الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

تلي عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟

وقال البيضاوي في تفسيره (١) (١ / ٣٥٧) : في قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إيذانٌ بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأنّ الأعذار قد انقطعت.

وما كان ذلك التأويل من الخليفة وطلب البيان بعد البيان ، وعدم الانتهاء قبل الزجر والوعيد إلاّ لحبّه لها وكونه أشرب الناس في الجاهلية كما ينمّ عنه قوله فيما أخرجه ابن هشام في سيرته (٢) (١ / ٣٦٨) : كنت للإسلام مباعداً ، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أُحبّها وأشربها (٣) ، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحَزْوَرة (٤) عند دور عمر بن عبد بن عمران المخزومي ، فخرجت ليلة أُريد جلسائي أُولئك في مجلسهم ذلك ، فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحداً فقلت : لو أنّي جئت فلاناً الخمّار ، وكان بمكة يبيع الخمر لعلّي أجد عنده خمراً فأشرب منها. الحديث.

وفيما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (١٠ / ٢١٤) عن عبد الله بن عمر من قول والده في أيّام خلافته : إنّي كنت لأشرب الناس لها في الجاهلية ، وإنّها ليست كالزنا (٥)

ومن هنا خُصّ الخليفة بالدعوة وقراءة النبيّ الأعظم عليه الآيات النازلة في الخمر ، وكان ممّن يؤوّلها ولم ينتهِ عنها ، إلى أن نزل الزجر والوعيد بآية المائدة وهي آخر

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ١ / ٢٨٢.

(٢) السيرة النبويّة : ١ / ٣٧١.

(٣) في المصدر : وأُسرّ بها.

(٤) الحزورة : كانت سوقاً من أسواق مكة ، وهي الآن جزء المسجد. (المؤلف)

(٥) وراجع سيرة عمر لابن الجوزي : ص ٩٨ [ص ١٢٢] ، كنز العمّال : ٣ / ١٠٧ [٥ / ٥٠٥ ح ١٣٧٤٦] ، منتخب الكنز ـ بهامش مسند أحمد ـ : ٢ / ٤٢٨ [٢ / ٥٠٠] ، الخلفاء الراشدون لعبد الوهاب النجار : ص ٢٣٨. (المؤلف)

٣٦١

سورة نزلت من القرآن (١) ومنها ما نزل في حجّة الوداع (٢). وفي الدرّ المنثور (٣) (٢ / ٢٥٢) عن محمد بن كعب القرظي أنّه قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله في حجّة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته. ويروى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ سورة المائدة في حجّة الوداع وقال : «يا أيّها الناس إنّ سورة المائدة [من] (٤) آخر ما نزل فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» تفسير القرطبي (٥) (٦ / ٣١).

وبعد هذه كلّها لم يكن الخليفة يعلم أنّ شرب الخمر من أعظم الكبائر كما تعرب عنه صحيحة الحاكم ، عن سالم بن عبد الله ، قال : إنّ أبا بكر وعمر وناساً جلسوا بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكروا أعظم الكبائر ، فلم يكن عندهم فيها علم ، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمر أسأله ، فأخبرني أنّ أعظم الكبائر شرب الخمر ، فأتيتهم فأخبرتهم ، فأنكروا ذلك ووثبوا جميعاً حتى أتوه فى داره ، فأخبرهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيّره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفساً أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتلوه ، فاختار الخمر وأنّه لمّا شربه لم يمتنع من شيء أراده منه» (٦).

مستدرك الحاكم (٤ / ١٤٧) ، الترغيب والترهيب (٣ / ١٠٥) ، الدرّ المنثور (٢ / ٣٢٣).

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٢ / ٣١١ [٢ / ٣٤٠ ح ٣٢١١] ، جامع الترمذي : ٢ / ١٧٨ [٥ / ٢٤٣ ح ٣٠٦٣] ، الدرّ المنثور : ٢ / ٢٥٢ [٣ / ٣] نقلاً عن أحمد ، والترمذي ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وسعيد ابن منصور ، وابن المنذري. (المؤلف)

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٠ [٦ / ٢٢] ، وإرشاد الساري : ٧ / ٩٥ [١٠ / ١٩٨]. (المؤلف)

(٣) الدرّ المنثور : ٣ / ٣ ـ ٤.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) الجامع لأحكام القرآن : ٦ / ٢٢.

(٦) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ١٦٣ ح ٧٢٣٦ ، الترغيب والترهيب : ٣ / ٢٥٨ ح ٢٨ ، الدرّ المنثور : ٣ / ١٧٧.

٣٦٢

ولاعتياده عليها منذ مدّة غير قصيرة إلى نزول آية المائدة في حجّة الوداع طفق يشرب النبيذ الشديد بعد نزول ذلك الوعيد ، وبعد قوله : انتهينا انتهينا. وكان يقول : إنّا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا فمن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء (١).

وقال : إنّي رجل معجار (٢) البطن أو مسعار البطن ، وأشرب هذا النبيذ الشديد فيسهل بطني. أخرجه ابن أبي شيبة كما في كنز العمّال (٣) (٣ / ١٠٩).

وقال : لا يقطع لحوم هذه الإبل في بطوننا إلاّ النبيذ الشديد.

جامع مسانيد أبي حنيفة (٢ / ١٩٠ ، ٢١٥).

وكان يشرب النبيذ الشديد إلى آخر نفَس لفظه ، قال عمرو بن ميمون : شهدت عمر حين طُعن أُتي بنبيذ شديد فشربه. تاريخ بغداد للخطيب (٦ / ١٥٦).

