مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

١
٢

٣
٤

(الركن الثاني : في الطهارة المائية)

(وهي : وضوء وغسل)

(وفي الوضوء فصول) :

٥
٦

(الفصل الأوّل : في الأحداث الموجبة للوضوء)

الحدث قد يطلق في عرف الفقهاء ويراد منه حدوث الأشياء التي يترتّب عليها فعل الطهارة ، وقد يطلق على الأثر الحاصل من ذلك ، وقد يطلق على نفس تلك الأشياء مسامحةً ، والأوّل وهو المراد هنا.

وهذه الأشياء قد يعبّر عنها بالأسباب ، لكونها مؤثّرات في مطلوبيّة الطهارة ، وقد يعبّر عنها بالموجبات ، نظرا إلى ترتّب الوجوب عليها عند وجوب الغاية ، ويمكن أن يراد من الوجوب معناه اللغوي ، وهو الثبوت ، فيكون مرادفا للسبب ، وقد يعبّر عنها بالنواقض باعتبار طروّها على الطهارة.

وإطلاق هذه العناوين على الأشياء المعهودة إنّما هو باعتبار اقتضائها في حدّ ذاتها للآثار المذكورة على تقدير قابلية المحلّ ، فهي متساوية في الصدق.

والمراد بالأحداث الموجبة للوضوء هي الأحداث المقتضية لخصوص الوضوء ، فيخرج ما يقتضيه مع الغسل.

وربّما يناقش في إطلاق السبب والموجب على النواقض ، لأنّ مطلوبية الوضوء ووجوبه المقدّمي مسبّبة عن مطلوبية الغايات لا عن

٧

وجود النواقض.

ويدفعها : أنّ وجوب ذي المقدّمة إنّما يقتضي وجوب إيجاد المقدّمة على تقدير فقدها ، فوجوب الصلاة لا يقتضي وجوب فعل الوضوء إلّا في حقّ الفاقد ، لأنّ طلبه من الواجد طلب تحصيل الحاصل ، فحدوث الحدث من المتطهّر سبب لحصول التقدير وتنجّز الطلب ، فلا منافاة بين كون وجوب الوضوء ومطلوبيته مسبّبا عن مطلوبية غايته وعن وجود الحدث ، لأنّ السببين ليسا في مرتبة واحدة ، بل الحدث هو السبب القريب ، إذ لولاه لما وجب إعادة الوضوء ، إلّا أنّ سببيّة للوجوب مسبّبة عن وجوب الغاية ، إذ لولاه لما وجب الوضوء بحدوثه ، فكلّ منهما سبب لوجوب الوضوء على سبيل الحقيقة.

ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يكون الحدث قذارة معنويّة مانعة من الدخول في الصلاة أو تكون الطهارة أمرا وجوديّا يجب تحصيلها مقدّمة للصلاة ، لأنّ الحدث على كلّ تقدير يؤثّر في أن يتولّد من ذي المقدّمة أمر متعلّق بالمكلّف إمّا بإزالة الحالة المانعة أو بتحصيل الشرط بفعل الوضوء ، وبهذه الملاحظة يصح إطلاق السبب والموجب عليه.

نعم ، قضية حصرهم موجبات الوضوء وأسبابه بالأشياء المعهودة :أنّه لو وجد مكلّف لم يصدر عنه شي‌ء من تلك الأشياء ـ كالمخلوق دفعة مثل آدم عليه‌السلام ـ يجوز له الدخول في الصلاة من دون وضوء إلّا أنّ كلماتهم كإطلاقات الأخبار منصرفة عن مثل الفرض ، لكونه مجرّد فرض ، فلا يعلم

