الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٤

لا يصلّي على ميّت حتى يصلّي عليه حذيفة يخشى أن يكون من المنافقين. كذا قاله ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (١) (١ / ٤٤).

ـ ٧١ ـ

قدوم أسقف نجران على الخليفة

قدم أسقف نجران على أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب في صدر خلافته ، فقال : يا أمير المؤمنين إنّ أرضنا باردة شديدة المئونة لا يحتمل الجيش ، وأنا ضامن لخراج أرضي أحمله إليك في كلِّ عام كملاً. قال : فضمّنه إيّاه ، فكان يحمل المال ويقدم به في كلّ سنة ويكتب له عمر البراءة بذلك ، فقدم الأسقف ذات مرّة ومعه جماعة وكان شيخاً جميلاً مهيباً ، فدعاه عمر إلى الله وإلى رسوله وكتابه وذكر له أشياء من فضل الإسلام وما يصير إليه المسلمون من النعيم والكرامة. فقال له الأسقف : يا عمر أتقرؤون في كتابكم : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٢) فأين يكون النار؟

فسكت عمر وقال لعليٍّ : أجبه أنت.

فقال له عليّ : «أنا أُجيبك يا أسقف ؛ أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟».

فقال الأسقف : ما كنت أرى أن أحداً ليجيبني عن هذه المسألة. من هذا الفتى يا عمر؟

فقال : عليّ بن أبي طالب ، ختن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّه ، وهو أبو الحسن والحسين.

__________________

(١) شذرات الذهب : ١ / ٢٠٩ حوادث سنة ٣٦ ه‍.

(٢) الحديد : ٢١.

٣٤١

فقال الأسقف : فأخبرني يا عمر عن بقعة من الأرض طلع فيها الشمس مرّة واحدة ثمّ لم تطلع قبلها ولا بعدها. قال عمر : سل الفتى. فسأله.

فقال : «أنا أُجيبك ؛ هو البحر حيث انفلق لبني إسرائيل ووقعت فيه الشمس مرّةً واحدة لم تقع قبلها ولا بعدها».

فقال الأسقف : أخبرني عن شيء في أيدي الناس شبّه بثمار الجنّة. قال عمر : سل الفتى. فسأله.

فقال عليّ : «أنا أُجيبك ؛ هو القرآن يجتمع عليه أهل الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شيء فكذلك ثمار الجنّة».

فقال الأسقف : صدقت. قال : أخبرني هل للسموات من قفل؟

فقال عليّ : «قفل السموات الشرك بالله».

فقال الأسقف : وما مفتاح ذلك القفل؟

قال : «شهادة أن لا إله إلاّ الله ، لا يحجبها شيء دون العرش».

فقال : صدقت. فقال : أخبرني عن أوّل دم وقع على وجه الأرض.

فقال عليّ : «أمّا نحن فلا نقول كما يقولون دم الخشّاف ، ولكن أوّل دم وقع على وجه الأرض مشيمة حوّاء حيث ولدت هابيل بن آدم».

قال : صدقت ، وبقيت مسألة واحدة ؛ أخبرني أين الله؟ فغضب عمر.

فقال عليّ : «أنا أُجيبك وسل عمّا شئت ؛ كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أتاه ملك فسلّم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أين أُرسلت؟ فقال : من السماء السابعة من عند ربِّي ، ثمّ أتاه آخر فسأله ، فقال : أُرسلت من الأرض السابعة من عند ربّي ، فجاء ثالث من الشرق ورابع من المغرب ، فسألهما فأجابا كذلك فالله عزّ وجلّ هاهنا

٣٤٢

وهاهنا ، في السماء إله وفي الأرض إله».

أخرجه الحافظ العاصمي في زين الفتى في شرح سورة هل أتى.

ـ ٧٢ ـ

جلد صائم قعد على شراب

أخرج أحمد ـ إمام الحنابلة ـ في الأشربة ، عن عمرو بن عبد الله بن طلحة الخزاعي ؛ أنّ عمر بن الخطّاب أُتي بقوم أُخِذوا على شراب فيهم رجل صائم فجلدهم وجلده معهم قالوا : إنّه صائم ، قال : لِمَ جلس معهم (١)؟

هل علم الخليفة الوجه في جلوس الرجل معهم في منتدى الشرب وهو صائم لا يشاركهم في العمل؟ فلعلّ الضرورة ألجأته إلى ذلك فما كان يسعه مفارقتهم خشية بوادرهم ، أو ضرر آخر يستقبله إن فارقهم ، أو أنّ قصد ردعهم عن المنكر حدا الصائم المسكين إلى مصاحبتهم ، والملاينة معهم في بدء الأمر ، وإذا احتمل شيء من هذه فإنّ الحدود تُدرأ بالشبهات.

