مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأفضل بريته محمد وأهل بيته الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

وبعد ، لا يخفى على أصحاب الفضيلة والعلم وذوي الخبرة والاختصاص بالفقه الإمامي ما مرّ به هذا العلم من أدوار تكاملية منذ انقطاع عصر التشريع وشروع عصر الغيبة وإلى يومنا هذا ، فبعد أن كان هذا العلم لا يتجاوز ذكر النصوص والروايات أو الإفتاء بمضامينها في بداية عصر الغيبة الصغرى نجد أنّ هذا العلم قد ازداد عمقا وسعة في المراحل البعدية ، وكان ذلك بسبب تعمّق وتكامل المباني الأصولية التي يرتكز عليها الفقه الإمامي وانتقال الخيرات العلميّة من فقيه سابق إلى فقيه لا حق ، فكتبت الموسوعات الفقهية وصنّفت العشرات من الكتب الاستدلالية المعمّقة على يد سلسلة من الفقهاء العظام الذين أتعبوا أنفسهم الشريفة وتحمّلوا الشدائد وألوان المصاعب في سبيل حفظ الشريعة الغرّاء وصون أحكامها من التغيير والتبديل.

وكتاب «مصباح الفقيه» الماثل بين يديك ـ عزيزنا القارئ ـ هو عطاء رشحت به يراعه المحقّق الكبير والفقيه النحرير الفقيه الأصوليّ الشيخ رضا الهمداني قدّس الله نفسه الزكيّة ، وفضل هذا الكتاب ومؤلّفه أشهر من أن يخفى على أهل العلم والتحقيق.

٣

فالكتاب يعد من جملة المصادر الهامّة التي يرجع إليها الطالب والفقيه لما امتاز به هذا الكتاب من العمق والدقة في شرح «شرائع الإسلام» للمحقّق الحلّي رضوان الله تعالى عليه وحلّ الإشكالات المستعصية فيه بأسلوب جزل وبيان سهل ومتين ، فلله درّة وعلى الله أجره.

وقد أقدم كل من الإخوة الفضلاء الشيخ نور علي النوري والشيخ محمد الباقري والشيخ محمد الميرزائي على تحقيق هذا السفر المبارك بإشراف سماحة المحقّق السيّد نور الدين جعفريان دامت بركاتهم.

وفي الوقت الذي تشكر المؤسّسة جميع الإخوة العاملين على هذا الكتاب قامت بطبعه ونشره بعد مقابلته وتصحيحه. سائلين الله جلّ وعلا أن يوفّقهم وإيّانا لنشر معالم الدين إنه خير ناصر ومعين.

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٤

كتاب الزكاة

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين.

(كتاب الزكاة)

الزكاة لغة : الطهارة والنمو. وفي عرف أهل الشرع : اسم للحق المعروف عندهم المعلوم ثبوته لديهم بنصّ الكتاب (١) والسنّة (٢) المتواترة ، بل هي كالصلاة والصيام من الضروريات التي يخرج منكره عن ربقة المسلمين.

وليس في المال حق واجب بأصل الشرع ابتداء سوى الزكاة والخمس ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى الأصل ـ : خبر معمر بن يحيى أنّه سمع أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ يقول : لا يسأل الله عزوجل عبدا عن صلاة بعد الفريضة ، ولا عن صدقة بعد الزكاة ، ولا عن صوم بعد شهر

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣ و ٨٣ و ١١٠ ، النور ٢٤ : ٥٦.

(٢) انظر : الكافي ٣ : ٤٩٨ / ٧ ، الفقيه ٢ : ٢ / ١ ، علل الشرائع : ٣٦٨ / ٢ ، الوسائل : الباب ١ من أبواب ما تجب فيه الزكاة .. الحديث ٣.

٧

رمضان (١).

