مصباح الفقيه - ج ٩

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٩

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

يوجب انحطاط رتبته ولو بترك الأولى ممّن يجلّ شأنه عن ذلك ، كالأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

وأمّا رواية (١) ربعي : فهي على خلاف مطلوبه أدلّ ؛ فإنّ قوله عليه‌السلام : «إنّا لنقدّم ونؤخّر» في غاية الظهور في إرادة التقديم والتأخير الاختياري ، فقوله عليه‌السلام :«وإنّما الرخصة» إلى آخره ـ بحسب الظاهر ـ من تتمّة ما يقال ، كما يؤيّده التعبير بلفظ «إنّما» إذ لو كان المقصود به الاستدلال لجواز التأخير ، لم يكن يناسبه كلمة «إنّما» ولا إقحام قوله : «لنقدّم» في صدر العنوان.

وكذا لو كان المقصود به الاستدراك ، لم يكن يناسبه إقحام هذه الكلمة التي تجعل الكلام كالنصّ في إرادة صدور كلّ منهما عن اختيار.

هذا ، مع أنّه لا يظنّ بأحد إنكار الرخصة في هذه الموارد ، فمقصود الإمام عليه‌السلام ـ بحسب الظاهر ـ إنّما هو تخطئة القائل بانحصار الرخصة في هذه الموارد.

وممّا يؤيّد إرادة هذا المعنى فعل الباقر عليه‌السلام على ما رواه محمّد بن مسلم قال : ربّما دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وقد صلّيت الظهر والعصر ، فيقول : «صلّيت الظهر؟» فأقول : نعم والعصر ، فيقول : «ما صلّيت الظهر» فيقوم مترسّلا غير مستعجل فيغتسل أو يتوضّأ ثمّ يصلّي الظهر ثمّ يصلّي العصر ، وربّما دخلت عليه ولم اصلّ الظهر ، فيقول : «صلّيت الظهر؟» فأقول : لا ، فيقول : «قد صلّيت الظهر والعصر» (٢).

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ١٧٤ ، الهامش (٥).

(٢) التهذيب ٢ : ٢٥٢ / ٩٩٩ ، الاستبصار ١ : ٢٥٦ / ٩٢٠ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب المواقيت ، ح ١٠.

١٨١

وأمّا سائر الروايات التي استشهد بها : فلا يخفى ما فيها على من تأمّلها ؛ فإنّ مفادها ليس إلّا كراهة التأخير واستحباب فعل الصلاة في أوّل وقتها.

وأمّا العبائر التي نقلها عن الفقه الرضوي : فهي ـ مع عدم حجّيّتها في نفسها ـ قابلة للحمل على الكراهة ، كما يؤيّدها بل يعيّنها ما في ذيل بعض فقراتها المتقدّمة (١) ـ الذي حكاه عنه في الحدائق في ذيل المبحث ، وأسقطه في هذا المقام ـ فإنّه حكى عنه في آخر المبحث أنّه قال : «وإنّما جعل آخر الوقت للمعلول ، فصار آخر الوقت رخصة للضعيف لحال علّته ونفسه وماله ، وهي رحمة للقوي والفارغ لعلّة الضعيف والمعلول» (٢).

وهذه العبارة كما تراها كالتصريح بأنّ الرخصة عمّت القويّ والفارغ ، فصارت رحمة لهما بواسطة الضعيف والمعلول.

ثمّ لو سلّمت تماميّة الاستدلال بجميع ما ذكر وظهورها في مدّعاه ، فهي ليست قابلة لمعارضة الأخبار المتقدّمة وغيرها ممّا سيأتي ، أو صرفها عن ظاهرها ، مع ما في بعضها من التصريح بكون المخاطب مرخّصا في التأخير إلى آخر الوقت ، كما هو واضح.

وبهذا ظهر لك عدم صحّة الاستدلال لعدم جواز التأخير عن الوقت الأوّل في خصوص صلاة المغرب : بالأخبار المتقدّمة التي استشهدنا بها على بقاء وقتها في الجملة بعد غيبوبة الشفق حيث يستشعر من جملة منها بل يستظهر من بعضها اختصاص ذلك بالمسافر ونحوه من اولي الأعذار ، فإنّها لا تصلح لمعارضة

__________________

(١) في ص ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٧٥ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٩٨.

١٨٢

الأخبار الظاهرة في جواز تأخيرها اختيارا ـ التي تقدّم بعضها ، كروايتي داود بن فرقد وعبيد بن زرارة (١) ، وسيأتي بعضها الآخر ـ المعتضدة ببعض الأخبار الدالّة عليه بعمومها ، مضافا إلى عدم القول بالفصل بين المغرب وغيرها على الظاهر.

هذا ، مع أنّه ليس في شي‌ء من تلك الأخبار ظهور ـ يعتدّ به ـ في الاختصاص.

أمّا ما كان من قبيل قوله عليه‌السلام : «وقت المغرب في السفر إلى ربع الليل» أو «إلى [ثلث] (٢) الليل» أو «إلى خمسة أميال» (٣) فإنّها بحسب الظاهر مسوقة لبيان توسعة وقتها الأوّل في حقّ المسافر ، فلا يكره في حقّه التأخير إلى ربع الليل أو ثلثه ، ولذا أخّرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر إلى ستّة أميال وقد أخبر الصادق عليه‌السلام بذلك أبا الخطاب ، فوضعه في الحضر ، كما نطق بذلك بعض (٤) تلك الأحبار ، وقد أخّرها الصادق عليه‌السلام أيضا في السفر إلى ستّة أميال ، كما في خبر (٥) إسماعيل ، فالظاهر أنّ المراد بهذه الأخبار إنّما هو تحديد وقتها الأوّل الذي يكون أفضل وقتيها.

