مصباح الفقيه - ج ٤

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٤

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

١
٢

٣
٤

(الفصل الثاني)

من الفصول الخمسة : (في) تشخيص دم (الحيض) وما يتعلّق به من الأحكام الشرعيّة.

أمّا دم الحيض فهو : دم معروف معتاد للنساء خُلق فيهنّ لحِكَم كثيرة ، منها : تغذية الولد إذا حملت ، فإذا وضعت ، أزال الله عنه صورة الدم وكساه صورة اللبن ليتغذّى به الطفل مدّة رضاعه ، فإذا خلت من الحمل والرضاع ، بقي الدم لا مصرف له ، فيستقرّ في مكان ثمّ يخرج غالباً في كلّ شهر ستّة أيّام أو سبعة أو أقلّ أو أزيد على حسب مزاج المرأة حرارةً وبرودةً ، وهو معروف عند النساء لا خفاء فيه مفهوماً كالبول والمنيّ وإن كان ربما تشتبه مصاديقه بغيره من الدماء.

وربما يطلق الحيض في العرف والشرع ويراد منه هذا الدم مسامحةً ، وإلّا فحيض المرأة في الحقيقة كما عن تنصيص جماعة من العلماء واللغويّين عبارة عن سيلان دمها ، لا عن نفس الدم ، وقد شاعت هذه المسامحة في عرف الفقهاء حتى كان الحيض صار لديهم حقيقةً في نفس الدم ، ولذا عرّفه به جملة منهم.

وكيف كان (فـ) دم (الحيض هو الدم) المعهود المعروف عند

٥

النساء (الذي) عُلم من بيان الشارع أنّ (له تعلّقاً بانقضاء العدّة ، و) أنّ (لقليله حدّا).

وهاتان الصفتان من الخواصّ المركّبة التي لا توجد إلّا في دم الحيض ، وأمّا سائر أوصافه كالحرارة والسواد والحرقة ونحوها فهي أوصاف غالبيّة ربّما يتخلّف عنها ويكون فاقداً لجميعها ، كما سيتّضح لك فيما سيأتي.

ثمّ إنّ الدم المعهود يعرف غالباً بوقته وأوصافه ؛ لأنّ له في أغلب أفراده المتعارفة وقتاً مضبوطاً وأوصافاً معيّنة يمتاز بها عن غيره.

(و) هو (في الأغلب يكون أسود) أي مائلاً إلى السواد ؛ لشدّة حمرته (غليظاً حارّاً يخرج بحرقة) حاصلة من دفعه وحرارته.

واستفيد كونه متّصفاً بهذه الأوصاف من النصّ والحسّ بشهادة أهله.

ففي صحيحة حفص بن البختري أو حسنته ، قال : دَخَلَتْ على أبي عبد الله عليه‌السلام امرأة سألته عن المرأة يستمرّ بها الدم فلا تدري حيض هو أم غيره ، قال : فقال لها : «إنّ دم الحيض حارّ عبيط (١) أسود له دفع وحرارة ، ودم الاستحاضة أصفر بارد ، فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة» قال : فخرجَتْ وهي تقول : والله لو كان امرأةً ما زاد على هذا (٢).

وفي صحيحة معاوية بن عمّار ، قال : «إنّ دم الاستحاضة والحيض

__________________

(١) العبيط : الطري. لسان العرب ٧ : ٣٤٧ «عبط».

(٢) الكافي ٣ : ٩١ / ١ ، التهذيب ١ : ١٥١ / ٤٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

٦

ليس يخرجان من مكان واحد ، إنّ دم الاستحاضة بارد ودم الحيض حارّ» (١).

