : أنّه حرس مع عمر بن الخطّاب ليلةً بالمدينة ، فبينما هم يمشون شبّ لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمّونه ، حتى إذا دنوا منه

__________________

(١) صفة الصفوة : ١ / ٢٧٧.

(٢) بالبناء للمجهول من أزنّه بكذا يعني اتّهمه به. (المؤلف)

١٧٤

إذا باب مجاف (١) على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط ، فقال عمر رضى الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن فقال : أتدري بيت من هذا؟ قلت : لا ، قال : هذا بيت ربيعة بن أُميّة بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ قال عبد الرحمن : أرى قد أتينا ما نهى الله عنه ـ ولا تجسّسوا ـ فقد تجسّسنا. فانصرف عنهم عمر رضى الله عنه وتركهم.

سنن البيهقي الكبرى (٨ / ٣٣٤) ، الإصابة (١ / ٥٣١) ، الدرّ المنثور (٦ / ٩٣) ، السيرة الحلبيّة (٣ / ٢٩٣) ، الفتوحات الإسلاميّة (٢ / ٤٧٦) (٢).

٤ ـ دخل عمر بن الخطّاب رضى الله عنه على قوم يشربون ويوقدون في الأخصاص فقال : نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم ، وعن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم ، وهمّ بتأديبهم. فقالوا : يا أمير المؤمنين نهاك الله عن التجسّس فتجسّست ، ونهاك عن الدخول بغير إذن فدخلت ، فقال : هاتان بهاتين ، وانصرف وهو يقول : كلّ الناس أفقه منك يا عمر.

العقد الفريد (٣) (٣ / ٤١٦).

٥ ـ كان عمر يعسّ ذات ليلة بالمدينة فرأى رجلاً وامرأةً على فاحشة ، فلمّا أصبح قال للناس : أرأيتم لو أنّ إماماً رأى رجلاً وامرأةً على فاحشة فأقام عليهما الحدّ ما كنتم فاعلين؟ قالوا : إنّما أنت إمام. فقال عليّ بن أبي طالب : «ليس ذلك لك إذن يقام عليك الحدّ ، إنّ الله لم يأمن هذا الأمر أقلّ من أربعة شهود». ثمّ تركهم ما شاء الله أن يتركهم ثمّ سألهم ، فقال القوم مثل مقالتهم الأُولى وقال عليّ مثل مقالته الأولى ، فأخذ عمر بقوله (٤).

__________________

(١) من أجاف الباب ؛ إذا ردّه.

(٢) الدرّ المنثور : ٧ / ٥٦٧ ، السيرة الحلبية : ٣ / ٢٦٦ ، الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٣١١.

(٣) العقد الفريد : ٦ / ٢٧٨.

(٤) الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٤٨٢ [٢ / ٣١٥]. (المؤلف)

١٧٥

٦ ـ أخرج البيهقي في شعب الإيمان (١) عن الشعبي ، قال : جاءت امرأة إلى عمر فقالت : يا أمير المؤمنين إنّي وجدت صبيّا ووجدت معه قبطيّة فيها مائة دينار فأخذته واستأجرت له ظئراً ، وإنّ أربع نسوة يأتينه فيقبّلنه لا أدري أيّتهنّ أُمّه ، فقال لها : إذا هنّ أتينَكِ فأعلميني. ففعلت ، فقال لامرأة منهنّ : أيّتكنّ أُمّ هذا الصبيّ؟ فقلن : والله ما أحسنت ولا أجملت يا عمر تعمد على امرأة ستر الله عليها فتريد أن تهتك سترها. قال : صدقت ، ثمّ قال للمرأة : إذا أتينك فلا تسأليهنّ عن شيء وأحسني إلى صبيّهنّ ثمّ انصرف.

منتخب كنز العمّال (٢) هامش مسند أحمد (١ / ١٩٩).

قال الأميني : في كلّ من هذه الآثار أبحاث هامّة لا تعزب عن القارئ النابه فلا نطيل بذكرها المقام.

ـ ٢٦ ـ

رأي الخليفة في حدّ الخمر

عن أنس بن مالك قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين ، قال : وفعله أبو بكر ، فلمّا كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف : أخفّ الحدود ثمانون ، فأمر به عمر.

صورة أُخرى :

جلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمر بالجريد والنعال ، وجلد أبو بكر أربعين ، فلمّا كان عمر وورد الناس من المدن والقرى قال : ما ترون في حدّ الخمر؟ فقال

__________________

(١) شعب الإيمان : ٧ / ١٠٨ ح ٩٦٦٢.

(٢) منتخب كنز العمّال : ١ / ٢٤٣.

١٧٦

عبد الرحمن بن عوف : أرى أن تجعله كأخفّ الحدود ، فجلد عمر ثمانين (١).