وهب أنّه لم يحتمل شيئاً منها ، فإنّ غاية ما هنالك أن يعزّر الرجل تأديباً وقد عرفت في (ص ١٧٥) حدّ التعزير ، وأنّه لا يتجاوز العشرة أسواط ، فكيف ساوى بينه وبينهم في الجلد؟

ـ ٧٣ ـ

رأي الخليفة في مِسك بيت المال

أُتي عمر مرّة بمسك فأمر أن يُقسّم بين المسلمين ثمّ سدّ أنفه ، فقيل له في ذلك ، فقال : وهل ينتفع منه إلاّ بريحه؟ ودخل يوماً على زوجته فوجد معها ريح مسك ،

__________________

(١) كنز العمّال : ٣ / ١٠١ [٥ / ٤٧٧ ح ١٣٦٧٢] ، منتخب الكنز ـ هامش مسند أحمد : ٢ / ٤٢٧ [٢ / ٤٩٨]. (المؤلف)

٣٤٣

فقال : ما هذا؟ قالت : إنّي بعت من مسك في بيت مال المسلمين ووزنت بيدي ، فلمّا وزنت مسحت إصبعي في متاعي هذا. فقال : ناوليني متاعك ، فأخذه فصبّ عليه الماء فلم يذهب فجعل يدلكه في التراب ويصبّ عليه الماء حتى ذهب ريحه (١).

هكذا فليكن الفقيه البارع! وهل كان الخليفة يضرب ستاراً أمام مصابيح المسلمين حتى لا يستضيئوا بضوئها؟ أو يضرب سدّا على مهبّ الصبا متى حملت شذىً من حقول المسلمين؟ إلى أمثال هذه من الانتفاعات القهريّة التي لا دخل لرضاء المالك فيها. أنا لا أدري!

ـ ٧٤ ـ

اجتهاد الخليفة في صلاة الميّت

عن أبي وائل ، قال : كانوا يكبِّرون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعاً وخمساً وستّا أو قال : أربعاً ، فجمع عمر بن الخطّاب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر كلّ رجل بما رأى ، فجمعهم عمر رضى الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلاة.

وعن سعيد بن المسيّب ، يحدِّث عن عمر رضى الله عنه ، قال : كان التكبير أربعاً وخمساً ، فجمع عمر الناس على أربع التكبير على الجنازة (٢).

وقال ابن حزم في المحلّى (٣) : احتجّ من منع أكثر من أربع بخبر رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عامر بن شقيق عن أبي وائل ، قال : جمع عمر بن الخطّاب الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة ، فقالوا : كبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعاً

__________________

(١) الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٤١٤ [٢ / ٢٦٥]. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ٤ / ٣٧ ، فتح الباري : ٣ / ١٥٧ [٣ / ٢٠٢] وقال في الحديث الثاني : إسناد صحيح ، وفي الحديث الأوّل : إسناد حسن ، إرشاد الساري : ٢ / ٤١٧ [٣ / ٤٦٦ ح ١٣٣٣]. (المؤلف)

(٣) المحلّى : ٥ / ١٢٤ المسألة ٥٧٣.

٣٤٤

وخمساً وأربعاً ، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. انتهى.

وأخرج الطحاوي عن إبراهيم ، قال : قُبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلاً يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر سبعاً. وآخر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر خمساً. وآخر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر أربعاً إلاّ سمعته ، فاختلفوا في ذلك فكانوا على ذلك حتى قُبض أبو بكر رضى الله عنه ، فلمّا ولي عمر رضى الله عنه ورأى اختلاف الناس في ذلك شقّ عليه جدّا ، فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّكم معاشر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم ، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه ، فانظروا أمراً تجتمعون عليه ، فكأنّما أيقظهم. فقالوا : نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين فأشر علينا. فقال عمر رضى الله عنه : بل أشيروا عليَّ فإنّما أنا بشر مثلكم ، فتراجعوا الأمر بينهم فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر أربع تكبيرات ، فأجمع أمرهم على ذلك. عمدة القاري (١) (٤ / ١٢٩).

وقال العسكري في أوائله (٢) ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (٣) (ص ٩٣) ، والقرماني في تاريخه (٤) ـ هامش الكامل ـ (١ / ٢٠٣) : إنّ عمر أوّل من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات.

قال الأميني : الذي ثبت من السنّة وعمل الصحابة اختلاف العدد في التكبير على الجنازة المحمول على مراتب الفضل في الميّت أو الصلاة نفسها ، وذلك يكشف عن إجزاء كلّ من تلك الأعداد ، فاختيار الواحد منها والجمع عليه والمنع عن البقيّة كما

__________________

(١) عمدة القاري : ٨ / ١١٦.

(٢) الأوائل : ص ١١٣.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٢٨.

(٤) أخبار الدول : ١ / ٢٨٩.

٣٤٥

يمنع عن البدع رأي غير مدعوم بشاهد ، واجتهاد تجاه السنّة والعمل.

ومن الواضح الجليّ بعد تلاوة ما وقع من المفاوضة بين الخليفة والصحابة أنّه لم يكن هناك نسخ وإنّما ذكر كلّ منهم ما شاهده على العهد النبوي ، فدعوى النسخ وتأخّر التكبير بالأربع عن هاتيك الأعداد زور من القول ، ولذلك لم يحتجّ به أحد ممّن يُعبأ بحجاجه ، وإنّما حصروا الدليل على تعيين عمر ومنعه بعد تزييف ما قيل من دليل المنع كما سمعت من ابن حزم ، وهو كما ترى رأي يخصّ بقائله لا يقاوم السنة الثابتة ، وهي لا تُتْرك بقول الرجال.

