مصباح الفقيه - ج ٩

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٩

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

ونحوه. ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي ، كما هو واضح ؛ إذ لو سلّم كون هذا النحو من الاستعمال مجازا ، فهو من باب عموم المجاز ، ولا ضير فيه بعد مساعدة القرينة عليه. أو نقول بأنّ المراد بمثل هذه الخطابات ليس إلّا الطلب الحتمي المخصوص بالبالغين ، وإنّما ثبت استحبابها للصبيّ بأمر آخر ممّا دلّ على شرعيّة عبادته (١) ، ولكن قضيّة اتّحاد متعلّق الأمرين ـ كما هو المفروض موضوعا في كلمات الأصحاب الباحثين عن عبادة الصبيّ الآتي بوظيفة الوقت ، ويساعد عليه ما دلّ على شرعيّة عبادة الصبيّ ـ كون حصول الطبيعة بقصد امتثال أحد الأمرين مانعا عن تنجّز التكليف بالآخر.

وإن شئت قلت : مرجع (٢) الأمرين لدى التحليل إلى مطلوبيّة إيجاد الطبيعة المعهودة في كلّ يوم مرّة على الإطلاق في حالتي الصغر والكبر ، وقضيّة كونها كذلك حصول الاجتزاء بفعلها مطلقا.

وبهذا يتوجّه ما ذكره العلّامة في عبارته المتقدّمة (٣) المحكيّة عن المختلف من أنّ امتثال الأمر يقتضي الإجزاء.

وأمّا ما اعترض عليه صاحب المدارك ـ وتبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه ـ من أنّ الامتثال إنّما يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الوارد بالإتمام ، لا بالنسبة إلى الأوامر الواردة بوجوب الصلاة ، فكلام صوريّ ؛ ضرورة أنّه بعد تسليم صدور الأمر بإتمام الصلاة والنهي عن قطعها فلا معنى لذلك إلّا إرادة الإتيان ببقيّة الأجزاء

__________________

(١) في «ض ١٦» : «عباداته».

(٢) في «ض ١١ ، ١٤» : «إنّ مرجع».

(٣) في ص ٣٥٩.

٣٦١

بعنوان كونها جزءا من الصلاة المأتيّ بها بقصد التقرّب وامتثال الأمر المتعلّق بها ، فكما أنّ الإتمام يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى الأمر بالإتمام ، الذي هو توصّلي محض ، كذلك حصول تمام الفعل ـ خصوصا إذا كان بأمر الشارع وإجازته ـ يقتضي الإجزاء بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بذلك الفعل.

نعم ، قد يقال : إنّ الأمر الذي أسقطه هذا الفعل هو الأمر الاستحبابي الذي نوى امتثاله من أوّل الأمر ، دون الأمر الوجوبي الذي تنجّز عليه في أثناء الصلاة عند بلوغه ، كما يومي إلى ذلك ما في الجواهر حيث قال ـ بعد أن استدلّ لوجوب الإعادة بعد البلوغ : بالعمومات الظاهرة في المكلّفين ، وفسّر المراد من شرعيّة عبادة الصبيّ باستحبابها من أمر آخر غير مثل قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) ـ ما لفظه : فيكون اللّذان تواردا على الصبيّ في الفرض أمرين ندبيّا وإيجابيّا ومن المعلوم عدم إجزاء الأوّل عن الثاني ، بل لو كان حتما كان كذلك أيضا ؛ لأصالة تعدّد المسبّب بتعدّد السبب ، خصوصا في مثل المقام الذي منشؤ التعدّد فيه اختلاف موضوعين كلّ منهما تعلّق به أمر ، وهما الصبيّ والبالغ (٢). انتهى.

ولكنّك عرفت ضعف هذا القول ، وأنّ وحدة المتعلّق مانعة عن أن يتعلّق بذلك الفعل المفروض صحّته أمر في الأثناء أو بعد الفراغ منه ، ولذا لا يكاد يخطر في ذهن الصبيّ الذي بلغ بعد صلاته التي زعم صحّتها وجوب إعادتها بعد البلوغ ، مع أنّ وجوب الصلاة على البالغين وعدم وجوبها على الصبيّ من الضروريّات المغروسة في ذهنه.

__________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٣٦٠.

(٢) جواهر الكلام ٧ : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٣٦٢

وإن شئت قلت : إنّ إطلاق الأمر المتوجّه إلى البالغين منصرف عمّن صلّى صلاته (١) صحيحة في وقتها ، وليس توارد الأمرين على الصبيّ على سبيل الاجتماع حتّى يلزمه تعدّد متعلّقهما ذاتا أو وجودا ، بل على سبيل التعاقب ، ولا مانع من تواردهما على فعل خاصّ بحسب اختلاف أحوال المكلّف ، كاستحبابه في السفر ووجوبه في الحضر.

فكأنّه قدس‌سره زعم أنّ متعلّق كلّ من الأمرين تكليف مستقلّ لا ربط لأحدهما بالآخر ، فرأى أنّ مقتضى إطلاق وجوب الصلاة على البالغ وجوب الإتيان بهذه الطبيعة بعد بلوغه مطلقا ، سواء أتى بها قبل البلوغ في ضمن فرد آخر أم لا.