وأمّا الأخبار النافية للبأس عن تأخيرها في السفر أو لعلّة ، فليس مفهومها إلّا ثبوت البأس في التأخير بلا عذر ، وهو أعمّ من الكراهة.

__________________

(١) تقدّمت روايتاهما في ص ٨٢ و ٨٤.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «نصف». والصحيح ما أثبتناه كما تقدّم في ص ١٦٥.

(٣) راجع : ص ١٦٥.

(٤) راجع : ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٥) تقدّم الخبر في ص ١٦٥.

١٨٣

وأمّا مرسلة (١) سعيد وإن كان ظاهرها في بادئ الرأي هو الانحصار حيث قال : «وإنّما ذلك للمسافر والخائف ولصاحب الحاجة» لكنّها صدرت تعريضا على عامّة أهل الكوفة الذين كانوا لا يصلّون المغرب حتّى يغيب الشفق ، فأريد بالحصر قصر ما زعموه ـ من نفي الحرج في تأخيرها رأسا ـ في اولي الأعذار ، لا عدم جواز تأخيرها ولو على سبيل الكراهة.

وممّا يدلّ على جواز تأخيرها بالخصوص اختيارا ـ مضافا إلى ما عرفت ـ رواية عمر بن يزيد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وقت المغرب ، فقال : «إذا كان أرفق بك وأمكن لك في صلاتك وكنت في حوائجك فلك أن تؤخّرها إلى ربع الليل» فقال : قال لي وهو شاهد في بلده (٢).

وعنه أيضا قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكون مع هؤلاء وأنصرف من عندهم عند المغرب ، فأمرّ بالمساجد فاقيمت الصلاة فإن أنا نزلت اصلّي معهم لم أستمكن من الأذان والإقامة وافتتاح الصلاة ، فقال : «ائت منزلك وانزع ثيابك وإن أردت أن تتوضّأ فتوضّأ وصلّ فإنّك في وقت إلى ربع الليل» (٣).

وعنه أيضا قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكون في جانب المصر فتحضر المغرب وأنا اريد المنزل ، فإن أخّرت الصلاة حتّى اصلّي في المنزل كان أمكن لي وأدركني المساء أفاصلّي في بعض المساجد؟ فقال : «صلّ في منزلك» (٤).

__________________

(١) تقدّمت المرسلة في ص ١٦٤.

(٢) التهذيب ٢ : ٣١ / ٩٤ ، و ٢٥٩ ـ ٢٦٠ / ١٠٣٤ ، الاستبصار ١ : ٢٦٧ / ٩٦٤ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ٨.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٠ ـ ٣١ / ٩١ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ١١.

(٤) التهذيب ٢ : ٣١ / ٩٢ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ١٤.

١٨٤

وخبر داود الصرمي ، قال : كنت عند أبي الحسن الثالث عليه‌السلام يوما فجلس يحدّث حتّى غابت الشمس ثمّ دعا بشمع وهو جالس يتحدّث ، فلمّا خرجت من البيت نظرت فقد غاب الشفق قبل أن يصلّي المغرب ، ثمّ دعا بالماء فتوضّأ وصلّى (١).

ورواية عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن صلاة المغرب إذا حضرت هل يجوز أن تؤخّر ساعة؟ قال : «لابأس إن كان صائما أفطر ثمّ صلّى ، وإن كان له حاجة قضاها ثمّ صلّى» (٢).

ودعوى أنّ الامور المفروضة في السؤال من الأعذار المبيحة للتأخير ، وكذا تحديث الإمام عليه‌السلام لعلّه كان من الواجب المضيّق ممّا لا ينبغي الالتفات إليها ، خصوصا مع عدم تنبيه الإمام عليه‌السلام على كون الحكم اضطراريّا ، بل تعبيره في مقام الجواب في بعض هذه الموارد بما كاد أن يكون نصّا في إرادة توسعة وقت الصلاة وعدم كونه من الامور المضيّقة.

هذا ، مع أنّ الخصم لا يرى بحسب الظاهر مثل هذه الامور من الأعذار المبيحة للتأخير ، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم.

وممّا يدلّ على جواز تأخير العشاء بالخصوص اختيارا ـ مضافا إلى بعض ما عرفت ـ رواية أبي بصير عن أبي جعفر (٣) عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٠ / ٩٠ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ / ٩٥٥ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ١٠.

(٢) التهذيب ٢ : ٣١ / ٩٣ ، و ٢٦٥ / ١٠٥٥ ، الاستبصار ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ / ٩٦٣ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ١٢.

(٣) في الاستبصار : «عن أبي عبد الله».

١٨٥

لو لا أنّي أخاف أن أشقّ على أمّتي لأخّرت العشاء (١) إلى ثلث الليل ، وأنت في رخصة إلى نصف الليل» (٢).

وروايته الأخرى ـ المرويّة عن العلل ـ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لا أن أشقّ على أمّتي لأخّرت العشاء إلى نصف الليل» (٣).