وكان حدّة شرابه وشدّته بحيث لو شرب غيره منه لسكر وكان يقيم عليه الحدّ ، غير أنّ الخليفة كان لم يتأثّر منه لاعتياده أو كان يكسره ويشربه. قال الشعبي : شرب أعرابيّ من إداوة عمر فأُغشي فحدّه عمر. ثمّ قال : وإنّما حدّه للسكر لا للشرب.

العقد الفريد (٤) (٣ / ٤١٦).

وفي لفظ الجصّاص في أحكام القرآن (٥) (٢ / ٥٦٥) : إنّ أعرابيّا شرب من شراب

__________________

(١) السنن الكبرى : ٨ / ٢٩٩ ، محاضرات الراغب : ١ / ٣١٩ [مج ١ / ج ٢ / ٦٦٩] ، كنز العمّال : ٣ / ١٠٩ [٥ / ٥١٤ ح ١٣٧٧٢] نقلاً عن ابن أبي شيبة. (المؤلف)

(٢) لعلّه : مجعار البطن ، كما في النهاية لابن الأثير : ١ / ٢٧٥.

(٣) كنز العمّال : ٥ / ٥١٤ ح ١٣٧٧٣.

(٤) العقد الفريد : ٦ / ٢٧٨.

(٥) أحكام القرآن : ٢ / ٤٦٤.

٣٦٣

عمر فجلده عمر الحدّ ، فقال الأعرابي : إنّما شربت من شرابك. فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثمّ شرب منه وقال : من رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء. ثمّ قال الجصّاص : ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه وقال فيه : إنّه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابي.

وفي جامع مسانيد أبي حنيفة (٢ / ١٩٢) قال : هكذا فاكسروه بالماء إذا غلبكم شيطانه. وكان يحبّ الشراب الشديد.

وعن ابن جريج : أنّ رجلاً عبّ في شراب نُبِذ لعمر بن الخطّاب بطريق المدينة فسكر ، فتركه عمر حتى أفاق فحدّه ثمّ أوجعه عمر بالماء فشرب منه (١).

وعن أبي رافع : إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : إذا خشيتم من نبيذ شدّته فاكسروه بالماء. أخرجه النسائي في سننه (٢) (٨ / ٣٢٦) وعدّه ممّا احتجّ به من أباح شرب المسكر.

وأخرج القاضي أبو يوسف في كتاب الآثار (ص ٢٢٦) من طريق أبي حنيفة عن إبراهيم أبي عمران الكوفي التابعي (٣) ، قال : إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أخذ رجلاً سكران فأراد أن يجعل له مخرجاً فأبى إلاّ ذهاب عقل ، فقال : احبسوه فإذا صحا (٤) فاضربوه ، ثمّ أخذ فضل إداوته فذاقه فقال : أوه هذا عملَ بالرجال العمل ، ثمّ صبّ فيه ماء فكسره فشرب وسقى أصحابه ، وقال : هكذا اصنعوا بشرابكم إذا غلبكم شيطانه.

ومن العجيب حدّ من شرب من إداوة عمر فسكر لأنّه إن كان لا يعلم أنّ ما في

__________________

(١) حاشية سنن البيهقي لابن التركماني : ٨ / ٣٠٦ ، كنز العمّال : ٣ / ١١٠ [٥ / ٥١٧ ح ١٣٧٧٩]. (المؤلف)

(٢) السنن الكبرى : ٣ / ٢٣٧ ح ٥٢١٤.

(٣) المرجّح أن أبا حنيفة المولود سنة ٨٠ ه‍ لم يسمع من إبراهيم المتوفى سنة ٩٦ ه‍ مباشرة ؛ بل أخذ عنه بواسطة حماد بن أبي سليمان الذي يعد أوّل من اتصل بهم أبو حنيفة لطلب العلم.

(٤) صحا السكران صحواً : زال سكره. (المؤلف)

٣٦٤

الأداوة مسكر وشرب فلا حدّ عليه ، كما أخرجه أبو عمر في العلم (١) (٢ / ٨٦) ومرّ (ص ١٧٤) عن الخليفة نفسه من قوله : ما الحدّ إلاّ على من علمه. وإن كان يعلم ذلك فإنّ له في شرابه أُسوةً بالخليفة ، والفرق بينهما بأنّه أسكره ولم يكن يسكر الخليفة لاعتياده به تافهاً ، فكأنّ المدار عند الخليفة في حلّية الأشربة والحدّ عليها على الإسكار وعدمه بالإضافة إلى شخص كلِّ شارب ، وينبئ عنه قوله : الخمر ما خامر العقل (٢) ، والحدّ والحرمة مطلقان لكلّ مسكر ، وإن قورنت صفة الإسكار بمانع من خصوصيات الأمزجة أو لقلّة في الشرب ، فالصفة صلتها بالمشروب فحسب لا الشارب ، ويدلّ على ذلك أحاديث جمّة صحيحة تدلّ على أنّ القليل الذي لا يسكر ممّا يسكر كثيره حرام ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره».

أخرجه الدارمي في سننه (٢ / ١١٣) ، والنسائي في سننه (٣) (٨ / ٣٠١) ، والبيهقي في سننه (٨ / ٢٩٦).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق جابر ، وابن عمر ، وابن عمرو : «ما أسكر كثيره فقليله حرام».

أخرجه (٤) أبو داود في سننه (٢ / ١٢٩) ، وأحمد في مسنده (٢ / ١٦٧ و ٣ / ٣٤٣) والترمذي في صحيحه (١ / ٣٤٢) ، وابن ماجة في سننه (٢ / ٣٣٢) ، والنسائي في سننه (٨ / ٣٠٠) ، والبيهقي في سننه (٨ / ٢٩٦) ، والبغوي في مصابيح السنّة (٢ / ٦٧) ، والخطيب في تاريخ بغداد (٣ / ٣٢٧).