وموثّقة إسحاق بن جرير (٢) ، قال : سألَتْ امرأة منّا أن أُدخلها على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فاستأذنت لها فأذن لها فدخلَتْ ومعها مولاة لها إلى أن قال ـ فقالت له : ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيّام حيضها؟ قال : «إن كان أيّام حيضها دون عشرة أيّام استظهرت بيومٍ واحد ثمّ هي مستحاضة» قالت : فإنّ الدم يستمرّ بها الشهر والشهرين والثلاثة ، كيف تصنع بالصلاة؟ قال : «تجلس أيّام حيضها ثمّ تغتسل لكلّ صلاتين» قالت له : إنّ أيّام حيضها تخلف عليها وكان يتقدّم الحيض اليوم واليومين والثلاثة ويتأخّر مثل ذلك فما علمها به؟ قال : «دم الحيض ليس به خفاء ، هو دم حارّ تجد له حرقة ، ودم الاستحاضة دم فاسد بارد» قال : فالتفتت إلى مولاتها فقالت : أتراه كان امرأة مرّة؟ (٣).

ثمّ إنّ توصيف الدم بهذه الصفات في الأخبار وارد مورد الأغلب ، وإلّا فسيتّضح لك أنّ كثيراً ما يحكم بالحيضيّة على فاقدها ، وبالاستحاضة على المتّصف بها.

وحيث أمكن تخلّف دم الحيض والاستحاضة عن الأوصاف المذكورة في الروايات ربما لا يحصل الوثوق بكون الموصوف بأوصاف

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩١ / ٣ ، التهذيب ١ : ١٥١ / ٤٣٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

(٢) في التهذيب : إسحاق بن جرير عن حريز.

(٣) الكافي ٣ : ٩١ ـ ٩٢ / ٣ ، التهذيب ١ : ١٥١ ١٥٢ / ٤٣١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٣.

٧

الحيض أو الاستحاضة حيضاً أو استحاضةً أو كون فاقد أوصاف الحيض أو الاستحاضة غير الحيض أو الاستحاضة ، فيشكل الاعتماد عليها في غير مورد النصوص في تشخيص دم الحيض.

اللهمّ إلّا أن يدّعى كما في المدارك والحدائق والمستند (١) ظهور هذه الروايات في كون هذه الأوصاف أمارةً ظنّيّة اعتبرها الشارع طريقاً تعبّديّاً لمعرفة موضوع الحيض بحيث يدور الحكم بالحيضيّة مدارها وجوداً وعدماً إلّا في الموارد التي دلّ الدليل على خلافه.

قال في المدارك : ويستفاد من هذه الروايات أنّ هذه الأوصاف خاصّة مركّبة للحيض ، فمتى وجدت حكم بكون الدم حيضاً ، ومتى انتفت انتفى إلّا بدليلٍ من خارج ، وإثبات هذا الأصل ينفع في مسائل متعدّدة من هذا الباب (٢). انتهى.

ولكنّك خبير بما في عموم هذه الدعوى من الإشكال ؛ إذ لا دلالة في شي‌ء من الأخبار أصلاً على أنّه لا يكون دم آخر بأوصاف الحيض أو الاستحاضة ، ولذا لا يعتنى بأوصاف الدم عند اشتباهه بدم القروح أو العذرة.

ومنطوق الشرطيّة في قوله عليه‌السلام : «فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة» لا يدلّ إلّا على ثبوت الحيضيّة بتحقّق الأوصاف في الموضوع الذي فرضه السائل ، وهو ما لو استمرّ بها الدم ، واختلط حيضها بالاستحاضة ، فمرجع الضمير في قوله عليه‌السلام : «فلتدع الصلاة» ليس إلّا هذه

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣١٣ ، الحدائق الناضرة ٣ : ١٥٢ ، مستند الشيعة ٢ : ٣٨٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣١٣.

٨

المرأة المفروضة لا مطلق المرأة التي خرج منها دم موصوف بهذه الأوصاف وإن لم يختلط حيضها بالاستحاضة بل اشتبه بدم العذرة أو القروح مثلاً.

ودعوى ظهور سياق الروايات في كونها مسوقةً لبيان إعطاء الضابط لمعرفة دم الحيض مطلقاً ، مدفوعة.

أوّلاً : بأنّ غاية ما يمكن دعواه ليس إلّا كونها مسوقةً لبيان ما يتميّز به دم الحيض عن الاستحاضة عند اختلاط بعضها ببعض.