ويدلّ عليه أيضا الأخبار المستفيضة الآتية الناهية عن النوم عنها إلى نصف الليل حيث يفهم منها جواز النوم إلى ما قبل النصف بمقدار فعلها.

ولا يخفى عليك أنّ الغرض الباعث على تكثير الأدلّة إنّما هو التيمّن بذكر الأخبار الصادرة من الأئمّة عليهم‌السلام في الموارد المناسبة لها بقدر الإمكان ، وإلّا فتكثير الأدلّة في مثل هذه المسألة من الموهنات خصوصا مع ضعف دلالة بعضها ، وإمكان الخدشة في بعض ، وقبول بعضها للتأويل بأدنى أمارة على خلافه ، فيكفي في إثبات مذهب المشهور ـ على تقدير الإغماض عن جميع ما ذكر ـ خصوص مرسلة الصدوق ، التي استشهد بها صاحب الحدائق (٤) لمختاره من قوله عليه‌السلام : «أوّل الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله ، والعفو لا يكون إلّا عن ذنب» (٥) لما أشرنا إليه آنفا من أنّه لا يفهم من مثل هذه الرواية ـ كغيرها من الأخبار الكثيرة التي لا تحصى ـ إلّا جواز التأخير وكراهته ، فهي شاهدة لصرف ما كان مشعرا أو ظاهرا

__________________

(١) في التهذيب والاستبصار : «العتمة» بدل «العشاء».

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ / ١٠٤١ ، الاستبصار ١ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ / ٩٨٦ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

(٣) علل الشرائع : ٣٤٠ (الباب ٤٠) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب المواقيت ، ح ٥.

(٤) الحدائق الناضرة ٦ : ٩٠.

(٥) تقدّم تخريجه في ص ١٧٤ ، الهامش (٤).

١٨٦

في الحرمة.

مع أنّه يكفي في صرفها إلى الكراهة معروفيّة توسعة الوقت لدى الشيعة قديما وحديثا ، حتّى أنّ بعض أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ـ كزرارة ـ جعل برهة من الزمان لا يصلّي العصر إلّا في آخر وقتها عند غيبوبة الشمس.

كما يشهد بذلك ما رواه ابن أبي عمير ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال : «كيف تركت زرارة؟» قال : تركته لا يصلّي العصر حتّى تغيب الشمس ، قال :«فأنت رسولي إليه فقل له : فليصلّ في مواقيت أصحابه» (١) فإنّ من الواضح أنّه لو لم يكن يعلم زرارة توسعة الوقت ، وأنّ الأخبار التي ورد فيها الأمر بالمسارعة إلى الصلاة في أوّل وقتها ـ التي وصل إلينا كثير منها بواسطته ـ على سبيل الاستحباب ، لم يكن يؤخّر صلاته إلى آخر الوقت.

لا يقال : إنّ تأخير زرارة للصلاة لم يكن إلّا لعلّه موجبة له ، فلعلّه كان مأمورا بذلك من قبل الإمام عليه‌السلام لبعض المصالح ، كما يشهد بذلك ما عن الكشّي في كتاب الرجال بإسناده عن القاسم بن عروة عن ابن بكير ، قال : دخل زرارة على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال : إنّكم قلتم لنا في الظهر والعصر على ذراع وذراعين ، ثمّ قلتم : أبردوا بها في الصيف فكيف الإبراد بها؟ وفتح ألواحه ليكتب ما يقول ، فلم يجبه أبو عبد الله عليه‌السلام ، بشي‌ء ، فأطبق ألواحه فقال : إنّما علينا أن نسألكم وأنتم أعلم بما عليكم وخرج ، ودخل أبو بصير على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال : «إنّ زرارة سألني عن شي‌ء فلم أجبه وقد ضقت من ذلك ، فاذهب أنت رسولي إليه فقل : صلّ

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٤٣ / ٢٢٤ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب المواقيت ، ح ١٤.

١٨٧

الظهر في الصيف إذا كان ظلّك مثلك ، والعصر إذا كان مثليك» وكان زرارة هكذا يصلّي في الصيف ، ولم أسمع أحدا من أصحابنا يفعل ذلك غيره وغير ابن بكير (١).

لأنّا نقول : هذا إجمالا ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، لكن توسعة العذر إلى هذا الحدّ ـ مع أنّ التأخير إلى آخر الوقت لا يجب عند أحد من الخاصّة والعامّة حتّى يخاف من مخالفته ـ من أقوى الأمارات على توسعة الوقت وكفاية أدنى عذر في رفع المنقصة المترتّبة على التأخير ، كما أنّ اختلاف الأخبار الواردة في باب المواقيت ـ التي ستسمعها ـ من أقوى الشواهد على ذلك حيث يستكشف من جميعها توسعة الوقت وكون الروايات المختلفة منزّلة على جهات الفضيلة ولو بلحاظ خصوصيّات الأوقات والأشخاص بواسطة أدنى ضرورة مقتضية للتقديم أو التأخير بحيث لو كان الوقت في الواقع من الأمر المضيّق لم يكن يعتنى فيه بهذا النحو من المقتضيات.