__________________

(١) جامع بيان العلم : ص ٣٠٨ ح ١٥٤٨.

(٢) أخرجه الخمسة من أئمّة الصحاح الستّة كما في تيسير الوصول : ٢ / ١٧٤ [٢ / ٢١٣ ح ٢]. (المؤلف)

(٣) السنن الكبرى : ٣ / ٢١٦ ح ٥١١٨.

(٤) سنن أبي داود : ٣ / ٣٢٧ ح ٣٦٨١ ، مسند أحمد ٢ / ٣٥٣ ح ٦٥٢٢ و ٤ / ٣٠٤ ح ١٤٢٩٣ ، سنن الترمذي : ٤ / ٢٥٨ ح ١٨٦٥ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١١٢٤ ح ٣٣٩٢ و ٣٣٩٤ ، السنن الكبرى : ٣ / ٢١٦ ح ٥١١٧ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٥٦٢ ح ٢٧٤٧.

٣٦٥

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مسكر حرام وما أسكر منه الفرَق (١) فملء الكفِّ منه حرام».

وفي لفظ آخر : «ما أسكر منه الفرَق فالحسوة منه حرام».

أخرجه (٢) أبو داود في سننه (٢ / ١٣٠) ، والترمذي في صحيحه (١ / ٣٤٢) ، والبيهقي في سننه (٨ / ٢٩٦) ، والبغوي في مصابيح السنّة (٢ / ٦٧) ، والخطيب البغدادي في تاريخه (٦ / ٢٢٩) ، وابن الأثير في جامع الأُصول كما في التيسير (٢ / ١٧٣).

وعن سعد : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره. أخرجه النسائي في سننه (٣) (٨ / ٣٠١).

وقال السندي في شرح سنن النسائي (٤) : أي ما يحصل السكر بشرب كثيره فهو حرام قليله وكثيره وإن كان قليله غير مسكر ، وبه أخذ الجمهور وعليه الاعتماد عند علمائنا الحنفيّة ، والاعتماد على القول بأنّ المحرّم هو الشربة المسكرة وما كان قبلها فحلال قد ردّه المحقّقون كما ردّه المصنّف رحمه‌الله تعالى.

وفي تفسير الطبري (٥) (٢ / ١٠٤) عن قتادة : جاء تحريم الخمر في آية سورة المائدة ، قليلها وكثيرها ما أسكر منها وما لم يسكر. وأخرجه عبد بن حميد كما في الدرّ المنثور (٦) (٢ / ٣١٦).

__________________

(١) الفرق ـ بفتح الراء وسكونها ـ : إناء يسع ستة عشر رطلاً. والحسوة : الجرعة من الماء. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ٣ / ٣٢٩ ح ٣٦٨٧ ، سنن الترمذي : ٤ / ٢٥٩ ح ١٨٦٦ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٥٦٢ ح ٢٧٤٨ ، جامع الأصول : ٦ / ٦٤ ح ٣١١١ ، تيسير الوصول : ٢ / ٢١٢ ح ٣.

(٣) السنن الكبرى : ٣ / ٢١٦ ح ٥١١٨.

(٤) حاشية السندي على شرح السنن الكبرى : ٨ / ٣٠٠.

(٥) جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٣٦٣.

(٦) الدرّ المنثور : ٣ / ١٦٠.

٣٦٦

أخرج أبو حنيفة (١) بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «حرمت الخمر لعينها القليل منها والكثير ، والمسكر من كلّ شراب».

ورواه الخطيب في تاريخه (٣ / ١٩٠) عن ابن عبّاس ولفظه : «حرمت الخمرة بعينها ، قليلها وكثيرها والمسكر من كلّ شراب».

وإنّما أحلّ عمر الطلاء حين طبخ وذهب ثلثاه ، ولمّا قدم الشام شكوا له وباء الأرض إلى أن قالوا : هل لك أن تجعل لك من هذا الشراب شيئاً لا يسكر؟ قال : نعم. فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث ، فأمرهم عمر أن يشربوه وكتب إلى عمّاله أن يرزقوا الناس الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه (٢).

وقال محمود بن لبيد الأنصاري : إنّ عمر بن الخطّاب حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها. وقالوا : لا يصلحنا إلاّ هذا الشراب. فقال عمر : اشربوا هذا العسل. قالوا : لا يصلحنا العسل. فقال رجل من أهل الأرض : هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئاً لا يسكر؟ قال : نعم. فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر ، فأدخل فيه عمر إصبعه ثمّ رفع يده فتبعها يتمطّط ، فقال : هذا الطلاء هذا مثل طلاء الإبل ، فأمرهم عمر أن يشربوه ، فقال له عبادة بن الصامت : أحللتها والله ، فقال عمر : كلاّ والله ، اللهمّ إنّي لا أحلّ لهم شيئاً حرّمته عليهم ، ولا أُحرّم عليهم شيئاً أحللته لهم. أخرجه إمام المالكيّة مالك في الموطّأ (٣) (٢ / ١٨٠) في جامع تحريم الخمر.