٨

أنّ مرادهم الحصر حتى بالنسبة إلى هذا الفرد ، لكن مقتضى تفسيرهم للحدث بأنّه حالة مانعة من الصلاة : جواز الدخول في الصلاة في الفرض المزبور ، لأنّ الشي‌ء لا يوصف بالمانعية إلّا أن يكون وجوده مؤثّرا في عدم الممنوع بأن يكون مقتضى الوجود موجودا ومنعه المانع من التأثير ، فلازمها أن تكون الطهارة ـ التي هي شرط في الصلاة ـ عبارة عن عدم تلك الحالة لا أمرا وجوديّا مقارنا لعدم الحدث ، وإلّا لكان عدم جواز الدخول في الصلاة مسبّبا عن فقد المقتضي لا وجود المزاحم ، فالطهارة عن الحدث على هذا التقدير من الأعدام المقابلة للملكات ، نظير الطهارة المقابلة للخبث ، أو الطهارة المقابلة للقذارات الصورية.

وقد يقال : إنّ الطهارة أيضا أمر وجودي كالحدث ، فهما متضادّان ، والمكلّف الذي فرضنا وجوده دفعة لا يوصف بشي‌ء منهما ، فلا يجوز له فعل الصلاة ونحوها من الأمور المشروطة بالطهور ، ويجوز له فعل ما يكون الحدث مانعا منه ، كما لو نذر أن لا يدخل المسجد وهو محدث.

واستدلّ لذلك : بإطلاق قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (١) وقوله عليه‌السلام : «إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور» (٢) فإنّهما يعمّان الشخص المفروض ، ومقتضى عمومهما له :كون الطهارة أمرا وجوديّا.

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) الفقيه ١ : ٢٢ ـ ٦٧ ، التهذيب ٢ : ١٤٠ ـ ٥٤٦ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الماء الوضوء ، الحديث ١ ، والحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

٩

واستدلّ أيضا : بحكمهم أنّ من تيقّن الحدث والطهارة وشكّ في المتأخّر منهما يتوضّأ ، فلو كانت الطهارة أمرا عدميّا موافقا للأصل ، لكان حكمه كالشاكّ في المتأخّر من الخبث والطهارة في بنائه على أصالة الطهارة.

وفي الجميع ما لا يخفى.

أمّا الآية ـ فمع قطع النظر عمّا ورد في تفسيرها من أنّ المراد بها القيام من النوم ـ ففيها : أنّها مخصوصة بما عدا المتطهّر ، إذ لا يجب عليه الوضوء نصّا وإجماعا ، وكون الشخص المفروض غير متطهّر أوّل الكلام ، مضافا إلى انصرافها عن مثل الفرض.

وبهذا ظهر لك الجواب عن الرواية أيضا ، مع أنّ الطهور فيها أعمّ ممّا هو قسيم للحدث الأكبر ، مع أنّه لا مجال لتوهّم كونه أمرا وجوديّا ، وإلّا لوجب الغسل على من لم يحدث منه سببه ، فتأمّل.

وأمّا مسألة من تيقّنهما وشكّ في المتأخّر فليست شاهدة للمدّعي ، لأنّ الأصل الذي يرجع إليه بعد تعارض الأصلين هو الأصل العملي المجعول للشاكّ ، وهو أصالة الطهارة في المثال ، وقاعدة الاشتغال فيما نحن فيه ، لا الحالة الأصلية ، كما سيتّضح لك في محلّه إن شاء الله.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ ما يشهد من الأخبار بكون أثر الوضوء أمرا وجوديّا أكثر ممّا يشهد بكون أثر الحدث كذلك ، كما تعضده مشروعية التجديد ، وقد ورد التعبير عنه في الأخبار بأنّه نور على نور (١) ، ووقع

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٦ ـ ٨٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

١٠

التعبير عن الأحداث في النصوص والفتاوي بالنواقض ، ومقتضاها : كون المنقوض أمرا وجوديّا وإلّا لكان إطلاق النقض مسامحة ، بل كان الوضوء ناقضا للحدث ، وحيث لا يترتّب على تنقيح المقام فائدة مهمّة لا يهمّنا الإطالة في تحقيقه ، والله العالم بحقائق أحكامه.

