الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حقّ الولد على الوالد أن يحسن اسمه وأن يحسن أدبه» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أبردتم إليّ بريداً فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم» (٢).

وفي جامع الترمذي (٣) (٢ / ١٠٧) ، عن عائشة قالت : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغيّر الاسم القبيح.

وممّن غيّر اسمه عاصية بنت عمر ؛ فسمّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميلة كما في صحيح الترمذي (٤) (٢ / ١٣٧) ، ومصابيح السنّة (٥) (٢ / ١٤٨).

٢ ـ نهيه عن التسمّي بأسماء الأنبياء وهي أحسن الأسماء بعد تلكم الأسماء المشتقّة من أسماء الله الحسنى من محمد وعليّ والحسن والحسين. وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «ما من أهل بيت فيه اسم نبيّ إلاّ بعث الله تبارك وتعالى إليهم ملكاً يقدِّسهم بالغداوة والعشيِّ» (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سمّوا بأسماء الأنبياء ، وأحبّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام ، وأقبحها حرب ومرّة» (٧).

٣ ـ تذمّره من التكنّي بأبي عيسى مستدلاّ بقوله : فهل لعيسى من أب؟ أكان

__________________

(١) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي : ٨ / ٤٧. (المؤلف)

(٢) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي : ٨ / ٤٧ ، زاد المعاد لابن القيّم : ١ / ٢٥٨ [٢ / ٥]. (المؤلف)

(٣) سنن الترمذي : ٥ / ١٢٤ ح ٢٨٣٩.

(٤) سنن الترمذي : ٥ / ١٢٣ ح ٢٨٣٨.

(٥) مصابيح السنّة : ٣ / ٣٠٤ ح ٣٦٩٦.

(٦) المدخل لابن الحاج : ١ / ١٢٨. (المؤلف)

(٧) سنن أبي داود : ٢ / ٣٠٧ [٤ / ٢٨٧ ح ٤٩٥٠] ، سنن البيهقي : ٩ / ٣٠٦ ، الاستيعاب في ترجمة أبي وهب : ٢ / ٧٠٠ [القسم الرابع / ١٧٧٥ رقم ٣٢١٨] ، زاد المعاد لابن القيّم : ١ / ٢٥٨ ، ٢٦٠ [٢ / ٤ ، ٦] وأثبته. (المؤلف)

٤٤١

الخليفة يحسب أنّ من يكنّى به يرى نفسه أباً لعيسى بن مريم ويكنّى به حتى يُقال عليه : فهل لعيسى من أب؟ أو أنّه لم يرَ لعيسى الذي كنّاه به أبوه من أب؟ وكان يحسب أنّ الآباء يكنّون بأسماء أولادهم ، ومن هنا قال لصهيب : مالك تكنّى أبا يحيى وليس لك ولد؟

٤ ـ وأعجب من هذه كلّها أنّ الخليفة بعد سماعه من المغيرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنّاه بأبي عيسى لم يتزحزح عن رأيه ، وقد صدّقه في مقاله ، لكنّه عدَّ ذلك ذنباً مغفوراً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأراد أن لا يذنب هو ولفيفه إذ لا يدري ما يُفعل بهم ، وليت شعري هل أثبت كون ذلك إثماً مستتبعاً للعذاب أو المغفرة ببرهان قاطع؟ ثمّ علم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتكبه فحكم بالمغفرة له بدلالة الآية الكريمة من سورة الفتح؟ لا ، لم يثبت ذلك إلاّ بتلك السفسطة من قوله : هل لعيسى من أب؟ إن كان الأوّل ـ ولا أقوله ـ فمرحباً بنبيّ غير معصوم! والعياذ بالله ، وإن كان الثاني فزهٍ بقائل لا يعلم!

٥ ـ إنّه بعد ما حسب كون هاتيك التكنية سيّئة جعل التعزير بها عَضّ اليد قبل الضرب ، ولم تسمع أذن الدهر بمثل ذلك التعزير القاسي قطّ.

٦ ـ إنّ ممّا اختاره الخليفة من كنى العرب : أبا مرّة. وقد مرّ نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التسمية بمرّة. على أنّ أبا مرّة كنية إبليس كما في المعاجم (١). وقيل تكنّى بابنة له تسمّى مرّة. وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التسمية بحيات وقال : فإنّ الحيات الشيطان. وأخرج أبو داود في سننه (٢) (٢ / ٣٠٨) ، عن مسروق ، قال : لقيت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال : من أنت؟ قلت : مسروق بن الأجدع ، فقال عمر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الأجدع الشيطان. فكأنّه كان ناسياً ذلك حين أمر بالتكنّي

__________________

(١) قاموس اللغة : ٢ / ١٣٣ [ص ٦١٠] ، تاج العروس : ٣ / ٥٣٩ ، لسان العرب : ٧ / ١٨ [١٣ / ٧٦]. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ٤ / ٢٨٩ ح ٤٩٥٧.

٤٤٢

بأبي مرّة ، أولم يكن يعلم أنّها كنية إبليس؟ أو كان له رأي تجاه الرأي النبويّ. والله أعلم.

وكذلك التكنّي بأبي حنظلة ، فقد عدّ ابن القيّم حنظلة من أقبح الأسماء كما في زاد المعاد (١) (١ / ٢٦٠).

٧ ـ حسبانه أنّ ذا القرنين من أسماء الملائكة وقد عزب عنه أنّه كان غلاماً روميّا أُعطي الملك ، كما فيما أخرجه الطبري (٢) ، وفي صحيحة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه كان رجلاً أحبّ الله فأحبّه ، وناصح الله فناصحه ، لم يكن نبيّا ولا ملكاً (٣).

وفي القرآن الكريم آيات كريمة في ذكر ذي القرنين كأنّها عزبت عن الخليفة برمّتها ، وخفيت عليه تسمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا أمير المؤمنين بذي القرنين ، فقال على رءوس الأشهاد : «يا أيّها الناس أُوصيكم بحبِّ ذي قرنيها أخي وابن عمّي عليِّ ابن أبي طالب فإنّه لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق ، من أحبّه فقد أحبّني ، ومن أبغضه فقد أبغضني» (٤)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «إنّ لك في الجنّة بيتاً ـ ويروى : كنزاً ـ وأنت لذو قرنيها».