هذا ، مع أنّه صرّح بعض (٢) القائلين بعدم جواز التأخير اختيارا بأنّه لو أخّر اختيارا فقد عصى ، ولكنّه يعفى عنه ، ولا يفوت بذلك الوقت ، بل يجب عليه الإتيان في الوقت الأخير ، بل ربّما يظهر منه كونه مسلّما عندهم ، فعلى هذا لا يترتّب على النزاع ثمرة يعتدّ بها.

وحكي عن الشيخ ـ الذي نسب إليه مخالفة المشهور ـ أنّه فسّر كلامه في التهذيب بما يوافق المشهور ، فقال في شرح عبارة المفيد ـ التي يظهر منها وجوب المبادرة إلى الصلاة في أوّل وقتها ، وأنّه لو أخّرها ومات فقد ضيّع صلاته ، ولكن

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٤٣ ـ ١٤٤ / ٢٢٦ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المواقيت ، ح ٣٣.

(٢) راجع : المقنعة : ٩٤.

١٨٨

لو بقي وأدّاها في آخر الوقت أو ما بين الأوّل والآخر عفي عن ذنبه ـ بعد أن ذكر الأخبار الدالّة على أفضليّة أوّل الوقت : إنّه إذا كان أوّل الوقت أفضل ولم يكن هناك منع ولا عذر فإنّه يجب فعلها فيه ، ومن لم يفعلها فيه استحقّ اللوم والتعنيف ، وهو مرادنا بالوجوب ، ولم نرد به هنا ما يستحقّ بتركه العقاب ؛ لأنّ الوجوب على ضروب عندنا ، منها : ما يستحقّ تاركه العقاب ، ومنها : ما يكون الأولى فعله ، ولا يستحقّ بالإخلال به العقاب وإن كان يستحقّ به ضرب من اللوم والعتب (١). انتهى.

فعلى هذا يكون النزاع لفظيّا.

وكيف كان فتفصيل الأقوال المنسوبة إلى الأصحاب ، المستفادة من ظواهر كلماتهم هو أنّه نسب إلى المشهور ما سمعت من امتداد وقت الظهرين للمختار من الزوال إلى الغروب ، ووقت العشاءين من الغروب إلى نصف الليل ، ووقت الصبح من الفجر الثاني إلى طلوع الشمس ، وقد عرفت أنّ هذا هو الأقوى ، بل لا ينبغي الارتياب فيه ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه ، لكن بقيت تتمّة للكلام فيما يتعلّق بأواخر بعضها ستأتي إن شاء الله.

(وقال آخرون) وهم الشيخ في المبسوط والخلاف والجمل ، وسلّار في المراسم ، وابن حمزة في الوسيلة ، والقاضي على ما حكي (٢) عنهم : (ما بين

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤١ ، ذيل ح ١٢٣ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ١٣٥.

(٢) حكاه عنهم صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ٢٤ ، وصاحب الجواهر فيها ٧ : ١٣٠ ، وانظر :المبسوط ١ : ٧٢ ، والخلاف ١ : ٢٥٧ ، المسألة ٤ ، والجمل والعقود (ضمن الرسائل العشر) :١٧٤ ، والمراسم : ٦٢ ، والوسيلة : ٨٢ ، والمهذّب ١ : ٦٩.

١٨٩

الزوال حتّى يصير ظلّ كلّ شي‌ء مثله وقت للظهر) للمختار (وللعصر من حين يمكن الفراغ من الظهر حتّى يصير الظلّ مثليه) للمختار أيضا دون المعذور والمضطرّ ، فيمتدّ الوقت لهما إلى الغروب (والمماثلة بين الفي‌ء الزائد والظلّ الأوّل) عند الشيخ في التهذيب وفخر المحقّقين في الإيضاح على ما حكي (١) عنهما ، بل عن الأخير نسبته إلى كثير من الأصحاب (٢).

وربّما نسب (٣) ذلك إلى المصنّف رحمه‌الله في الكتاب. وهو لا يخلو عن تأمّل.

وكيف كان فالمراد بالفي‌ء ـ على ما في المسالك والمدارك ما يحدث من ظلّ الشخص بعد الزوال ، وبالظلّ ما حدث منه قبله ، والمراد بالظلّ الأوّل الباقي منه بعد الزوال (٤). انتهى.

فمعنى العبارة على هذا التقدير : حتّى يصير ظلّه الحادث ـ المسمّى بالفي‌ء ـ مثل ظلّه الباقي ، فضمير «مثله» يعود إلى الظلّ.

(وقيل : بل مثل الشخص) فيكون ضمير «مثله» راجعا إلى الشي‌ء لا إلى الظلّ.

وقد نسب هذا القول ـ في محكيّ المعتبر وغيره (٥) إلى الأكثر ، بل عن غير

__________________

(١) حكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٩ ، وانظر : التهذيب ٢ : ٢٣ ، ذيل ح ٦٦ ، وإيضاح الفوائد ١ : ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) حكاها عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٩ ، وانظر : إيضاح الفوائد ١ : ٧٤.

(٣) الناسب هو صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ٢٥.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ١٤١ ، مدارك الأحكام ٣ : ٦٦.

(٥) الحاكي عن المعتبر وغيره العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٦٦ ، وصاحب الجواهر فيها ٧ : ١٣٧ ، وانظر : المعتبر ٢ : ٥٠ ، وجامع المقاصد ٢ : ١٥.

١٩٠

واحد نسبته إلى المشهور (١).