وثانياً : أنّ المتأمّل في سياق الأخبار لا يكاد يرتاب في عدم كونها مسوقةً لبيان ضابطةٍ تعبّديّة ، بل هي إرشاد إلى معرفة أوصاف الدم المعهود ، التي يمتاز بها عن دم الاستحاضة ، وحيث إنّ هذه الأوصاف أمارة غالبيّة لا دائميّة يعرف من اعتناء الشارع بها وإرجاعها إليها كونها طريقاً تعبّديّاً في موردها ، وهو ما لو استمرّ بها الدم واختلط الحيض بالاستحاضة.

نعم ، لا يبعد دعوى استفادة طريقيّتها لتشخيص دم الحيض عن الاستحاضة عند اشتباه أحدهما بالآخر مطلقاً ما لم يدلّ دليل على خلاف ذلك ، فليتأمّل.

وهل يخرج دم الحيض من الجانب الأيسر أو الأيمن؟ فيه خلاف سيأتي التعرّض له إن شاء الله.

(وقد يشتبه) دم الحيض (بدم العذرة) أي البكارة (فيعتبر بالقطنة) ونحوها ، ولا يلتفت حينئذٍ إلى أوصاف الدم ؛ لما أشرنا فيما تقدّم من أنّ الرجوع إلى الأوصاف إنّما هو لتمييز الحيض عن الاستحاضة لا عن سائر الدماء.

٩

(فإن خرجت) القطنة (مطوّقةً ، فهو) دم (العذرة) وإن خرجت منغمسةً ، فهو الحيض ؛ لصحيحة خلف بن حمّاد ، قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام بمنى ، فقلت له : إنّ رجلاً من مواليك تزوّج جاريةً معصراً (١) لم تطمث ، فلمّا اقتضّها (٢) سال الدم فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيّام وإنّ القوابل اختلفن في ذلك ، فقال بعضهنّ : دم الحيض ، وقال بعضهنّ : دم العذرة ، فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال عليه‌السلام : «فلتتّق الله فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتى ترى الطهر ، وليمسك عنها بعلها ، وإن كان من العذرة فلتتّق الله ولتتوضّأ ولتصلّ ويأتيها بعلها إن أحبّ ذلك» فقلت له : وكيف لهم أن يعلموا ما هو حتى يفعلوا ما ينبغي؟ قال : فالتفت يميناً وشمالاً في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد ثمّ نهد (٣) إليَّ فقال : «يا خلف سرّ الله سرّ الله فلا تذيعوه ولا تعلّموا هذا الخلق أُصول دين الله بل ارضوا لهم ما رضي الله لهم من ضلال» قال : ثمّ عقد بيده اليسرى تسعين (٤) ثمّ قال : «تستدخل القطنة ثمّ تدعها

__________________

(١) الجارية المعصر زنة مكرم : التي أوّل ما أدركت وحاضت أو أشرفت على الحيض ولم تحض. مجمع البحرين ٣ : ٤٠٨ «عصر».

(٢) اقتضّ الجارية : افترعها وأزال بكارتها. والافتضاض ـ بالفاء بمعناه. مجمع البحرين ٤ : ٢٢٨ «قضض».

(٣) أي نهض وتقدّم. مجمع البحرين ٣ : ١٥٢ «نهد».

(٤) قال بعض شُرّاح الحديث : أراد أنّه لفّ سبّابته اليسرى تحت العقد الأسفل من الإبهام اليسرى ، فحصل بذلك عقد تسعين بحساب عدد اليد. والمراد أنّها تستدخل القطنة بهذا الإصبع صوتاً للمسبّحة عن القذارة كما صِينت اليد اليمنى عن ذلك ، لتمييز الدم الخارج ، فتعمل على ما يقتضيه. هكذا فسّره في مجمع البحرين [٣ : ١٠٥] حاكياً عن البعض. ولكنّه اعترض على ذلك بعدم موافقته لحساب اليد ، المشهور ، مَنْ أراد تفصيل الاعتراض مع ما يحتمله في تفسير الرواية فليراجعه. (منه قدس‌سره). وانظر : مرآة العقول ١٣ : ٢٣٢ ٢٣٣ ، والوافي ٦ : ٤٤٧ ٤٤٨.