__________________

(١) جامع مسانيد أبي حنيفة : ٢ / ١٨٣. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ٨ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، سنن النسائي : ٨ / ٣٢٩ [٣ / ٢٤٠ ح ٥٢٢٤] ، سنن سعيد بن منصور كما في كنز العمّال : ٣ / ١٠٩ ، ١١٠ [٥ / ٥١٤ ح ١٣٧٧٤ و ٥١٥ ح ١٣٧٧٥] ، تيسير الوصول : ٢ / ١٧٨ [٢ / ٢١٨ ح ١٢] ، جامع مسانيد أبي حنيفة : ٢ / ١٩١. (المؤلف)

(٣) موطّأ مالك : ٢ / ٨٤٧ ح ١٤.

٣٦٧

فحجّ أبو مسلم الخولاني فدخل على عائشة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعلت تسأله عن الشام وعن بردها ، فجعل يخبرها ، فقالت : كيف تصبرون على بردها؟ فقال : يا أُمّ المؤمنين إنّهم يشربون شراباً لهم يقال له : الطلاء. فقالت : صدق الله وبلّغ حبّي ، سمعت حبّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ أُناساً من أُمّتي يشربون الخمر يسمّونها بغير اسمها» (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ القوم سيُفتَنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهديّة ، والربا بالبيع». نهج البلاغة (٢) (٢ / ٦٥)

وسئل ابن عبّاس عن الطلاء ، فقال : وما طلاؤكم هذا إذ سألتموني؟ فبيّنوا لي الذي تسألوني عنه. قالوا : هو العنب يعصر ثمّ يطبخ ثمّ يجعل في الدنان. قال : وما الدنان؟ قالوا : أدنان مقيّرة. قال : مزفّتة؟ قالوا : نعم. قال : أيُسكر؟ قالوا : إذا أُكثر منه أسكر قال : فكلّ مسكر حرام.

وقبل هذه كلّها قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجتنب كلّ مسكر ينشُ (٣) قليله وكثيره». أخرجه النسائي في سننه (٤) (٨ / ٣٢٤) ، وحكاه عنه ابن الديبع في تيسير الوصول (٥) (٢ / ١٧٢).

هذه آراء من شتّى النواحي في باب الأشربة تخصّ بالخليفة لا تساعده فيها البرهنة الشرعيّة من الكتاب والسنّة بل هي فتنة ولكنّ أكثرهم لا يعلمون.

__________________

(١) وفي لفظ أبي نعيم : «ستشرب أُمّتي من بعدي الخمر يسمّونها بغير اسمها ، يكون عونهم على شربها أُمراؤهم. الإصابة : ٣ / ٥٤٦ [رقم ٨٦٦٤]. (المؤلف)

(٢) نهج البلاغة : ص ٢٢٠.

(٣) ينشّ : أي يغلي. (المؤلف)

(٤) السنن الكبرى : ٣ / ٢٣٦ ح ٥٢٠٦.

(٥) تيسير الوصول : ٢ / ٢١٢ ح ٥.

٣٦٨

ـ ٧٩ ـ

جهل الخليفة بالغسل من الجنابة

عن رفاعة بن رافع ، قال : بينا أنا عند عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذ دخل عليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة ـ في الذي يجامع ولا ينزل ـ فقال عمر : عليّ به. فجاء زيد ، فلمّا رآه عمر قال : أي عدوّ نفسه قد بلغت أنّك تفتي الناس برأيك. فقال : يا أمير المؤمنين بالله ما فعلت ، لكنّي سمعت من أعمامي حديثاً فحدّثت به من أبي أيّوب ، ومن أُبيّ بن كعب ، ومن رفاعة بن رافع. فأقبل عمر على رفاعة بن رافع فقال : وقد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم من المرأة فأكسل لم يغتسل؟ فقال : قد كنّا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يأتنا فيه تحريم ولم يكن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه نهي. قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم ذلك؟ قال : لا أدري. فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجُمِعوا له فشاورهم ، فأشار الناس أن لا غسل في ذلك إلاّ ما كان من معاذ وعليّ فإنّهما قالا : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال عمر رضى الله عنه : هذا وأنتم أصحاب بدر وقد اختلفتم فمن بعدكم أشدّ اختلافاً. قال : فقال عليّ رضى الله عنه : «يا أمير المؤمنين إنّه ليس أحد أعلم بهذا من شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أزواجه». فأرسل إلى حفصة ، فقالت : لا علم لي بهذا ، فأرسل إلى عائشة ، فقالت : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ، فقال عمر رضى الله عنه : لا أسمع برجل فعل ذلك إلاّ أوجعته ضرباً. وفي لفظ : لا يبلغني أنّ أحداً فعله ولا يغتسل إلاّ أنهكته عقوبة.

أخرجه (١) أحمد إمام الحنابلة في مسنده (٥ / ١١٥) ، وابن أبي شيبة في مصنّفه ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ١٣٣ ح ٢٠٥٩٣ ، المصنّف في الأحاديث والآثار : ١ / ٨٧ ، عمدة القاري : ٣ / ٢٥٤ ، شرح معاني الآثار : ١ / ٥٩ ح ٣٣٧ ، المعتصر من المختصر من مشكل الآثار : ١ / ١٤٢ ، المعجم الكبير : ٥ / ٤٢ ح ٤٥٣٦ ، الإجابة : ص ٧٨.

٣٦٩

وأبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار ، وحكاه عن الأخيرين العيني في عمدة القاري (٢ / ٧٢) ، وذكره القاضي أبو المجالس في المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (١ / ٥١) ، وأخرجه الهيثمي من طريق أحمد والطبراني في الكبير وقال : رجال أحمد كلّهم ثقات. راجع مجمع الزوائد (١ / ٢٦٦) ، والإجابة للزركشي (ص ٨٤).