لكنّ الأمر ليس كذلك ؛ لما أشرنا إليه من أنّ المقصود بشرعيّة عبادة الصبيّ هو : أنّ الصلوات المعهودة في الشريعة التي أوجبها الله تعالى على البالغين جعلها بعينها مسنونة للصبيّ ، نظير ما لو قال : صلاة الوتر ـ مثلا ـ واجبة على الحاضر ومستحبّة للمسافر ، أو صلاة الجمعة واجبة عينا على الحرّ الحاضر وتخييرا للعبد والمسافر ، أو أنّها مستحبّة لهما ، إلى غير ذلك من الموارد التي اتّحد فيها التكليف مع اختلاف الطلب بلحاظ أحوال المكلّف ، فلا مسرح في مثل هذه الموارد للتمسّك بأصالة الإطلاق بعد فرض وحدة التكليف ، وحصول متعلّقه جامعا (٢) لشرائط الصحّة.

والحاصل : أنّه فرق بين ما لو قال : يستحبّ للعبد أو المسافر أن يصلّي صلاة الجمعة ، على الإطلاق ، ويجب على الحرّ الحاضر كذلك ، وبين أن يقول :

__________________

(١) في «ض ١٦» : «صلاة».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «جامعة». والصحيح ما أثبتناه.

٣٦٣

صلاة الجمعة المعهودة في الشريعة مسنونة للمسافر ، وواجبة على الحاضر ، والذي يمكن التمسّك بإطلاقه لوجوب الإعادة عند تجدّد العنوان المعلّق عليه الحكم الوجوبي هو الأوّل ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وقد أشرنا إلى أنّ قضيّة اتّحاد المتعلّق حصول الإجتزاء بفعله مطلقا ، والله العالم.

ثمّ إنّا إن قلنا بوجوب الاستئناف ، فهذا إنّما هو فيما إذا تمكّن من ذلك بأن أدرك من الوقت بمقدار ما يسع الفريضة ولو بإدراك ركعة منها ، الذي هو بمنزلة إدراك الكلّ مع ما تتوقّف عليه من الطهارة إن قلنا بوجوب إعادتها أيضا ، وكون ما صدر منه تمرينيّة (و) أمّا (إن بقي من الوقت دون الركعة) مع ما تتوقّف عليه (بنى على نافلته) وجوبا ؛ بناء على حرمة قطع النافلة ، وعدم كونها تمرينيّة ، واستحبابا بناء على شرعيّتها ، وعدم حرمة القطع ، واحتياطا ؛ بناء على التمرينيّة ؛ صونا لصورة الصلاة عن الانقطاع ؛ رعاية لما احتمله بعض (١) من وجوب حفظ الصورة وإن كان بعيدا (ولا يجدّد نيّة الفرض) إذ المفروض أنّه لم يؤمر بالفريضة ؛ لقصور الوقت عن أدائها فكيف يقصدها بفعله!؟

وأمّا على ما قوّيناه من شرعيّة عبادته (٢) والاعتداد بعلمه السابق فيجب عليه إتمامها بنيّة الفرض ؛ ضرورة أنّ المانع عن إلزامه بالصلاة الواجبة على البالغين بعد اندراجه في موضوعهم ليس إلّا عدم القدرة على الامتثال ، وهو في الفرض قادر عليه بإتمام ما في يده ، فيجب ، لكن لا يجب تجديد النيّة ؛ لأنّا لا نقول بوجوب قصد الوجه ، كما حقّقناه في محلّه.

__________________

(١) راجع : جامع المقاصد ٢ : ٤٧.

(٢) في «ض ١٦» : «عباداته».

٣٦٤

تنبيه : لو زعم عدم بلوغه أو استصحبه إلى أن مضى مدّة من بلوغه فأتى بوظيفة الوقت ناويا بفعله الاستحباب ، صحّت صلاته ولم تجب عليه إعادتها على المختار ؛ لمطابقة المأتيّ به للمأمور به قاصدا بفعله التقرّب ، ولا يعتبر في صحّة العبادة أزيد من ذلك ، وخطؤه في تشخيص الأمر المتوجّه إليه غير قادح في ذلك كما عرفت تحقيق ذلك كلّه في نيّة الوضوء.

وأمّا على المشهور : فيشكل الحكم بعدم الإعادة في الفرض ، خصوصا على التمرينيّة وإن لا يخلو القول به حتّى على التمرينيّة عن وجه.

المسألة (الثالثة : إذا كان له طريق إلى العلم بالوقت) حقيقة أو حكما ، أي كان متمكّنا من تشخيص الوقت الذي هو فيه ـ من أنّه هل هو قبل الزوال ـ مثلا ـ أو بعده ـ بطريق علميّ من مشاهدة ونحوها أو بأمارة معتبرة شرعا (لم يجز التعويل على الظنّ) كما في غيره من الموضوعات الخارجيّة والأحكام الشرعيّة على المشهور ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ؛ لأنّ دخول الوقت شرط في الصلاة ، فلا بدّ من إحرازه كغيره من الشرائط ، ولا يكفي في ذلك مجرّد الظنّ بذلك ؛ فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، كما شهد بذلك الأدلّة الأربعة الدالّة على أنّ مقتضى الأصل : عدم جواز العمل بالظنّ والتعويل عليه ، مضافا إلى الأخبار الخاصّة الدالّة عليه.