وما قد يتراءى من بعض الروايات (٢) الواردة في تفسير قوله تعالى : «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (٣) من الوجوب ، فهي كنفس الآية على خلافه أدلّ ، حيث إنّ المتأمل يراها إ في عدم إرادة حقّ واجب معلوم متعلّق بالمال في أصل الشرع ابتداء كالزكاة والخمس ، ممّا يكون المدح في تصفية المال عنه لا في وضعه عليه ، بل أريد منها تأكّد الاستحباب أو الوجوب ، ولكن لا من حيث تعلّق الحقّ بالمال من حيث هو ابتداء ، بل لعروض جهة موجبة له كصلة رحم ، أو الوفاء بنذر ، أو إعانة مضطرّ ، وغير ذلك من التكاليف التي قد توقف الخروج عن عهدتها بصرف المال ، كما لا يخفى على المتأمّل.

هذا ، مع أنّه لم ينقل الخلاف في شي‌ء من جزئيّات هذه المسألة عدا ما عن الشيخ في الخلاف من أنّه قال : يجب في المال حقّ سوى الزكاة المفروضة ، وهو ما يخرج يوم الحصاد من الضغث (٤) بعد الضغث والحفنة (٥) بعد الحفنة يوم الجذاذ. واستدلّ عليه بإجماع الفرقة وأخبارهم والآية الشريفة (٦).

وأجيب عن الإجماع بالمنع ، بل خلافه مظنّة الإجماع ، ولذا قد يغلب

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٥٣ / ٤٢٤ ، الوسائل : الباب ١ من أبواب ما تجب فيه الزكاة .. الحديث ١٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٩٨ ـ ٥٠٠ / ٨ ـ ١١ ، الوسائل : الباب ٧ من أبواب ما تجب فيه الزكاة .. الحديث ٢ و ٣ و ٥ و ٦.

(٣) المعارج ٧٠ : ٢٤ و ٢٥.

(٤) الضغث : مل‌ء اليد من الحشيش المختلط. النهاية لابن الأثير ٣ : ٩٠.

(٥) الحفنة : مل‌ء الكف. النهاية ـ لابن الأثير ـ ١ : ٤٠٩.

(٦) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ٣ كتاب الزكاة : ٢ ، وانظر : الخلاف ٢ : ٥ ، المسألة ١.

٨

على الظنّ أن يكون مراده بالوجوب غير الوجوب المصطلح ، كما يؤيّد ذلك ما حكي عنه في تهذيبه من أنّه قال : الوجوب عندنا على ضربين : ضرب على تركه اللوم والعتاب ، وضرب على تركه العقاب (١).

وأمّا عن الأخبار فبأنّ ظاهرها الاستحباب ، كما ستعرف.

وأما عن الآية الشريفة وهي قوله تعالى «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» (٢) فأوّلا باحتمال أن يكون المراد بالحق الزكاة المفروضة ، كما ذكره جمع من المفسّرين (٣).

ويؤيّده إشعار سوقها بمعهودية الحقّ ومعلوميّته قبل نزول هذه الآية.

ولكن في المدارك بعد نقل هذا الجواب قال : ولكن ورد في أخبارنا إنكار ذلك.

روى المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في الانتصار عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» قال : ليس ذلك الزكاة ، ألا ترى أنّه تعالى قال «وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (٤).

قال المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : وهذه نكتة مليحة ، لأنّ النهي عن السرف لا يكون إلّا فيما ليس بمقدّر ، والزكاة مقدّرة (٥).

وثانيا بحمل الأمر على الاستحباب ، بشهادة قول الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، في خبر معاوية بن شريح : في الزرع حقّان ، حق تؤخذ

__________________

(١) حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٣ كتاب الزكاة : ٣ ، وانظر : التهذيب ٢ : ٤١ ذيل الحديث ١٣٢.

(٢) الأنعام ٦ : ١٤١.

(٣) منهم : الطبرسي في مجمع البيان ٤ : ٥٧٨ ، والزمخشري في الكشّاف ٢ : ٧٣.

(٤) الأنعام ٦ : ١٤١.