ويوهن ذلك الجمع والمنع صفح الصحابة عنهما ، أخرج أحمد في مسنده (١) (٤ / ٣٧٠) عن عبد الأعلى ، قال : صلّيت خلف زيد بن أرقم على جنازة فكبّر خمساً ، فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده فقال : نسيت؟ قال : لا ولكن صلّيت خلف أبي القاسم خليلي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكبّر خمساً ، فلا أتركها أبداً.

وروى البغوي من طريق أيوب بن النعمان ، أنّه قال : شهدت جنازة سعد بن حبتة (٢) فكبّر عليه زيد بن أرقم خمساً. الإصابة (٢ / ٢٢).

وأخرج الطحاوي ، عن يحيى بن عبد الله التيمي ، قال : صلّيت مع عيسى مولى حذيفة بن اليمان على جنازة فكبّر عليها خمساً ، ثمّ التفت إلينا فقال : ما وهمت ولا نسيت ولكنّي كبّرت كما كبّر مولاي ووليّ نعمتي ـ يعني حذيفة بن اليمان ـ صلّى على جنازة فكبّر عليها خمساً ثمّ التفت إلينا فقال : ما وهمت ولا نسيت ولكنّي كبّرت كما كبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. عمدة القاري (٣) (٤ / ١٢٩).

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٤٩٨ ح ١٨٨١٣.

(٢) هو سعد بن بجير البجلي ، وحبتة اسم أُمّه.

(٣) عمدة القاري : ٨ / ١١٦.

٣٤٦

قال ابن قيّم الجوزية في زاد المعاد (١) : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر بإخلاص الدعاء للميّت وكان يكبّر أربع تكبيرات ، وصحّ عنه أنّه كبّر خمساً (٢). وكان الصحابة بعده يكبّرون أربعاً وخمساً وستّا فكبّر زيد بن أرقم خمساً ، وذكر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبّرها. ذكره مسلم (٣). وكبّر الإمام عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه على سهل بن حنيف ستّا (٤). وكان يكبّر على أهل بدر ستّا وعلى غيرهم من الصحابة خمساً وعلى سائر الناس أربعاً ، ذكره الدارقطني (٥). وذكر سعيد بن منصور ، عن الحكم ، عن ابن عيينة أنّه قال : كانوا يكبّرون على أهل بدر خمساً وستّا وسبعاً ، وهذه آثار صحيحة فلا موجب للمنع منها ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمنع ممّا زاد على الأربع بل فعله هو وأصحابه من بعده ، والذين منعوا من الزيادة على الأربع منهم من احتجّ بحديث ابن عبّاس : إنّ آخر جنازة صلّى عليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبّر أربعاً. قالوا : وهذا آخر الأمرين وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا ، وهذا الحديث قد قال فيه الخلاّل في العلل : أخبرني حارث قال : سأل الإمام أحمد عن حديث أبي المليح عن ميمون عن ابن عبّاس ، فذكر الحديث فقال أحمد : هذا كذب ليس له أصل إنّما رواه محمد بن زيادة الطحّان وكان يضع الحديث ، واحتجّوا بأنّ ميمون بن مهران روى عن ابن عبّاس أنّ الملائكة لمّا صلّت على آدم عليه الصلاة والسلام كبّرت عليه أربعاً وقالوا : تلك سنّتكم يا بني آدم. وهذا

__________________

(١) زاد المعاد ١ / ١٤٥ [١ / ١٤١] ، وفي طبعة ـ هامش شرح المواهب للزرقاني ـ : ٢ / ٧٠.(المؤلف)

(٢) أخرجه ابن ماجة في سننه : ١ / ٤٥٨ [١ / ٤٨٣ ح ١٥٠٦]. (المؤلف)

(٣)] في الصحيح : ٢ / ٣٥١ ح ٧٢ كتاب الجنائز و] أخرجه أبو داود في سننه : ٢ / ٦٧ [٣ / ٢١٠ ح ٣١٩٧] ، وابن ماجة في سننه : ١ / ٤٥٨ [١ / ٤٨٢ ح ١٥٠٥] ، وأحمد في مسنده : ٤ / ٣٦٨ ، ٣٧١ [٥ / ٤٩٤ ح ١٨٧٨٦ و ٥٠٠ ح ١٨٨٢٥] ، والبيهقي في السنن الكبرى : ٤ / ٣٦ ، فتح الباري : ٣ / ١٥٧ [٣ / ٢٠٢]. (المؤلف)

(٤) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى : ٤ / ٣٦. (المؤلف)

(٥)] في السنن : ٢ / ٧٣ ح ٧] ، وأخرجه البيهقي في السنن : ٤ / ٣٧ ، وذكره ابن حجر في فتح الباري : ٣ / ١٥٧ [٣ / ٢٠٢] نقلاً عن ابن المنذر. (المؤلف)

٣٤٧

الحديث قد قال فيه الأثرم : جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة فسمعت أبا عبد الله قال : رأيت أحاديثه موضوعة ، فذكر منها عن أبي المليح ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عبّاس : أنّ الملائكة لمّا صلّت على آدم فكبّرت عليه أربعاً. واستعظمه أبو عبد الله وقال : أبو المليح كان أصحّ حديثاً وأتقى لله من أن يروي مثل هذا. واحتجّوا بما رواه البيهقي (١) من حديث يحيى ، عن أُبيّ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الملائكة لمّا صلّت على آدم فكبّرت عليه أربعاً وقالت : هذه سنّتكم يا بني آدم. وهذا لا يصحّ. وقد روي مرفوعاً وموقوفاً. وكان أصحاب معاذ يكبّرون خمساً. قال علقمة : قلت لعبد الله : إنّ ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام فكبّروا على ميّت لهم خمساً. فقال عبد الله : ليس على الميّت في التكبير وقت ، كبّر ما كبّر الإمام فإذا انصرف الإمام فانصرف.

