مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

١
٢

٣
٤

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الفصل الخامس : في أحكام الأموات) وقد جرت سيرة الأصحاب على التعرّض للأحكام المتعلّقة بالمكلّفين بالنسبة إلى الأموات بل وجملة ممّا يناسب ذكره ـ كآداب الاحتضار ـ في هذا المبحث الذي وقع الكلام فيه أصالة للبحث عن غسلها استغناء بما فيها من المناسبة من أنه يبوّبوا لها بابا مستقلّا ، فما صنعه المصنّف قدس‌سره من جعل العنوان «أحكام الأموات» أولى من جعله خصوص غسل الميّت كما صنعه غيره ، لكن كان عليه قدس‌سره إقحام غسل المسّ وكذا الصلاة عليها في طيّ ما ذكره ، إلّا أنّه أوكل بيان غسل المسّ إلى ما سيذكره في أحكام الميتة ، والصلاة عليها إلى كتاب الصلاة ، لشدّة المناسبة ، فعلينا حينئذ أن نقتفي أثره.

(وهي) أي الأحكام التي تعلّق الغرض بالبحث عنها في هذا الفصل : (خمسة).

وينبغي قبل التكلّم فيها أن نذكر شطرا من الآداب المتعلّقة بالمريض ـ كما صنعه جملة من الأعلام ـ مع الإشارة إلى بعض ما ورد فيها من الأخبار على سبيل الاختصار.

٧

فمنها : أنّه يستحبّ للمريض احتساب المرض والصبر عليه ، بل ينبغي أن يشكر الله على ما أنعم به عليه لمرضه من الثواب وتكفير الذنوب.

ففي جملة من الأخبار «إنّ الله تعالى يأمر الملك الموكّل بالمؤمن إذا مرض أن يكتب له ما كان يكتب في صحّته» (١).

وقد روي أنّ «حمّى ليلة تعدل عبادة سنة ، وحمّى ليلتين تعدل عبادة سنتين ، وحمّى ثلاث ليال تعدل عبادة سبعين سنة» (٢).

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام ، قال : «يا علي أنين المؤمن تسبيح ، وصياحه تهليل ، ونومه على الفراش عبادة ، وتقلّبه من جنب إلى جنب جهاد في سبيل الله ، فإن عوفي مشى في الناس وما عليه من ذنب» (٣).

وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «عجبت للمؤمن وجزعه من السقم ، ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحبّ أن لا يزال سقيما حتى يلقى ربّه عزوجل» (٤).

ويستحبّ له كتم المرض وترك الشكوى منه.

فعن بشير الدهّان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال الله عزوجل : أيّما عبد ابتليته ببليّة فكتم ذلك عوّاده ثلاثا أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه و

__________________

(١) الكافي ٣ : ١١٣ / ١ ـ ٣ ، و ١١٤ / ٧ ، ثواب الأعمال : ٢٣٠ (باب ثواب المريض) الحديث ١ و ٢ ، أمالي الطوسي : ٣٨٤ / ٨٣٢ ـ ٨٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاحتضار ، الأحاديث ١ و ٢ و ٧ و ٨ و ١٧ و ١٨ و ٢٤.

(٢) الكافي ٣ : ١١٤ / ٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٣) الفقيه ٤ : ٢٦٣ / ٨٢٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١١.

(٤) أمالي الصدوق : ٤٠٥ / ١٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١٩.

٨

بشرا خيرا من بشره ، فإن أبقيته أبقيته ولا ذنب له ، وإن مات مات إلى رحمتي» (١).

وعن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (٢) عليه‌السلام ما هو بمضمونه.

وعن العزرمي عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من اشتكى ليلة فقبلها بقبولها وأدّى إلى الله شكرها كانت كعبادة ستّين سنة» قال أبي : فقلت له : ما قبولها؟ قال : «يصبر عليها ولا يخبر بما كان فيها ، فإذا أصبح حمد الله على ما كان» (٣).

وقد ورد الحثّ على ترك الشكوى إلى غير الله تعالى في كثير من الأخبار : ففي حديث المناهي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مرض يوما وليلة فلم يشك عوّاده بعثه الله يوم القيامة مع خليله إبراهيم خليل الرحمن حتى يجوز الصراط كالبرق اللامع» (٤).