(٥) مدارك الأحكام ٥ : ١٢ ـ ١٣ ، وانظر : الانتصار : ٧٦.

٩

به ، وحقّ تعطيه ، أمّا الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وأمّا الذي تعطيه فقول الله عزوجل «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» يعني من حضرك (١) الشي‌ء بعد الشي‌ء ، ولا أعلمه إلّا قال : الضغث ثم الضغث حتى يفرغ (٢) فإنّه إ في عدم الوجوب.

وقول أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في الصحيح أو الحسن عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير في قول الله عزوجل «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» : هذا من الصدقة يعطى المسكين القبضة بعد القبضة ، ومن الجذاذ (٣) الحفنة بعد الحفنة حتى يفرغ إذ المتبادر منه إرادة الصدقة المندوبة ، هكذا قيل (٥).

وفيه : أنّه لا يبعد أن يكون المراد به الصدقة المعهودة التي أمر الله تعالى نبيّه بأن يأخذها من أموالهم ، أي الزكاة ، بمعنى أنّه يحتسب منها ، فتكون هذه الرواية حينئذ مؤيّدة للمعنى الذي ذكرها المفسّرون.

وكيف كان ، فملخّص الجواب عن الآية هو : أنّها مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها ، لا يفهم منها ثبوت حق آخر وراء العشر ونصف العشر ، وبملاحظة الروايات الدالّة عليه ، فالعبرة بما يظهر من تلك الأخبار ، وهي لا تدل بظاهرها إلّا على الاستحباب.

هذا ، مع أنّ مثل هذا الحقّ لو كان واجبا لصار من حيث عموم

__________________

(١) في الحجري (خ ل) والمصدر : من حصدك.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦٤ / ١ ، الوسائل : الباب ١٣ من أبواب زكاة الغلات ، الحديث ٢.

(٣) الجذّ : القطع. النهاية لابن الأثير ١ : ٢٥٠.

الكافي ٣ : ٥٦٥ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٦ / ٣٠٣ ، الوسائل : الباب ١٣ من أبواب زكاة الغلات ، الحديث ١.

(٥) القائل هو : السيد العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ١٣.

١٠

الابتلاء به من الضروريات كالزكاة ، مع أنّ المشهور بين المسلمين خلافه ، فلا ينبغي الاستشكال فيه ، كما أنه لا مجال للارتياب في تأكّد استحبابه ، فلا ينبغي تركه.

(وفيه) أي في كتاب الزكاة (قسمان) :

١١

(الأوّل) (في زكاة المال) (والنظر : في من تجب عليه ، وما تجب فيه ، ومن تصرف إليه).

(أمّا الأوّل) فتجب الزكاة على البالغ العاقل الحرّ المالك المتمكّن من التصرّف).

أمّا وجوبها على من ذكر فممّا لا كلام فيه ، لأنّه هو القدر المتيقّن من مورد ثبوت هذا الحكم ، وإنّما الكلام في اعتبار هذه القيود في ثبوته مطلقا أو في الجملة.

(ف) نقول : (البلوغ يعتبر في الذهب والفضة إجماعا) مستفيضا نقله ، بل متواترا.

ويدل عليه مضافا إلى ذلك ، أخبار معتبرة مستفيضة ، مثل صحيحة زرارة عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : «ليس في مال اليتيم زكاة» (١).

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ ، قال : سألته

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٦ / ٦٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٨.

١٢

عن مال اليتيم ، فقال : «ليس فيه زكاة» (١).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : قلت له : في مال اليتيم عليه زكاة؟ فقال : «إذا كان موضوعا فليس عليه زكاة ، فإذا عملت به فأنت ضامن والربح لليتيم» (٢).

وموثّقة يونس بن يعقوب ، قال : أرسلت الى أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ لي إخوة صغارا ، فمتى تجب على أموالهم الزكاة؟ قال :«إذا وجبت عليهم الصلاة وجبت عليهم الزكاة» قال : قلت : فما لم تجب عليهم الصلاة؟ قال : «إذا اتّجر به فزكه» (٣).