هذه الرواية تنمّ عن عدم معرفة أُولئك الصحابة الذين شاورهم الخليفة بالحكم ـ وفي مقدّمهم هو نفسه ـ ما خلا أمير المؤمنين ومعاذ وعائشة ، وشتّان بين عدم معرفة الخليفة بمثل هذا الحكم الذي يلزم المكلّف عرفانه قبل كثير من الواجبات ، وبين عدم معرفة غيره لأنّ به القدوة والأُسوة في الأحكام دون غيره.

ـ ٨٠ ـ

الخليفة وتوسيعه المسجدين

أخرج عبد الرزّاق ، عن زيد بن أسلم ، قال : كان للعبّاس بن عبد المطلب دار إلى جنب مسجد المدينة فقال عمر : بعنيها ، وأراد أن يدخلها في المسجد ، فأبى العبّاس أن يبيعها إيّاه. فقال عمر : فهبها لي. فأبى. فقال عمر : فوسّعها أنت في المسجد. [فأبى] (١) فقال عمر : لا بدّ لك من إحداهنّ. فأبى ، قال : فخذ بيني وبينك رجلاً ، فأخذ أُبيّ بن كعب فاختصما إليه. فقال أُبيّ لعمر : ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه. فقال له :  أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله وحديثه ، أم سنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال أُبيّ : بل سنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال عمر : وما ذاك؟ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ سليمان بن داود لمّا بنى بيت المقدس جعل كلّما بنى حائطاً أصبح منهدماً فأوصى ابنه إليه أن لا تبني في حقّ رجل حتى ترضيه». فتركه عمر رضى الله عنه ، فوسّعها العبّاس بعد ذلك في المسجد.

__________________

(١) من الدرّ المنثور : ٥ / ٢٣٠.

٣٧٠

صورة أخرى :

أخرج ابن سعد (١) ، عن سالم أبي النضر رضى الله عنه قال : لمّا كثر المسلمون في عهد عمر رضى الله عنه ضاق بهم المسجد ، فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلاّ دار العبّاس ابن عبد المطّلب وحُجَر أُمّهات المؤمنين ، فقال عمر رضى الله عنه للعبّاس : يا أبا الفضل ، إنّ مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسّع به على المسلمين في مسجدهم إلاّ دارك وحُجَر أمّهات المؤمنين ، فأمّا حجرات أُمّهات المؤمنين فلا سبيل إليها ، وأمّا دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسّع بها في مسجدهم. فقال العبّاس رضى الله عنه : ما كنت لأفعل. فقال عمر رضى الله عنه : اختر منّي إحدى ثلاث : إمّا أن تبيعنيها بما شئت من مال المسلمين ، وإمّا أن أحطّك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين ، وإمّا أن تصّدّق بها على المسلمين فيوسّع بها في مسجدهم. فقال : لا ، ولا واحدة منها. فقال عمر رضى الله عنه : اجعل بيني وبينك من شئت. فقال : أُبيّ بن كعب رضى الله عنه. فانطلقا إلى أُبيّ فقصّا عليه القصّة ، فقال أُبيّ رضى الله عنه : إن شئتما حدّثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقالا : حدّثنا. فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ الله أوحى إلى داود : ابن لي بيتاً أُذكر فيه ، فخطّ له هذه الخطّة خطّة بيت المقدس فإذا بربعها زاوية بيت رجل من بني إسرائيل فسأله داود أن يبيعه إيّاه فأبى ، فحدّث داود نفسه أن يأخذه منه فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتاً أُذكر فيه فأردت أن تدخل في بيتي الغصب وليس من شأني الغصب وإنّ عقوبتك أن لا تبنيه. قال : يا ربّ فمن ولدي؟ قال : من ولدك». قال : فأخذ عمر رضى الله عنه بمجامع ثياب أُبيّ بن كعب وقال : جئتك بشيء فجئت بما هو أشدّ منه لتخرجنّ ممّا قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم أبو ذرّ رضى الله عنه ، فقال

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢١.

٣٧١

أُبيّ رضى الله عنه : إنّي نشدت الله رجلاً سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله تعالى داود أن يبنيه إلاّ ذكره. فقال أبو ذرّ : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال آخر : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأرسل أُبيّا ، فأقبل أُبيّ على عمر رضى الله عنه فقال : يا عمر أتتّهمني على حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال عمر : يا أبا المنذر لا والله ما اتّهمتك عليه ، ولكنّي كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً. الحديث.

صورة ثالثة :

أخرج الحاكم بإسناده عن عمر بن الخطّاب ، أنّه قال للعبّاس بن عبد المطّلب : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : نزد في المسجد ، ودارك قريبة من المسجد فأعطِناها نزدها في المسجد وأقطع لك أوسع منها. قال : لا أفعل. قال : إذاً أغلبك عليها. قال : ليس ذاك لك فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحقّ. قال : ومن هو؟ قال : حذيفة بن اليمان. قال : فجاؤوا إلى حذيفة فقصّوا عليه ، فقال حذيفة : عندي في هذا خبر. قال : وما ذاك؟ قال : إنّ داود النبيّ صلوات الله عليه أراد أن يزيد في بيت المقدس ، وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم فطلب إليه فأبى ، فأراد داود أن يأخذها منه ، فأوحى الله إليه : إنّ أنزه البيوت عن الظلم لَبيتي. قال : فتركه. فقال له العبّاس : فبقي شيء؟ قال : لا. قال : فدخل المسجد فإذا ميزاب للعبّاس شارع في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسيل ماء المطر منه في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عمر بيده فقلع الميزاب فقال : هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال له العبّاس : والذي بعث محمداً بالحقّ إنّه هو الذي وضع الميزاب في هذا المكان ونزعته أنت يا عمر ، فقال عمر : ضع رجليك على عنقي لتردّه إلى ما كان هذا. ففعل ذلك العبّاس. ثمّ قال العبّاس : قد أعطيتك الدار تزيدها في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فزادها عمر في المسجد ثمّ قطع للعبّاس داراً أوسع منها بالزوراء.