وقال شرّاح الحديث : أي ذو طرفي الجنّة وملكها الأعظم تسلك ملك جميع الجنّة كما سلك ذو القرنين جميع الأرض. أو ذو قرني الأُمّة فأضمرت وإن لم يتقدّم

__________________

(١) زاد المعاد : ٢ / ٦.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ١ / ٥٧٥.

(٣) فتح الباري : ٦ / ٢٩٥ [٦ / ٣٨٣] ، كنز العمّال : ١ / ٢٥٤ [٢ / ٤٥٧ ح ٤٤٩٣]. (المؤلف)

(٤) الرياض النضرة : ٢ / ٢١٤ [٣ / ١٦٦] ، تذكرة السبط : ص ١٧ [ص ٢٨] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٤٥١ [٩ / ١٧٢ خطبة ١٥٤]. (المؤلف)

٤٤٣

ذكرها كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١). أراد الشمس ولا ذكر لها ، قال أبو عبيد : وأنا أختار هذا التفسير الأخير على الأوّل.

قالوا : ويروى عن عليّ رضى الله عنه ، وذلك أنّه ذكر ذا القرنين فقال : «دعا قومه إلى عبادة الله تعالى فضربوه على قرنه ضربتين وفيكم مثله». فنرى أنّه أراد نفسه ، يعني : أدعو إلى الحقّ حتى يُضرب رأسي ضربتين يكون فيهما قتلي. أو ذو جبليها الحسن والحسين ـ سبطي الرسول ـ رضي الله عنهما روي ذلك عن ثعلب. أو ذو شجنتين في قرني رأسه إحداهما من عمرو بن عبد ودّ يوم الخندق ، والثانية من ابن ملجم لعنه الله. قال أبو عبيد : وهذا أصحّ ما قيل (٢) انتهى.

وبعد خفاء ما في الكتاب والسنّة على الخليفة لا يسعنا أن نؤاخذه بالجهل بشعر رجالات الجاهلية ، وقد ذُكر ذو القرنين في شعر امرئ القيس ، وأوس بن حجر ، وطرفة بن العبد ، وقال الأعشى بن ثعلبة :

والصعبُ ذو القرنين أمسى ثاوياً

بالحنو في جدثٍ هناك مقيم

وقال الربيع بن ضُبيع :

والصعبُ ذو القرنين عمّر ملكه

ألفين أمسى بعد ذاك رميما

وقال قُس بن ساعدة :

والصعبُ ذو القرنين أصبح ثاوياً

باللحد بين ملاعبِ الأرياح

__________________

(١) سورة ص : ٣٢.

(٢) نوادر الأُصول للحكيم الترمذي : ص ٣٠٧ [٢ / ١٨٧ الأصل ٢٤١] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٢٣ [٣ / ١٣٣ ح ٤٦٢٣] ، الرياض النضرة : ٢ / ٢١٠ [٣ / ١٦١] ، النهاية لابن الأثير : ٣ / ٢٧٨ [٤ / ٥١] ، لسان العرب : ١٧ / ٢١٠ [١١ / ١٣٦] ، قاموس اللغة : ٤ / ٢٥٨ [ص ١٥٧٩] ، تاج العروس : ٩ / ٣٠٧ ، كنز العمّال : ١ / ٢٥٤ [٢ / ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ح ٤٤٩١ ـ ٤٤٩٣]. (المؤلف)

٤٤٤

وقال تبّع الحميري :

قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً

ملكاً تدين له الملوكُ وتحشد

بلغ المشارقَ والمغاربَ يبتغي

أسبابَ أمرٍ من حكيمٍ مرشد

فرأى مغيبَ الشمسِ عند غروبها

في عينِ ذي خُلب وثأطٍ حرمد

من بعده بلقيس كانت عمّتي

مَلَكَتْهمُ حتى أتاها الهدهد

وقال النعمان بن بشير الصحابيّ الأنصاريّ :

ومن ذا يعادينا من الناس معشر

كرام وذو القرنين منّا وحاتم

ثمّ ما المانع عن التسمّي بأسماء الملائكة؟ وما أكثر من سُمّي بأسماء أفضل الملائكة كجبرئيل ، وميكائيل ، وإسرافيل؟ فإنّها بالعبرانيّة وترجمتها بالعربية عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن كما فيما أخرجه ابن حجر (١) ، وفي صحيح البخاري عن عكرمة أنّ جبر ، وميك ، وسراف : عبد. وإيل : الله (٢). وقد ورد في الصحيح : «إنّ أحبّ الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن» (٣) ولا وازع إذا وقعت التسمية بتلكم الألفاظ العبرانيّة أيضاً.

٨ ـ حسبانه أنّ في إطعام الطعام سرفاً في المال ، فأفحمه صهيب بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ، وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيّها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام».

وعن عبد الله بن عمرو : أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أيّ

__________________

(١) الإصابة : ٢ / ٣٩٩ رقم ٥١٢٦.

(٢) صحيح البخاري ، باب من كان عدوّا لجبريل ، في كتاب التفسير : [٤ / ١٦٢٨ ح ٤٢١٠] ، صحيح الترمذي : ١ / ٣٤٠ [٥ / ١٢١ ح ٢٨٣٣ ، ٢٨٣٤] ، فتح الباري : ٨ / ١٣٤ [٨ / ١٦٥]. (المؤلف)

(٣) أخرجه أحمد [في المسند : ٥ / ٤٥٦ ح ١٨٥٥٣] ، وابن حبّان في صحيحه : [١٣ / ١٤٢ ح ٥٨٢٨] كما في الإصابة : ٢ / ٣٩٩ [رقم ٥١٢٦]. (المؤلف)

٤٤٥

الإسلام خير؟ قال : «تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (١).