كقوله عليه‌السلام في خبر ابن مهزيار ـ المتقدّم (١) في تحديد الفجر ـ : «الفجر هو الخيط الأبيض المعترض .. فلا تصلّ في حضر ولا سفر (٢) حتّى تبيّنه ؛ فإنّ الله

__________________

(١) في ص ١٢٧.

(٢) في المصدر : «في سفر ولا حضر».

٣٦٥

سبحانه لم يجعل خلقه في شبهة من هذا ، فقال (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (١)».

وخبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام : في الرجل يسمع الأذان فيصلّي الفجر ولا يدري أطلع الفجر أم لا ، غير أنّه يظنّ لمكان الأذان أنّه طلع ، قال :«لا يجزئه حتّى يعلم أنّه طلع» (٢).

ويؤيّده رواية عبد الله بن عجلان ـ المرويّة عن مستطرفات السرائر من كتاب نوادر البزنطي ـ قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : «إذا كنت شاكّا في الزوال فصلّ الركعتين ، فإذا استيقنت أنّها قد زالت بدأت بالفريضة» (٣).

واستظهر في الحدائق من الشيخين في المقنعة والمبسوط والنهاية (٤) الخلاف في المسألة ، واختاره هو بنفسه صريحا ، فقال بجواز التعويل على الظنّ بدخول الوقت مطلقا وإن كان له طريق علميّ ، مستشهدا لذلك برواية إسماعيل ابن رياح (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إذا صلّيت وأنت ترى أنّك في وقت ولم يدخل الوقت فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت عنك» (٦) بدعوى أنّ قوله عليه‌السلام : «وأنت ترى» أي تظنّ «أنّك في وقت» أعمّ من أن يكون العلم ممكنا

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٢) الذكرى ٢ : ٣٩٦ ، وعنه وعن مسائل علي بن جعفر : ١٦١ / ٢٤٩ في الوسائل ، الباب ٥٨ من أبواب المواقيت ، ح ٤.

(٣) السرائر ٣ : ٥٥٧ ، الوسائل ، الباب ٥٨ من أبواب المواقيت ، ح ١.

(٤) المقنعة : ٩٤ ، المبسوط ١ : ٧٤ ، النهاية : ٦٢.

(٥) في الكافي والتهذيب : «ابن رباح» بالباء الموحّدة.

(٦) الكافي ٣ : ٤٢٨ / ٣ ، الفقيه ١ : ١٤٣ / ٦٦٦ ، التهذيب ٢ : ٣٥ / ١١٠ ، و ١٤١ / ٥٥٠ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب المواقيت ، ح ١.

٣٦٦

أو غير ممكن (١).

وفيه : أوّلا : منع كون «ترى» بمعنى تظنّ ؛ فإنّ الرأي غالبا يستعمل في الاعتقاد المجامع للوثوق والاطمئنان المعبّر عنه بالجزم والعلم العادي ، بل لا يكاد يستعمل في مفهوم الظنّ. وما ترى من تفسيره به غالبا وعدّه من معانيه فهو بلحاظ أنّ الجزم كثيرا مّا ينشأ من مقدّمات غير مقتضية له ، كسماع صوت المؤذّن ونحوه مع الغفلة عمّا يوجب التردّد بحيث لو التفت إليه لتردّد ، ففي مثل هذه الموارد يفسّر الرأي بالظنّ ؛ لكونه ظنّا تقديريّا ، وإلّا فلا يكاد ينسبق إلى الذهن من إطلاق الرأي مفهوم الظنّ في شي‌ء من موارد استعماله.

ولو سلّم ظهوره في إرادة هذا المفهوم ، فنقول : إنّ الرواية مسوقة لبيان حكم آخر ، فيشكل التمسّك بإطلاقها لكفاية الظنّ مطلقا. وعلى تقدير تسليم ظهورها في الإطلاق وجب تقييدها بما إذا تعذّر تحصيل الجزم ؛ جمعا بينها وبين ما عرفت.

واستدلّ أيضا بالأخبار الآتية الدالّة على جواز التعويل على أذان الثقة.

وفيه ما ستعرف من إمكان توجيه تلك الأخبار والعمل بها ، وهي أخصّ من المدّعى ، كما ستعرف.

وأمّا عبارة المقنعة ، التي استظهر منها القول بكفاية الظنّ مطلقا فهي هذه : من ظنّ أنّ الوقت قد دخل فصلّى ثمّ علم بعد ذلك أنّ صلّى قبله أعاد الصلاة ، إلّا أن يكون الوقت دخل وهو في الصلاة لم يفرغ منها فيجزئه ذلك (٢).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، و ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ٣٦٦.

٣٦٧

و [أمّا] (١) عبارة الشيخ في النهاية فهي قوله : ولا يجوز لأحد أن يدخل في الصلاة إلّا بعد حصول العلم بدخول الوقت أو يغلب على ظنّه ذلك (٢).

وأمّا عبارة المبسوط فلم ينقلها إلّا أنّه بعد نقل عبارة النهاية قال (٣) : وهو ظاهر المبسوط أيضا (٤).