وخبر محمد بن فضيل عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ ، في صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم ، هل يجب على مالهم الزكاة؟ فقال : «لا يجب على مالهم حتى يعمل به ، فإذا عمل به وجبت الزكاة ، أمّا إذا كان موقوفا فلا زكاة عليه» (٤). إلى غير ذلك من الروايات الدالّة عليه ، التي سيأتي التعرّض لنقل جملة منها في الفرع الآتي.

والمنساق من مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ليس على مال اليتيم ـ أو ـ في مال اليتيم زكاة» (٥) عدم تعلّق هذا الحقّ بهذا العنوان ، فلا يجري في الحول

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٦ / ٦١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٧.

(٢) الكافي ٣ : ٥٤٠ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٦ / ٦٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٤١ / ٧ ، التهذيب ٤ : ٢٧ / ٦٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٥.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٧ / ٦٧ ، الإستبصار ٢ : ٢٩ / ٨٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٤.

(٥) الكافي ٣ : ٥٤١ / ٤ و ٦ ، التهذيب ٤ : ٢٦ / ٣ و ٢٧ / ٦ و ٢٩ ـ ٣٠ / ٧٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٩ / ٨٣ و ٣١ / ٩١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٣ و ١١.

١٣

ما دام كونه مال اليتيم ، نظير قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا صدقة على الدين ولا على المال الغائب عنك حتى يقع في يديك» (١) فيكون ابتداء الحول بعد البلوغ كما هو المشهور ، بل لم ينقل التصريح بالخلاف عن أحد.

وربما يستشهد له أيضا بخبر أبي بصير المروي في التهذيب عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، أنّه سمعه يقول : «ليس في مال اليتيم زكاة ، وليس عليه صلاة ، وليس على جميع غلّاته من نخل أو زرع أو غلّة زكاة ، وإن بلغ اليتيم فليس عليه لما مضى زكاة ، ولا عليه لما يستقبل حتى يدرك ، فإذا أدرك كانت عليه زكاة واحدة ، وكان عليه مثل ما على غيره من الناس» (٢).

وفيه : أنّ هذه الرواية ، أمّا صدرها فهو كغيره من الروايات التي اعترفنا بظهورها في المدعى ، وأمّا ذيلها الذي هو محل الاستشهاد ، أعني قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وإن بلغ اليتيم» الى آخره ، فهو لا يخلو من إجمال ، فإنّ من المحتمل ، بل المظنون كونه تفريعا على خصوص الفقرة السابقة عليه ، النافية للزكاة على جميع غلّاته من نخل وزرع وغيرهما ، فتكون كلمة الموصول في «ما مضى» و «ما يستقبل» كناية عن نفس الغلّات ، ويكون المراد بالإدراك بلوغها حد الكمال الذي يتعلّق بها الزكاة ، فالرواية على هذا أجنبيّة عن المدّعى.

وعلى تقدير أن يكون الموصول كناية عن الزمان الماضي والمستقبل ، ويكون المراد بهذا الكلام أنّه ليس عليه في شي‌ء من ماله وغلاته لما مضى وما يستقبل زكاة حتى يدرك ، فيحتمل أن يكون المراد بالإدراك

__________________

(١) التذهيب ٤ : ٣١ / ٧٨ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٦.

(٢) التذهيب ٤ : ٢٩ / ٧٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١١.

١٤

بلوغه أوان تعلّق الحقّ بماله ، وهو في النقدين حلول الحول ، وفي الغلّات ما ستعرفه ، فيكون حينئذ شاهدا للمدّعى.

ويحتمل أن يكون المراد به بلوغه حدّ الرشد الذي يرتفع به الحجر عن ماله ، فيكون على هذا التقدير أيضا أجنبيّا عن المدّعى.

ولكن ينفي هذا الاحتمال عدم الخلاف ظاهرا في كفاية البلوغ ، وعدم اعتبار الرّشد في ثبوته ، كما ستعرفه في مال السفيه.