وأخرج الخطيب في تاريخه (٤ / ٢١٢) من طريق ابن عمر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وكونوا عباداً كما وصفكم الله عزّ وجلّ».

٩ ـ أخذه صهيباً بالتكنية وليس له ولد ولم يكن هذا من شرطها ، هذا عبد الله ابن مسعود كنّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له. كما في المستدرك (٢) (٣ / ٣١٣).

وهذا محمد بن طلحة كنّاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا القاسم وهو رضيع. وهذا أخو أنس بن مالك بين عينيه كنّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي عمير وكان صغيراً لم يبلغ الحلم ، وهذا أنس كنّاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا حمزة ولا حمزة له ، وهذه نساء النبيّ كلّها كانت تكنّى غير عائشة فكنّاها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأُمّ عبد الله ، وغير واحد منهنّ لم يكن لها ولد.

راجع (٣) صحيحي البخاري ومسلم ، وسنن البيهقي (٩ / ٣١٠) ، ومصابيح السنّة (٢ / ١٤٩) ، وزاد المعاد (١ / ٢٦١) ، والاستيعاب ، وأُسد الغابة ، والإصابة.

ـ ٩٧ ـ

حدُّ الخليفة ابنه بعد الحدِّ

عن عبد الله بن عمر ، قال : شرب أخي عبد الرحمن بن عمر وشرب معه

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ٣٩٩ [٢ / ١٢١٨ ح ٣٦٩٤] ، تاريخ الخطيب : ٨ / ١٦٩ [رقم ٤٢٧٩] ، زاد المعاد لابن القيّم : ١ / ٢٧٧ [٢ / ٢٢] ، قال : ثبت عنه في الصحيحين [البخاري : ١ / ١٩ ح ٢٨ ، ومسلم : ١ / ٩٥ ح ٦٣ كتاب الإيمان]. (المؤلف)

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٥٤ ح ٥٣٦٦.

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٢٢٩١ ح ٥٨٥٠ ، صحيح مسلم : ٤ / ٣٥٨ ح ٣٠ كتاب الآداب ، مصابيح السنّة : ٣ / ٣٠٧ ح ٣٧٠٧ ، زاد المعاد : ٢ / ٧ و ٩ ، الاستيعاب : القسم الرابع / ١٨٨٢ رقم ٤٠٢٩ ، أُسد الغابة : ١ / ١٥١ رقم ٢٥٨ ، الإصابة : ٣ / ٣٧٦ رقم ٧٧٨١.

٤٤٦

أبو سروعة عقبة بن الحارث ونحن بمصر في خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فسكرا ، فلمّا صَحَوا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا : طهّرنا فإنّا قد سكرنا من شراب شربناه. قال عبد الله بن عمر : فلم أشعر أنّهما أتيا عمرو بن العاص ، قال : فذكر لي أخي أنّه قد سكر. فقلت له : ادخل الدار أُطهّرك. قال : إنّه قد حدّث الأمير ، قال عبد الله : فقلت : والله لا تُحلَق اليوم على رءوس الناس ، ادخل أحلقك. وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحدّ ، فدخل معي الدار ، قال عبد الله : فحلقت أخي بيدي ثمّ جلدهما عمرو بن العاص ، فسمع عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بذلك فكتب إلى عمرو : أن ابعث إليَّ عبد الرحمن بن عمر على قتب ، ففعل ذلك عمرو. فلمّا قدم عبد الرحمن على عمر رضى الله عنه جلده وعاقبه من أجل مكانه منه ، ثمّ أرسله فلبث أشهراً صحيحاً ثمّ أصابه قدره ، فيحسب عامّة الناس أنّه مات من جلد عمر ولم يمت من جلده.

عن عمرو بن العاص ـ في حديث ـ قال قائل : هذا عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة على الباب يستأذنان ، فقلت : يدخلان. فدخلا وهما منكسران فقالا : أقم علينا حدّ الله فإنّا قد أصبنا البارحة شراباً فسكرنا ، قال : فزبرتهما وطردتهما ، فقال عبد الرحمن : إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت. قال : فحضرني رأي وعلمت أنّي إن لم أُقم عليهما الحدّ غضب عليَّ عمر في ذلك وعزلني وخالفه ما صنعت ، فنحن على ما نحن عليه إذ دخل عبد الله بن عمر ، فقمت إليه فرحّبت به وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى عليَّ ، وقال : أبي نهاني أن أدخل عليك إلاّ أن لا أجد من ذلك بدّا ، إنّ أخي لا يحلق على رءوس الناس شيئاً ، فأمّا الضرب فاصنع ما بدا لك. قال : وكانوا يحلقون مع الحدِّ. قال : فأخرجتهما إلى صحن الدار فضربتهما الحدّ ، ودخل ابن عمر بأخيه إلى بيته من الدار فحلق رأسه ورأس أبي سروعة ، فو الله ما كتبت إلى عمر بشيء ممّا كان حتى إذا تحيّنت كتابه ، (وذكر فيه) : فإذا جاءك كتابي هذا فابعث بعبد الرحمن بن عمر في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع. فبعث به كما قال أبوه ، وأقرأت ابن عمر كتاب أبيه ، وكتبت إلى عمر كتاباً أعتذر فيه وأخبره أنّي

٤٤٧

ضربته في صحن داري ، وبالله الذي لا يُحلف بأعظم منه إنّي لأُقيم الحدود في صحن داري على الذمّي والمسلم ، وبعث بالكتاب مع عبد الله بن عمر. قال أسلم : فقدم بعبد الرحمن على أبيه ، فدخل عليه وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من مركبه ، فقال : يا عبد الرحمن فعلت كذا وفعلت ، السياط. فكلّمه عبد الرحمن بن عوف وقال : يا أمير المؤمنين قد أُقيم عليه الحدُّ مرّة. فلم يلتفت إلى هذا عمر وزبره ، فجعل عبد الرحمن يصيح : أنا مريض وأنت قاتلي. فضربه الحدّ ثانية وحبسه ثمّ مرض فمات رحمه‌الله.