وفي كشف اللثام ـ بعد أن نسب القول الأوّل إلى الشيخ في التهذيب والمصنّف في الكتاب ، واعترض عليه بلزوم التحديد بغير المنضبط ، كما ستعرفه ـ قال : والمشهور رواية وفتوى : مماثلة الظلّ للشخص ، وينبغي إرادة الفي‌ء ، كما نصّ عليه في المصباح ومختصره والخلاف والوسيلة ، وإلّا جاء الاضطراب أيضا (٢). انتهى.

أقول : يعني بالاضطراب اختلاف الوقت في الزيادة والنقصان اختلافا فاحشا حيث إنّ الظلّ الأوّل قد ينعدم أو يقرب من الانعدام ، وقد يبقى قريبا من المثل بحيث تتحقّق المماثلة في أوائل الأخذ في الزيادة ، بل قد يبقى في أغلب الأماكن في أواخر الخريف بمقدار المثل أو أزيد ، فيلزمه خلوّ الفريضة عن التوقيت ، فلذا ينبغي حمل كلام المشهور على إرادة خصوص الفي‌ء الحادث من ميل الشمس إلى المغرب ، كما نصّ عليه بعضهم ، لا المركّب منه ومن الظلّ الأوّل الناشئ من ميل الشمس إلى جهة الجنوب ، المؤثّر في صيرورة الفي‌ء مورّبا ، كما يتراءى من عبائر آخرين.

وفي الجواهر ـ بعد أن حقّق القول المشهور ـ قال : وكيف كان فابتداء التقدير إنّما هو من أوّل الفي‌ء الحادث ، لا منه ومن الظلّ الباقي ، بل لم يقل أحد بذلك ، بل عن الخلاف نفي الخلاف في ذلك.

نعم ، ذكره بعض احتمالا معترفا بعدم القائل به في قولهم : «يصير ظلّ كلّ

__________________

(١) حكاها صاحب الجواهر فيها ٧ : ١٣٧ عن الذكرى ٢ : ٣٢٥ ، وكشف اللثام ٣ : ٢٦ ، وغيرهما.

(٢) كشف اللثام ٣ : ٢٥ ـ ٢٦.

١٩١

شي‌ء مثله».

ثمّ أورد على هذا الاحتمال بلزوم الاضطراب والاختلاف المترتّبين على قول الشيخ ـ إلى أن قال ـ : فينبغي إرصاد رأس الظلّ الباقي عند الزوال حتّى لا يختلط السابق واللاحق (١). انتهى.

أقول : قد يتراءى ممّا ذكره ـ تفريعا على المختار من إرصاد رأس الظلّ ـ أنّ العبرة بزيادة الظلّ على ما كان بمقدار المثل ، فالمقصود بالإرصاد تحديد مقدار الظلّ حتى يزاد عليه المثل ، لا تعيين موضعه حتّى يعرف بذلك مقدار ما يزيد ، فإنّ الظلّ لا يبقى في مكانه الأوّل حتّى يعرف بذلك مقدار الزيادة.

وأظهر من ذلك في اعتبار زيادة المثل على ما كان عبارة المسالك ، حيث قال : والمراد بمماثلة الفي‌ء للشخص زيادة على الظلّ الأوّل الذي زالت عليه الشمس ، وكذا القول في المثلين والأقدام (٢). انتهى.

أقول : لا يخفى عليك أنّه لا معنى لاعتبار المماثلة بين الفي‌ء المائل إلى المشرق زائدا على الظلّ الشمالي الباقي في أوّل الزوال ، فإنّهما لا يجتمعان.

نعم ، يتداخلان بعد الزوال ، فيصير الظلّ مورّبا ، فإن كان مرجع ما ذكر إلى ما ستعرف بأن تصادقا في الخارج ، فهو ، وإلّا فلا ينطبق عليه أخبار الباب ؛ إذ لا ينبغي الارتياب في أنّه لم يقصد بها إرادة التحديد بما تتوقّف معرفته في كلّ يوم على مراقبة خاصّة وإرصاد جديد خصوصا لو اريد بذلك التعميم حتّى بالنسبة إلى الذراع والذراعين والأقدام الواردة لتحديد أوّل الوقت ، التي عرفت توجيهها في

__________________

(١) جواهر الكلام ٧ : ١٤٤ ـ ١٤٥ ، وانظر : الخلاف ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٩ ، المسألة ٤.

(٢) مسالك الافهام ١ : ١٤١.

١٩٢

صدر المبحث ، فإنّ كثيرا من أخبارها نصّ في إرادة الفي‌ء الحادث بعد الزوال من غير اشتراطه بشرط ، وقد ورد جملة منها في ظلّ حائط مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي كان قامة ، وأنّه إذا فاء الفي‌ء ذراعا أو قدمين صلّى الظهر ، ومن الواضح أنّ الأخبار المسوقة لتحديد الأوقات أوّلا وآخرا بالذراع أو الأقدام أو القامة كلّها من واد واحد يصلح بعضها قرينة لتشخيص المراد من البعض وإن اختلفت في التقادير.