١٠

مليّاً ثمّ تخرجها إخراجاً رفيقاً ، فإن كان الدم مطوّقاً في القطنة فهو من العذرة ، وإن كان مستنقعاً في القطنة فهو من الحيض» قال خلف : فاستخفّني (١) الفرح فبكيت فلمّا سكن بكائي قال : «ما أبكاك؟» قلت : جعلت فداك مَنْ كان يحسن هذا غيرك ، قال : فرفع يده إلى السماء وقال : «إنّي والله ما أُخبرك إلّا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله عزوجل» (٢).

وصحيحة زياد بن سوقة ، قال : سُئل أبو جعفر عليه‌السلام عن رجل اقتضّ امرأته أو أمته فرأت دماً كثيراً لا ينقطع عنها يوماً كيف تصنع بالصلاة؟ قال : «تمسك الكرسف فإن خرجت القطنة مطوّقةً بالدم فإنّه من العذرة تغتسل وتمسك معها قطنة وتصلّي ، فإن خرج الكرسف منغمساً بالدم فهو من الطمث تقعد عن الصلاة أيّام الحيض» (٣).

ثمّ إنّ المتبادر من الصحيحتين وفتاوى الأصحاب ليس إلّا إرادة حكم ما إذا تردّد الدم بين كونه دم الحيض أو العذرة على سبيل منع الخلوّ ، فيكون عدم تطوّق الدم حينئذٍ دليلاً على عدم كونه من العذرة ، فيتعيّن كونه حيضاً بحكم الفرض.

__________________

(١) في الكافي : فاستحفّني ، بالحاء المهملة بمعنى الشمول والإحاطة ، وبالخاء المعجمة بمعنى النشاط. انظر : الوافي ٦ : ٤٤٨.

(٢) الكافي ٣ : ٩٢ ٩٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٩٤ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

١١

وأمّا لو لم ينحصر الاحتمال فيهما بأن احتمل كونه من القرحة أو الاستحاضة ، فيشكل الحكم بالحيضيّة بمجرّد خروج القطنة منغمسةً بالنظر إلى إطلاق الصحيحتين وفتاوى الأصحاب ، إلّا أن يقتضيه دليل آخر من قاعدة الإمكان ونحوها ؛ لأنّه لا يفهم منهما بعد فرض انحصار الاحتمالين في موردهما ـ كون الانغماس أمارةً تعبّديّة لثبوت الحيضيّة ؛ لجواز أن يكون طريق العلم بحيضيّة الدم نفي الاحتمال الآخر لا الانغماس. ولذا توقّف المصنّف في ظاهر المتن والنافع وصريح المعتبر (٢) وكذا العلّامة في ظاهر القواعد (٣) في المسألة ، ولم يحكم بالحيضيّة.

والاعتراض عليهما بمنافاته لظاهر النصوص والفتاوى قد عرفت دفعه بعدم دلالتهما على كون الانغماس أمارةً تعبّديّة لثبوت الحيضيّة.

وأمّا الاعتراض عليهما بأنّ مفروضهما ما إذا انحصر الاحتمال في الأمرين ، فلا وجه للتوقّف في ثبوت أحدهما بعد الجزم بنفي الآخر ، فيدفعه أنّ ثبوت أحد الأمرين المعلوم ثبوت أحدهما بعد العلم بنفي الآخر من البديهيّات الأوّليّة التي لا تختفي على أحد فضلاً عن مثل المحقّق والعلّامة ، فعدم جزمهما بثبوت الحيضيّة دليل على أنّ توقّفهما إنّما هو فيما إذا احتمل كونه دماً آخر سوى العذرة والحيض.

وأمّا ما نقل عن المصنّف في المعتبر من دعوى الإجماع على أنّ ما تراه المرأة من الثلاثة إلى العشرة يحكم بكونه حيضاً ما لم يعلم أنّه لقرح أو عذرة وإن لم يكن بصفات الحيض ، فلا ينافي توقّفه في المقام ؛ لأنّ

__________________

(٢) انظر : المختصر النافع : ٩ ، والمعتبر ١ : ١٩٨.

(٣) انظر : قواعد الأحكام ١ : ١٤.