هذا نصّ كلام ابن القيّم وفيه فوائد.

ـ ٧٥ ـ

الخليفة ومسائل ملك الروم

أخرج أحمد ـ إمام الحنابلة ـ في الفضائل (٢) قال : حدّثنا عبد الله القواريري حدّثنا مؤمّل ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيّب ، قال : كان عمر بن الخطّاب يقول : أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن.

قال ابن المسيّب : ولهذا القول سبب ؛ وهو أنّ ملك الروم كتب إلى عمر يسأله عن مسائل فعرضها على الصحابة فلم يجد عندهم جواباً ، فعرضها على أمير المؤمنين فأجاب عنها في أسرع وقت بأحسن جواب.

__________________

(١) السنن الكبرى : ٤ / ٣٦.

(٢) فضائل عليّ بن أبي طالب : ص ١٥٥ ح ٢٢٢.

٣٤٨

ذكر المسائل :

قال ابن المسيّب : كتب ملك الروم إلى عمر رضى الله عنه :

من قيصر ملك بني الأصفر إلى عمر خليفة المؤمنين ـ المسلمين ـ أمّا بعد : فإنّي مسائلك عن مسائل فأخبرني عنها : ما شيء لم يخلقه الله؟ وما شيء لم يعلمه الله؟ وما شيء ليس عند الله؟ وما شيء كلّه فم؟ وما شيء كلّه رِجل؟ وما شيء كلّه عين؟ وما شيء كلّه جناح؟ وعن رجل لا عشيرة له ، وعن أربعة لم تحمل بهم رحم ، وعن شيء يتنفّس وليس فيه روح ، وعن صوت الناقوس ما ذا يقول؟ وعن ظاعن ظعن مرّة واحدة ، وعن شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها ما مثلها في الدنيا؟ وعن مكان لم تطلع فيه الشمس إلاّ مرّة واحدة ، وعن شجرة نبتت من غير ماء؟ وعن أهل الجنّة فإنّهم يأكلون ويشربون ولا يتغوّطون ولا يبولون ما مثلهم في الدنيا؟ وعن موائد الجنّة فإنّ عليها القصاع في كلّ قصعة ألوان لا يخلط بعضها ببعض ما مثلها في الدنيا؟ وعن جارية تخرج من تفّاحة في الجنّة ولا ينقص منها شيء؟ وعن جارية تكون في الدنيا لرجلين وهي في الآخرة لواحد؟ وعن مفاتيح الجنّة ما هي؟

فقرأ عليّ عليه‌السلام الكتاب وكتب في الحال خلفه :

بسم الله الرحمن الرحيم

«أمّا بعد : فقد وقفت على كتابك أيّها الملك وأنا أُجيبك بعون الله وقوّته وبركته وبركة نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا الشيء الذي لم يخلقه الله تعالى فالقرآن لأنّه كلامه وصفته ، وكذا كتب الله المنزلة والحقّ سبحانه قديم وكذا صفاته. وأمّا الذي لا يعلمه الله فقولكم : له ولد

٣٤٩

وصاحبة وشريك ، ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله لم يلد ولم يولد. وأمّا الذي ليس عند الله فالظلم (وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١). وأمّا الذي كلّه فم فالنار تأكل ما يُلقى فيها. وأمّا الذي كلّه رِجل فالماء. وأمّا الذي كلّه عين فالشمس. وأمّا الذي كلّه جناح فالريح. وأمّا الذي لا عشيرة له فآدم عليه‌السلام. وأمّا الذين لم يحمل بهم رحم فعصا موسى ، وكبش إبراهيم ، وآدم ، وحواء. وأمّا الذي يتنفّس من غير روح فالصبح لقوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (٢). وأمّا الناقوس فإنّه يقول طقّا طقّا ، حقّا حقّا ، مهلاً مهلاً ، عدلاً عدلاً ، صدقاً صدقاً ، إنّ الدنيا قد غرّتنا واستهوتنا ، تمضي الدنيا قرناً قرناً ، ما من يوم يمضي عنّا إلاّ أوهى منّا ركناً ، إنّ الموتى قد أخبرنا أنّا نرحل فاستوطنّا. وأمّا الظاعن فطور سيناء لمّا عصت بنو إسرائيل وكان بينه وبين الأرض المقدّسة أيّام ، فقلع الله منه قطعةً وجعل لها جناحين من نور فنتقه عليهم ، فذلك قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) (٣) ، وقال لبني إسرائيل إن لم تؤمنوا وإلاّ أوقعته عليكم ، فلمّا تابوا ردّه إلى مكانه. وأمّا المكان الذي لم تطلع عليه الشمس إلاّ مرّة واحدة ؛ فأرض البحر لمّا فلقه الله لموسى عليه‌السلام ، وقام الماء أمثال الجبال ويبست الأرض بطلوع الشمس عليها ثمّ عاد ماء البحر إلى مكانه. وأمّا الشجرة التي يسير الراكب في ظلّها مائة عام ؛ فشجرة طوبى وهي سدرة المنتهى في السماء السابعة إليها ينتهي أعمال بني آدم ، وهي من أشجار الجنّة ليس في الجنّة قصر ولا بيت إلاّ وفيه غصن من أغصانها ، ومثلها في الدنيا الشمس أصلها واحد وضوؤها في كلّ مكان. وأمّا الشجرة التي نبتت من غير ماء فشجرة يونس وكان ذلك معجزة له لقوله تعالى : (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (٤). وأمّا غذاء أهل الجنّة فمثلهم في الدنيا الجنين في

__________________

(١) فصّلت : ٤٦.