وكيف كان فالذي ينطبق عليه أخبار الباب وينبغي أن ينزّل عليه كلمات الأصحاب ولا يترتّب عليه اختلاف واضطراب إنّما هو اعتبار ميل الظلّ إلى طرف المشرق بقدر الشاخص بعد أن زالت الشمس ومالت إلى المغرب ، فإنّ الشمس إذا وصلت إلى دائرة نصف النهار ، انعدم ظلّ الشاخص في طرف المغرب ، فإمّا أن لا يبقى له ظلّ أصلا إذا كانت الشمس مسامتة لرأسه ، أو يقع ظلّه على خطّ نصف النهار ، فإذا زالت الشمس ، حدث للشاخص ظلّ في ناحية المشرق ، ويزيد شيئا فشيئا حتّى تغيب الشمس ، فالعبرة بزيادة هذا الظلّ وذهابه إلى طرف المشرق بقدر قامة الشاخص ، ويتميّز ذلك حسّا في ظلّ الحائط المبني على خطّ نصف النهار ، وفي ظلّ الشاخص ونحوه ممّا لا يكون ظلّه إلّا مورّبا بانتهائه إلى خطّ واقع في طرف المشرق واصل بين نقطتي الشمال والجنوب يكون بعده عن الشاخص بقدر قامته.

وإن شئت قلت : بذهاب الظلّ من الموضع الذي زالت عليه الشمس ، وهو خطّ نصف النهار إلى طرف المشرق بقدر القامة.

١٩٣

ولا يبعد أن يكون ما في الجواهر (١) من إرصاد رأس الظلّ لتشخيص ذلك ، لا لما استظهر منه في بادئ الرأي ، فيؤول حينئذ إلى ما ذكرناه.

وأمّا ما استظهر منه أوّلا ـ كما هو ظاهر عبارة المسالك ـ فهو أيضا لا ينافي هذا التحديد إن كان اختلاط الظلّين مؤثّرا في صيرورة بعد الظلّ المورّب الحاصل منهما بقدر المثل والظلّ الأوّل ، لكنّ الظاهر أنّه كثيرا مّا يتخطّى عن ذلك بمقدار معتدّ به.

وكيف كان فالعبرة بما ذكر.

احتجّ الشيخ في محكيّ (٢) التهذيب لاعتبار المماثلة بين الفي‌ء الزائد والظلّ الأوّل : بما رواه صالح بن سعيد عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عمّا جاء في الحديث أن صلّ الظهر إذا كانت الشمس قامة وقامتين وذراعا وذراعين وقدما وقدمين ، من هذا ومن هذا ، فمتى هذا ، وكيف هذا؟ وقد يكون الظلّ في بعض الأوقات نصف قدم ، قال عليه‌السلام : «إنّما قال : ظلّ القامة ، ولم يقل : قامة الظلّ ، وذلك أنّ ظلّ القامة يختلف مرّة يكثر ومرّة يقلّ ، والقامة قامة أبدا لا تختلف ، ثمّ قال : ذراع وذراعان [وقدم وقدمان فصار ذراع وذراعان] (٣) تفسير القامة والقامتين في الزمان الذي يكون فيه ظلّ القامة ذراعا وظلّ القامتين ذراعين ، فيكون ظلّ القامة والقامتين والذراع والذراعين متّفقين في كلّ زمان معروفين مفسّرا أحدهما بالآخر مسدّدا به ، فإذا كان الزمان الذي يكون فيه ظلّ القامة ذراعا ، كان الوقت ذراعا من ظلّ القامة ، وكانت القامة ذراعا من الظلّ ، وإذا

__________________

(١) راجع ص ١٩٢.

(٢) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٦٧ ، وانظر : التهذيب ٢ : ٢٣ ، ذيل ح ٦٦.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

١٩٤

كان ظلّ القامة أقلّ أو أكثر ، كان الوقت محصورا بالذراع والذراعين ، فهذا تفسير القامة والقامتين والذراع والذراعين» (١).

وفي المدارك ـ بعد نقل استدلال الشيخ بالرواية ـ قال : وهذه الرواية ضعيفة بالإرسال ، وجهالة صالح بن سعيد ، ومتنها متهافت مضطرب لا يدلّ على المطلوب. وأيضا فإنّ قدر الظلّ الأوّل غير منضبط وقد ينعدم في بعض الأوقات ، فلو نيط الوقت به ، لزم التكليف بعبادة موقّتة في [غير وقت أو في] (٢) وقت يقصر عنها ، وهو معلوم البطلان (٣). انتهى.

ويرد عليه أيضا أنّ المقصود بالسؤال والجواب في هذه الرواية ـ بحسب الظاهر ـ إنّما هو توجيه الأخبار المختلفة الواردة لتحديد أوّل وقت الظهرين ، فما أشبه سؤال هذا السائل بالسؤال الواقع فيما رواه [محمّد بن] (٤) أحمد بن يحيى ، قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه‌السلام : روي عن آبائك القدم والقدمين والأربع والقامة والقامتين وظلّ مثلك والذراع والذراعين ، فكتب عليه‌السلام «لا القدم ولا القدمين ، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين وبين يديها سبحة» (٥) الحديث ، فالرواية أجنبيّة عن مطلب الشيخ.

وقد تكلّف بعض في توجيه الرواية وتطبيقها على مذهب الشيخ بما

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٤ / ٦٧ نقلا عن الكليني في الكافي ٣ : ٢٧٧ / ٧ ، وعنهما في الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المواقيت ، ح ٣٤.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٦٨.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٩٦ ، الهامش (١).