ذكره (١) البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٣١٢) ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد (٣ / ٤٧٠) ، والخطيب البغدادي في تاريخه (٥ / ٤٥٥) ، وابن الجوزي في سيرة عمر (ص ١٧٠) وفي طبعة (٢٠٧) ، والمحبّ الطبري في الرياض النضرة (٢ / ٣٢) ، والقسطلاني في إرشاد الساري (٩ / ٤٣٩) وصحّحه.

وقال أبو عمر في الاستيعاب (٢) (٢ / ٣٩٤) : عبد الرحمن بن عمر الأوسط هو أبو شحمة ، وهو الذي ضربه عمرو بن العاص بمصر في الخمر ، ثمّ حمله إلى المدينة ، فضربه أبوه أدب الوالد ، ثمّ مرض ومات بعد شهر ، هكذا يرويه معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه ، وأمّا أهل العراق فيقولون : إنّه مات تحت سياط عمر وذلك غلط ، وقال الزبير : أقام عليه حدّ الشارب فمرض ومات.

وذكر ابن حجر في الإصابة (٣ / ٧٢) كلام أبي عمر فقال : أخرج عبد الرزّاق القصّة مطوّلة عن معمر بالسند المذكور وهو صحيح.

وقال الطبري في تاريخه (٣) (٤ / ١٥٠) ، وابن الأثير في الكامل (٤) (٢ / ٢٠٧) ، وابن

__________________

(١) العقد الفريد : ٦ / ٢٦٥ ، تاريخ عمر بن الخطّاب : ص ٢١٣ ، الرياض النضرة : ٢ / ٣٠١ ، إرشاد الساري : ١٤ / ٢١٦.

(٢) الاستيعاب : القسم الثاني / ٨٤٢ رقم ١٤٤٣.

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٣ / ٥٩٧ حوادث سنة ١٣ ه‍.

(٤) الكامل في التاريخ : ٢ / ١٢٤ حوادث سنة ١٤ ه‍.

٤٤٨

كثير في تاريخه (١) (٧ / ٤٨) : وفي هذه السنة ـ أي سنة (١٤) ـ ضرب عمر بن الخطّاب ابنه في الشراب هو وجماعة فيه (٢).

قال الأميني : يقع الكلام على هذه المسألة من شتّى النواحي ؛ فإنّ الحدّ كفّارة وطهور ، فلا يبقى معه على المحدود بعد وزر يُحدّ عليه ثانياً ، وقد ثبت ذلك في السنّة الشريفة.

١ ـ عن خزيمة بن ثابت مرفوعاً : «من أُقيم عليه حدّ غفر له ذلك الذنب».

وفي لفظ آخر له : «من أصاب ذنباً فأُقيم عليه حدّ ذلك الذنب فهو كفّارته».

أخرجه أحمد في مسنده (٣) (٥ / ٢١٤ ، ٢١٥) ، والدارمي في سننه (٢ / ١٨٢) ، والبيهقي في سننه (٨ / ٣٢٨) ، والخطيب التبريزي في المشكاة (٤) (ص ٣٠٨).

٢ ـ عن عبادة بن الصامت مرفوعاً : «من أصاب منكم حدّا فعجّلت له عقوبته فهو كفّارته وإلاّ فأمره إلى الله».

وفي لفظ آخر له : «من أتى منكم حدّا ممّا نُهي عنه فأُقيم عليه الحدُّ فهو كفّارة له ، ومن أُخِّر عنه الحدّ فأمره إلى الله إن شاء عذّبه ، وإن شاء غفر له».

وفي لفظ ثالث له : «من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفّارة له».

راجع (٥) صحيح البخاري (١٠ / ٢٥) ، صحيح مسلم (٢ / ٣٩) ، صحيح الترمذي (١ / ٢٧١) ،

__________________

(١) البداية والنهاية : ٧ / ٥٧ حوادث سنة ١٤ ه‍.

(٢) البداية والنهاية : ٧ / ٥٧ حوادث سنة ١٤ ه‍. معه.

(٣) مسند أحمد : ٦ / ٢٨٠ ، ٢٨١ ح ٢١٣٥٩ ، ٢١٣٦٩.

(٤) مشكاة المصابيح : ٢ / ٣٢٥ ح ٣٦٢٨.

(٥) صحيح البخاري : ٦ / ٢٤٩٠ ح ٦٤٠٢ ، صحيح مسلم : ٣ / ٥٤٠ ح ٤١ كتاب الحدود ، سنن الترمذي : ٤ / ٣٦ ح ١٤٣٩ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٦٨ ح ٢٦٠٣.

٤٤٩

مسند أبي داود (ص ٧٩) ، سنن ابن ماجة (٢ / ١٢٩) ، سنن البيهقي (٨ / ٣٢٨)

٣ ـ وأخرج الشافعي في حديث مرفوعاً : «ما يدريك لعلّ الحدود نزلت كفّارةً للذنوب» سنن البيهقي (٨ / ٣٢٨).

٤ ـ عن عليّ أمير المؤمنين أنَّه قال : «من أتى شيئاً من حدٍّ فأُقيم عليه الحدّ فهو كفّارته» سنن البيهقي (٨ / ٣٢٩).

٥ ـ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : إنّ عليّا رضى الله عنه أقام على رجل حدّا فجعل الناس يسبّونه ويلعنونه ، فقال عليّ رضي‌الله‌عنه : «أمّا عن ذنبه هذا فلا يُسأل». سنن البيهقي (٨ / ٣٢٩).

٦ ـ عن عبد الله بن معقل : إنّ عليّا رضى الله عنه ضرب رجلاً حدّا فزاده الجلاّد سوطين فأقاده منه عليّ رضى الله عنه. سنن البيهقي (٨ / ٣٢٢).

وإن كان الخليفة يحسب أن حدّ عمرو بن العاص كان ملغىً لوقوعه في صحن الدار ، فقد أخبره الرجل أنّ ذلك عادته الجارية في الحدود كلّها ، وليس من شرط الحدّ أن يكون على رءوس الأشهاد بل يُكتفى بضرب الحدّ سرّا كما عزاه القسطلاني في إرشاده (١) (٩ / ٤٣٩) إلى الجمهور ، ولو صدق هذا الحسبان لوجب أن يحدّ أبا سروعة أيضاً في القضية وغيره ممّن حدّه عمرو بن العاص في صحن داره.