وليعلم أنّه ليس مطلق إظهار المرض والإخبار عمّا هو الواقع شكاية وإن كان الأفضل كتمانه رأسا ، كما يدلّ عليه الأخبار المتقدّمة وغيرها ، إلّا أنّ الشكاية عن المرض أمر آخر وراء ذلك ، كما يدلّ عليه رواية جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن حدّ الشكاة للمريض ، فقال : «إنّ الرجل يقول : حممت اليوم وسهرت البارحة ، وقد صدق ، وليس هذا شكاة ، وإنّما الشكوى أن يقول : لقد ابتليت بما لم يبتل به أحد ، ويقول : لقد أصابني ما لم يصب أحدا ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ١١٥ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ١١٦ / ٦ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٣.

(٣) الكافي ٣ : ١١٦ / ٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٤) الفقيه ٤ : ٩ ـ ١٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٨.

٩

وليس الشكوى أن يقول : سهرت البارحة وحممت اليوم ونحو هذا» (١).

ولا بأس بإظهار المرض عند إخوانه المؤمنين ، بل يستحبّ إعلامهم بذلك رجاء أن يدعوا له أو يعودوه فيؤجروا.

فعن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ينبغي للمريض منكم أن يؤذن إخوانه بمرضه فيعودونه فيؤجر فيهم ويؤجرون فيه» قال : فقيل له :نعم ، هم يؤجرون فيه لممشاهم إليه فكيف يؤجر هو فيهم؟ قال : فقال : «باكتسابه لهم الحسنات فيؤجر فيهم فيكتب له بذلك عشر حسنات ، ويرفع له عشر درجات ، ويمحى بها عنه عشر سيّئات» (٢).

وفي رواية حسن بن راشد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا حسن إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف ولكن اذكرها لبعض إخوانك فإنّك لن تعدم خصلة من خصال أربع : إمّا كفاية وإمّا معونة بجاه أو دعوة تستجاب أو مشورة برأي» (٣).

ولا منافاة بين استحباب الكتمان مطلقا واستحباب إعلام الإخوان رجاء لعيادتهم أو دعائهم أو نحوها ، كما أنّه لا منافاة بين استحباب الصوم ورجحان تركه إذا تحقّق به إجابة المؤمن ، كما تقدّم تحقيقه غير مرّة.

ويستحبّ للمريض أن يأذن لإخوانه المؤمنين في الدخول عليه.

ففي رواية الوشّاء عن الرضا عليه‌السلام قال : «إذا مرض أحدكم فليأذن للناس

__________________

(١) الكافي ٣ : ١١٦ / ١ ، الوسائل الباب ٥ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ١١٧ (باب المريض يؤذن به الناس) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٨ : ١٧٠ / ١٩٢ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

١٠

يدخلون عليه فإنّه ليس من أحد إلّا وله دعوة مستجابة» ثمّ قال : «أتدري من الناس؟» قلت : امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «الناس هم شيعتنا» (١).

ويستحبّ عيادة المريض المسلم إلّا في وجع العين ، كما يدلّ عليه الأخبار البالغة من الكثرة نهايتها.

ففي رواية فضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من عاد مريضا شيعه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يرجع إلى منزله» (٢).

وأمّا وجع العين : فعن أبي عبد الله عليه‌السلام في مرسلة عليّ بن أسباط «لا عيادة فيه» (٣).

لكن في خبر السكوني عنه عليه‌السلام «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام اشتكى عينه فعاده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٤).

وقد روي أنّه «إذا طالت العلّة ترك المريض وعياله» (٥) فلا يستحسن العيادة في هذه الصورة.

ويستحبّ لمن عاد المريض تخفيف الجلوس ، إلّا أن يحبّ المريض إطالته.

ففي رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ أمير

__________________

(١) طبّ الأئمّة : ١٦ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٣ : ١٢٠ / ٢ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٣ : ١١٧ (باب في كم يعاد المريض ..) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٤) الكافي ٣ : ٢٥٣ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٥) الكافي ٣ : ١١٧ (باب في كم يعاد المريض ..) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

١١

المؤمنين عليه‌السلام قال : إنّ من أعظم العوّاد أجرا عند الله لمن إذا عاد أخاه خفّف الجلوس إلّا أن يكون المريض يحبّ ذلك ويريده ويسأله ذلك ، وقال : من تمام العيادة أن يضع العائد إحدى يديه على الأخرى أو على جبهته» (١).

