مصباح الفقيه - ج ٩

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٩

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

وعن صاحب المنتقى والعلّامة في التذكرة أنّهما ذكرا أنّ النظر والاعتبار يدلّان على أنّ هذا مخصوص بالمدينة (١).

أقول : وهذا مبنيّ على أن يكون عرض المدينة زائدا على الميل الأعظم ، وعدم انعدام الظلّ فيها أصلا ، كما حكي عن العلّامة وغيره (٢).

وكيف كان فلا ريب في أنّ ما في الرواية تحديد تقريبيّ ، فلا يتوجّه عليه الإشكال بأنّ اختلاف الأشهر في ازدياد الظلّ ونقصانه تدريجيّ الحصول ، فكيف جعل في الرواية ازدياده في ثلاثة أشهر الصيف قدما قدما ، وفي أشهر الخريف قدمين قدمين ، ونقصانه في الشتاء والربيع بعكس ذلك! فإنّ المقصود بالرواية ـ بحسب الظاهر ـ بيان ما يعرف به الزوال تقريبا ، والتنبيه على اختلاف الظلّ في الفصول الأربعة ، وبيان مقدار التفاوت على سبيل الإجمال ، والله العالم.

ونظير هذه العلامة في عدم الاطّراد وكونها علامة تقريبيّة العلامة الرابعة التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله بقوله : (أو بميل الشمس إلى الحاجب الأيمن لمن يستقبل القبلة) فإنّه علامة لأهل العراق ، كما ذكره غير واحد من الأصحاب ، بل عن جامع المقاصد (٣) نسبته إليهم لكن مع التقييد بما سمعت ، كما أنّه بحسب الظاهر هو المراد بإطلاق المتن ، ضرورة عدم كون ما ذكر علامة على الإطلاق ، بل في المدارك وغيره تقييده أيضا بمن كان قبلته نقطة الجنوب منهم ، كأطراف

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ٣٩٤ ، تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٠٢ ، ذيل المسألة ٢٤ ، وحكاه عنهما العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٣ من الباب ١١ من أبواب المواقيت.

(٢) راجع : نهاية الإحكام ١ : ٣٣٣ ، والذكرى ٢ : ٣٢١ ، وكذا جواهر الكلام ٧ : ١٠٠.

(٣) جامع المقاصد ٢ : ١٣ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ١٠٤.

١٤١

العراق الغربيّة ، دون أوساطه وأطرافه الشرقيّة ، فإنّ قبلتهم تميل عن نقطة الجنوب ، فلا يكون ميل الشمس إلى الحاجب الأيمن عند استقبال القبلة إلّا بعد مضيّ مقدار معتدّ به من الزوال (١).

لكن بما أشرنا إليه ـ من كون هذه العلامة علامة تقريبيّة ـ يندفع هذا الإشكال ؛ إذ لم يقصد بها إلّا معرفة دخول الوقت ، لا أوّله على سبيل التحقيق ولو بالنسبة إلى من كانت قبلته نقطة الجنوب ؛ إذ لا يتميّز بالحسّ أوّل آنات ميل الشمس إلى الحاجب الأيمن ، الذي هو من لوازم ميلها عن دائرة نصف النهار عند استقبال نقطة الجنوب ، كما هو واضح ، فالمقصود بذكر مثل هذه العلائم بيان ما يعرف به دخول الوقت في أوائله ، لا ما يميّز به أوّله على سبيل التحقيق.

وقد وقع التنبيه على هذه العلامة فيما روي عن مجالس الشيخ مسندا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنّ رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أوقات الصلاة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :أتاني جبرئيل عليه‌السلام فأراني وقت الظهر حين زالت الشمس ، فكانت على حاجبه الأيمن» (٢) الحديث.

(و) يعلم (الغروب) أي غروب الشمس ، الذي هو أوّل وقت صلاة المغرب إجماعا ، كما عن جماعة نقله (٣) (باستتار القرص) عن العين في الافق مع عدم الحائل ، كما عن غير واحد (٤) من القدماء ـ كالصدوق في العلل وظاهر

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٦٦ ، الحدائق الناضرة ٦ : ١٦٠.

(٢) الأمالي ـ للطوسي ـ : ٢٤ ـ ٣٠ / ٣١ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ١٢.