ولو أراد بذلك تعزيراً أو تأديباً كما اعتذر عنه البيهقي في سننه (٨ / ٣١٣) ، وأبو عمر كما مرّ ، والقسطلاني في الإرشاد (٩ / ٤٣٩) فإنّه بعد مخالفته للفظ الحديث من أنّه أقام عليه الحدّ ثانياً زيادة لم تفوّض إليه ، لما ذكرناه من أنّ الحدّ كفّارة ولا يُسأل بعده المحدود عن ذنبه فلا حدّ ولا تعزير ، ولا بأس ولا تأديب.

ثمّ إن صحّ التعزير فإنّه لا يزيد في السنّة على عشرة أسواط ، كما مرّ في (ص ١٧٥) فلما ذا ساوى بينه وبين الحدّ؟

__________________

(١) إرشاد الساري : ١٤ / ٢١٦.

٤٥٠

وأعطف على هذا أمره عمرو بن العاص بأن يبعث ولده على قتب في عباءة ، فدخل عليه ولم يستطع المشي من مركبه ، فإنّ كلّ ذلك إيذاء درأه الحدُّ ولم يبحه الشرع.

ثمّ لما ذا لم يكن له مرتدع عن تأجيل ما ارتآه من الحدِّ الجديد بمرضه ولم يرجئه حتى يبرأ؟ وهو حكم المريض المحدود في السنّة الشريفة.

وإن تعجب بعد ذلك كلّه فعجب قول ابن الجوزي في سيرة عمر (١) ؛ من أنّه لا ينبغي أن يُظنّ بعبد الرحمن بن عمر أنّه شرب الخمر ، وإنّما شرب النبيذ متأوّلاً وظنّ أنّ ما شرب منه لا يسكر ، وكذلك أبو سروعة ، وأبو سروعة من أهل بدر ، فلمّا خرج بهما الأمر إلى السكر طلبا التطهير بالحدّ ، وقد كان يكفيهما مجرّد الندم على التفريط غير أنّهما غضبا لله سبحانه على أنفسهما المفرّطة فأسلماها إلى إقامة الحدّ ، وأمّا كون عمر أعاد الضرب على ولده فليس ذلك حدّا وإنّما ضربه غضباً وتأديباً وإلاّ فالحدّ لا يكرّر. انتهى بلفظه.

وإن صحّت هذه المزعمة يُوجّه النقد إلى عمرو وعمر إن علما ذلك وإلى نفس المحدودين ، حيث عرضا أنفسهما على الحدّ من دون أي موجب له ، وكان يكفيهما الندم كما حسبه ابن الجوزي ، والحقّ أنّه لا حاجة إليه أيضاً لأنّهما لم يقترفا ذنباً بعد اعتقاد أنّه لا يسكر فلا توبة عنه ، وإن كان كامل الإيمان يتضجّر عن مثله. وعلى هذا فإنّهما لا يملكان لأنفسهما أن يعرضاها على هذا الإيلام الشديد والإضرار المؤلم إن لم يكن ذلك تشريعاً. لكن من أين أتت ابن الجوزي هذه الرؤيا الصادقة؟ فأراد تبرئة الرجلين ممّا اجترحاه من السيّئة مع اعترافهما بذلك بكلِّ صراحة ، فألقاهما في هوّة الإضرار بالنفس المحظور شرعاً ، والتشرّع في الدين المحرّم ، والكذب الصراح الذي هو من الكبائر ، وألحق بمن أقام الحدّ أوّلاً تبعة إقامته من دون موجب له ، والغضب

__________________

(١) تاريخ عمر بن الخطّاب : ص ٢١٥.

٤٥١

الذي عزاه إلى الخليفة في حدّه الثاني سواء كانا شربا الخمر كما اعترفا به أو لم يشرباها على ما تحمّله ابن الجوزي ، وشذّ به عن أئمّة الحديث ورجال التاريخ ، وذلك واضح من هذا البيان الضافي.

ـ ٩٨ ـ

جهل الخليفة بما يقرأ يوم العيد

عن عبيد الله ، قال : خرج عمر رضى الله عنه يوم عيد فأرسل إلى أبي واقد الليثي : بأيّ شيء كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في مثل هذا اليوم؟ فقال : بقاف واقتربت (١).

صحيح مسلم (١ / ٢٤٢) ، سنن أبي داود (٢ / ٢٨٠) ، موطّأ مالك (١ / ١٤٧) ، سنن ابن ماجة (١ / ١٨٨) ، صحيح الترمذي (١ / ١٠٦) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٤) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٩٤) واللفظ لابن ماجة.

قال الأميني : هذه رواية صحيحة أخرجها الأئمّة في الصحاح كما عرفت ، ورميها بالإرسال بأنّ عبيد الله بن عبد الله لم يدرك عمر مدفوع بأنّ الرواية في صحيح مسلم عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقد ، ولا شكّ أنّ عبيد الله أدرك أبا واقد ، وبهذا ردّ هذه الرمية البيهقي والسندي والسيوطي وغيرهم.

فهلمّ معي نسائل الخليفة عن أنّه لما ذا عزب عنه العلم بما كان يقرأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاة العيدين؟ أو كان ناسياً له فأراد أن يستثبت كما اعتذر به السيوطي في تنوير الحالك (٢) (١ / ١٤٧)؟ أو أنّه ألهاه عنه الصفق في الأسواق؟ كما

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٨ ح ١٤ كتاب العيدين ، سنن أبي داود : ١ / ٣٠٠ ح ١١٥٤ ، موطّأ مالك : ١ / ١٨٠ ح ٨ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٨ ح ١٢٨٢ ، سنن الترمذي : ٢ / ٤١٥ ح ٥٣٤ ، السنن الكبرى للنسائي : ١ / ٥٤٦ ح ١٧٧٣.