٣٧٢

فقال الحاكم : وقد وجدت له شاهداً من حديث أهل الشام ... عن سعيد بن المسيّب : أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمّا أراد أن يزيد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقعت منازعة على دار العبّاس بن عبد المطّلب. الحديث.

صورة رابعة :

عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان للعبّاس بيت في قبلة المسجد وكثر الناس وضاق المسجد ، فقال عمر للعبّاس : إنّك في سعة فأعطني بيتك هذا أوسّع به في المسجد. فأبى العبّاس ذلك عليه ، فقال عمر : إنّي أُثمنك وأُرضيك. قال : لا أفعل لقد ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عاتقي وأصلح ميزابه بيده فلا أفعل. قال عمر : لآخذنّه منك. فقال أحدهما لصاحبه : فاجعل بيني وبينك حكماً.

فجعلا بينهما أُبيّ بن كعب فأتياه فاستأذنا على الباب فحبسهما ساعة ثمّ أذن لهما وقال : إنّما حبستكما أنّي كنت كما كانت الجارية تغسل رأسي ، فقصّ عليه عمر قصّته ثمّ قصّ العبّاس قصّته ، فقال : إنّ عندي علماً ممّا اختلفتما فيه ولأقضينّ بينكما بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ سمعته يقول : «إنّ داود لمّا أراد أن يبني بيت المقدس وكان بيت ليتيمين من بني إسرائيل في قبلة المسجد ، فأراد منهما البيع فأبيا عليه فقال : لآخذنّه ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى داود : إنّ أغنى البيوت عن المظلمة بيتي وقد حرّمت عليك بنيان بيت المقدس. قال : فسليمان؟ فأعطاه سليمان» فقال عمر لأُبيّ : ومن لي بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال هذا؟ فقال أُبيّ لعمر : أتظنّ أنَّي أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتخرجنّ من بيتي. فخرج إلى الأنصار فقال : أيّكم سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : كذا وكذا؟ فقال هذا : أنا ، وقال هذا : أنا حتى قال ذلك رجال ، فلمّا علم ذلك عمر قال : أما والله لو لم يكن غيرك لأجزت قولك ، ولكنّي أردت أن أستثبت.

٣٧٣

صورة خامسة :

أخرج البيهقي بإسناده عن أبي هريرة ، قال : لمّا أراد عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقعت زيادته على دار العبّاس بن عبد المطّلب رضى الله عنه ، فأراد عمر رضى الله عنه أن يدخلها في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعوّضه منها ، فأبى وقال : قطيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واختلفا فجعلا بينهما أُبيّ بن كعب رضى الله عنه فأتياه في منزله وكان يسمّى سيّد المسلمين ، فأمر لهما بوسادة فأُلقيت لهما فجلسا عليها بين يديه ، فذكر عمر ما أراد وذكر العبّاس قطيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أُبيّ : إنّ الله عزّ وجلّ أمر عبده ونبيّه داود عليه‌السلام أن يبني له بيتاً قال : أي ربّ وأين هذا البيت؟ قال : حيث ترى الملك شاهراً سيفه ، فرآه على صخرة وإذا ما هناك يومئذٍ إلاّ دار لغلام من بني إسرائيل ، فأتاه داود فقال : إنّي قد أُمرت أن أبني هذا المكان بيتاً لله عزّ وجلّ ، فقال له الفتى : الله أمرك أن تأخذها منّي بغير رضاي؟ قال : لا. فأوحى الله إلى داود عليه‌السلام أنّي قد جعلت في يدك خزائن الأرض فأرضه. فأتاه داود فقال : إنّي قد أُمرت برضاك فلك بها قنطار من ذهب. قال : قد قبلت يا داود وهي خير أم القنطار؟ قال : بل هي خير. قال : فأرضني ، قال : فلك بها ثلاثة قناطير. قال : فلم يزل يشدّد على داود حتى رضي منه بتسعة قناطير. قال العبّاس : اللهمّ لا آخذ لها ثواباً وقد تصدّقت بها على جماعة المسلمين. فقبلها عمر رضى الله عنه منه فأدخلها في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

صورة سادسة :

عن ابن عبّاس ، قال : كانت للعبّاس دار إلى جنب المسجد في المدينة ، فقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه : بِعنيها أو هبها لي حتى أُدخلها في المسجد. فأبى ، فقال : اجعل بيني وبينك رجلاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعلا بينهما أُبي بن كعب ، فقضى للعبّاس على عمر ، فقال عمر : ما أجد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجرأ عليّ منك. فقال أُبيّ بن

٣٧٤

كعب : أوَأنصح لك منّي؟! ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ، أما بلغك حديث داود أنّ الله عزّ وجلّ أمره ببناء بيت المقدس فأدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها ، فلمّا بلغ حُجَز الرجال منعه الله بناءه؟ قال داود : أي ربّ إن منعتني بناءه فاجعله في خلَفي ، فقال العبّاس : أليس قد قضيت لي بها وصارت لي؟ قال : بلى. قال : فإنّي أُشهدك أنّي قد جعلتها لله.