(٣) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥ عن الخلاف ١ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، المسألة ٦ ، والغنية : ٦٩ و ٧٠ ، ونهاية الإحكام ٢ : ٣١١ ، والذكرى ٢ : ٣٤٠ ، وكشف اللثام ٣ : ٣٣.

(٤) كما في الحدائق الناضرة ٦ : ١٦٣ ، وجواهر الكلام ٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

١٤٢

الفقيه (١) ، وابن أبي عقيل (٢) والمرتضى والشيخ في مبسوطه (٣) ـ وجماعة من [متأخّري] (٤) المتأخّرين (٥).

(وقيل بذهاب الحمرة من المشرق ، وهو الأشهر) بل المشهور كما ادّعاه غير واحد (٦).

ومنشؤ الخلاف اختلاف الأخبار :

فممّا يدلّ على الأوّل : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :سمعته يقول : «وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها» (٧).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان :الظهر والعصر ، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان : المغرب والعشاء» (٨).

ورواية يزيد بن خليفة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ عمر بن حنظلة

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٥٠ ، ذيل ح ٦ من الباب ٦٠ ، الفقيه ١ : ١٤١ / ٦٥٥.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٤٤ ، المسألة ٦.

(٣) مسائل الناصريّات : ١٩٣ ، المسألة ٧٣ ، رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٧٤ ، المبسوط ١ : ٧٤.

(٤) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق حسب ما في الجواهر ٧ : ١٠٧.

(٥) منهم : الشيخ حسن في منتقى الجمان ١ : ٤١٤ و ٤١٦ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٥٣ ، والسبزواري في ذخيرة المعاد : ١٩١ ، وكفاية الأحكام : ١٥ ، والكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٩٤ ، مفتاح ١٠٥.

(٦) كالعلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٣١٠ ، المسألة ٣٠ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٤٨٥ ، والصيمري في غاية المرام ١ : ١١٧ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٢٢ ، والشيخ البهائي في الحبل المتين : ١٤٢ ، والسبزواري في كفاية الأحكام : ١٥ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ١٦٣.

(٧) الكافي ٣ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٢٨ / ٨١ ، الاستبصار ١ : ٢٦٣ / ٩٤٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٦.

(٨) تقدّم تخريجها في ص ٨١ ، الهامش (٤).

١٤٣

أتانا عنك بوقت ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا لا يكذب علينا» قلت : قال : وقت المغرب إذا غاب القرص إلّا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا جدّ به السير أخّر المغرب ويجمع بينها وبين العشاء ، فقال : «صدق» (١).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «وقت المغرب إذا غاب القرص ، فإن رأيته بعد ذلك وقد صلّيت أعدت ، ومضى صومك ، وتكفّ عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئا» (٢).

وموثّقة زيد الشحّام ، قال : قال رجل [لأبي عبد الله عليه‌السلام] (٣) : اؤخّر المغرب حتى تستبين النجوم؟ فقال : «أخطّابيّة؟ إنّ جبرئيل نزل بها على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سقط القرص» (٤).

ومرسلة الصدوق قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «وقت المغرب إذا غاب القرص» (٥).

وقال أيضا : وقال الصادق عليه‌السلام : «إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار ووجبت الصلاة ، وإذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧٩ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٣١ ـ ٣٢ / ٩٥ ، الاستبصار ١ : ٢٦٧ / ٩٦٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧٩ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٦١ / ١٠٣٩ ، و ٤ : ٢٧١ / ٨١٨ ، الاستبصار ٢ : ١١٥ / ٣٧٦ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٧.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) علل الشرائع : ٣٥٠ (الباب ٦٠) ح ٣ ، التهذيب ٢ : ٢٨ / ٨٠ ، و ٣٢ / ٩٨ ، الاستبصار ١ : ٢٦٢ / ٩٤٣ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ١٨.

(٥) الفقيه ١ : ١٤١ / ٦٥٥ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٨.

١٤٤

الليل» (١).

ورواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا غاب القرص أفطر الصائم ، ودخل وقت الصلاة» (٢).

وخبر داود بن أبي يزيد ، قال : قال الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام : «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب» (٣).

وخبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : «صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر ، وكنت أنا اصلّي المغرب إذا غربت الشمس واصلّي الفجر إذا استبان الفجر ، فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ، فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنّا وهي طالعة على قوم آخرين بعد؟ فقلت : إنّما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنّا ، وإذا طلع الفجر عندنا ، وعلى اولئك أن يصلّوا إذا غربت الشمس عنهم» (٤).

ونوقش في دلالة هذه الأخبار : بأنّ غاية مفادها كون وقت المغرب عبارة عن غيبوبة الشمس التي هي عبارة اخرى عن غروبها ، وقد تقدّم في صدر العنوان الإشارة إلى أنّ هذا ممّا لا خلاف فيه ، وإنّما البحث فيما به يتحقّق الغروب.

وبالجملة ، إنّ غيبوبة القرص وغروب الشمس ونحو ذلك من العبائر

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤٢ / ٦٦٢ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٩.

(٢) الفقيه ٢ : ٨١ / ٣٥٨ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٢٠.

(٣) الأمالي ـ للصدوق ـ : ٧٤ (المجلس ١٨) ح ١١ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٢١.

(٤) الأمالي ـ للصدوق ـ : ٧٥ (المجلس ١٨) ح ١٥ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٢٢.

١٤٥

مجملة قابلة للحمل على كلّ من القولين ؛ إذ لفظ القرص ولفظ الشمس بمعنى واحد ، ولفظ غيبوبة الشمس ولفظ الغروب بمعنى واحد.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ إنكار ظهور مثل هذه الروايات في القول الأوّل مجازفة محضة ، بل المتبادر من غروب الشمس الذي ورد التحديد به في غير واحد من الأخبار أيضا ليس إلّا استتار قرصها في الافق.

نعم ، حمل الأخبار التي ورد فيها التحديد بالغروب على ما يطابق المشهور توجيه قريب ، بخلاف الأخبار المتقدّمة التي وقع التعبير فيها بغيبوبة القرص ، التي هي عبارة اخرى عن استتاره عن العين ، فإنّ تطبيقها على مذهب المشهور تأويل بعيد.

لكن قد يقرّبه ما يستشعر من جملة من الأخبار من كون التحديد بغيبوبة القرص ونحوها مظنّة للتورية وقابلا لاحتمال إرادة خلاف الظاهر.

مثل : رواية علي بن الحكم عمّن حدّثه عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سئل عن وقت المغرب ، فقال : «إذا غاب كرسيّها» قلت : وما كرسيّها؟ قال : «قرصها» قلت : متى يغيب قرصها؟ قال : «إذا نظرت إليه فلم تره» (١) فإنّ سؤاله عن أنّه متى يغيب القرص يشعر بأنّ مثل هذا التعبير كان عندهم من مواقع الريبة ؛ إذ لو لم يكن الذهن مسبوقا بالشبهة لا يكاد يتوهّم من غيبوبة قرص الشمس إلّا إرادة ما ذكره الإمام عليه‌السلام في تفسيرها.

وكيف كان فهذه الرواية صريحة الدلالة على القول المذكور.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٧ / ٢٨ / ٧٩ ، الاستبصار ١ : ٢٦٢ / ٩٤٢ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٢٥.

١٤٦

ونحوها ما عن مجالس الصدوق عن [أبان بن تغلب و] (١) الربيع بن سليمان وأبان بن أرقم وغيرهم ، قالوا : أقبلنا من مكّة حتّى إذا كنّا بوادي الأخضر (٢) إذا نحن برجل يصلّي ونحن ننظر إلى شعاع الشمس ، فوجدنا في أنفسنا ، فجعل يصلّي ونحن ندعو عليه ونقول : هو شباب من شباب أهل المدينة ، فلمّا أتيناه إذا هو أبو عبد الله جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، فنزلنا فصلّينا معه وقد فاتتنا ركعة ، فلمّا قضينا الصلاة قمنا إليه فقلنا : جعلنا الله فداك ، هذه الساعة تصلّي!؟

فقال : «إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت» (٣).

ويظهر من هذه الرواية كون تأخّر وقت المغرب عن غيبوبة الشمس مغروسا في أذهان الشيعة في عصرهم أيضا ـ كما في هذه الأعصار ـ بحيث كانوا يرون إتيانها بعد الغيبوبة مع بقاء الشعاع من شعار المخالفين.