(وهي) أي الأحداث الموجبة للوضوء (ستّة : خروج البول) وما بحكمه من البلل المشتبه (والغائط) وهو معروف ، ومع الشكّ يرجع إلى الأصل (والريح) المسمّاة لدى العرف بالضرطة والفسوة (من الموضع المعتاد) خروجها منه بمقتضى الخلقة الأصلية لنوع الإنسان ، أي : القبل والدبر إجماعا كتابا وسنّة.

ولا يعتبر اعتياد خروجها منهما في خصوص الشخص بلا خلاف فيه ظاهرا ، كما يدلّ عليه إطلاق النصوص والفتاوي ومعاقد إجماعاتهم ، وعن جملة منهم التصريح بذلك.

ودعوى انصراف الإطلاقات عمّا يخرج من الموضع الطبيعي مع عدم الاعتياد ممّا لا ينبغي الالتفات إليها.

هذا إذا خرج شي‌ء من الثلاثة من مخرجه الطبيعي ، ولو خرج شي‌ء منها من غير مخرجه الطبيعي فكالطبيعي نقض مطلقا وإن لم يصر مخرجه معتادا في قول محكي عن صريح الحلّي والتذكرة (١) وظاهر كلّ من أطلق الثلاثة ، وقوّاه غير واحد من متأخّري المتأخّرين.

__________________

(١) حكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٦٣ ، وانظر : السرائر ١ : ١٠٦ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٩٩ ـ ١٠٠.

١١

(ولو خرج الغائط ممّا دون المعدة) دون ما فوقها (نقض) مطلقا (في قول) محكي عن الشيخ والقاضي (١) ، استنادا في عدم ناقضية ما خرج ممّا فوقها بعدم تسميته غائطا.

ومرجعه إلى قول الحلّي ، لأنّ ذكر الغائط بحسب الظاهر من باب المثال ، ومنع التسمية في بعض الفروض كلام في الصغرى ، لا أنّه خلاف في الحكم الشرعي. (ولو اتّفق المخرج) خلقة أو لأجل انسداد الطبيعي (في غير الموضع المعتاد) المتعارف للنوع ، (نقض) بعد صيرورته معتادا بلا خلاف يعتدّ به فيه ظاهرا ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه. (وكذا لو خرج الحدث من جرح ثم صار معتادا) ولو لم ينسدّ الطبيعي على المشهور ، بخلاف ما لو لم يصر معتادا.

وعن بعض أنّه لا ينقض إلّا مع انسداد الطبيعي.

ولقد أعجب في الحدائق (٢) حيث اختار عدم ناقضية الخارج من غير السبيلين مطلقا ولو مع الانسداد ، فلا يكون لما عدا النوم من النواقض أثر في حقّ فاقد السبيلين.

وكيف كان فمستند القول بناقضيتها على الإطلاق من دون فرق بين المخرج الطبيعي وغيره : عموم قوله تعالى :

__________________

(١) حكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٦٣ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢٧ ، والخلاف ١ : ١١٥ ، المسألة ٥٨ ، وجواهر الفقه (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤١١.

(٢) الحدائق الناضرة ٢ : ٩٠ ـ ٩١.

١٢

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) (١).

ورواية زكريا بن آدم ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن الناصور (٢).

أينقض الوضوء؟ قال : «إنّما ينقض الوضوء ثلاث : البول والغائط والريح» (٣).

ورواية الفضل قال : سأل المأمون الرضا عليه‌السلام : عن محض الإسلام ، فكتب إليه في كتاب طويل «ولا ينقض الوضوء إلّا غائط أو بول أو ريح أو نوم أو جنابة» (٤).

وفي صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا يوجب الوضوء إلّا من الغائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها» (٥).

ونوقش فيها : أوّلا : بانصرافها إلى المعتاد.

وثانيا : بلزوم تقييدها بالأخبار المستفيضة الحاصرة للناقض فيما يخرج من طرفيك.

مثل : صحيحة زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٢) الناسور ـ بالسين والصاد جميعا ـ : علّة تحدث في حوالي المقعدة. الصحاح ٢ :٨٢٧ «نسر».