١٢

مقتضى الجزم بكونه حيضاً بمجرّد الانغماس : الحكم بحيضيّتها في اليوم الأوّل والثاني وإن لم يعلم بأنّه يستمرّ إلى ثلاثة أيّام.

والحاصل : أنّ المقصود في المقام ليس إلّا التنبيه على أنّه لا يفهم من النصّ والإجماع كون انغماس الدم من حيث هو دليلاً على كونه حيضاً ، بل هو دليل على عدم كونه من العذرة ، فيكون حاله عند الانغماس كحال الدم الذي تراه ولم تحتمل كونه من العذرة ، وستعرف في بعض الفروع الآتية أنّ المصنّف رحمه‌الله لا يقول بحيضيّة الدم بمجرّد رؤيته واحتمال كونه حيضاً.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الصحيحتين بقرينة ترك التفصيل : وجوب الاختبار عليها مطلقاً ، سواء علمت أوّلاً بأنّه من العذرة ثمّ شكّت لكثرته أو استمراره أو نحوهما في أنّ ذلك هل هو دم العذرة أو أنّه انقطع دم العذرة وحدث الحيض أو لم ينقطع ولكنّه حدث الحيض فامتزجا ، أو شكّت ابتداءً في أنّه من الحيض أو من العذرة. ولا مسرح لأصالة عدم حدوث دم الحيض أو بقاء دم العذرة أو أصالة البراءة عن التكليف بعد ظهور النصّ في وجوب الاختبار عليها عند الاشتباه مطلقاً من دون تفصيل.

نعم ، لو لم تعلم بالاقتضاض ولكنّها احتملته فشكّت في كون الدم منه أو من الحيض ، لم يجب عليها الفحص ؛ لعدم الدليل عليه ؛ لاختصاص الصحيحتين بصورة العلم ، فالأصل براءة ذمّتها عن التكليف ، بل الأصل سلامتها وعدم حدوث الاقتضاض المقتضي لوجوب الفحص ، فتعمل في حكم الدم على القواعد الشرعيّة المقرّرة لها ، ولكنّها لو

١٣

اختبرت وخرجت القطنة مطوّقةً ، بنَتْ على أنّه من دم العذرة لا الحيض ؛ لدلالة الصحيحتين على أنّ خروجها مطوّقةً ينفي احتمال الحيضيّة مطلقاً ولو في غير مورد السؤال.

نعم ، يجوز عقلاً أن يكون خروجها مطوّقةً أمارةً ظنّيّة معتبرة في خصوص المورد ، إلّا أنّ ظاهر الروايتين اعتبارها في مقام التمييز مطلقاً ؛ إذ لا يفهم عرفاً لخصوص المورد خصوصيّة في طريقيّتها ولا في اعتبارها شرعاً ، بل المتبادر منهما ليس إلّا كون خروج القطنة مطوّقةً مائزاً بين دم الحيض والعذرة مطلقاً ، بل ربّما يقال بحصول التمييز بذلك بين دم العذرة والاستحاضة أيضاً ، فيرجع إليه عند الاشتباه.

وفيه نظر ؛ لأنّه إنّما يتمّ لو ثبت أنّ دم الاستحاضة كالحيض لا يكون إلّا منغمساً بالقطنة ، وإلّا فخروجها مطوّقةً لا ينفي احتمال كونه استحاضةً.

نعم ، خروجها منغمسةً دليل على عدم كونه من العذرة ، فالاختبار إنّما يجدي في صورة انحصار الاحتمالين وخروجها منغمسةً ، وأمّا فيما عدا هذا الفرض فيحكم بأنّه استحاضة لو قلنا بأنّها الأصل في كلّ دم ليس بحيض ، وإلّا فالمرجع استصحاب حالتها قبل رؤية هذا الدم من الطهارة أو الحدث.

وهل يجب عليها الاختبار لو حاضت أوّلاً ثمّ اقتضّت فشكّت في كون الدم منه أو من الحيض ، أم ترجع إلى أصالة بقاء الحيض وبراءة ذمّتها عن التكليف؟ وجهان : من خروجه من مورد النصّ ، فيرجع فيه إلى القواعد ، ومن أنّ خصوصيّة المورد لا توجب تخصيص الحكم ، فكما يفهم من الصحيحتين حصول التمييز بهذه العلامة في جميع موارد

١٤

الاشتباه ، كذلك يفهم منهما وجوب الرجوع إليها في جميع تلك الموارد.