(٢) التكوير : ١٨.

(٣) الأعراف : ١٧١.

(٤) الصافّات : ١٤٦.

٣٥٠

بطن أُمّه فإنّه يغتذي من سرّتها (٥) ولا يبول ولا يتغوّط. وأمّا الألوان في القصعة الواحدة فمثله في الدنيا البيضة فيها لونان أبيض وأصفر ولا يختلطان. وأمّا الجارية التي تخرج من التفّاحة فمثلها في الدنيا الدودة تخرج من التفاحة ولا تتغيّر. وأمّا الجارية التي تكون بين اثنين فالنخلة التي تكون في الدنيا لمؤمن مثلي ولكافر مثلك ، وهي لي في الآخرة دونك ، لأنّها في الجنّة وأنت لا تدخلها ، وأمّا مفاتيح الجنّة فلا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله».

قال ابن المسيّب : فلمّا قرأ قيصر الكتاب قال : ما خرج هذا الكلام إلاّ من بيت النبوّة. ثمّ سأل عن المجيب ، فقيل له : هذا جواب ابن عمّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فكتب إليه :

سلام عليك ، أمّا بعد ؛ فقد وقفت على جوابك ، وعلمت أنك من أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، وأنت موصوف بالشجاعة والعلم ، وأُوثر أن تكشف لي عن مذهبكم والروح التي ذكرها الله في كتابكم في قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٦).

فكتب إليه أمير المؤمنين : «أمّا بعد ؛ فالروح نكتة لطيفة ، ولمعة شريفة ، من صنعة باريها وقدرة منشئها ، أخرجها من خزائن ملكه ، وأسكنها في ملكه ، فهي عنده لك سبب ، وله عندك وديعة ، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك ، والسلام».

زين الفتى في شرح سورة هل أتى للحافظ العاصمي ، وتذكرة خواصّ الأُمّة لسبط ابن الجوزي الحنفي (٧) (ص ٨٧).

__________________

(٥) كذا في المصدر ، والصحيح ظاهراً : سرّته.

(٦) الإسراء : ٨٥.

(٧) تذكرة الخواص : ص ١٤٤.

٣٥١

ـ ٧٦ ـ

موقف الخليفة في الأحكام

عن ابن أُذينة العبدي ؛ قال : أتيت عمر فسألته من أين أعتمر؟ قال : ائت عليّا فسله. فأتيته فسألته ، فقال لي عليّ : «من حيث أبدأت ـ يعني من ميقات أرضه ـ» (١) قال : فأتيت عمر فذكرت له ذلك ، فقال : ما أجد لك إلاّ ما قال ابن أبي طالب.

أخرجه ابن حزم في المحلّى (٧ / ٧٦) مسنداً معنعناً. وذكره أبو عمر وابن السمّان في الموافقة كما في الرياض النضرة (٢) (٢ / ١٩٥) ، وذخائر العقبى (ص ٧٩) ، ذكره محبّ الدين الطبري في اختصاصه أمير المؤمنين بإحالة جمع من الصحابة عند سؤالهم عليه ، وعدّ منهم معاوية وعائشة وعمر. فأخرج من طريق أحمد في حديث : كان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذه منه ، ثمّ ذكر جملة من مراجعات عمر إليه سلام الله عليه ، فأين أعلميّة عمر المزعومة لموسى الوشيعة أو لغيره من أعلام القوم؟

ـ ٧٧ ـ

رأي الخليفة في المناسك

أخرج مالك ـ إمام المالكية ـ عن عبد الله بن عمر : أنّ عمر بن الخطّاب خطب الناس بعرفة وعلّمهم أمر الحجّ وقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى ، فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرّم على الحاجّ إلاّ النساء والطيب ، لا يمسّ أحد نساءً ولا طيباً حتى يطوف في البيت.

وفي حديثه الآخر : أنّ عمر بن الخطّاب قال : من رمى الجمرة ثمّ حلق أو قصّر

__________________

(١) قال ابن حزم في المحلّى : هكذا في الحديث نفسه. (المؤلف)

(٢) الرياض النضرة : ٣ / ١٤٢.

٣٥٢

ونحر هدياً إن كان معه فقد حلّ له ما حرّم إلاّ النساء والطيب حتى يطوف بالبيت.

وفي لفظ أبي عمر :

عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : قال عمر : إذا رميتم الجمرة سبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حلّ لكم كلّ شيء إلاّ الطيب والنساء. قال سالم : وقالت عائشة : أنا طيّبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحلّه قبل أن يطوف بالبيت. قال سالم : فسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ أن تتّبع (١).