(٣) الكافي ٣ : ٣٦ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٤) عيون الأخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٨.

(٥) التهذيب ١ : ٣٤٦ ـ ١٠١٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٢.

١٣

ما ينقض الوضوء؟ فقالا : «ما يخرج من طرفيك الأسفلين من الذكر والدبر من الغائط أو البول أو مني أو ريح والنوم حتى يذهب العقل ، وكلّ النوم يكره إلّا أن تكون تسمع الصوت» (١).

وفي صحيحة أخرى لزرارة : «لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك أو النوم» (٢).

وموثّقة أديم بن الحرّ أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ليس ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك الأسفلين» (٣) اللذين أنعم الله عليك بهما (٤).

وفي صحيحة ابن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في حديث طويل ، قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك اللذين جعل الله لك» أو قال : «اللذين أنعم الله بهما عليك» (٥) إلى غير ذلك من الأخبار.

ويمكن الخدشة في دعوى الانصراف أوّلا : بأنّ مقتضاها الالتزام

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٦ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٩ ـ ١٥ الوسائل ، الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٦ ـ ٢ ، الإستبصار ١ : ٧٩ ـ ٢٤٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ١٦ ـ ٣٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٣.

(٤) جملة : «اللذين .. بهما» ليست من الرواية الموثّقة.

(٥) عيون الأخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨ ـ ٤٤ ، الوسائل الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٩.

١٤

بعدم استفادة حكم ما عدا الأفراد المتعارفة من حيث المخرج وكيفية الخروج ومقدار الخارج من تلك المطلقات ، فيجب أن يلتزم بعدم ناقضيتها في غير المتعارف بحسب النوع مطلقا وإن صار متعارفا في خصوص شخص. وهو في أغلب فروضه مخالف للإجماع.

اللهمّ إلّا أن يتشبّث في إثبات الناقضية في الأفراد الغير المتعارفة في موارد الإجماع بالإجماع أو الأخبار الخاصّة.

ولكنّه يتوجّه عليه حينئذ : أنّ انعقاد الإجماع في هذه الموارد وكذا ورود الأدلّة الخاصّة المطابقة للعمومات كاشف عن عدم مدخلية العوارض المشخّصة في موضوع الحكم ، وأنّ المراد منه في الأدلّة الشرعية مطلق طبيعة الحدث من دون ملاحظة خصوصيّة من الخصوصيّات ، كما يفصح عن ذلك ملاحظة وجه الحكم في النصوص الخاصّة وكيفيّة استدلال العلماء في فتاويهم.

وثانيا : أنّ انصرافها عن الإفراد الخارجة عن مخرج غير طبيعي انصراف بدوي منشؤه ندرة الوجود ، وقد مرّ غير مرّة أنّ الانصراف الناشئ عن ندرة الوجود أو أنس الذهن ببعض الأفراد لبعض العوارض ممّا لا يلتفت إليه في صرف المطلقات.

نعم ، لمانع أن يمنع ظهور الأخبار المتقدّمة في إرادة الإطلاق بادّعاء ورودها في مقام بيان حكم آخر ، وهو حصر النواقض في هذه الأشياء ، لا كون هذه الأشياء ناقضة على الإطلاق ، فلا يجوز الأخذ بإطلاقها من هذه الجهة ، لأنّ من شرط التمسّك بالإطلاق أن لا يكون مسوقا لبيان حكم

١٥

آخر.

ولكن يرد عليه : أنّ المتأمّل في الأخبار ـ خصوصا في صحيحة زرارة ، المتقدّمة التي وقع التعرّض فيها لبيان الريح الناقضة ـ لا يكاد يرتاب في عدم انحصار المقصود بالروايات في بيان عدم ناقضية ما عدا المذكورات ، بل المراد منها بيان ناقضية هذه الأشياء وعدم ناقضية غيرها ، ولذا لم يناقش أحد في إطلاقها من هذه الجهة.

هذا ، مع أنّ في إطلاق الآية ـ مضافا إلى ما يستفاد من بعض الروايات الآتية ـ غنى وكفاية.