نعم ، لو كان الشكّ في أصل الاقتضاض ، يشكل استفادة وجوب الفحص فيه من الروايتين حيث إنّ اعتبار أصالة العدم بالنسبة إليه من الأُمور المغروسة في الأذهان على وجه لا يلتفت الذهن عند احتماله إلى كون الدم ممّا يشكّ في حكمه.

والإنصاف أنّه لا ينبغي ترك الاحتياط بالفحص في جميع موارد الشبهة ، بل لا يبعد القول بوجوبه مطلقاً في جميع مواقع الاشتباه ؛ نظراً إلى ما في صحيحة خلف (١) من التهديد على مخالفة الواقع ؛ فإنّ ظاهرها عدم كون الجهل عذراً في موارد الاشتباه ، ومقتضاه : عدم جواز الرجوع إلى الأُصول من أوّل الأمر ووجوب الفحص عليها مهما أمكن.

نعم ، في كلّ مورد تعذّر عليها الفحص ؛ لكثرة الدم أو نحوها من الأعذار ، تعمل بالاصول من استصحاب الحدث أو الطهارة ؛ لأنّ الجهل حينئذٍ عذر عقليّ ، كما في الشبهات الحكميّة ، فيرجع فيها إلى القواعد الشرعيّة المقرّرة للجاهل ، والله العالم.

ولو تركت الفحص في الموارد التي وجب عليها الاختبار وصلّت ثمّ انكشفت مطابقتها لما هو تكليفها ، لم تجب إعادتها على الأظهر ؛ لأنّه إنّما وجب عليها الاختبار مقدّمةً لترتيب آثار دم العذرة عليه على تقدير كونه منها ، وآثار دم الحيض على تقدير كونه حيضاً ، ولا دليل على مدخليّة الاختبار في قوام تلك الآثار حتى تفسد بالإخلال به ، بل الأدلّة

__________________

(١) انظر الكافي ٣ : ٩٢ ٩٤ / ١ ، والوسائل ، الباب ٢ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

١٥

قاضية بعدمها.

نعم ، لو التفتت في أوّل الصلاة إلى وجوب الفحص واحتملت حرمة الصلاة عليها ذاتاً ، أعادتها حيث لا يتأتّى منها في مثل الفرض قصد القربة المعتبرة في صحّة العبادة. وأمّا لو لم تحتمل إلّا حرمتها تشريعاً فأتت بها بقصد الاحتياط ، صحّت صلاتها إن لم نعتبر الجزم في النيّة ، وإلّا بطلت على ما هو المشهور من اعتبار الجزم بالنيّة مع الإمكان ، ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، كما عرفت تحقيقه في نيّة الوضوء.

والحاصل : أنّ الصحّة تدور مدار الشرائط المعتبرة في ماهيّة الصلاة من قصد القربة والجزم في النيّة ونحوهما ، وليس للاختبار من حيث هو وجوداً وعدماً مدخليّة في ماهيّة عباداتها ، والله العالم.

واعلم أنّه ليس لإدخال القطنة كيفيّة مخصوصة عدا ما نصّ عليها في صحيحة خلف ، المتقدّمة (١).

وما عن الشهيد في الروض من أنّها تستلقي على ظهرها وترفع رِجْليها ثمّ تستدخل القطنة (٢) ، فلا دليل عليه وإن استند فيه إلى روايات أهل البيت ، إلّا أنّ جماعة ممّن تأخّر عنه نبّهوا على أنّ ذلك صدر منه غفلة ، فإنّ الأمر بالاستلقاء إنّما هو في الرواية الآتية في اشتباه الحيض بالقرحة ، الآمرة باستدخال الإصبع بعد الاستلقاء ، لا في أخبار الباب ، والله العالم.

__________________

(١) تقدمت في ص ١٠.

(٢) روض الجنان : ٦٠ ، وحكاه عن الشهيد في المسالك ١ : ٥٦ العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣١٥.