وتستحبّ الصدقة للمريض والصدقة عنه ، فقد روي «أنّ الصدقة تدفع البلاء المبرم ، فداووا مرضاكم بالصدقة» (٢).

وروي أيضا «أنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن صاحبها» (٣).

وتستحبّ الوصيّة ، كما يدلّ عليه خبر محمد بن مسلم ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «الوصيّة حقّ وقد أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فينبغي للمؤمن أن يوصي» (٤).

ورواية أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الوصيّة ، فقال :«هي حقّ على كلّ مسلم» (٥).

وقيل ـ كما في القواعد (٦) وغيره (٧) ـ بوجوبها على كلّ من عليه حقّ الله تعالى أو للناس معلّلا في كشف اللثام : بوجوب استبراء الذمّة كيف أمكن (٨).

وفيه : أنّ الذمّة إنّما اشتغلت بنفس الحقّ لمن له الحقّ ، فالواجب ليس إلّا

__________________

(١) الكافي ٣ : ١١٨ / ٦ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٢) طبّ الأئمّة : ١٢٣ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٣) طبّ الأئمّة : ١٢٣ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٣.

(٤) الفقيه ٤ : ١٣٤ / ٤٦٣ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٥) الفقيه ٤ : ١٣٤ / ٤٦٢ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٣.

(٦) قواعد الأحكام ١ : ١٧.

(٧) جامع المقاصد ١ : ٣٥١.

(٨) كشف اللثام ٢ : ١٩٤.

١٢

الخروج من عهدة الحقّ بتفريغ الذمّة عند القدرة وتنجّز التكليف بالأداء.

نعم ، لو علم من عليه الحقّ بأنّه يموت قبل الخروج من عهدته وأنّه إن ترك الوصيّة يضيع الحقّ ولا يخرج وارثه من عهدته ، لاتّجه القول بوجوبها حينئذ.

وكيف كان فعن بعض القول بوجوبها مطلقا على كلّ مسلم (١) ، لعموم قوله عليه‌السلام : «الوصيّة حقّ على كلّ مسلم» (٢).

وفيه : أنّه لا يفهم من ذلك أزيد من الاستحباب ، بل ظاهر أخبارها ليس إلّا الاستحباب خصوصا رواية محمد بن مسلم ، المتقدّمة (٣).

وينبغي له أن يوصي بشي‌ء من ماله في أبواب الخير.

ففي رواية أبي حمزة عن بعض الأئمّة عليهم‌السلام ، قال : «إنّ الله تبارك وتعالى يقول : ابن آدم تطوّلت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدّم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدّم خيرا» (٤).

ورواية السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام قال : «قال علي عليه‌السلام :من أوصى فلم يحف ولم يضارّ كان كمن تصدّق به في حياته» (٥).

وينبغي للمريض أن يكون عند موته حسن الظنّ بربّه ، فإنّه تعالى أرحم الراحمين ، وهو تعالى عند ظنّ عبده به.

__________________

(١) انظر : كشف اللثام ٢ : ١٩٤.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١٢ ، الهامش (٥).

(٣) في ص ١٢.

(٤) الفقيه ٤ : ١٣٣ / ٤٦١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٥) الفقيه ٤ : ١٣٤ / ٤٦٥ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

١٣

وفي العيون عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأل عن بعض أهل مجلسه ، فقيل :عليل ، فقصده فجلس عند رأسه فوجده دنفا ، فقال : «أحسن ظنّك بالله» (١).

وعن أمالي أبي علي ابن الشيخ مسندا عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :«لا يموتنّ أحدكم حتى يحسن ظنّه بالله عزوجل ، فإنّ حسن الظنّ بالله ثمن الجنّة» (٢) أعاننا الله على الاستعداد للموت قبل حلول الفوت ، فإنّه من أعظم الآداب في هذا الباب ، والله هو الموفّق والمعين.

(الأوّل) من الأحكام الخمسة : (في الاحتضار) أعاننا الله عليه وجميع المؤمنين بمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

(ويجب فيه توجيه) المحتضر في آخر أزمنة حياته ـ أي عند زهاق الروح وحدوث الموت ـ إلى القبلة بأن يكون (الميّت) حين حدوث موته متوجّها (إلى القبلة) كما هو المشهور بين الأصحاب على ما في المدارك (٣) ، وعن الذكرى والروضة أيضا دعوى الشهرة عليه (٤) ، وعن غير واحد نسبته إلى الأشهر.