قال صاحب إزالة الخفاء (٢) ـ بعد ذكر الحديثين الأوّلين ـ : قلت : ترك الفقهاء قوله : والطيب ، لما صحّ عندهم من حديث عائشة وغيرها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تطيّب قبل طواف الإفاضة.

قال الأميني : واها لأُمّة يعلّمهم المناسك من لا يعلم ما به يحلّ للمحرم ما حرم عليه ، ومرحباً بخليفة ترك الفقهاء قوله مهما وجدوه خلاف السنّة النبويّة ، وقد ثبتت بحديث عائشة وغيرها ، أخرجه أئمّة الصحاح والمسانيد (٣) كالبخاري في صحيحه (٤ / ٥٨) ، ومسلم في صحيحه (١ / ٣٣٠) ، والترمذي في صحيحه (١ / ١٧٣) ، وأبو داود في سننه (١ / ٢٧٥) ، والدارمي في سننه (٢ / ٣٢) ، وابن ماجة في سننه (٢ / ٢١٧) ، والنسائي في سننه (٥ / ١٣٧) ، والبيهقي في سننه (٥ / ٢٠٥) أضف إليها جلّ جوامع الحديث والكتب الفقهيّة لو لا كلّها.

__________________

(١) موطّأ مالك : ١ / ٢٨٥ [١ / ٤١٠ ح ٢٢١] ، صحيح الترمذي : ١ / ١٧٣ [٣ / ٢٥٩ ح ٩١٧] ، سنن البيهقي : ٥ / ٢٠٤ ، جامع بيان العلم : ٢ / ١٩٧ [ص ٤٣٥ ح ٢١٠٠] ، وفي مختصره : ص ٢٢٦ [ص ٣٩٢] ، الإجابة للزركشي : ص ٨٨ [ص ٨١]. (المؤلف)

(٢) إزالة الخفاء : ٢ / ١٠٥.

(٣) صحيح البخاري : ٢ / ٦٢٤ ح ١٦٦٧ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٨ ح ٣١ كتاب الحجّ ، سنن الترمذي : ٣ / ٢٥٩ ح ٩١٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٤٤ ح ١٧٤٥ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٧٦ ح ٢٩٢٦ ، السنن الكبرى : ٢ / ٣٣٧ ح ٣٦٦٥.

٣٥٣

وأخرج البيهقي (١) مثل حديث عائشة عن ابن عبّاس ، وذكره الزركشي في الإجابة (٢) (ص ٨٩).

ـ ٧٨ ـ

اجتهاد الخليفة في الخمر وآياتها

١ ـ قال الزمخشري في ربيع الأبرار (٣) في باب اللهو واللذات والقصف واللعب (٤) وشهاب الدين الأبشيهي في المستطرف (٥) (٢ / ٢٩١) : قد أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات : الأُولى قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (٦) الآية فكان من المسلمين من شارب ومن تارك إلى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (٧) فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر رضى الله عنه فأخذ بلحى بعير وشجّ به رأس عبد الرحمن بن عوف ، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول :

وكائنٍ بالقليبِ قليبِ بدرٍ

من الفتيان والعربِ الكرامِ

وكائنٍ بالقليبِ قليبِ بدرٍ

من الشيزى المكلّل بالسنامِ (٨)

__________________

(١) السنن الكبرى : ٥ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) الإجابة : ص ٨١.

(٣) ربيع الأبرار : ٤ / ٥١.

(٤) وقفنا من الكتاب على عدّة نسخ في مكتبات العراق وإيران. (المؤلف)

(٥) المستطرف : ٢ / ٢٦٠.

(٦) البقرة : ٢١٩.

(٧) النساء : ٤٣.

(٨) هذا البيت لا يوجد في المستطرف. (المؤلف)

٣٥٤

أيوعدني ابنُ كبشةَ أن سنحيى

وكيف حياة أصداءٍ وهامِ؟

أيعجز أن يردّ الموتَ عنّي

وينشرني إذا بَلِيتْ عظامي؟

ألا من مبلغُ الرحمن عنّي

بأنّي تاركٌ شهر الصيامِ

فقل للهِ يمنعني شرابي

وقل للهِ يمنعني طعامي

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج مغضباً يجرّ رداءه فرفع شيئاً كان في يده فضربه به فقال : أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١) فقال عمر رضى الله عنه : انتهينا انتهينا.

ورواه الطبري في تفسيره (٢) (٢ / ٢٠٣) بتغيير في أبياته غير أنّ فيه مكان عمر في الموضع الأوّل : رجل.

٢ ـ عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه ، قال : لمّا نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) قال : فدُعي عمر فقرأت عليه فقال : اللهمّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فكان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أُقيمت الصلاة ينادي : ألا لا يقربنّ الصلاة سكران. فدُعي عمر فقرأت عليه فقال : اللهم بيّن لنا بياناً شافياً. فنزلت : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

قال عمر : انتهينا ، انتهينا.

__________________

(١) المائدة : ٩١.

(٢) جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٣٦٢.