ويحتمل أيضا ، بل قد يدّعى أنّ الظاهر كون المراد بالموصول الزمان المستقبل في إيجاب الزكاة لولا الصغر ، لا مطلق الزمان الماضي ، ولذا يقبح أن يقال : ليس عليه لليوم الماضي أو للشهر الماضي زكاة ، فالمراد الحول الذي هو السبب في إيجاب الزكاة لولا المانع ، فلا ينافي حينئذ إدراك حؤول (١) الحول في المستقبل ، وكون مبدأ الحول فيما مضى ، فتكون الرواية حينئذ على عكس المطلوب أدلّ.

ولكن في دعوى ظهورها في ذلك نظر بل منع ، وقياس جملة الزمان على خصوص اليوم والشهر قياس مع الفارق ، فليتأمّل.

هذا كله ، مع ما في الرّواية من اضطراب المتن ، فإنّها مرويّة عن (٢) الكافي عن أبي بصير هكذا قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول :«ليس على مال اليتيم زكاة ، وإن بلغ اليتيم فليس عليه لما مضى زكاة ، ولا عليه فيما بقي حتى يدرك ، فإذا أدرك فإنّما عليه زكاة واحدة ، ثمّ كان عليه مثل ما على غيره من الناس» (٣).

__________________

(١) حؤول وحول مصدران لـ «حال».

(٢) في الطبع الحجري : بدل (عن) (في).

(٣) الكافي ٣ : ٥٤١ / ٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٣.

١٥

وهي بهذا المتن أيضا غير متّضح المفاد ، فالأولى ردّ علمها إلى أهله ، وفيما عداها ممّا عرفت غنى وكفاية ، مع موافقة الحكم من أصله للأصل ، وعدم ثبوت خلاف محقّق فيه.

فما عن الكفاية ـ من الاستشكال في حكم المتأخّرين : باستئناف الحول عند البلوغ (١) ـ في غير محلّه.

وربّما يستدلّ أيضا لعدم وجوب الزكاة على غير البالغ والمجنون بحديث «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق» (٢).

وفيه : أنّ المقصود بالوجوب هاهنا ليس الوجوب التكليفي المعلوم اشتراطه بالبلوغ ، بل الوجوب الناشئ من سببيّة بلوغ المال للنصاب ، لتعلّق الزكاة به التي لا ربط لها بفعل الصبي.

ولا ينافيها عدم كون الصبي ما دام كونه صبيّا غير مكلّف بإخراجها ، فحديث الرّفع أجنبي عن ذلك.

اللهم إلّا أن يوجّه الاستدلال : بأنّ استفادة تعلّق هذا الحقّ بالمال إن كان منشؤها الأوامر المتعلّقة بإعطاء الزكاة ، وأنّ الله فرض على عباده الزكاة ، كما فرض عليهم [الصلاة] (٣) ، فهي بحكم حديث الرفع مخصوصة بالبالغين.

وإن كان الأخبار المسوقة لبيان الحكم الوضعي ، مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ : (ففيما سقته السماء .. العشر) (٤) فإطلاقها وارد مورد حكم

__________________

(١) كما في كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٤٥٦ ، وانظر : كفاية الأحكام : ٣٤.

(٢) الخصال : ٩٣ ـ ٩٤ / ٤٠ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ١١.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٥٥ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠٨ / ١٥٩٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٠ / ١٨١٦ و ٥٨١ / ١٨١٧ ، سنن الدار قطني ٢ : ٩٧ / ٩ ، سنن النسائي ٥ : ٤١ ، سنن البيهقي ٤ : ١٣٠.

١٦

آخر لا يصح التمسّك به فيما نحن فيه ، فليتأمّل.