وكيفيّته (بأن يلقى على ظهره ويجعل وجهه وباطن رجليه إلى القبلة) بحيث لو جلس لجلس مستقبلا بلا خلاف فيه ظاهرا ، كما يدلّ عليه الأخبار الآتية الواردة في كيفيّة الاستقبال ، مضافا إلى استقرار السيرة عليه.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٣ / ٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٢) أمالي الطوسي : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ / ٨١٤ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ٥٢.

(٤) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٩ ، وانظر : الذكرى ١ : ٢٩٥ ، والروضة البهيّة ١ : ٣٩٩.

١٤

(وهو) على ما هو المشهور من القول بوجوبه كسائر أحكام الميّت من الواجبات التي ستعرفها إن شاء الله (فرض كفاية) كما سيأتي تحقيقه فيما سيأتي.

(وقيل) كما عن المصنّف في المعتبر (١) وفاقا لكثير من القدماء والمتأخّرين : (هو مستحبّ).

واستدلّ للأوّل : بما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا ، وفي العلل مسندا عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رجل من ولد عبد المطّلب وهو السّوق (٢) قد وجّه لغير القبلة ، فقال : وجّهوه إلى القبلة فإنّكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة وأقبل الله عزوجل عليه بوجهه فلم يزل كذلك حتى يقبض» (٣).

ونوقش فيها : بضعف السند وقصور الدلالة.

وفيه : أمّا ضعف السند فليس من دأبنا الاعتناء به في مثل هذه الرواية المشهورة المقبولة المعتضدة بجملة من المعاضدات.

وأمّا قصور الدلالة فقد ذكر في محكيّ المعتبر (٤) في وجهه وجهان :الأوّل بأنّه قضيّة في واقعة معيّنة ، فلا تدلّ على العموم.

وفيه ما لا يخفى ، وإلّا لا نسدّ باب الاستدلال في معظم الأحكام بالأخبار.

والثاني بأنّ التعليل في الرواية كالقرينة الدالّة على الفضيلة.

__________________

(١) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٥٣ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٢) أي : النزع. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٢ : ٤٢٤.

(٣) الفقيه ١ : ٧٩ / ٣٥٢ ، علل الشرائع : ٢٩٧ (الباب ٢٣٤) الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٦.

(٤) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٥٥ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٥٨.

١٥

وقد قرّره شيخنا المرتضى رحمه‌الله على هذه المناقشة ، وادّعى ظهور الرواية ـ بقرينة التعليل ـ في الاستحباب ، ثمّ قال تعريضا على من أنكره بل نفى إشعارها بذلك : ومنع إشعارها بالاستحباب خلاف الإنصاف ممّن له ذوق سليم (١). انتهى.

وفيه نظر ، فإنّ هذا النحو من التعليلات المشتملة على ذكر فائدة العمل إنّما تصلح قرينة للاستحباب فيما إذا كانت الفائدة المذكورة عائدة إلى نفس المكلّف ، وأمّا إذا كانت عائدة إلى غيره ـ كما فيما نحن فيه ـ فيشكل ذلك.

وسرّه أنّ تعليل الطلب بفائدة عائدة إلى المكلّف يوهن ظهوره في كونه مولويّا ، بل يجعله ظاهرا في كونه إرشاديّا محضا ، ولذا ربما يتأمّل في دلالته على الاستحباب أيضا إذا كانت الفائدة المعلّل بها دنيويّة محضة ، كما لو قال : «ادخل الحمّام غبّا ، فإنّه يكثر اللحم» وأمّا في مثل المقام فإنّما يفهم الاستحباب من معلوميّة كون المرشد إليه راجحا ومحبوبا عند الله ، كما لو بيّنه بجملة خبريّة ، نظير ما لو قال : «أذّن وأقم قبل صلاتك ، فإنّ من أذّن وأقام صلّى خلفه صفّان من الملائكة» فإنّه لا يفهم منه إلّا ما يفهم من قوله : «من صلّى بأذان وإقامة يصلّي خلفه صفّان من الملائكة» فكما يفهم الاستحباب من الثاني مع عدم اشتماله على الطلب ، كذلك يفهم من الأوّل ، فيكون الأمر بالفعل نظير أمر الطبيب للإرشاد إلى ما هو الأصلح بحال المكلّف.