وأمّا الأخبار الحاصرة للناقض فيما يخرج من طرفيك فلا تصلح لتقييد المطلقات ، لأنّ انحصار طريق الأشياء المعهودة عادة في السبيلين يمنع ظهور هذه الأخبار المقيّدة في إرادة التقييد والتحرّز عن نفس هذه الأشياء على تقدير خروجها من غير مخرجها المعتاد.

هذا ، مضافا إلى عدم ظهور هذه الأخبار في حدّ ذاتها في إرادة التخصيص ، إذ ليس المراد منها أنّ خروج الشي‌ء من السبيلين من حيث هو سبب للنقض ، وإلّا للزم تخصيص الأكثر ، بل المراد منها أنّ الشي‌ء الذي صفته أنّه يخرج من السبيلين بمقتضى العادة ناقض ، والمراد منه الأشياء المعهودة.

ولا تتوهّم أنّ مقتضى ما ذكرنا : ناقضية الثلاثة مطلقا وإن أصابته من خارج ولم تكن خرجت من نفسه ، لأنّ اعتبار خروجها منه في الناقضية يفهم عرفا من نسبة النقض إليها ، نظير قولنا : البول ناقض للوضوء ،

١٦

والمذي ليس بناقض.

وممّا يؤيّد عدم ظهور هذه الأخبار في إرادة التقييد عدم استفادة المشهور منها ذلك ، ولذا التزموا بناقضية الخارج من غير السبيلين بشرط الاعتياد. واستدلّ لهم بإطلاقات الأدلّة ، وعدم صلاحية المقيّدات للتقييد ، لورود القيد مورد الغالب ، وحينئذ يتوجّه عليهم سؤال الفرق بين الاعتياد وعدمه.

ولا تسمع منهم دعوى انصراف البول والغائط والريح المذكورة في الروايات إلى الأفراد الخارجة من مخرجها المتعارف لكلّ شخص بحسبه ، لأنّها مجازفة من القول ، فإنّ المتبادر منها إمّا صرف هذه الطبائع من حيث هي ، أو ما خرج منها من مخرجها المتعارف بحسب النوع ، وأمّا الواسطة بين الأمرين فلا تكاد تخطر في أذهان المخاطبين.

هذا كلّه ، مع أنّ في بعض تلك الأخبار المقيّدة ما يدلّ على عموم الحكم وعدم اختصاصه بما يخرج من المخرج المتعارف.

مثل : ما عن العلل وعيون الأخبار عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام ، قال : «إنّما وجب الوضوء ممّا خرج من الطرفين خاصّة ، ومن النوم دون سائر الأشياء ، لأنّ الطرفين هما طريق النجاسة ، وليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة من نفسه إلّا منهما ، فأمروا عند ما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم» (١) الحديث.

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٥٧ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٠٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١٣.

١٧

وعن محمّد بن سنان في جواب العلل عن الرضا عليه‌السلام ، قال :«وعلّة التخفيف في البول والغائط ، لأنّه أكثر وأدوم من الجنابة ، فرضي فيه بالوضوء لكثرته ومشقّته ومجيئه بغير إرادة منهم ولا شهوة ، والجنابة لا تكون إلّا باستلذاذ منهم» (١).

وظاهر هاتين الروايتين كون وجوب الوضوء من مقتضيات خروج تلك الطبائع من حيث هي ، وتخصيص الطرفين بالذكر ، لكونهما سبيلها بمقتضى العادة.

فالإنصاف : أنّ القول بناقضيتها مطلقا مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوّة.

ولا فرق فيها بين قليلها وكثيرها ولا بين خروجها بتدافع الطبيعة أو بإخراجها قهرا بآلة ونحوها ، لما عرفت من أنّه يستفاد من مجموع الأدلّة خصوصا الروايتين الأخيرتين : دوران الحكم مدار خروج تلك الطبائع من حيث هي من دون مدخلية العرف والعادة في ذلك أصلا ، فالمدار على صدق الاسم على ما خرج عرفا لا غير.