ثم إنّ الأخبار المزبورة النافية للزكاة على مال اليتيم وإن لم يقع فيها التصريح بخصوص النقدين ، ولكن حيث إنّ النقدين من أوضح مصاديق المال ، تكون تلك الأخبار بمنزلة النص في إرادة زكاتهما من العمم ، فلا مجال للارتياب في عدم ثبوت زكاة النقدين في ماله.

(نعم إذا اتّجر له من إليه النظر ، استحبّ له إخراج الزكاة من مال الطفل) أي : زكاة مال التجارة التي ستعرف استحبابها في غير مال الطفل أيضا.

وهذا ـ أي استحباب إخراج هذه الزكاة من ماله ـ هو المشهور بين الأصحاب ، كما صرّح به في المدارك (١) وغيره ، بل عن المعتبر والمنتهى ونهاية الاحكام وظاهر الغنية دعوى الإجماع عليه (٢).

وحكي عن المقنعة التعبير بلفظ الوجوب ، كما ورد كذلك في بعض الروايات الآتية التي هي مستند هذا الحكم ، فقال ما لفظه : لا زكاة عند آل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في صامت (٣) أموال الأطفال والمجانين من الدّراهم والدّنانير ، إلّا أن يتّجر الوليّ لهم ، أو القيّم عليهم بها ، فإن اتّجر بها وحركها ، وجب عليه إخراج الزكاة منها (٤).

ولكن حمله في التهذيب على إرادة الندب (٥).

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ١٧.

(٢) كما في الجواهر ١٥ : ١٥ ، وانظر : ٢ : ٤٨٧ ، منتهى المطلب ١ : ٤٧٢ ، نهاية الاحكام ٢ : ٢٩٩ ، الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٥٠٧.

(٣) الصامت من المال : الذهب والفضة. الصحاح ١ : ٢٥٧.

(٤) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ١٥ ـ ١٦ ، وانظر : المقنعة : ٢٣٨.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٧ ذيل الحديث ٦٤.

١٧

وربّما يؤيّد ذلك : ما حكي عنه من التصريح في باب زكاة أمتعة التجارة بأنّها سنّة مؤكّدة فيها على المأثور عن الصادقين ـ عليهما‌السلام ـ (١).

وعن الحلّي في السرائر نفي الوجوب والاستحباب (٢) ، ويظهر من المدارك (٣) الميل اليه.

وكيف كان فمستند هذا الحكم أخبار مستفيضة :

منها : قوله ـ عليه‌السلام ـ في موثّقة يونس بن يعقوب المتقدمة : «إذا اتّجر به فزكه» (٤).

وفي خبر محمد بن الفضيل المتقدم : «فإذا عمل به وجبت الزكاة» (٥).

وحسن محمد بن مسلم أو صحيحه ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام : هل على مال اليتيم زكاة؟ قال : «لا ، إلّا أن يتّجر به أو يعمل به» (٦).

وخبر سعيد السمّان قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول :«ليس في مال اليتيم زكاة إلّا أن يتّجر به ، فإن اتّجر به فالربح لليتيم ، وإن وضع فعلى الذي يتّجر به» (٧).

__________________

(١) كما في الجواهر ١٥ : ١٦ ، وانظر : المقنعة : ٢٤٧.

(٢) كما في المدارك ٥ : ١٨ ، وانظر : السرائر ١ : ٤٤١ ، و ٢ : ٢١٢.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ١٨.

(٤) الكافي ٣ : ٥٤١ / ٧ ، التهذيب ٤ : ٢٧ / ٦٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٥.

(٥) التذهيب ٤ : ٢٧ / ٦٧ ، الإستبصار ٢ : ٢٩ / ٨٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٤.

(٦) الكافي ٣ : ٥٤١ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

(٧) الكافي ٣ : ٥٤١ / ٦ ، التهذيب ٤ : ٢٧ / ٦٥ ، الإستبصار ٢ : ٢٩ / ٨٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٢.

١٨

وخبر أحمد بن عمر بن أبي شعبة ، عن أبيه عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن مال اليتيم ، فقال : «لا زكاة عليه إلّا أن يعمل به» (١).