وأخرج أبو داود في سننه (٢) (٢ / ٢٤٢) في حديث : جلد أبو بكر في الخمر أربعين ، ثمّ جلد عمر صدراً من إمارته أربعين ، ثمّ جلد ثمانين في آخر خلافته ، وجلد عثمان الحدّين كليهما : ثمانين وأربعين ، ثمّ أثبت معاوية الحدّ على الثمانين.

وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى (٨ / ٣٢٠) ، وابن الديبع في تيسير الوصول (٣) (٢ / ١٧).

وعن حضين أبي ساسان الرقاشي قال : حضرت عثمان بن عفّان رضى الله عنه ، وأُتي بالوليد بن عقبة قد شرب الخمر وشهد عليه حمران بن أبان ورجل آخر ، فقال عثمان لعليّ : أقم عليه الحدّ ، فأمر عليّ رضى الله عنه عبد الله بن جعفر ذي الجناحين أن يجلده ، فأخذ في جلده وعليّ رضى الله عنه يعدّ حتى جلد أربعين ، ثمّ قال له : «أمسك جلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين وأبو بكر رضى الله عنه ، وجلد عمر رضى الله عنه ثمانين ، وكلٌّ سنّة وهذا أحبّ إليّ» (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم باب حدّ الخمر : ٢ / ٣٨ [٣ / ٥٣٨ ح ٣٦ كتاب الحدود] ، سنن الدارمي : ٢ / ١٧٥ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٤٠ [٤ / ١٦٣ ح ٤٤٧٩] ، مسند أبي داود الطيالسي : ص ٢٦٥ [ح ١٩٧٠] ، سنن البيهقي : ٨ / ٣١٩. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ٤ / ١٦٦ ح ٤٤٨٨.

(٣) تيسير الوصول : ٢ / ٢٠.

(٤) صحيح مسلم في الحدّ : ٢ / ٥٢ [٣ / ٥٣٩ ح ٣٨ كتاب الحدود] ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٤١ [٤ / ١٦٣ ح ٤٤٨٠] ، السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٣١٨ ، وفي كنز العمّال : ٣ / ١٠٢ [٥ / ٤٨٣ ح ١٣٦٨٦] نقلاً عن الطبراني ، وعبد الرزاق [في المصنّف : ٧ / ٣٧٩ ح ١٣٥٤٥] ، وأحمد [في المسند : ١ / ١٣٣ ح ٦٢٥] ، ومسلم ، وأبي داود والنسائي [في السنن الكبرى : ٣ / ٢٤٨ ح ٥٢٦٩] ، وابن جرير ، وأبي عوانة ، والطحاوي [في مشكل الآثار : ٣ / ١٦٧] ، والدارقطني [في السنن : ٣ / ٢٠٦ ح ٣٦٧] ، والدارمي [في سننه : ٢ / ١٧٥]. (المؤلف)

١٧٧

وفي لفظ آخر :

إنّ الوليد بن عقبة صلّى بالناس الصبح أربعاً ثمّ التفت إليهم فقال : أزيدكم؟ فرفع ذلك إلى عثمان رضى الله عنه ـ إلى آخره ـ وفيه : ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين وأبو بكر وعمر صدراً من خلافته أربعين ثمّ أتمّها عمر ثمانين ، وكلّ سنّة (١).

قال الأميني : ما قيمة عبد الرحمن وقيمة رأيه تجاه ما قام به المشرّع الأعظم؟ وما بال عمر جرى على ذلك المنهج ردحاً من أيّامه ثمّ نقضه وضرب عنه صفحاً؟ وما باله وهو خليفة المسلمين يستشير ويستفتي في حكم من أحكام الدين ثبت بسنّة ثابتة عن صاحب الشريعة؟ قال ابن رشد في بداية المجتهد (٢) (٢ / ٤٣٥) : إنّ أبا بكر رضى الله عنه شاور أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كم بلغ ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشرّاب الخمر؟ فقدّروه بأربعين. ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين ، فجعل عمر مكان كل نعل سوطاً ، ورُوي من طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا ، وهو : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب في الخمر أربعين ، ورُوي هذا عن عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق أثبت ، وبه قال الشافعيّ. انتهى (٣).

وإنّ من الدخيل في الحديث ما عُزي إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله : «وكلّ سنّة وهذا أحبّ إليّ». فلو كانت الثمانون سنّة مشروعةً لعمل بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأقلّ مرّة واحدة أو قالها لأحد ، ولو كان قالها لما خفي على كلّ المسلمين ولاحتجّ به عبد الرحمن دون قوله : أخفّ الحدود ثمانون ، ولما عُدّ عمر أوّل من أقام

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٣١٩ ، نقلاً عن صحيح مسلم. (المؤلف)

(٢) بداية المجتهد : ٢ / ٤٣٩.

(٣) مختصر المزني : ص ٢٦٦.