وأنت خبير بأنّه لا ظهور لعبارة المقنعة أصلا ؛ فإن إطلاقها مسوق لبيان حكم آخر ، كما هو واضح.

وأمّا عبارة النهاية فهي أيضا قد يناقش في دلالتها على ذلك ؛ لقوّة احتمال إرادة العمل بغلبة الظنّ مع عدم إمكان العلم ، لا مطلقا.

لكن دفع هذا الاحتمال في الحدائق بمخالفته للظاهر (٥).

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في عدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع التمكّن من تحصيل العلم.

وهل يجوز العمل بالبيّنة أم لا؟ وجهان ، بل قولان ، ربما نسب (٦) إلى ظاهر أكثر الأصحاب قبولها ، وهو الأقوى ؛ لما أشرنا في باب النجاسات ـ عند البحث عن أنّها هل تثبت بالبيّنة أم لا؟ ـ إلى أنّ المستفاد من تتبّع النصوص والتدبّر فيها وفي فتاوى الأصحاب أنّ البيّنة طريق شرعيّ لإحراز الموضوعات الخارجيّة مطلقا ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ٣٦٦.

(٣) أي : صاحب الحدائق.

(٤) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٩٥ ، وانظر : المبسوط ١ : ٧٤.

(٥) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٩٥.

(٦) الناسب هو السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٠٩.

٣٦٨

عدا أنّه اعتبر الشارع في بعض المقامات شهادة الأربعة أو رجلين أو غير ذلك من الخصوصيّات ، ولم يوجد مورد أهملها رأسا (١) ، بل قد عرفت أنّ الأقوى كفاية عدل واحد بل مطلق الثقة في غير مورد الخصومات وما يتعلّق بالدعاوي ، كما فيما نحن فيه ونظائره ؛ لاستقرار سيرة العقلاء على التعويل على إخبار الثقات في الأمور الحسّيّة ممّا يتعلّق بمعاشهم ومعادهم ، وإمضاء الشارع لذلك (٢) ، كما يشهد بذلك التدبّر في الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الواحد وغيرها ممّا تقدّمت (٣) الإشارة إليها.

ويؤيّده في خصوص المورد : ما عن الصدوق في العيون بإسناده عن أحمد ابن عبد الله القروي (٤) عن أبيه ، قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح ، فقال : أدن منّي ، فدنوت منه حتّى حاذيته ، ثمّ قال لي : أشرف إلى البيت في الدار ، فأشرفت ، فقال : ما ترى؟ قلت : ثوبا مطروحا ، فقال : انظر حسنا ، فتأمّلته ونظرت فتيقّنت ، فقلت : رجل ساجد ، إلى أن قال : فقال : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام ، إنّي أتفقّده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلّا على الحالة التي أخبرك بها ، إنّه يصلّي الفجر فيعقّب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ثمّ يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتّى تزول الشمس وقد وكلّ من يرصد (٥) له الزوال ، فلست أدري متى يقول له الغلام : قد زالت الشمس ، إذ وثب

__________________

(١) راجع : ج ٨ ، ص ١٦٦.

(٢) راجع : ج ٨ ، ص ١٦٨ ـ ١٧٠.

(٣) في ج ٨ ، ص ١٦٩.

(٤) في العيون : «الغروي» بالغين. وفي الوسائل بدلها : «القزويني».

(٥) في المصدر والوسائل : «يترصّد».

٣٦٩

فيبتدئ الصلاة من غير أن يحدث وضوءا ، فأعلم أنّه لم ينم في سجوده ولا أغفى (١) ، ولا يزال إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، ثمّ إذا صلّى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجدا إلى أن تغيب الشمس ، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فيصلّي المغرب من غير أن يحدث حدثا ، ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة ، فإذا صلّى العتمة أفطر على شواء يؤتى به ، ثمّ يجدّد الوضوء ثمّ يسجد ثمّ يرفع رأسه فينام نومة خفيفة ، ثمّ يقوم فيجدّد الوضوء ثمّ يقوم فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر ، فليست أدري متى يقول الغلام : إنّ الفجر قد طلع ، إذ وثب هو لصلاة الفجر ، هذا دأبه منذ حوّل [إليّ] (٢) الحديث.

واحتمال عدم تمكّن الإمام عليه‌السلام من معرفة الوقت بطريق علميّ بواسطة الحبس ، فيخرج عن محلّ الكلام ، في غاية البعد.

وهل يعتبر في التعويل على قول الثقة إفادته الظنّ الفعلي؟ فيه وجهان ، أوجههما : العدم.

نعم ، قد يقوى في النظر عدم جواز الاعتماد عليه لدى التمكّن من استكشاف الحال بطريق علميّ ـ كما هو المفروض في المقام ـ ما لم يحصل الظنّ بل الوثوق من خبره وإن كان الأقوى خلافه.

ويلحق بخبر الثقة أذانه إذا انحصر وجهه في الإعلام ، كما هو الغالب المتعارف ، فيجوز التعويل عليه حيثما جاز الاعتماد على خبره ، كما يدلّ عليه

__________________

(١) أغفيت : نمت نومة خفيفة. لسان العرب ١٥ : ١٣٠ «غفا».