٣٥٥

أخرجه (١) أبو داود في سننه (٢ / ١٢٨) ، وأحمد في المسند (١ / ٥٣) ، والنسائي في السنن (٨ / ٢٨٧) ، والطبري في تفسيره (٧ / ٢٢) ، والبيهقي في سننه (٨ / ٢٨٥) ، والجصّاص في أحكام القرآن (٢ / ٢٤٥) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٢٧٨) ، وصحّحه وأقرّه الذهبي في تلخيصه ، والقرطبي في تفسيره (٥ / ٢٠٠) ، وابن كثير في تفسيره (١ / ٢٥٥ ، ٥٠٠ و ٢ / ٩٢) نقلاً عن أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه وعليّ بن المديني وقال : قال عليّ بن المديني : إسناد صالح صحيح ، وذكر تصحيح الترمذي وقرّره.

ويوجد في تيسير الوصول (١ / ١٢٤) ، وتفسير الخازن (١ / ٥١٣) ، وتفسير الرازي (٣ / ٤٥٨) ، وفتح الباري (٨ / ٢٢٥) ، والدرّ المنثور (١ / ٢٥٢) نقلاً عن ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأبي يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحّاس في ناسخه ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم ، والبيهقي ، والضياء المقدسي في المختارة.

٣ ـ عن سعيد بن جبير : كان الناس على أمر جاهليّتهم حتى يُؤمروا أو يُنهوا ، فكانوا يشربونها أوّل الإسلام حتى نزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). قالوا : نشربها للمنفعة لا للإثم فشربها رجل (٢) ، فتقدّم يصلّي

__________________

(١) سنن أبي داود : ٣ / ٣٢٥ ح ٣٦٧٠ ، مسند أحمد ١ / ٨٦ ح ٣٨٠ ، السنن الكبرى : ٣ / ٢٠٢ ح ٥٠٤٩ ، جامع البيان : مج ٥ / ج ٧ / ٣٣ ، أحكام القرآن : ١ / ٣٢٣ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٠٥ ح ٣١٠١ ، وكذا في تلخيصه ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ١٣٠ ، تيسير الوصول : ١ / ١٤٨ ح ١١ ، تفسير الخازن : ١ / ٤٩١ ، التفسير الكبير : ١٢ / ٨١ ، فتح الباري : ٨ / ٢٧٩ ، الدرّ المنثور : ١ / ٦٠٥.

(٢) هو عبد الرحمن بن عوف في صلاة المغرب. أخرج حديثه الجصّاص في أحكام القرآن : ٢ / ٢٤٥ [٢ / ٢٠١] ، والحاكم في المستدرك : ٤ / ١٤٢ [٤ / ١٥٨ ح ٧٢٢٠] وقال في : ٢ / ٣٠٧ [٢ / ٣٣٦ ح ٣١٩٩] : إنّ الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب دون غيره ، وقد برّأه الله منها ، فإنّه راوي هذا الحديث. (المؤلف)

٣٥٦

بهم فقرأ : قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون. فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى). فقالوا : نشربها في غير حين الصلاة. فقال عمر : اللهم أنزل علينا في الخمر بياناً شافياً فنزلت : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) الآية. فقال عمر : انتهينا انتهينا. تفسير القرطبي (١) (٥ / ٢٠٠).

٤ ـ عن حارثة بن مضرب ، قال : قال عمر رضى الله عنه : اللهم بيّن لنا في الخمر. فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ). الآية. فدعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر فتلاها عليه فكأنّها لم توافق من عمر الذي أراد ، فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الآية. فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر فتلاها عليه ، فكأنها لم توافق من عمر الذي أراد فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (٢) حتى انتهى إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فدعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر فتلاها عليه ، فقال عمر : انتهينا يا ربّ.

أخرجه الحاكم في المستدرك (٣) (٤ / ١٤٣) وصحّحه هو والذهبي في تلخيصه ، والترمذي في صحيحه (٤) (٢ / ١٧٦) من طريق عمرو بن شرحبيل ، وذكره الآلوسي في روح المعاني (٥) (٧ / ١٥) طبع المنيريّة.

٥ ـ وأخرج ابن المنذر ، عن سعيد بن جبير ، لمّا نزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ١٣١.

(٢) المائدة : ٩٠.

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ١٥٩ ح ٧٢٢٤ ، وكذا في تلخيصه.

(٤) سنن الترمذي : ٥ / ٢٣٦ ح ٣٠٤٩.

(٥) روح المعاني : ٧ / ١٧.

٣٥٧

وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) شربها قوم لقوله : (مَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، وتركها قوم لقوله : (إِثْمٌ كَبِيرٌ) منهم عثمان بن مظعون (١) حتى نزلت الآية التي في النساء (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فتركها قوم ، وشربها قوم يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل حتى نزلت الآية التي في المائدة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية ، قال عمر : أَقُرِنتِ بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعداً لك وسحقاً فتركها الناس.

وأخرج الطبري (٢) ، عن سعيد بن جبير ما يقرب منه وفي آخره : حتى نزلت : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية ، فقال عمر : ضيعة لك اليوم قُرِنتِ بالميسر.

وأخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي حديثاً فيه : ثمّ نزلت الرابعة التي في المائدة ، فقال عمر بن الخطّاب : انتهينا يا ربّنا (٣).