١٩٥

لا يلائم بعض فقراتها.

ولقد أجاد المحدّث الكاشاني فيما أفاد في توجيه الرواية والتنبيه على تقريب الاستشهاد بها لمذهب الشيخ مع ما فيه وإن لا يخلو بعض فقراتها عن التأمّل. ولا بأس بنقل كلامه ؛ لما فيه من الفوائد.

قال في الوافي ـ على ما حكي (١) عنه ـ بعد ذكر الخبر المذكور : لا بدّ من تمهيد مقدّمة ينكشف بها نقاب الارتياب من هذا الحديث ومن سائر الأحاديث التي نتلوها عليك في هذا الباب وما بعده من الأبواب إن شاء الله.

فنقول وبالله التوفيق : إنّ الشمس إذا طلعت ، كان ظلّها طويلا ، ثمّ لا يزال ينقص حتّى تزول ، فإذا زالت زاد ، ثمّ قد تقرّر أنّ قامة كلّ إنسان سبعة أقدام بأقدامه وثلاث أذرع ونصف بذراعه ، والذراع قدمان ، فلذلك (٢) يعبّر عن السبع بالقدم ، وعن طول الشاخص ـ الذي يقاس به الوقت ـ بالقامة وإن كان في غير الإنسان ، وقد جرت العادة بأن تكون قامة الشاخص ـ الذي يجعل مقياسا لمعرفة الوقت ـ ذراعا ، كما تأتي الإشارة إليه في حديث تعريف الزوال ، وكان رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الذي كان يقيس به الوقت أيضا ـ ذراعا ، فلأجل ذلك كثيرا يعبّر عن القامة بالذراع ، وعن الذراع بالقامة ، وربّما يعبّر عن الظلّ الباقي عند الزوال من الشاخص بالقامة أيضا ، وكأنّه كان اصطلاحا معهودا ، وبناء هذا الحديث على إرادة هذا المعنى ، كما ستطّلع عليه.

ثمّ إنّ كلّا من هذه الألفاظ قد يستعمل لتعريف أوّل وقتي فضيلة

__________________

(١) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ١٤٥ ـ ١٤٨.

(٢) في «ض ١١ ، ١٤» : «فلذا».

١٩٦

الفريضتين ، كما في هذا الحديث ، وقد يستعمل لتعريف آخر وقتي فضيلتهما ، كما يأتي في الأخبار الأخر ، فكلّ ما يستعمل لتعريف الزوال فالمراد به مقدار سبعي الشاخص ، وكلّ ما يستعمل لتعريف الآخر فالمراد به مقدار تمام الشاخص ، ففي الأوّل يراد بالقامة الذراع ، وفي الثاني بالعكس.

وربّما يستعمل لتعريف الآخر لفظ «ظلّ مثلك» و «ظلّ مثليك» ويراد بالمثل القامة.

والظلّ قد يطلق على ما يبقى عند الزوال خاصّة. وقد يطلق على ما يزيد بعد ذلك فحسب ، الذي يقال له : الفي‌ء ، من «فاء يفي‌ء إذا رجع» لأنّه كان أوّلا موجودا ثمّ عدم ثمّ رجع. وقد يطلق على مجموع الأمرين.

ثمّ إنّ اشتراك هذه الألفاظ بين هذه المعاني صار سببا لاشتباه الأمر في هذا المقام حتّى إنّ كثيرا من أصحابنا عدّوا هذا الحديث مشكلا لا ينحلّ ، وطائفة منهم عدّوه متهافتا ذا خلل ، وأنت بعد اطّلاعك على ما أسلفناه لا أحسبك تستريب في معناه ، إلّا أنّه لمّا صار على الفحول خافيا فلا بأس أن نشرحه شرحا شافيا نقابل به ألفاظه وعباراته ، ونكشف به عن رموزه وإشاراته.

فنقول والهداية من الله : تفسير الحديث على وجهه ـ والله أعلم ـ أن يقال :إنّ مراد السائل أنّه ما معنى ما جاء في الحديث من تحديد أوّل وقت فريضة الظهر وأوّل وقت فريضة العصر تارة بصيرورة الظلّ قامة وقامتين ، وأخرى بصيرورته ذراعا وذراعين ، وأخرى قدما وقدمين ، وجاء من هذا القبيل من التحديد مرّة ومن هذا أخرى ، فمتى هذا الوقت الذي يعبّر عنه بألفاظ متباينة المعاني؟ وكيف

١٩٧

يصحّ التعبير عن شي‌ء واحد بمعان متعدّدة؟ مع أنّ الظلّ الباقي عند الزوال قد لا يزيد على نصف القدم ، فلا بدّ من مضيّ مدّة مديدة حتّى يصير مثل قامة الشخص ، فكيف يصحّ تحديد أوّل الوقت بمضيّ مثل هذه المدّة الطويلة من الزوال؟ فأجاب عليه‌السلام بأنّ المراد بالقامة ـ التي يحدّ بها أوّل الوقت ، التي هي بإزاء الذراع ـ ليس قامة الشخص الذي هو شي‌ء ثابت غير مختلف ، بل المراد به مقدار ظلّها الذي يبقى على الأرض عند الزوال ، الذي يعبّر عنه بظلّ القامة ، وهو يختلف بحسب الأزمنة والبلاد مرّة يكثر ومرّة يقلّ ، وإنّما يطلق عليه القامة في زمان يكون مقداره ذراعا ، فإذا زاد الفي‌ء ، أعني الذي يزيد من الظلّ بعد الزوال بمقدار ذراع حتّى صار مساويا للظلّ ، فهو أوّل الوقت للظهر ، فإذا زاد ذراعين ، فهو أوّل الوقت للعصر.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «فإذا كان ظلّ القامة أقلّ أو أكثر ، كان الوقت محصورا بالذراع والذراعين» فمعناه أنّ الوقت إنّما ينضبط حينئذ بالذراع والذراعين خاصّة دون القامة والقامتين.