وممّا يدلّ على عدم الفرق بين القليل والكثير ـ مضافا إلى ما عرفت ـ رواية عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الرجل يكون في صلاته فيخرج منه حبّ القرع (٢) كيف يصنع؟ قال : «إن كان خرج

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٨٨ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١٠.

(٢) القرع : حمل اليقطين ، الواحدة : قرعة ، وتسمّى الدبا. مجمع البحرين ٤ : ٣٧٨ «قرع».

١٨

نظيفا من العذرة فليس عليه شي‌ء ولم ينقض وضوؤه ، وإن خرج متلطّخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء ، وإن كان في صلاته قطع الصلاة وأعاد الوضوء والصلاة» (١).

ويدلّ عليه أيضا ما يدلّ على ناقضية الرطوبة المشتبهة (٢).

تنبيه : لا عبرة في الريح بسماع الصوت واستشمام الريح ،لإطلاقات الأدلّة. والتقييد بهما في صحيحة زرارة المتقدّمة (٣) وغيرهما ، لكونهما طريقا عاديّا للعلم بتحققها لا لمدخليتهما في الموضوع ، كما يشهد بذلك الأخبار المستفيضة :ففي رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتى يخيّل إليه أنّه خرج منه الريح فلا ينقض وضوءه إلّا ريح يسمعها أو يجد ريحها» (٤).

وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله أنّه قال للصادق عليه‌السلام : أجد الريح في بطني حتى أظنّ أنّها قد خرجت ، فقال : «ليس عليك وضوء حتى تسمع الصوت أو تجد الريح» ثم قال : «إنّ إبليس يجلس بين أليتي الرجل فيحدث ليشكّكه» (٥).

__________________

(١) التهذيب ١ : ١١ ـ ٢٠ ، الإستبصار ١ : ٨٢ ـ ٢٥٨ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٥.

(٢) انظر : الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الأحاديث ٥ و ٦ و ٩.

(٣) تقدّمت في ص ١٣.

(٤) التهذيب ١ : ٣٤٧ ـ ١٠١٧ ، الإستبصار ١ : ٩٠ ـ ٢٨٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٣.

(٥) الفقيه ١ : ٣٧ ـ ١٩٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٥.

١٩

وعن الفقه الرضوي : ولا يجب عليك الإعادة إلّا من بول أو مني أو غائط أو ريح تستيقنها ، فإن شككت في ريح أنّها خرجت منك أم لم تخرج فلا تنقض من أجلها إلّا أن تسمع صوتها أو تجد ريحها ، وإن استيقنت أنّها خرجت منك فأعد الوضوء سمعت وقعها أم لم تسمع وشممت ريحها أم لم تشم (١). إلى غير ذلك من الأخبار.

وقد ورد التنصيص على عدم مدخلية الوصفين في الموضوع في رواية قرب الإسناد عن علي بن جعفر عليه‌السلام عن أخيه موسى عليه‌السلام قال :وسألته عن رجل يكون في الصلاة فيعلم أنّ ريحا قد خرجت فلا يجد ريحها ولا يسمع صوتها ، قال : «يعيد الوضوء والصلاة ، ولا يعتدّ بشي‌ء ممّا صلّى إذا علم ذلك يقينا» (٢).

فما عن بعض المتأخّرين من الإشكال في العموم ـ نظرا إلى التقييد في الصحيحة ولزوم حمل المطلق على المقيّد ـ في غير محلّه.

(و) الرابع (النوم) المستولي على القلب الموجب لتعطيل الحواسّ عن الإحساس ، والظاهر أنّ هذا هو النوم الحقيقي ، وإطلاقه على مبادئه مسامحة ، لصحّة السلب عرفا.

ويشهد بذلك أخبار الباب ، فإنّ مقتضى أكثرها كون النوم مطلقا من

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٦٧ ، مستدرك الوسائل ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) قرب الإسناد. ٢٠٠ ـ ٧٦٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٩.

٢٠