وعن كتاب المجالس أيضا عن محمّد بن يحيى الخثعمي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي المغرب ويصلّي معه حيّ من الأنصار يقال لهم : بنو سلمة ، منازلهم على نصف ميل ، فيصلّون معه ثمّ ينصرفون إلى منازلهم وهم يرون مواضع سهامهم» (٤).

__________________

(١) ما بين المعقوفين من الأمالي.

(٢) كذا في النسخ الخطيّة والحجريّة والوسائل ، وفي الأمالي : «بوادي الأجفر». وهو موضع بين فيد والخزيمية بينه وبين فيد ستّة وثلاثون فرسخا نحو مكة. معجم البلدان ١ : ١٠٢.

(٣) الأمالي ـ للصدوق ـ : ٧٥ (المجلس ١٨) ح ١٦ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٢٣.

(٤) الأمالي ـ للصدوق ـ : ٧٤ ـ ٧٥ (المجلس ١٨) ح ١٤ ، وفيه : «نبلهم» بدل «سهامهم» الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ذيل ح ٥.

١٤٧

وفي بعض النسخ بدل «سهامهم» : «نبلهم» (١).

وعن المجلسي رحمه‌الله في البحار من طرق المخالفين أنّهم رووا عن جابر وغيره نحوه ، قالوا : كنّا نصلّي المغرب مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ نخرج نتناضل حتّى ندخل بيوت بني سلمة فننظر إلى مواضع النبل من الأسفار (٢).

وموثّقة سماعة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : في المغرب إنّا ربّما صلّينا ونحن نخاف أن تكون الشمس باقية خلف الجبل ، أو قد سترنا منها الجبل ، قال :فقال : «ليس عليكم صعود الجبل» (٣).

وخبر زيد الشحّام ، قال : صعدت مرّة جبل أبي قبيس والناس يصلّون المغرب فرأيت الشمس لم تغب ، إنّما توارت خلف الجبل من الناس ، فلقيت أبا عبد الله عليه‌السلام فأخبرته بذلك ، فقال لي : «ولم فعلت ذلك؟ بئس ما صنعت ، إنّما تصلّيها إذا لم ترها خلف جبل غابت أو غارت ما لم يجلّلها سحاب أو ظلمة ، وإنّما عليك مشرقك ومغربك ، وليس على الناس أن يبحثوا» (٤).

ونوقش في الخبرين الأخيرين : بأنّهما لا ينطبقان على شي‌ء من القولين.

أمّا على القول المشهور : فواضح.

و [أمّا] على القول الأوّل : فلأنّ المعتبر عند أصحاب هذا القول انتفاء

__________________

(١) أورده كذلك المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٥٨ / ١٦ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ١٦٩.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ١٧٠ ، وانظر : بحار الأنوار ٨٣ : ٥٨ ، ذيل ح ١٦.

(٣) الفقيه ١ : ١٤١ / ٦٥٦ ، التهذيب ٢ : ٢٩ / ٨٧ ، الاستبصار ١ : ٢٦٦ / ٩٦٢ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب المواقيت ، ح ١.

(٤) الفقيه ١ : ١٤٢ / ٦٦١ ، التهذيب ٢ : ٢٦٤ / ١٠٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٦٦ / ٩٦١ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

١٤٨

الحائل بين الناظر وبين موضع الغروب.

أقول : إن تمّت المناقشة فيهما ، ففي ما عداهما غنى وكفاية.

ويدلّ على المشهور ما عن الكليني رحمه‌الله في الكافي عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «وقت سقوط القرص ووجوب الإفطار من الصيام أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقّد الحمرة التي ترتفع من المشرق ، فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار ، وسقط القرص» (١).

وعنه أيضا بطريقين عن القاسم بن عروة ، وعن الشيخ في التهذيب بطريقين آخرين عنه أيضا عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إذا غابت الحمرة من هذا الجانب ـ يعني من المشرق ـ فقد غابت الشمس من شرق الأرض وغربها» (٢).

وعن الكافي أيضا عن [عليّ بن] (٣) أحمد بن أشيم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : «وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق ، وتدري كيف ذلك؟» قلت : لا ، قال : «لأنّ المشرق مطلّ (٤) على المغرب هكذا» ورفع يمينه فوق يساره «فإذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا» (٥).