وأمّا التحديد بالقدم : فأكثر ما جاء في الحديث فإنّما جاء بالقدمين والأربعة أقدام ، وهو مساو للتحديد بالذراع والذراعين ، وما جاء نادرا بالقدم والقدمين فإنّما أريد بذلك تخفيف النافلة وتعجيل الفريضة طلبا لفضل أوّل الوقت فالأوّل.

ولعلّ الإمام عليه‌السلام إنّما لم يتعرّض للقدم عند تفصيل الجواب وتبيينه ؛ لما استشعر من السائل عدم اهتمامه بذلك ، وأنّه إنّما كان أكثر اهتمامه بتفسير القامة و

١٩٨

طلب العلّة في تأخير أوّل الوقت إلى ذلك المقدار.

وفي التهذيب (١) فسّر القامة في هذا الخبر بما يبقى عند الزوال من الظلّ ، سواء كان ذراعا أو أقلّ أو أكثر ، وجعل التحديد بصيرورة الفي‌ء الزائد مثل الظلّ الباقي كائنا ما كان.

واعترض عليه بعض مشايخنا ـ طاب ثراهم ـ بأنّه يقتضي اختلافا فاحشا في الوقت ، بل يقتضي التكليف بعبادة يقصر عنها الوقت ، كما إذا كان الباقي شيئا يسيرا جدّا ، بل يستلزم الخلوّ عن التوقيت في اليوم الذي تسامت فيه الشمس رأس الشخص ، لانعدام الظلّ الأوّل حينئذ (٢).

ويعني بالعبادة النافلة ؛ لأنّ هذا التأخير من الزوال إنّما هو للإتيان بها ، كما ستقف عليه.

أقول : أمّا الاختلاف الفاحش : فغير لازم ، وذلك لأنّ كلّ بلد وزمان يكون الظلّ الباقي فيه شيئا يسيرا فإنّما يزيد الفي‌ء فيه في زمان طويل ؛ لبطئه حينئذ في التزايد ، وكلّ بلد أو زمان يكون الظلّ الباقي فيه كثيرا فإنّما يزيد الفي‌ء فيه في زمان يسير ؛ لسرعته في التزايد حينئذ ، فلا يتفاوت الأمر في ذلك.

وأمّا انعدام الظلّ : فهو أمر نادر لا يكون إلّا في قليل من البلاد في يوم يكون الشمس فيه مسامتة لرؤوس أهله لا غير ، ولا عبرة بالنادر.

نعم ، يرد على تفسير صاحب التهذيب أمران :

أحدهما : أنّه غير موافق لقوله عليه‌السلام : «فإذا كان ظلّ القامة أقلّ أو أكثر كان

__________________

(١) راجع : التهذيب ٢ : ٢٣ ، ذيل ح ٦٦.

(٢) الشيخ البهائي في الحبل المتين : ١٤٠.

١٩٩

الوقت محصورا بالذراع والذراعين» لأنّه على تفسيره يكون دائما محصورا بمقدار ظلّ القامة كائنا ما كان.

والثاني : أنّه غير موافق للتحديد الوارد في سائر الأخبار المعتبرة المستفيضة ، كما يأتي ذكرها ، بل يخالفه مخالفة شديدة ، كما يظهر عند الاطّلاع عليها والتأمّل فيها.

وعلى المعنى الذي فهمناه من الحديث لا يرد عليه شي‌ء من هذه المؤاخذات ، إلّا أنّه يصير جزئيّا مختصّا بزمان خاصّ ومخاطب مخصوص ، ولا بأس بذلك.

إن قيل : اختلاف وقتي النافلة في الطول والقصر بحسب الأزمنة والبلاد وتفاوت حدّ أوّل وقتي الفريضتين التابع لذلك لازم على أيّ التقادير ؛ لما ذكرت من سرعة تزايد الفي‌ء تارة وبطئه اخرى فكيف ذلك؟

قلنا : نعم ، ذلك كذلك ، ولا بأس بذلك : لأنّه تابع لطول اليوم وقصره كسائر الأوقات في الأيام والليالي (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

واستدلّ للقول باعتبار المماثلة بين الفي‌ء الزائد والشخص ـ كما عن المشهور (٢) ـ بالأخبار المستفيضة التي ورد فيها تحديد وقت الظهر بالقامة ، والعصر بالقامتين.

مثل : صحيحة أحمد بن عمر عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته عن وقت

__________________

(١) الوافي ٧ : ٢١٦ ـ ٢١٩.

(٢) نسبه إلى المشهور كلّ من الشهيد في الذكرى ٢ : ٣٢٥ ، وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٧٤ ، وصاحب كشف اللثام فيه ٣ : ٢٦.

٢٠٠