(٢) تنوير الحوالك : ١ / ١٩١.

٤٥٢

اعتذر به هو في غير هذا المورد ، وقد تقدّم في (ص ١٥٨) ويأتي بُعيد هذا ووصفه به غير واحد ، ويبعِّد النسيان أنّ حكماً مطّرداً كهذا يكرّر في كلِّ عام مرّتين على رءوس الأشهاد ومزدحم الجماهير لا يُنسى عادةً.

وأمّا احتمال السيوطي الآخر من أنّه أراد إعلام الناس بذلك ، فكان من الممكن إعلامهم بهتاف نفسه هتافاً مسمعاً وعمله المستمر المتّبع فيه سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالحاجة غير ماسّة إلى الإرسال والسؤال.

ـ ٩٩ ـ

الخليفة ومعاني الألفاظ

١ ـ عن عمر رضى الله عنه أنّه قال على المنبر : ما تقولون في قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) (١)؟ فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا ، التخوّف : التنقّص.

قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم. قال شاعرنا ـ زهير ـ أبو كبير الهذلي يصف ناقةً تنقّص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه :

تخوّفَ الرحل منها تامكاً قرداً

كما تخوّف عود النبعة السفن (٢)

فقال عمر : أيّها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ. قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهليّة فإنّ فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.

راجع (٣) تفسير الكشّاف (٢ / ١٦٥) ، تفسير القرطبي (١٠ / ١١٠) ، تفسير البيضاوي (١ / ٦٦٧).

__________________

(١) النحل : ٤٧.

(٢) تمك السنام : طال وارتفع. القرد : المتراكم بعض لحمه فوق بعض. النبعة : شجرة من أشجار الجبال يتّخذ منها القسي. السفن : القشر. (المؤلف)

(٣) الكشّاف : ٢ / ٦٠٨ ـ ٦٠٩ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٠ / ٧٣ ، تفسير البيضاوي : ١ / ٥٤٥.

٤٥٣

٢ ـ عن أبي الصلت الثقفي : أنّ عمر بن الخطّاب قرأ هذه الآية : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (١) ـ بنصب الراء ـ ، وقرأها بعض من عنده من أصحاب رسول الله حرِجاً بالخفض فقال : ائتوني رجلاً من كنانة واجعلوه راعياً وليكن مدلجيّا. فأتوا به ، فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة؟ فقال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء. فقال عمر رضى الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.

راجع (٢) تفسير ابن كثير (٢ / ١٧٥) ، تفسير الخازن (٢ / ٥٣) ، الدرّ المنثور (٣ / ٤٥) ، كنز العمّال (١ / ٢٨٥) نقلاً عن عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ.

٣ ـ عن عبد الله بن عمر ، قال : قرأ عمر بن الخطّاب هذه الآية : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٣) ، ثمّ قال : ادعو لي رجلاً من بني مدلج ، قال عمر : ما الحرج فيكم؟ قال : الضيق. كنز العمّال (١ / ٢٥٧) (٤).

٤ ـ أخرج الحاكم ، عن سعيد بن المسيّب : أنّ عمر بن الخطّاب أتى على هذه الآية : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٥) ، فأتى أُبيّ بن كعب فسأله أيّنا لم يظلم؟ فقال له : يا أمير المؤمنين إنّما ذاك الشرك ، أما سمعت قول لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)؟ المستدرك (٦) (٣ / ٣٠٥).

إنّي أعذر الخليفة إن عزب عنه علم الكتاب والسنّة أو تقاصر عن الحكم في

__________________

(١) الأنعام : ١٢٥.

(٢) تفسير الخازن : ٢ / ٥١ ، الدرّ المنثور : ٣ / ٣٥٦ ، كنز العمّال : ٢ / ٥٩٦ ح ٤٨٢٠.

(٣) الحجّ : ٧٨.

(٤) كنز العمّال : ٢ / ٤٧٠ ح ٤٥٢٣.

(٥) الأنعام : ٨٢.

(٦) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٤٥ ح ٥٣٣٠. والآية : ١٣ من سورة لقمان.

٤٥٤

القضايا ، فإنّ الامتهان بالبرطشة (١) والصفق بالأسواق ، والاحتراف ببيع الخيط والقرظة (٢) في إملاق لا يحدوه إلاّ إلى تحرّي لماظة يقتات بها ألهته عن العلوم ، لكن لا أعذره على عدم معرفته باللغة وهي لغته تلوكها أشداقه في آناء الليل وأطراف النهار.

ـ ١٠٠ ـ

رأي الخليفة في صوم الدهر

عن أبي عمر الشيباني ، قال : خُبّر عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه برجل يصوم الدهر فجعل يضربه بمخفقته (٣) ويقول : كل يا دهر [كل] يا دهر (٤).

قال الأميني : لقد أربكني الموقف فلا أدري على أيّ النقلين ألقي ثقتي؟ أعلى رواية ابن الجوزي هذه من حديث المخفقة؟ أم على نقله الآخر في سيرة عمر (٥) (ص ١٤٦) من أنّه كان يصوم الدهر. وروى الطبري وجعفر الفريابي في السنن وحكى عنهما السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٦) (٤ / ٣٣٢) من أنّه كان يسرد الصيام ، وفي سنن البيهقي (٤ / ٣٠١) : أنّ عمر بن الخطّاب قد كان يسرد الصيام قبل أن يموت ، وسرد عبد الله بن عمر في آخر زمانه ، وذكره ابن كثير في تاريخه (٧) (٧ / ١٣٥) ، ورواه

__________________

(١) راجع النهاية : ١ / ٧٨ [١ / ١١٩] ، قاموس اللغة [القاموس المحيط : ص ٧٥٤] ، تاج العروس : ٤ / ٧٢١ ، وقال : هو الذي يكتري للناس الإبل والحمير ويأخذ عليه جعلاً. (المؤلف)

(٢) راجع صحيفة : ١٥٨ ، ٣٠٣ ، ٣٠٦. (المؤلف)

(٣) المخفقة : الدرّة التي يضرب بها. (المؤلف)

(٤) سيرة عمر لابن الجوزي : ص ١٧٤ [ص ١٧٩ والزيادة منه]. (المؤلف)

(٥) تاريخ عمر بن الخطّاب : ص ١٥٣.