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / (الباب ٨) ح ١٠ ، الوسائل ، الباب ٥٩ من أبواب المواقيت ، ح ٢ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٣٧٠

ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أخبار مستفيضة :

منها : صحيحة ذريح المحاربي ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «صلّ الجمعة بأذن هؤلاء فإنّهم أشدّ شي‌ء مواظبة على الوقت» (١).

ورواية محمّد بن خالد القسري ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخاف أن نصلّي يوم الجمعة قبل أن تزول الشمس ، قال : «إنّما ذلك على المؤذّنين» (٢).

ورواية سعيد الأعرج ـ المرويّة عن تفسير العيّاشي ـ قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وهو مغضب وعنده أناس من أصحابنا وهو يقول : «تصلّون قبل أن تزول الشمس؟» وهم سكوت ، قال : قلت : أصلحك الله ما نصلّي حتّى يؤذّن مؤذّن مكّة ، قال : «فلا بأس ، أمّا إنّه إذا أذّن فقد زالت الشمس» (٣).

ورواية الحميري ـ المرويّة عن قرب الإسناد ـ عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل صلّى الفجر في يوم غيم أو في بيت وأذّن المؤذّن ، وقعد فأطال (٤) الجلوس حتّى شكّ فلم يدر هل طلع الفجر أم لا ، فظنّ أنّ المؤذّن لا يؤذّن حتى يطلع الفجر ، قال : «قد أجزأه أذانهم» (٥).

وخبر عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام ، قال :

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٤ / ١١٣٦ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ١١٣٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٣.

(٣) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٠٩ / ١٤٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٩.

(٤) في «ض ١٦» والوسائل : «وأطال».

(٥) قرب الإسناد : ١٨٢ / ٦٧٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٤.

٣٧١

«المؤذّن مؤتمن ، والإمام ضامن» (١).

ومرسلة الصدوق ، قال : قال الصادق عليه‌السلام في المؤذّنين : «إنّهم الأمناء» (٢).

ومرسلته الأخرى ، قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤذّنان ، أحدهما : بلال ، والآخر : ابن أمّ مكتوم أعمى ، وكان يؤذّن قبل الصبح ، وكان بلال يؤذّن بعد الصبح ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ ابن أمّ مكتوم يؤذّن بليل (٣) ، فإذا سمعتم أذانه فكلوا واشربوا حتّى تسمعوا أذان بلال» (٤).

ومرسلته الثالثة ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام في حديث : «المؤذّن له من كلّ من يصلّي بصوته حسنة» (٥).

وبإسناده عن عبد الله بن علي عن بلال ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :«المؤذّنون أمناء المؤمنين على صلاتهم وصومهم ولحومهم ودمائهم ، لا يسألون الله شيئا إلّا أعطاهم ، ولا يشفعون في شي‌ء إلّا شفّعوا» (٦).

وعن الشيخ المفيد في المقنعة ، قال : روي عن الصادقين عليهم‌السلام أنّهم قالوا :«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يغفر للمؤذّن مدّ صوته وبصره ، ويصدّقه كلّ رطب ويابس ، وله من كلّ من يصلّي بأذانه حسنة» (٧).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٢ / ١١٢١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

(٢) الفقيه ١ : ١٨٩ / ٨٩٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٦.

(٣) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة والوسائل ، وفي المصدر : «بالليل».

(٤) الفقيه ١ : ١٩٣ ـ ١٩٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٢.

(٥) الفقيه ١ : ١٨٥ ١٨٦ / ٨٨٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٥.

(٦) الفقيه ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ٩٠٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٧.

(٧) المقنعة : ٩٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، ح ٨.

٣٧٢

وقد استشهد صاحب الحدائق بهذه الأخبار لكفاية الظنّ بدخول الوقت ؛ نظرا إلى أنّ غاية ما يفيد أذان المؤذّن هو الظنّ وإن تفاوتت مراتبه شدّة وضعفا باعتبار المؤذّنين وما هم عليه من زيادة الوثاقة والضبط في معرفة الأوقات وعدمه (١).

وفيه : أنّه إن أراد بذلك إثبات جواز الاعتماد على الظنّ الحاصل من الأذان مطلقا ـ كما حكي القول به عن بعض (٢) ـ فله وجه.

وأمّا إن أراد به إثبات حجّيّة مطلق الظنّ ـ كما يعطيه ظاهر كلامه ـ ففيه : أنّه قياس مستنبط العلّة مع وجود الفارق ؛ ضرورة بطلان مقايسة سائر الظنون على الظنّ الحاصل من خبر الواحد الذي هو على تقدير وثاقة مخبره طريق عقلائيّ لإثبات متعلّقه ، كظواهر الألفاظ ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، وحيث إنّ الأذان وضع في الشريعة للإعلام بدخول الوقت يكون صدوره من المؤذّن إخبارا فعليّا بالوقت ، فلا يلزم من جواز الاعتماد عليه جواز التعويل على مطلق الظنّ.