قال الأميني : لم نرُم بسرد هذه الأحاديث إثبات شرب الخمر على الخليفة أيّام الجاهليّة إذ الإسلام يجبّ ما قبله ، (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٤). بل الغاية المتوخّاة إيقاف القارئ على مبلغ علم الخليفة بالكتاب ، وحدِّ عرفانه مغازي آيات الله وأنّه لم يكن يعرف الحظر من قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ). وقد نزل بياناً للنهي عنها ، وعرفته

__________________

(١) هذا افتراء على ذلك الصحابي العظيم ، وقد نصّ أئمّة التاريخ والحديث على أنّه ممّن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية وقال : لا أشرب شراباً يُذهب عقلي ، ويُضحِك بي من هو أدنى منّي ، ويحملني على أن أنكح كريمتي. راجع الاستيعاب : ٢ / ٤٨٢ [القسم الثالث / ١٠٥٤ رقم ١٧٧٩] ، والدرّ المنثور : ٢ / ٣١٥ [٣ / ١٥٩ وفيه : أُنكح كريمتي من لا أريد]. (المؤلف)

(٢) جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٣٦١.

(٣) الدرّ المنثور : ٢ / ٣١٥ ، ٣١٧ ، ٣١٨ [٣ / ١٥٧ ، ١٥٩ ، ١٦٥]. (المؤلف)

(٤) المائدة : ٩٣.

٣٥٨

الصحابة منه ، وقالت عائشة : لمّا نزلت سورة البقرة نزل فيها تحريم الخمر ، فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك (١). ولا يكون بيان شافٍ في مقام الإعراب عن الحظر والحظر أولى منها ، ولا سيّما بملاحظة أمثال قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) (٢) من الآيات الواردة في الإثم فقد حرّمت بكلِّ صراحة الإثم الذي هتفت الآية الأُولى بوجوده في الخمر ، والإثم : الذنب ، والآثم والأثيم : الفاجر. وقد يطلق على نفس الخمرة كقول الشاعر :

نشرب الإثم بالصواع جهاراً

وترى المسك بيننا مستعارا

وقول الآخر :

شربت الإثم حتى ضلَّ عقلي

كذاك الإثمُ تذهب بالعقولِ (٣)

وليست منافع الخمر إلاّ أثمانها قبيل تحريمها وما يصلون إليه بشربها من اللذّة ، وقد نصّ على هذا كما في تفسير الطبري (٤) (٢ / ٢٠٢).

وقال الجصّاص في أحكام القرآن (٥) (١ / ٣٨٠) : هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر ، لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافية مغنية ، وذلك لقوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) والإثم كلّه محرّم بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) فأخبر أنّ الإثم محرّم ولم يقتصر على إخباره بأنّ فيها إثماً حتى وصفه بأنّه كبير تأكيداً لحظرها. وقوله : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) لا دلالة فيه على إباحتها ، لأنّ المراد منافع

__________________

(١) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه : ٨ / ٣٥٨ [رقم ٤٤٥٧] ، وحكاه عنه السيوطي في الدرّ المنثور : ١ / ٢٥٢ [١ / ٦٠٦]. (المؤلف)

(٢) الأعراف : ٣٣.

(٣) لسان العرب : ١٤ / ٢٧٢ [١ / ٧٥] ، تاج العروس : ٨ / ١٧٩. (المؤلف)

(٤) جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٣٥٩.

(٥) أحكام القرآن : ١ / ٣٢٢.

٣٥٩

الدنيا وأنّ في سائر المحرّمات منافع لمرتكبيها في دنياهم إلاّ أنّ تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها ، فذكره لمنافعها غير دالّ على إباحتها لا سيّما وقد أكّد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) يعني أنّ ما يستحقّ بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي ينبغي منهما.

فإن قيل : ليس في قوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) دلالة على تحريم القليل منها ، لأنّ مراد الآية ما يلحق من المآثم بالسكر وترك الصلاة والمواثبة والقتال ، فإذا حصل المأثم بهذه الأُمور فقد وفينا ظاهر الآية مقتضاها من التحريم ولا دلالة فيه على تحريم القليل منها.

قيل له : معلوم أنّ في مضمون قوله : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ضمير شربها لأنّ جسم الخمر هو فعل الله تعالى ولا مأثم فيها وإنّما المأثم مستحقّ بأفعالنا فيها ، فإذا كان الشرب مضمراً كان تقديره في شربها وفعل الميسر إثم كبير فيتناول ذلك شرب القليل منها والكثير كما لو حرّمت الخمر لكان معقولاً أنّ المراد به شربها والانتفاع بها فيقتضي ذلك تحريم قليلها وكثيرها. انتهى.

فهذه كلّها عزبت عن الخليفة وكان يتطلّب البيان الشافي بعد هذه الآية وآية النساء بقوله : اللهمّ بيّن لنا بياناً شافياً. وما انتهى عنها إلاّ بعد لأي من عمر الدهر بعد نزول قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). قال القرطبي في تفسيره (١) (٦ / ٢٩٢) : لمّا علم عمر رضى الله عنه أنّ هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال : انتهينا.

وقال ابن جزّي الكلبي في تفسيره (١ / ١٨٧) : فيه توقيف يتضمّن الزجر والوعيد ولذلك قال عمر لمّا نزلت : انتهينا انتهينا.

وقال الزمخشري في الكشّاف (٢) (١ / ٤٣٣) : من أبلغ ما يُنهى به كأنّه قيل : قد

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٦ / ١٨٩.

(٢) الكشّاف : ١ / ٦٧٥.

٣٦٠