(٦) كنز العمّال : ٨ / ٦١٩ ح ٢٤٤١٧.

(٧) البداية والنهاية : ٧ / ١٥٢ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

٤٥٥

المحبّ الطبري في الرياض (١) (٢ / ٣٨) واستدلّ به على أنّ سرد الصوم أفضل من صوم يوم وفطر يوم.

وليس هناك نهي عن ذلك في السنّة الشريفة ، وما يشعر بظاهره النهي عنه مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صام من صام الأبد». وقوله : «من صام الأبد فلا صام ولا أفطر». فهو منزّل على صوم الأبد المستلزم لصوم الأيّام المحرّم صومها أو على صورتي إيجابه الضعف أو تفويت الحقّ ، وبدون هذه لا نهي عنه كما في صحيح مسلم (٢) (١ / ٣١٩) ، وسنن البيهقي (٤ / ٢٩٩) ، وكثير من كتب الفقه وشروح مجامع الحديث. وأخرج ابن جرير عن أُمّ كلثوم قالت : قيل لعائشة : تصومين الدهر وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صيام الدهر؟ قالت : نعم ؛ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن صيام الدهر ، ولكن من أفطر يوم الفطر ويوم النحر فلم يصم الدهر (٣).

وقال النووي في شرح صحيح مسلم (٤) ـ هامش الإرشاد (٥ / ٥١) : وفي هذه الروايات المذكورة في الباب النهي عن صيام الدهر ، واختلف العلماء فيه ، فذهب أهل الظاهر إلى منع صيام الدهر نظراً لظواهر هذه الأحاديث ، قال القاضي وغيره : وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيّام المنهيّ عنها وهي العيدان والتشريق ، ومذهب الشافعي وأصحابه أنّ سرد الصيام إذا أفطر العيدين والتشريق لا كراهة فيه بل هو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوّت حقّا ، فإن تضرّر أو فوّت حقّا فمكروه ، واستدلّوا بحديث حمزة بن عمرو وقد رواه البخاري ومسلم أنّه قال : يا رسول الله إنّي أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ فقال : «إن شئت فصم». وهذا لفظ

__________________

(١) الرياض النضرة : ٢ / ٣٠٩.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٥١٧ ح ١٨٦ و ١٨٧ كتاب الصيام.

(٣) كنز العمّال : ٤ / ٣٣٤ [٨ / ٦٢٧ ح ٢٤٤٥١ نقلاً عن تهذيب الآثار للطبري : ١ / ٣١٥ ح ٥٠٧ مسند عمر بن الخطّاب]. (المؤلف)

(٤) شرح صحيح مسلم : ٨ / ٤٠ ـ ٤٢.

٤٥٦

رواية مسلم فأقرّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سرد الصيام ، ولو كان مكروهاً لم يقرّه لا سيّما في السفر ، وقد ثبت عن ابن عمر بن الخطّاب أنّه كان يسرد الصيام ، وكذلك أبو طلحة وعائشة وخلائق من السلف قد ذكرت منهم جماعة في شرح المهذّب في باب صوم التطوّع وأجابوا عن حديث «لا صام من صام الأبد» بأجوبة أحدها : أنّه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين والتشريق ، وبهذا أجابت عائشة.

والثاني : أنّه محمول على من تضرّر به أو فوّت به حقّا ، ويؤيّده قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإنّك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر ونَم وقم ، وصم من الشهر ثلاثة أيّام فإنّ الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر». والنهي كان خطاباً لعبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد ذكر مسلم عنه أنّه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة ، قالوا : فنهى ابن عمرو وكان لعلمه بأنّه سيعجز ، وأقرّ حمزة بن عمرو لعلمه بقدرته بلا ضرر.

والثالث : أنّ معنى «لا صام» أنّه يجد من مشقّته ما يجدها غيره ، فيكون خبراً لا دعاءً. إلى آخره.

وقال في شرح حديث : «صم يوماً وأفطر يوماً» : اختلف العلماء فيه ؛ فقال المتولّي من أصحابنا وغيره من العلماء : هو أفضل من السرد لظاهر هذا الحديث. وفي كلام غيره إشارة إلى تفضيل السرد ، وتخصيص هذا الحديث بعبد الله بن عمرو ومن في معناه ، وتقديره لا أفضل من هذا في حقّك ، ويؤيّد هذا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينهَ حمزة بن عمرو عن السرد وأرشده إلى يوم ويوم ، ولو كان أفضل في حقّ كلّ الناس لأرشده إليه وبيّنه له ، فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. والله أعلم.

والباحث يجد كثيراً من هذه الكلمات في غضون التآليف لأئمّة الفقه وشرّاح الحديث ، وممّن يؤثر عنه صوم الدهر :

٤٥٧

١ ـ عثمان بن عفّان : المقتول (٣٥). الاستيعاب (١) (٢ / ٤٧٧).

٢ ـ عبد الله بن مالك الأزدي : المتوفّى (٥٦ ، ٥٩). البداية والنهاية (٢) (٨ / ٩٩) ، الإصابة (٦ / ٣٦٤).

٣ ـ أسود بن يزيد النخعي : المتوفّى (٧٥). البداية والنهاية (٣) (٩ / ١٢).

٤ ـ أبو بكر بن عبد الرحمن القرشي : المتوفّى (٩٤). البداية والنهاية (٤) (٩ / ١١٦).

٥ ـ الفقيه أبو خالد مسلم المخزومي : المتوفّى (١٠٨). طبقات الحفّاظ (٥) (١ / ٢٣٥).

٦ ـ سعد بن إبراهيم المدني : المتوفّى (١٢٥). خلاصة التهذيب (١١٣) ، شذرات الذهب (١ / ١٧٣) (٦).