وخبر محمّد بن شريح ـ بل عن المعتبر : رواه جماعة منهم : محمّد

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧٩ / ٤ ، و ٤ : ١٠٠ (باب وقت الإفطار) ح ١ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٤.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧٨ / ٢ ، و ٤ : ١٠٠ ـ ١٠١ / ٢ ، التهذيب ٢ : ٢٩ / ٨٤ و ٨٥ ، الاستبصار ١ : ٢٦٥ / ٩٥٦ و ٩٥٧ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١ و ٧.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) أطلّ : أشرف. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٣ : ١٣٦ «طلل».

(٥) الكافي ٣ : ٢٧٨ / ١ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٣.

١٤٩

ابن شريح (١) ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن وقت المغرب ، فقال : «إذا تغيّرت الحمرة في الافق وذهبت الصفرة وقبل أن تشتبك النجوم» (٢).

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّما أمرت أبا الخطّاب أن يصلّي المغرب حين زالت الحمرة من مطلع الشمس ، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب ، وكان يصلّي حين يغيب الشفق» (٣).

وخبر أبان بن تغلب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيّ ساعة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوتر؟ فقال : «على مثل مغيب الشمس إلى صلاة المغرب» (٤) فإنّه يدلّ على انفصال وقت الصلاة عن مغيب الشمس ، وأنّ الساعة التي بينهما مماثل للساعة التي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوتر فيها ، فكأنّه عليه‌السلام أراد بذلك الفجر الأوّل الذي هو أفضل أوقات الوتر.

وفي التمثيل إيماء إلى أنّ هذا الوقت غروب كاذب ، كما أنّ الفجر الأوّل فجر كاذب ، والله العالم.

ويدلّ عليه أيضا الأخبار الواردة في الإفاضة من عرفات ، المحدودة بغروب الشمس :كموثّقة يونس بن يعقوب ـ المرويّة عن الكافي ـ قال : قلت

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥١ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ١١٣.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٥٧ / ١٠٢٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٥٩ / ١٠٣٣ ، الاستبصار ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ / ٩٦٠ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٠.

(٤) الكافي ٣ : ٤٤٨ / ٢٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٥ ، وكذا الباب ٥٤ من تلك الأبواب ، ح ٢.

١٥٠

لأبي عبد الله عليه‌السلام : متى الإفاضة من عرفات؟ قال : «إذا ذهبت الحمرة» يعني من الجانب الشرقي (١).

وعن التهذيب ـ في الموثّق أيضا ـ عن يونس المذكور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : متى تفيض من عرفات؟ فقال : «إذا ذهبت الحمرة من هاهنا» وأشار بيده إلى المشرق وإلى مطلع الشمس (٢).

وعن الفقه الرضوي ، قال : «وأوّل وقت المغرب سقوط القرص ، وعلامة سقوطه أن يسودّ افق المشرق ، وآخر وقتها غروب الشفق».

وعن موضع آخر : «وقت المغرب سقوط القرص إلى مغيب الشفق ـ إلى أن قال ـ : والدليل على غروب الشمس ذهاب الحمرة من جانب المشرق ، وفي الغيم سواد [المحاجز] (٣) وقد كثرت الروايات في وقت المغرب وسقوط القرص ، والعمل من ذلك على سواد المشرق إلى حدّ الرأس» (٤).

ويؤيّده خبر محمّد بن علي ، قال : صحبت الرضا عليه‌السلام في السفر ، فرأيته يصلّي المغرب إذا أقبلت الفحمة من المشرق ، يعني السواد (٥).

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٦٦ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب إحرام الحجّ والوقوف بعرفة ، ح ٣.

(٢) التهذيب ٥ : ١٨٦ / ٦١٨ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب إحرام الحجّ والوقوف بعرفة ، ح ٢.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الحاجز». وفي الحدائق :«المحاجر» بالراء المهملة ، وكذا في نسخة أخرى من الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام ، وفي المطبوع منه كما أثبتناه.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٧٣ ـ ٧٤ و ٤٠٣ ـ ١٠٤ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ١٦٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٩ / ٨٦ ، الاستبصار ١ : ٢٦٥ / ٩٥٨ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٨.

١٥١

وصحيحة إسماعيل بن همام ، قال : رأيت الرضا عليه‌السلام وكنّا عنده لم يصلّ المغرب حتّى ظهرت النجوم ، قال : فصلّى بنا على باب دار ابن أبي محمود (١).