١٦

(وكلّ ما تراه الصبيّة) من الدم (قبل بلوغها تسعاً) كاملاً من حيث الولادة ، أي إكمالها تسعاً بالسنة القمريّة بأن ينتهي كلّ دور من حين الولادة إلى حلول هذا الحين من مثل شهرها من السنة الآتية على الأظهر فليس بحيض إجماعاً ، كما عن جماعة (١) دعواه.

ويدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ثلاث يتزوّجن على كلّ حال ـ وعدّ منها : التي لم تحض ومثلها لا تحيض» قال : قلت : وما حدّها؟ قال : «إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين» (٢).

وفي رواية أُخرى له عنه عليه‌السلام قال : «إذا كمل لها تسع سنين أمكن حيضها» (٣).

وهنا إشكال مشهور ، وهو : أنّهم صرّحوا في المقام من غير خلاف بأنّ ما تراه الصبيّة قبل إكمال التسع فليس بحيض وإن كان بصفاته ، وهذا ينافي عدّ الحيض من علائم البلوغ ، كما هو المشهور ؛ لأنّ العلم بكونه حيضاً موقوف على إحراز شرطه وهو البلوغ الذي يحصل بالتسع على المشهور ، فكيف يمكن معرفة البلوغ بالحيض!؟

وحلّه : أنّ للحيض أوصافاً وأماراتٍ ظنّيّةً يندر التخلّف عنها ، فربما يحصل منها الوثوق بأنّه هو الدم المعهود ، فيثبت به لازمه وهو البلوغ ،

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري ـ : ١٨٦ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٩٩ ، ورياض المسائل ١ : ٣٥ ، والحدائق الناضرة ٣ : ١٦٩ ، ومستند الشيعة ٢ : ٥٣.

(٢) الكافي ٦ : ٨٥ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب العدد ، الحديث ٤.

(٣) انظر : التهذيب ٧ : ٤٦٩ / ١٨٨١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب العدد ، الحديث ٥.

١٧

ومن المعلوم أنّه إنّما يعقل الاعتماد على الأمارات وإن كانت معتبرةً شرعاً ـ كالبيّنة وخبر الثقة وغيرهما ما لم يعلم مخالفتها للواقع ، فالعلم بعدم البلوغ كالعلم بمسبوقيّة الدم بحيضة غير متخلّلة بزمان أقلّ الطهر يوجب العلم بتخلّف الأمارات عن الواقع ، فلا يجوز الاعتناء بها حينئذٍ ، وهذا بخلاف صورة الشكّ ؛ فإنّه يعمل بمؤدّاها من الحكم بالحيضيّة ، فيثبت بها البلوغ الذي هو من لوازمها.

وأمّا الكلام في طريقيّة هذه الأمارات واعتبارها شرعاً فله مقام آخر لا مدخليّة له في حلّ الإشكال.

هذا ، مع أنّ المناقشة في اعتبارها شرعاً إنّما تتمشّى فيما إذا لم يحصل الاطمئنان بعدم التخلّف عن الواقع ، وإلّا فلو حصل الاطمئنان وجزم النفس بعدم التخلّف ، فلا وجه للمناقشة في الاعتماد عليها.

(وكذا) أي كالدم الخارج قبل التسع في عدم الحيضيّة (قيل فيما يخرج من الجانب الأيمن) كما عن الصدوق والشيخ وأتباعه (١) ، بل نسب إلى المشهور اشتراط خروجه من الجانب الأيسر عند اشتباهه بدم القرحة (٢).

وعن ابن الجنيد رحمه‌الله أنّه قال : دم الحيض أسود عبيط تعلوه حمرة ، يخرج من الجانب الأيمن ، وتحسّ المرأة بخروجه ، ودم الاستحاضة بارد

__________________

(١) حكاه عنهم العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣١٦ ٣١٧ ، وانظر : الفقيه ١ : ٥٤ ، والنهاية : ٢٤ ، والمبسوط ١ : ٤٣ ، والمهذّب ١ : ٣٥ ، والوسيلة : ٥٧.