نعم ، يلزمه حجّيّة إخبار المؤذّن بدخول الوقت بل وإخبار غير المؤذّن أيضا إذا كان كالمؤذّن من حيث الوثاقة ، فإنّ من الواضح أنّ اعتبار الأذان إنّما هو من باب الطريقيّة وكاشفيّته عن الوقت بلحاظ كونه إخبارا فعليّا ، فإخباره صريحا بالقول أولى بالاعتبار.

ثمّ إنّ في جملة من هذه الأخبار إشارة إلى ما ادّعيناه من كون خبر الثقة وأذانه ـ الذي هو بمنزلة إخباره ـ طريقا عقلائيّا مضىّ لدى الشارع ، وأنّ اعتباره

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٩٦.

(٢) راجع : المعتبر ٢ : ٦٣.

٣٧٣

شرعا إنّما هو بهذه الملاحظة ، لا من باب التعبّد ؛ فإنّ سياقها يأبى عن التعبّد.

ألا ترى إلى التعليل الواقع في صحيحة (١) المحاربي ، الآمرة بالأخذ بأذان هؤلاء : بأنّهم أشدّ شي‌ء مواظبة للوقت؟ فإنّه بمنزلة توثيقهم في الإخبار بالوقت ، وقد سيق تقريبا للحكم إلى الذهن ، فيستكشف من ذلك أنّ التعويل على خبر الثقة كان مفروغا عنه لديهم.

وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرسلة الصدوق : «إنّ ابن أمّ مكتوم يؤذّن بليل (٢)» (٣) الحديث ، فإنّه بحسب الظاهر مسوق للردع عن الاعتماد على أذان ابن أمّ مكتوم ؛ لكونه يؤذّن بليل ، لا الأمر بالتعويل على أذان بلال ، فيستشعر من ذلك أنّ التعويل على أذان بلال على وفق القاعدة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرسلة المفيد : «وله من كلّ من يصلّي بأذانه حسنة» (٤) فإنّ فيه إيماء إلى جريان العادة على التعويل على الأذان ورضا الشارع بذلك.

وكيف كان فغاية ما يمكن إثباته بهذه الأخبار إنّما هو جواز الاعتماد على أذان من يوثق بأنّه لا يؤذّن إلّا بعد دخول الوقت ، لا مطلق المؤذّن وإن كان قد يستظهر منها الإطلاق ، لكن إطلاق بعضها وارد مورد حكم آخر من مدح المؤذّنين والترغيب على الأذان ببيان ما يترتّب عليه من المغفرة والأجر ، كالروايات الثلاثة الأخيرة (٥) ، وبعضها وارد في المؤذّن الثقة ، كصحيحة المحاربي ورواية سعيد و

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٣٧١ ، الهامش (١).

(٢) لا حظ الهامش (٣) من ص ٣٧٢.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٣٧٢ ، الهامش (٤).

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٣٧٢ ، الهامش (٧).

(٥) راجع : ص ٣٧٢.

٣٧٤

خبر عليّ بن جعفر ، بل وكذا رواية محمّد بن خالد القسري (١) ، الظاهرة في جواز الاعتماد على الأذان مع الشكّ ، وأنّ عقوبة مخالفة الوقت على المؤذّنين ، فإنّ المراد بالصلاة يوم الجمعة في هذه الرواية ـ بحسب الظاهر ـ هي صلاة الجمعة ، والمقصود بالمؤذّنين هم الذين يعوّل عليهم في صلاة الجمعة ، وهم بمقتضى العادة من هؤلاء الذين أمر الصادق عليه‌السلام ـ في صحيحة ذريح ـ بالصلاة بأذانهم ، ومدحهم بأنّهم أشدّ شي‌ء مواظبة على الوقت.

نعم ، يظهر من هذه الرواية عدم اعتبار الوثوق الفعلي.

اللهمّ إلّا أن يقال : لعلّه في خصوص المورد ؛ نظرا إلى أنّ خوف وقوع صلاة الجمعة قبل الوقت لا يكون غالبا إلّا ممّن في قلبه مرض الوسواس ؛ لقضاء العادة بعدم انعقاد صلاة الجمعة إلّا بعد الزوال.

هذا ، مع أنّ هذه الرواية ـ بحسب الظاهر ـ لا تخلو عن شوب تقيّة ؛ لما أشرنا إليه من أنّ الظاهر من قوله : «أخاف أن نصلّي يوم الجمعة» (٢) إرادة صلاة الجمعة التي هي لم تكن تنعقد ظاهرا في عصر الصادق عليه‌السلام إلّا من المخالفين ، فكانت صلاتهم فاسدة على كلّ حال ، وكذلك صلاة من يصلّي الجمعة معهم ، فلعلّ الإمام عليه‌السلام حيث لم يتمكّن من إظهار ذلك أجابه بجواب صوري.

وكيف كان فما يمكن أن يتمسّك بإطلاقه ليس إلّا قوله عليه‌السلام في خبر الهاشمى : «المؤذّن مؤتمن» (٣) وقوله عليه‌السلام ـ في مرسلة الصدوق ـ في المؤذّنين :

__________________

(١) راجع : ص ٣٧١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٧١ ، الهامش (٢).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٣٧٢ ، الهامش (١).