وأمّا إذا كانت الفائدة عائدة إلى غيره ، فلا يوهن ظهوره في كونه مولويّا ، بل يؤكّده ، كما لا يخفى وجهه.

وحينئذ يشكل ترخيص العقل جواز المخالفة ما لم يستظهر من الدليل

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٢٧٨.

١٦

رضا المولى بترك المأمور به.

ودعوى استفادته من هذا الخطاب ممنوعة جدّا.

نعم ، لا نتحاشي عن استشمام رائحة الاستحباب بل استشعاره من هذا السنخ من الأخبار المعلّلة بنزول الملائكة أو الرحمة أو وفور الأجر ونحوها ، لكن لا يكفي ذلك في ترخيص العقل ترك امتثال الأمر الصادر من المولى لا على جهة الإرشاد خصوصا في مثل المقام الذي يكون بيان الفائدة لطفا في امتثال المأمور به ، فإنّ أحدا لا يقدم على تفويت هذه الفائدة العظمى على الميّت بهذا العمل اليسير في هذا المضيق خصوصا أهله وأقاربه.

فالإنصاف أنّ القول بالوجوب بالنظر إلى ظاهر هذه الرواية مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوّة.

واستدلّ له أيضا بمصحّحة سليمان بن خالد ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إذا مات لأحدكم ميّت فسجّوه (١) تجاه القبلة ، وكذلك إذا غسّل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبلا بباطن قدميه ووجهه إلى القبلة» (٢).

وفيه : أنّ ظاهره الأمر بالتسجية تجاه القبلة بعد الموت ، فتكون مستحبّة ، إذ لا قائل بوجوبها ، كما يؤيّده عطف قوله عليه‌السلام : «وكذلك إذا غسّل» إلى آخره.

ودعوى : أنّ المراد من قوله : «إذا مات» إذا أشرف على الموت ، غير مسموعة ، إذ ليس ارتكاب هذا التجوّز أولى من حمل الأمر على الاستحباب

__________________

(١) سجّي الميّت : غطّاه. والتسجية أن يسجّى الميّت بثوب ، أي يغطّى به. لسان العرب ١٤ : ٣٧١ «سجا».

(٢) الكافي ٣ : ١٢٧ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٨٦ / ٨٣٥ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٢.

١٧

خصوصا مع أنّ المأمور به هو التسجية تجاه القبلة ولا قائل بوجوبه على الظاهر.

وتوهّم عدم منافاة استحباب التسجية وجوب الاستقبال ، مدفوع : بأنّه بعد أن علم أنّ الأمر بالتسجية للاستحباب لم يبق لقوله عليه‌السلام : «تجاه القبلة» ظهور في الوجوب مع كونه من متعلّقات ذلك المأمور به المحمول على الاستحباب.

واستدلّ له أيضا : بموثّقة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الميّت ، فقال : «استقبل بباطن قدميه القبلة» (١).

وفيه : أنّ الاستدلال بها ـ بعد الإغماض عن مثل المناقشة المتقدّمة في الرواية السابقة ـ إنّما يتمّ لو كان السؤال عن حكم الميّت ، وهو غير معلوم ، لجواز أن يكون السؤال عن كيفيّة الاستقبال ، وعلى هذا التقدير لا ينعقد للجواب ظهور في الوجوب ، كما لا يخفى وجهه.

وبهذا ظهر لك إمكان الخدشة في الروايات الواردة في كيفيّة الاستقبال.

مثل : رواية إبراهيم الشعيري وغير (٢) واحد عن الصادق عليه‌السلام قال في توجيه الميّت : «يستقبل بوجهه القبلة ، ويجعل قدميه ممّا يلي القبلة» (٣).

ورواية ذريح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : «وإذا وجّهت الميّت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة لا تجعله معترضا كما يجعل الناس ، فإنّي رأيت أصحابنا يفعلون ذلك ، وقد كان أبو بصير يأمر بالاعتراض ، أخبرني بذلك عليّ بن

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٢٧ / ٢ ، التهذيب ١ : ٢٨٥ / ٨٣٤ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٤.

(٢) في التهذيب : عن غير.

(٣) الكافي ٣ : ١٢٦ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٨٥ / ٨٣٣ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار ، الحديث ٣.