وقال البلاذري : لمّا استخلف عثمان بن عفّان ابتاع منازل وسّع المسجد بها ، وأخذ منازل أقوام ووضع لهم الأثمان فضجّوا به عند البيت ، فقال : إنّما جرّأكم عليّ حلمي عنكم وليني لكم ، لقد فعل بكم عمر مثل هذا فأقررتم ورضيتم ، ثمّ أمر بهم إلى الحبس حتى كلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أُسيد فخلّى سبيلهم.

وقال الطبري وغيره : في سنة (١٧) من الهجرة اعتمر عمر بن الخطّاب وبنى المسجد الحرام ووسّع فيه وأقام بمكة عشرين ليلة ، وهدم على أقوام من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها بعدُ.

تاريخ الطبري (٤ / ٢٠٦) ، فتوح البلدان للبلاذري (ص ٥٣) ، سنن البيهقي (٦ / ١٦٨) ، مستدرك الحاكم ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٢٧) ، تذكرة الحفّاظ للذهبي (١ / ٧) ، تاريخ ابن شحنة الحنفي ـ هامش الكامل ـ (٧ / ١٧٦) ، الدرّ المنثور (٤ / ١٥٩) ، وفاء الوفاء للسمهودي (١ / ٣٤١ ـ ٣٤٩) (١).

قال الأميني : الأخذ بمجاميع هذه الروايات يُعطينا درساً بأنّ الخليفة لم يكن عالماً بالحكم عند توسيعه المسجدين حتى أنبأه به أُبيّ بن كعب ، ووافق أُبيّا في روايته أبو ذر والرجل الآخر ، لكنّه عمل عند توسيعه المسجد الحرام بخلاف المأثور عن

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٦٨ حوادث سنة ١٧ ه‍ ، فتوح البلدان : ص ٥٨ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٧٤ ح ٥٤٢٨ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ١٥٧ حوادث سنة ١٧ ه‍ ، تذكرة الحفّاظ : ١ / ٨ ، تاريخ ابن شحنة : ١ / ٢٠٢ ، الدرّ المنثور : ٥ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، وفاء الوفاء : ٢ / ٤٨١.

٣٧٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث لا يعلم ، وأعجب من هذا صنيعة عثمان وهي بعد ظهور تلك السنّة النبويّة والعلم بها.

ـ ٨١ ـ

سكوت الخليفة عن حكم الطلاق

عن قتادة ، قال : سُئل عمر بن الخطّاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهليّة تطليقتين وفي الإسلام تطليقة ، فقال : لا آمرك ولا أنهاك. فقال عبد الرحمن : لكنّي آمرك ليس طلاقك في الشرك بشيء (١).

لم يكن تحاشي الخليفة عن الأمر والنهي عند حاجة السائل إلى عرفان الحكم إلاّ لعدم معرفته به ، وليس جهله به بأقلّ من جهل ابنه عبد الله بحكم الطلاق في حال الحيض ، وقد نقم منه ذلك أبوه ونفى عنه صلاحيّته للخلافة بذلك في محاورة جرت بينه وبين ابن عبّاس وقد أسلفناها في الجزء الخامس (ص ٣٦٠).

ـ ٨٢ ـ

رأي الخليفة في أكل اللحم

١ ـ عن عبد الله بن عمر ، قال : كان عمر يأتي مجزرة الزبير بن العوّام رحمه‌الله بالبقيع ولم يكن بالمدينة مجزرة غيرها فيأتي معه بالدرّة ، فإذا رأى رجلاً اشترى لحماً يومين متتابعين ضربه بالدرّة وقال : ألا طويت بطنك يومين؟

٢ ـ عن ميمون بن مهران : أنّ رجلاً من الأنصار مرّ بعمر بن الخطّاب وقد تعلّق لحماً ، فقال له عمر : ما هذا؟ قال : لحمة أهلي يا أمير المؤمنين ، قال : حسن ، ثمّ مرّ

__________________

(١) كنز العمّال : ٥ / ١٦١ [٩ / ٦٦٨ ح ٢٧٩٠٥] ، منتخب الكنز ـ بهامش مسند أحمد ـ : ٣ / ٤٨٢ [٤ / ٥٤]. (المؤلف)

٣٧٦

به من الغد ومعه لحم ، فقال : ما هذا؟ قال : لحمة أهلي. قال : حسن ، ثمّ مرّ به اليوم الثالث ومعه لحم ، فقال : ما هذا؟ قال : لحمة أهلي يا أمير المؤمنين ، فعلا رأسه بالدرّة ثمّ صعد المنبر فقال : إيّاكم والأحمرين : اللحم والنبيذ فإنّهما مفسدة للدين متلفة للمال (١).

قال الأميني : هذا فقه عجيب لا نعرف مغزاه (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (٢) ، ولا يجتمع مع ما جاء عن النبيّ الأعظم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيّد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم ، وسيّد الشراب في الدنيا والآخرة الماء» (٣).

وما جاء في صحيحة عن ابن عبّاس من أنّ رجلاً أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّي إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرّمت عليّ اللحم. فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) (٤).

وعلى تقدير الكراهة في إدمان أكل اللحم فهل أكله يومين متواليين أو ثلاثة متوالية من الإدمان؟ وهل يستتبع ذلك التعزير بالدرّة؟ وهل يبلغ مفسدته مفسدة النبيذ المحرّم فكان لدته مفسدة للدين ومتلفة للمال؟ ولو أخذ بهذا الرأي في أجيال المسلمين لوجب أن لا تهدأ الدرّة في حال من الأحوال.