٣٧٥

«إنّهم الأمناء» (١) وهذان الخبران أيضا لو لم نقل بانصراف إطلاقهما إلى من كان من شأنه الاستئمان ـ بأن يكون في حدّ ذاته أمينا في الإخبار بالوقت ، كما لعلّه الغالب في المؤذّنين في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ـ لتعيّن صرفه إلى ذلك ؛ جمعا بينه وبين صحيحة (٢) ذريح ، الدالّة ـ بمقتضى التعليل الواقع فيها ـ على عدم جواز الاعتماد على مطلق الأذان ، وخبر عليّ بن جعفر ـ المتقدّم (٣) في صدر المبحث ـ الذي وقع فيه التصريح بأنّ سماع الأذان لا يجزئ حتّى يعلم أنّه طلع الفجر.

هذا ، مع ضعف الخبرين سندا ، وعدم نهوضهما حجّة لإثبات حكم مخالف للقواعد الشرعيّة.

ثمّ إنّ مقتضى ترك الاستفصال في خبر عليّ بن جعفر ـ المتقدّم (٤) ـ مع إطلاق الجواب بأنّه لا يجزئ حتى يعلم : عدم جواز التعويل على الأذان مطلقا وإن كان المؤذّن ثقة عارفا بالوقت ، لكن لا بدّ من صرفه عن ذلك ؛ جمعا بينه وبين الصحيحة (٥) وغيرها ممّا هو نصّ في جواز التعويل على أذان الثقة ، بل هو في حدّ ذاته منصرف عن ذلك ؛ فإنّ المتبادر من قول السائل : «في الرجل يسمع الأذان» (٦) إرادة مجرّد سماع الأذان من غير أن يميّز شخص المؤذّن فضلا عن أن يعرفه بالوثاقة ، فلا يعمّ إطلاق الجواب ما لو عرف المؤذّن وعلم أنّه شديد المواظبة على الوقت وأنّه بحسب عادته لا يؤذّن إلّا بعد الوقت.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٧٢ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٣٧١ ، الهامش (١).

(٣) في ص ٣٦٦.

(٤) في ص ٣٦٦.

(٥) أي : صحيحة المحاربي ، المتقدّمة في ص ٣٧١.

(٦) راجع ص ٣٦٦.

٣٧٦

وليعلم أنّ ما ذكرناه من حجّيّة خبر الثقة وأذانه في تشخيص الوقت وغيره من الموضوعات الخارجيّة إنّما هو فيما إذا كان المخبر به حسّيّا لم يتطرّق فيه احتمال الخطأ احتمالا يعتدّ به لدى العقلاء ، كإخباره ببلوغ الفي‌ء موضع كذا ، أو زيادة الظلّ بعد نقصانه ، أو غير ذلك ، أو حدسيّا يكون كذلك بأن يكون ناشئا عن مقدّمات حسّيّة غير قابلة للخطأ ، كالإخبار بالملكات المستكشفة من آثارها ، كالشجاعة والسخاوة ونحوهما ، وأمّا فيما لم يكن كذلك بأن كان حدسيّا غير مستند إلى مقدّمات حسّيّة ، أو حسّيّا يكثر فيها الخطأ والاشتباه ، كتمييز أوصاف بعض الأجناس وتشخيص مراتبها ونحو ذلك ممّا نرى أهل العرف يختلفون فيها ، فلا ، بل قد يشكل في مثل هذه الموارد الاعتماد على البيّنة أيضا ، إلّا أن يدلّ عليه دليل خاصّ تعبّديّ ، فمن هنا قد يشكل الأمر في الاعتماد على شهادة العدلين فضلا عن العدل الواحد أو مطلق الثقة في الإخبار بأوّل الوقت على سبيل التحقيق ؛ لاختلاف الأنظار في تشخيص أوّل الوقت ما لم يستند إلى زيادة الظلّ ونحوه من الحسّيّات الغير القابلة للتشكيك.

والحاصل : أنّ وثاقة المخبر أو عدالته إنّما تؤثّر في عدم الاعتناء باحتمال تعمّد الكذب ، فإن كان المخبر به ممّا لو علم بأنّه لم يخبر به إلّا عن اعتقاد ويقين لا يعتنى باحتمال خطئه واشتباهه ، كما في الحسّيّات التي يبعد فيها الخطأ ، ويجري بالنسبة إليها أصالة عدم الخطأ والغفلة ـ المعوّل عليها لدى العقلاء ـ يعوّل على إخباره ، وإلّا فلا ، فيشكل حينئذ التعويل على أذان الثقة في غير الزوال الذي يحرز غالبا بإحساس زيادة الظلّ ورجوعه إلى المشرق ، إلّا في تشخيص الوقت

٣٧٧

تقريبا لو لم يعلم بقرينة حاليّة أو مقاليّة أنّ غرضه الإعلام بتبيّن الوقت على وجه غير قابل للتشكيك والالتباس.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الاعتماد على أذان الثقة إنّما هو من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، فيعوّل عليه وإن كان المخبر به حدسيّا أو بمنزلته.

لكن يتوجّه عليه أنّ المتّجه حينئذ إنّما هو رجوع من لا خبرة له بالوقت إليه ، فيخرج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الرجوع إلى أهل الخبرة مع كون المكلّف بنفسه متمكنّا من تحصيل العلم مشكل ، خصوصا لو لم يكن قوله مفيدا للوثوق الفعلي.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ الاعتماد على الأذان على وجه يجوز له الدخول في الصلاة بمجرّد سماع الأذان وإن كان المؤذّن ثقة أيضا لا يخلو عن إشكال ما لم يحصل وثوق فعليّ بالوقت.