١٨

أبي حمزة» (١) الحديث ، فإنّ ورودها في مقام بيان كيفيّة الاستقبال يمنع ظهورها في إرادة الوجوب التعبّدي ، كسائر الأوامر المتعلّقة بالأجزاء وشرائط العبادات.

نعم ، لا يتطرّق في هذه الروايات الخدشة المتقدّمة في رواية سليمان بن خالد من ظهورها في إرادة ما بعد الموت ، فإنّ المتبادر من هذه الروايات إرادة الاستقبال المعهود المتعارف حين الاحتضار ، والله العالم.

ثمّ إنّ مفاد المرسلة المتقدّمة إنّما هو وجوب استقبال المحتضر إلى أن يقبض ، فإذا قبض سقط وجوبه ، فلا يجب استمراره مستقبلا ولا استقباله ابتداء إن لم يكن ، للأصل ، لكنّ الاحتياط بذلك ما لم ينقل من محلّه ممّا لا ينبغي تركه ، بل لا يخلو القول بوجوبه ـ بعد كون إبقائه مستقبلا هو المعهود لدى المتشرّعة ، المنصرف إليه الأخبار الواردة في كيفيّة الاستقبال ـ عن وجه ، كما يؤيّده موثّقة عمّار في وجه وإن كان الأوجه خلافه ، لكن لا ينبغي الارتياب في رجحانه ، كما يدلّ عليه رواية سليمان بن خالد ، المتقدّمة (٢) ، فإنّ المأمور به فيها وإن كان هو التسجية تجاه القبلة لكنّه من قبيل تعدّد المطلوب ، لعدم تقيّد رجحان كلّ من التسجية والاستقبال بالآخر.

ويؤيّده ما رواه في الجواهر عن المفيد في إرشاده في وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعليّ عليه‌السلام عند استحضاره : «فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك فامسح بها وجهك ثمّ وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري ـ إلى أن قال ـ ثمّ قبض ـ صلوات الله عليه ـ ويد أمير المؤمنين عليه‌السلام اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها إلى

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٦٥ / ١٥٢١ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

(٢) في ص ١٧.

١٩

وجهه فمسحه بها ثمّ وجّهه وغمّضه ومدّ عليه إزاره» (١) الحديث.

لكن هذه الرواية مقتضاها عدم وجوب الاستقبال عند حدوث الموت ، بل عدم استحبابه ، فتعارض المرسلة المتقدّمة ، لكنّها لا تصلح للحجّيّة فضلا عن المكافئة عند المعارضة وإن كان لا بأس بإيرادها للتأييد أو لإثبات الحكم المستحبّي ، كما هو ظاهر.

ولعلّ المراد من أمره ـ صلوات الله وسلامه عليه وآله ـ بتوجيهه إلى القبلة أن يراقبه ويحسن مواجهتها بحيث لو انحرف بعض أعضائه حال الموت عن القبلة بحيث لا ينافي الاستقبال الواجب ، لصرفه إليها بعده ، والله العالم.

ثمّ إنّه لا فرق على الظاهر في وجوب الاستقبال بين الصغير والكبير والذكور والإناث ، لقاعدة الاشتراك ، المعتضدة بإطلاق فتاوى الأصحاب.

نعم ، لا يبعد القول بعدم وجوبه بالنسبة إلى المخالف ، كما تقتضيه العلّة المنصوصة في المرسلة ، والله العالم.

ولو تمكّن المحتضر بنفسه من التوجه ، هل يجب عليه ذلك؟ وجهان : من كونه أحد المكلّفين الذين يجب عليهم إيجاد هذا الواجب الكفائي في الخارج ، بل كونه أولى من غيره. ومن انصراف الأدلّة عنه ، والله العالم.

(ويستحبّ) للوليّ وغيره ممّن حضره عند الموت (تلقينه) أي تفهيمه (الشهادتين والإقرار بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام) الاثني عشر. والأولى بل الأفضل تسميتهم بأسمائهم واحدا بعد واحد وإن كان الأظهر أنّ في تلقينه إمامتهم وولايتهم إجمالا غنى وكفاية ، بل بتلقين الإمامة يستغنى عن الأوّلين وإن لم يتأدّ

__________________

(١) جواهر الكلام ٤ : ١٠ ـ ١١ ، وانظر : الإرشاد ـ للمفيد ـ ١ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

٢٠