وهذه الأخبار ظاهرها ـ كظاهر العبارة المحكيّة عن المقنعة ـ الوجوب ، ولكن المتعيّن إمّا حملها على التقيّة أو الاستحباب ، لا لمجرّد إعراض الأصحاب عن ظاهرها حيث لم ينقل القول به إلّا عن ظاهر المفيد في عبارته المتقدمة ، بل لمعارضتها بالروايات الآتية في مبحث زكاة مال التجارة ، الصريحة في نفي الوجوب ، وهذه الأخبار وإن كان موردها أخص من مطلق مال التجارة ، ولكن قد ورد مثل هذه الأخبار أخبار كثيرة في مطلق مال التجارة وفي خصوص تجارة البالغين أيضا ممّا كان ظاهره الوجوب ، فليس حال هذه الأخبار إلّا حال غيرها من الروايات الواردة في هذا الباب ممّا كان ظاهره الوجوب ، فلا بد في الجمع بينها وبين تلك الأخبار إمّا بحمل ما كان ظاهره الوجوب على تأكّد الاستحباب ، أو الحمل على التقيّة.

وهذا وإن كان في حد ذاته من أبعد المحامل الذي لا يصار إليه ، مع إمكان الجمع بين الأخبار بوجه آخر ، لكونه لدى التحقيق عبارة أخرى عن الطرح ، ولكن قد يقرّبه في خصوص المقام ما في بعض الروايات الواردة في الباب من الإشارة الى أنّ القول بثبوت هذا القسم من الزكاة هو مذهب المخالفين (٢) ، ولكن مع ذلك ، الحمل على الاستحباب أظهر ، فإنّ صدور هذه الأخبار المتظافرة المتكاثرة البالغة فوق حدّ التواتر لإظهار

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٧ / ٦٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١٠.

(٢) انظر : التهذيب ٤ : ٢٧ / ٦٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٩.

١٩

خلاف الواقع ـ مع مخالفتها للاحتياط ، خصوصا في مال اليتيم من غير سبق سؤال ملجئ لإظهار خلاف الواقع ، كما هو الغالب في مواردها ـ في غاية البعد.

نعم ، لا يبعد أن يكون التعبير بلفظ الوجوب ، أو بصيغة الأمر الظاهرة في ذلك من غير تصريح بجواز مخالفته ، مراعاة للتقية.

ومن هنا قد يقال : إن حمل هذه الأخبار الدالّة بظاهرها على الوجوب على التقيّة ـ كما نسب الى الشيخ (١) ـ ليس منافيا لاستفادة الاستحباب منها ، فليتأمّل.

وقد ظهر ممّا ذكر ضعف القول بنفي مشروعيّتها مطلقا ، والله العالم.

(وإن ضمنه) الولي باقتراض ونحوه (واتّجر لنفسه ، وكان مليّا ، كان الربح له ، ويستحب له الزكاة) التي ستعرف استحبابها في مطلق ماله الذي يتّجر به ، بلا خلاف في ذلك ، كما ذكره غير واحد ، ولا إشكال ، بعد فرض جواز اقتراض الولي المليّ مال الطفل.

وهو على إطلاقه لا يخلو من إشكال ، كما صرّح به غير واحد من المتأخّرين. ولكن ادّعى شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ أنّ المعروف بين الأصحاب جوازه وإن لم يكن فيه مصلحة لليتيم ، للأخبار الكثيرة.

منها : صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في رجل ولّى مال يتيم ، أيستقرض منه؟ قال : «كان علي بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره» (٢).

__________________

(١) لم نعثر ـ بحدود المصادر المتوفرة لدينا ـ على مصدر ينسب ذلك الى الشيخ الطوسي. نعم حمل تلك الأخبار على التقية الشيخ الأنصاري ، كما في كتاب الزكاة : ٤٥٦.

(٢) الكافي ٥ : ١٣١ / ٦ ، الوسائل ، الباب ٧٦ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٢٠