وقد أشرنا آنفا إلى أنّ الأمر بالصلاة بأذان هؤلاء في صحيحة ذريح (١) إرشاديّ لا ينافي اشتراط الوثوق ، وما عداها من الروايات أيضا لا تنهض حجّة لإثبات خلافه ، والله العالم.

(فإن فقد العلم) أو ما قام مقامه ـ من البيّنة ، أو إخبار العدل ، بل مطلق الثقة على ما قوّيناه آنفا ـ بأن تعذّر تحصيله لغيم ونحوه (اجتهد ، فإن) لم يحصل له ظنّ ، وجب عليه تأخير الصلاة ؛ لأصالة عدم دخول الوقت.

ولو نوقش في جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيّات ، فالمرجع أصالة عدم شرعيّة الصلاة ، وعدم الاجتزاء بها ما لم يحرز شرطها ـ الذي هو

__________________

(١) راجع : ص ٣٧١.

٣٧٨

الوقت ـ بالعلم أو بظنّ معتبر ، كما هو واضح.

وإن (غلب على ظنّه دخول الوقت) أي ترجّح في نظره احتماله فظنّ به (صلّى) ولا يجب عليه حينئذ التأخير على الأظهر الأشهر ، بل المشهور ، بل عن التنقيح وغيره دعوى الإجماع عليه (١).

خلافا لابن الجنيد ، فقال ـ على ما حكي عنه ـ : ليس للشاكّ يوم الغيم ولا غيره أن يصلّي إلّا عند تيقّنه الوقت ، وصلاته في آخر الوقت مع اليقين خير من صلاته مع الشكّ (٢). انتهى ، فكأنّه قدس‌سره أشار بقوله : «وصلاته في آخر الوقت» إلى آخره إلى قول الصادق عليه‌السلام في خبر الحسن العطّار : «لأنّ أصلّي الظهر في وقت العصر أحبّ إليّ من أن أصلّي قبل أن تزول الشمس» (٣).

ومال إلى هذا القول في المدارك ، فقال ـ بعد نقل القولين ـ ما لفظه : احتجّ الأوّلون برواية سماعة ، قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم ، قال : «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك» (٤).

قيل : وهذا يشمل الاجتهاد في الوقت والقبلة.

ويمكن أن يستدلّ له أيضا برواية أبي الصباح الكناني ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن رجل صام ثمّ ظنّ أنّ الشمس قد غابت وفي السماء علّة فأفطر

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٧ : ٢٦٩ ، وانظر : التنقيح الرائع ١ : ١٧١ ، والحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ٣٢٠.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٦٦ ، ضمن المسألة ١٨.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٥٤ / ١٠٠٦ و ١٠٠٧ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت ، ح ٨ وذيله.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٤ / ١ ، التهذيب ٢ : ٤٦ / ١٤٧ ، و ٢٥٥ / ١٠٠٩ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ / ١٠٨٨ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القبلة ، ح ٢.

٣٧٩

ثمّ إنّ السحاب انجلى فإذا الشمس لم تغب ، فقال : «قد تمّ صومه ولا يقضيه» (١) وإذا جاز التعويل على الظنّ في الإفطار جاز في الصلاة ؛ إذ لا قائل بالفرق.

وصحيحة زرارة ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «وقت المغرب إذا غاب القرص ، فإن رأيته بعد ذلك وقد صلّيت أعدت الصلاة ومضى صومك ، وتكفّ عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئا» (٢).

وتقريب الاستدلال ما تقدّم.

ويمكن المناقشة في الروايتين الأوّلتين : بضعف السند ، وفي الثالثة :بقصور الدلالة. والمسألة محلّ تردّد ، وقول ابن الجنيد لا يخلو من قوّة (٣). انتهى.

وعن الذخيرة أيضا التردّد فيه (٤).

وفي الحدائق ـ بعد أن نقل عبارة المدارك ـ قال : لا يخفى أنّ ما ذكره من الاستدلال برواية سماعة مبنيّ على حمل الاجتهاد على الوقت ، والظاهر بعده ، بل المراد إنّما هو الاجتهاد في القبلة ، فيكون العطف تفسيريّا ، فلا تكون الرواية المذكورة من المسألة في شي‌ء (٥). انتهى.

أقول : ولا يخفى عليك أنّ تنزيل الجواب على إرادة الاجتهاد في

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٧٠ ـ ٢٧١ / ٨١٦ ، الاستبصار ٢ : ١١٥ / ٣٧٤ ، الوسائل ، الباب ٥١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧٩ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٦١ / ١٠٣٩ ، و ٤ : ٢٧١ / ٨١٨ ، الاستبصار ٢ : ١١٥ / ٣٧٦ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٧ ، والباب ٥١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ١.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٩٨ ـ ٩٩.

(٤) ذخيرة المعاد : ٢٠٩ ، وحكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٠٣.

(٥) الحدائق الناضرة ٦ : ٣٠١.

٣٨٠