٧ ـ وكيع بن الجرّاح : المتوفّى (١٩٦). تاريخ بغداد (١٣ / ٥٠١) ، طبقات الحفّاظ (٧) (١ / ٢٨٢).

٨ ـ مصعب بن عبد الله بن الزبير : المتوفّى (٢٣٣). ميزان الاعتدال (٨) (٣ / ١٧٢).

٩ ـ محمد بن علي أبو العبّاس الكرخي : المتوفّى (٣٤٣). المنتظم (٩) (٦ / ٣٧٦).

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ٤٣. ١ رقم ١٧٧٨.

(٢) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٧ حوادث سنة ٥٩ ه‍.

(٣) البداية والنهاية : ٩ / ١٧ حوادث سنة ٧٥ ه‍.

(٤) البداية والنهاية : ٩ / ١٣٥ حوادث سنة ٩٤ ه‍.

(٥) تذكرة الحفّاظ : ١ / ٢٥٥ رقم ٢٤١.

(٦) خلاصة الخزرجي : ١ / ٣٦٧ رقم ٢٣٧١ ، شذرات الذهب : ٢ / ١١٩ حوادث سنة ١٢٧ ه‍.

(٧) تذكرة الحفّاظ : ١ / ٣٠٧ رقم ٢٨٤.

(٨) ميزان الاعتدال : ٤ / ١١٩ رقم ٨٥٥٨.

(٩) المنتظم : ١٤ / ٩٦ رقم ٢٥٤٨.

٤٥٨

١٠ ـ أبو بكر النجاد ، شيخ الحنابلة بالعراق : المتوفّى (٣٤٨). المنتظم (٦ / ٣٩٠) ، البداية والنهاية (١١ / ٢٣٤) (١).

١١ ـ أحمد بن إبراهيم النيسابوري : المتوفّى (٣٨٦). البداية والنهاية (٢) (١١ / ٣١٩).

١٢ ـ أبو القاسم عبد الله بن أحمد الحربي : المتوفّى (٤١٢). تاريخ بغداد (٣) (١٠ / ٣٨٢) ، المنتظم (٤) (٨ / ٤).

١٣ ـ أبو الفرج المعدّل أحمد بن محمد : المتوفّى (٤١٥). تاريخ بغداد (٥ / ٦٧) ، البداية والنهاية (١٢ / ١٨) ، المنتظم (٨ / ١٧) (٥).

١٤ ـ أبو العبّاس أحمد الأبيوردي : المتوفّى (٤٢٥). تاريخ بغداد (٥ / ٥١).

١٥ ـ أبو عبد الله الصوري محمد بن عليّ : المتوفّى (٤٤١). تاريخ بغداد (٣ / ١٠٣) ، المنتظم (٦) (٨ / ١٤٣).

١٦ ـ عبد الملك بن الحسن : المتوفّى (٤٧٢). البداية والنهاية (٧) (١٢ / ١٢٠)

١٧ ـ أبو البركات يحيى الأنباري : المتوفّى (٥٥٢). البداية والنهاية (٨) (١٢ / ٢٣٧).

١٨ ـ الحافظ عبد الغني المقدسي : المتوفّى (٦٠٠). البداية والنهاية (٩)(١٣/ ٣٩).

__________________

(١) المنتظم : ١٤ / ١١٩ رقم ٢٥٨٦ ، البداية والنهاية : ١١ / ٢٦٦ حوادث سنة ٣٤٨ ه

(٢) البداية والنهاية : ١١ / ٣٦٥ حوادث سنة ٣٨٦ ه

(٣) وفيه : عبيد الله ، بدلاً من : عبد الله.

(٤) المنتظم : ١٥ / ١٤٧ رقم ٣٠٩٩ وفيه : محمد بن عمر ، بدلاً من : عبد الله بن أحمد.

(٥) البداية والنهاية : ١٢ / ٢٢ حوادث سنة ٤١٥ ه‍ ، المنتظم : ١٥ / ١٦٤ رقم ٣١٢٣.

(٦) المنتظم : ١٥ / ٣٢٢ رقم ٣٢٩٣.

(٧) البداية والنهاية : ١٢ / ١٤٧ حوادث سنة ٤٧٢ ه‍.

(٨) البداية والنهاية : ١٢ / ٢٩٦ حوادث سنة ٥٥٢ ه‍.

(٩) البداية والنهاية : ١٣ / ٤٧ حوادث سنة ٦٠٠ ه‍.

٤٥٩

١٩ ـ الفقيه محمود البغدادي الحنبلي : المتوفّى (٦٠٩). شذرات الذهب (١) (٥ / ٣٩).

٢٠ ـ الشيخ محيي الدين النووي : المتوفّى (٦٧٧). البداية والنهاية (٢) (١٣ / ٢٧٩).

٢١ ـ عبد العزيز بن دنف (٣) الحنبلي البغدادي ، شذرات الذهب (٤) (٥ / ١٨٤)

وليس هذا الإصفاق منهم إلاّ لما عرفوه من جوازه في شرع الإسلام ، هذا كلّه ولكن للمخفقة شأنها ، وللخليفة اجتهاده ، ولعلّه كان يرى اختصاص هذا الحكم به من دون الناس وإلاّ فما وجه ضرب الرجل المتعبّد بالمخفقة؟

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) (٥) ، (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) (٦)

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (٧) ، (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٨)

__________________

(١) شذرات الذهب : ٧ / ٧٢ حوادث سنة ٦٠٩ ه‍.

(٢) البداية والنهاية : ١٣ / ٣٢٦ حوادث سنة ٦٧٦ ه‍.

(٣) كذا في الطبعة التي اعتمدها المؤلف من الشذرات ، وأمّا المصادر الأخرى ـ فضلاً عن طبعة الشذرات المعتمدة لدينا ـ ففيها جميعاً : عبد العزيز بن دُلف.

(٤) شذرات الذهب : ٧ / ٣٢٣ حوادث سنة ٦٣٧ ه‍.

(٥) آل عمران : ٦٢.

(٦) الأعراف : ٥٢.

(٧) الجاثية : ٢٤.

(٨) يونس : ٣٦.

٤٦٠