(٢) انظر : جامع المقاصد ١ : ٢٨٢ ، ومفتاح الكرامة ١ : ٣٣٨ ، وجواهر الكلام ٣ : ١٤٤ ، وكتاب الطهارة للشيخ الأنصاري ـ : ١٨٧.

١٨

رقيق يخرج من الجانب الأيسر (١).

وعن الشهيد رحمه‌الله في البيان (٢) موافقة الشيخ وأتباعه ، وفي الذكرى والدروس (٣) كابن الجنيد في دم الحيض.

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف متن الرواية التي هي مستند الحكم ، فإنّه روى شيخنا الجليل محمّد بن يعقوب ـ (رضى الله عنه) في الكافي عن محمَّد بن يحيى رفعه عن أبان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فتاة منّا بها قرحة في جوفها والدم سائل لا تدري من دم الحيض أم من دم القرحة ، فقال عليه‌السلام : «مُرْها فلتستلق على ظهرها ثمّ ترفع رِجْليها ثمّ تدخل إصبعها الوسطى ، فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض ، وإن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة» (٤).

وعن الشيخ في التهذيب أنّه نقل الرواية بعينها ، وساق الحديث إلى أن قال : «فإن خرج من الجانب الأيسر فهو من الحيض ، وإن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة» (٥).

قال في المدارك : قيل : ويمكن ترجيح رواية التهذيب بأنّ الشيخ أعرف بوجوه الحديث وأضبط خصوصاً مع فتواه بمضمونها في النهاية

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق في المعتبر ١ : ١٩٩ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٩٥ ، المسألة ١٤١.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣١٧ ، وانظر : البيان : ١٦ ، والذكرى ١ : ٢٢٩ ، والدروس ١ : ٩٧.

(٣) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣١٧ ، وانظر : البيان : ١٦ ، والذكرى ١ : ٢٢٩ ، والدروس ١ : ٩٧.

(٤) الكافي ٣ : ٩٤ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب الحيض ، الحديث ١.

(٥) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٣١٧ ، وانظر : التهذيب ١ : ٣٨٥ / ١١٨٥ ، والوسائل ، الباب ١٦ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

١٩

والمبسوط ، وفيهما نظر بيّن يعرفه مَنْ يقف على أحوال الشيخ ووجوه فتواه.

نعم ، يمكن ترجيحها بإفتاء الصدوق رحمه‌الله في كتابه بمضمونها ، مع أنّ عادته فيه نقل متون الأخبار.

ويمكن ترجيح رواية الكليني رحمه‌الله بتقدّمه وحسن ضبطه كما يعلم من كتابه الذي لا يوجد مثله ، وبأنّ الشهيد رحمه‌الله ذكر في الذكرى أنّه وجد الرواية في كثير من نسخ التهذيب كما في الكافي ، وظاهر كلام ابن طاوُس رحمه‌الله أنّ نسخ التهذيب ، القديمة كلّها موافقة له أيضاً.

وكيف كان فالأجود اطراح هذه الرواية ، كما ذكره المصنّف رحمه‌الله في المعتبر ؛ لضعفها وإرسالها واضطرابها ومخالفتها للاعتبار ؛ لأنّ القرحة يحتمل كونها في كلٍّ من الجانبين. والأولى الرجوع إلى حكم الأصل واعتبار الأوصاف.

بقي هنا شي‌ء ، وهو أنّ الرواية مع تسليم العمل بها إنّما تدلّ على الرجوع إلى الجانب مع اشتباه الدم بالقرحة ، وظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله هنا وصريح غيره يقتضي اعتبار الجانب مطلقاً.

وهو غير بعيد ؛ فإنّ الجانب إن كان له مدخل في حقيقة الحيض ، وجب اطّراده ، وإلّا فلا (١). انتهى كلامه رُفع مقامه.

أقول : أمّا ضعف سند الرواية وإرسالها فلا يوهنها بعد انجبارها بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً بحيث لا يكاد يوجد مَنْ يطرحها ويرفع

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣١٨ ، وانظر : النهاية : ٢٤ ، والمبسوط ١ : ٤٣ ، والفقيه ١ : ٥٤ ، والذكرى ١ : ٢٢٩ و ٢٣٠ ، والمعتبر ١ : ١٩٩.

٢٠