__________________

(١) سيرة عمر لابن الجوزي : ص ٦٨ [ص ٧٣] ، كنز العمّال : ٣ / ١١١ [٥ / ٥٢٢ ح ١٣٧٩٧] نقلاً عن أبي نعيم ، الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٤٢٤ [٢ / ٢٧٣]. (المؤلف)

(٢) الأعراف : ٣٢.

(٣) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي : ٥ / ٣٥. (المؤلف)

(٤)] المائدة : ٨٧ ـ ٨٨] ، صحيح الترمذي : ٢ / ١٧٦ [٥ / ٢٣٨ ح ٣٠٥٤] ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٨٧ ، الدرّ المنثور : ٢ / ٣٠٧ [٣ / ١٣٩]. (المؤلف)

٣٧٧

ـ ٨٣ ـ

الخليفة ويهودي مدني

عن أبي الطفيل قال : شهدت الصلاة على أبي بكر الصدّيق ثمّ اجتمعنا إلى عمر ابن الخطّاب فبايعناه وأقمنا أيّاماً نختلف إلى المسجد إليه حتى أسموه أمير المؤمنين ، فبينما نحن عنده جلوس إذا أتاه يهوديّ من يهود المدينة ـ وهم يزعمون أنّه من ولد هارون أخي موسى بن عمران عليهما‌السلام ـ حتى وقف على عمر فقال له : يا أمير المؤمنين أيّكم أعلم بنبيّكم وبكتاب نبيّكم حتى أسأله عمّا أُريد؟

فأشار له عمر إلى عليّ بن أبي طالب فقال : هذا أعلم بنبيّنا وبكتاب نبيّنا.

قال اليهوديّ : أكذاك أنت يا عليّ؟

قال : «سل عمّا تريد».

قال : إنّي سائلك عن ثلاث وثلاث وواحدة؟

قال له عليّ : «ولِمَ لا تقول إنّي سائلك عن سبع؟»

قال له اليهودي : أسألك عن ثلاث فإن أصبت فيهنّ أسألك عن الواحدة ، وإن أخطأت في الثلاث الأُوَل لم أسألك عن شيء.

وقال له عليّ : «وما يدريك إذا سألتني فأجبتك أخطأت أم أصبت؟».

قال : فضرب بيده على كمّه فاستخرج كتاباً عتيقاً فقال : هذا كتاب ورثته عن آبائي وأجدادي بإملاء موسى وخطّ هارون ، وفيه هذه الخصال التي أُريد أن أسألك عنها.

فقال عليّ : «والله عليك إن أجبتك فيهنّ بالصواب أن تسلم».

٣٧٨

قال له : والله لئن أجبتني فيهنّ بالصواب لأسلمنّ الساعة على يديك.

قال له عليّ : «سل».

قال : أخبرني عن أوّل حجر وُضع على وجه الأرض ، وأخبرني عن أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض ، وأخبرني عن أوّل عين نبعت على وجه الأرض.

قال له عليّ : «يا يهوديّ إنّ أوّل حجر وُضع على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون أنّه صخرة بيت المقدس ، وكذبوا ، لكنّه الحجر الأسود نزل به آدم معه من الجنّة فوضعه في ركن البيت ، فالناس يمسحون به ويقبّلونه ويجدّدون العهد والميثاق فيما بينهم وبين الله».

قال اليهودي : أشهد بالله لقد صدقت.

قال له عليّ : «وأمّا أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون أنّها الزيتونة وكذبوا ، ولكنّها نخلة العجوة نزل بها معه آدم من الجنة ، فأصل التمر كلّه من العجوة».

قال له اليهودي : أشهد بالله لقد صدقت.

قال : «وأمّا أوّل عين نبعت على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون أنّها العين التي تحت صخرة بيت المقدس ، وكذبوا ، ولكنّها عين الحياة التي نسي عندها صاحب موسى السمكة المالحة ، فلمّا أصابها ماء العين عاشت وسمرت (١) فاتبعها موسى وصاحبه فأتيا الخضر».

فقال اليهودي : أشهد بالله لقد صدقت.

قال له عليّ : «سل».

__________________

(١) التسمير : الإرسال ، وسمرت : ذهبت.

٣٧٩

قال : أخبرني عن منزل محمد أين هو في الجنة؟

قال عليّ : «ومنزل محمد من الجنّة جنّة عدن في وسط الجنّة أقربه من عرش الرحمن عزّ وجلّ».

قال اليهودي : أشهد بالله لقد صدقت.

قال له عليّ : «سل».

قال : أخبرني عن وصيّ محمد في أهله كم يعيش بعده وهل يموت أو يقتل؟

قال عليّ : «يا يهوديّ يعيش بعده ثلاثين سنة ويخضب هذه من هذه» وأشار إلى رأسه.

قال : فوثب اليهوديّ وقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله.

أخرجه الحافظ العاصمي في زين الفتى في شرح سورة هل أتى. وفي الحديث سقط كما ترى ، وفيه : نصّ عمر على أنّ عليّا أعلم الأُمّة بنبيّها وبكتابه ، وموسى الوشيعة يقول : عمر أعلم الأُمّة على الإطلاق بعد أبي بكر ، والإنسان على نفسه بصيرة.

ـ ٨٤ ـ

الخليفة أوّل من أعال الفرائض

عن ابن عبّاس ، قال : أوّل من أعال الفرائض عمر بن الخطّاب لمّا التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضاً ، قال : والله ما أدري أيّكم قدّم الله ولا أيّكم أخّر وكان امرأً ورعاً ، فقال : ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أُقسم المال عليكم بالحصص وأدخل على كلّ ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة.

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، قال : دخلت أنا وزفر بن أوس

٣٨٠