١٧٨

الحدّ في الخمر ثمانين كما فعله غير واحد (١). نعم ، قال الحلبي في السيرة الحلبيّة (٢) (٢ / ٣١٤) : قوله : وكلّ سنّة أي طريقة ، فأربعون طريقته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطريقة الصدّيق رضى الله عنه ، والثمانون طريقة عمر رضى الله عنه رآها اجتهاداً مع استشارته لبعض الصحابة في ذلك لما رآه من كثرة شرب الناس للخمر. وقال ابن القيّم في زاد المعاد (٣) (٢ / ١٩٥) : من تأمّل الأحاديث رآها تدلّ على أنّ الأربعين حدّ ، والأربعون الزائدة عليها تعزير ، اتّفق عليه الصحابة رضي الله عنهم.

وما عساني أن أقول في أُناس اتّخذوا تجاه سنّة رسول الله طريقة باجتهاد واستشارة؟ وهل تعزير بعد الحدّ حتى يتأتّى باتّفاق الصحابة عليه؟ وهل لهذه المزعمة معنىً معقول حتى يُتّخذ مذهباً؟ أنا لست أدري أيّ قيمة لتلك الطريقة في سوق الاعتبار وِجاه الطريقة المثلى (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤) ، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٥) ؛ وما أتى به النبيّ الأعظم أحقّ أن يتّبع ، (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (٦).

وهناك كلماتٌ تافهة حول هذا الاجتهاد ؛ مثل قول القسطلاني (٧) : من أنّ الكلّ حدّ ، وعليه فحدّ الشارب مخصوص من بين سائر الحدود بأن يتحتّم بعضه ويتعلّق

__________________

(١) منهم : العسكري في أوليّاته [ص ١١١] ، وابن أبي الحديد في شرح النهج : ٣ / ١١٣ [١٢ / ٧٥ خطبة ٢٢٣] ، وابن كثير في تاريخه : ٧ / ١٣٢ [٧ / ١٥٠ حوادث سنة ٢٣ ه‍] ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء : ص ٩٣ [ص ١٢٨] ، وعلاء الدين السكتواري في محاضرة الأوائل : ص ١٦٩ ، والقرماني في تاريخه ـ هامش الكامل : ١ / ٢٠٣ [أخبار الدول : ١ / ٢٨٩]. (المؤلف)

(٢) السيرة الحلبية : ٢ / ٢٨٥.

(٣) زاد المعاد : ٣ / ٢١١.

(٤) فاطر : ٤٣.

(٥) الفتح : ٢٣.

(٦) البقرة : ١٨١.

(٧) في إرشاد الساري : ٦ / ١٠٤ و ٩ / ٤٣٩ [١٤ / ٢١٥ و ٨ / ٢١٤]. (المؤلف)

١٧٩

بعضه باجتهاد الإمام. انتهى. كلّها خارجة عن نطاق الفهم ، تبعد عن ساحة المتعلّم فضلاً عن العالم ، ولا يخفى على القارئ فسادها (١).

ـ ٢٧ ـ

الخليفة وامرأة احتالت على شابّ

أُتي عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه بامرأة قد تعلّقت بشابّ من الأنصار وكانت تهواه ، فلمّا لم يساعدها احتالت عليه فأخذت بيضة فألقت صفرتها وصبّت البياض على ثوبها وبين فخذيها ، ثمّ جاءت إلى عمر رضى الله عنه صارخة فقالت : هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله. فسأل عمر النساء فقلن له : إنّ ببدنها وثوبها أثر المني ، فهمّ بعقوبة الشابّ فجعل يستغيث ويقول : يا أمير المؤمنين تثبّت في أمري فو الله ما أتيت فاحشة وما هممت بها فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت. فقال عمر : يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما؟ فنظر عليّ إلى ما على الثوب ثمّ دعا بماء حارّ شديد الغليان فصبّ على الثوب ، فجمد ذلك البياض ثمّ أخذه واشتمّه وذاقه فعرف طعم البيض ، وزجر المرأة فاعترفت.

الطرق الحكميّة لابن القيّم (ص ٤٧).

ـ ٢٨ ـ

لا أبقاني الله بعد ابن أبي طالب

عن حنش بن المعتمر ، قال : إنّ رجلين أتيا امرأةً من قريش فاستودعاها مائة دينار وقالا : لا تدفعيها إلى أحد منّا دون صاحبه حتى نجتمع ، فلبثا حولاً ثمّ جاء أحدهما إليها وقال : إنّ صاحبي قد مات فادفعي إليّ الدنانير ، فأبت فثقل عليها بأهلها فلم يزالوا بها حتى دفعتها إليه. ثمّ لبثت حولاً آخر فجاء الآخر فقال : ادفعي إليّ الدنانير ،

__________________

(١) لفت نظر : نحن نناقش في المسألة وغيرها من الأبحاث الدينية على مباني أهل السنّة من دون أيّ نظر إلى آراء الشيعة فيها. (المؤلف)

١٨٠