ويشهد له أيضا موثّقة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال لي : «مسوا بالمغرب قليلا فإنّ الشمس تغيب من عندكم قبل أن تغيب من عندنا» (٢).

وصحيحة بكر بن محمّد الأزدي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سأله سائل عن وقت المغرب ، قال : «إنّ الله تعالى يقول في كتابه لإبراهيم عليه‌السلام (فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) (٣) وهذا أوّل الوقت ، وآخر ذلك غيبوبة الشفق ، وأوّل وقت العشاء الآخرة ذهاب الحمرة ، وآخر وقتها إلى غسق الليل» يعني نصف الليل (٤).

وصحيحة زرارة ـ المرويّة عن التهذيب ـ قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن وقت إفطار الصائم ، فقال : «حين تبدو ثلاثة أنجم» (٥).

وعن أبان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «يحلّ لك الإفطار إذا بدت

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٠ / ٨٩ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ / ٩٥٤ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ٩.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٥٨ / ١٠٣٠ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ / ٩٥١ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٣.

(٣) الأنعام ٦ : ٧٦.

(٤) الفقيه ١ : ١٤١ / ٦٥٧ ، التهذيب ٢ : ٣٠ / ٨٨ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ / ٩٥٣ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٦.

(٥) التهذيب ٤ : ٣١٨ / ٩٦٨ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ٣.

١٥٢

لك ثلاثة أنجم ، وهي تطلع مع غروب الشمس» (١).

وخبر عبد الله بن وضاح قال : كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ثمّ يزيد الليل ارتفاعا وتستر عنّا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون أفاصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢).

وفي الوسائل وغيره (٣) بدل «الجبل» في المقامين : «الليل».

وخبر جارود ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا جارود ينصحون فلا يقبلون ، وإذا سمعوا شيئا نادوا به أو حدّثوا بشي‌ء أذاعوه ، قلت لهم : مسوا بالمغرب قليلا ، فتركوها حتّى اشتبكت النجوم ، وأنا الآن اصلّيها إذا سقط القرص» (٤).

ولا ينافي ما في ذيل الخبر من صلاته عند سقوط القرص ظهور الأمر بأن يمسوا قليلا في الوجوب بعد كون الرواية ناطقة بأنّ التقديم نشأ من إذاعة سرّه واشتهار أمره بالتأخير ، فكأنّه عليه‌السلام التجأ إلى ذلك إظهارا لكذب النسبة تقيّة ، لا لمخالفة فعلهم لقوله عليه‌السلام ، وإلّا لكان يأتي بها بعد المساء قليلا قبل أن تشتبك النجوم ، كما أمرهم به ، لا قبل الوقت الذي أمرهم بإتيانها فيه ، كما هو واضح.

فيظهر من هذه الرواية بل وكذا من الأمر بالاحتياط في خبر عبد الله بن

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٨١ / ٣٥٩ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح ٤.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٥٩ / ١٠٣١ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ / ٩٥٢ ، وفيه كما في الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٤ بدل «الجبل» في الموضعين : «الليل».

(٣) كجواهر الكلام ٧ : ١١٤.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٥٩ / ١٠٣٢ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٥.

١٥٣

وضاح ـ مع أنّه ليس من شأن الإمام العارف بالأحكام الواقعيّة ـ تعذّر التصريح بالتأخير بواسطة مخالفته لمذهب العامّة.

واحتمال أن يكون المراد بالحمرة المرتفعة فوق الجبل ـ أو الليل في خبر ابن وضاح ـ الصفرة الحاصلة في الأماكن العالية عند إشراف الغروب ، التي هي عبارة عن اصفرار الشمس ، أو حمرة عارضيّة موجبة للشكّ في غيبوبة القرص حتّى يكون الأمر بالاحتياط بواسطة كونه شبهة موضوعيّة في غاية البعد عن سوق السؤال ؛ إذ المقصود بذكر ارتفاع الحمرة كذكر ارتفاع الليل وسائر الفقرات المذكورة في السؤال ليس إلّا تأكيد ما ذكره أوّلا من مواراة القرص ، فغرضه ليس إلّا الاستفهام عن أنّه هل تجوز الصلاة والإفطار عند مواراة القرص ، أم يجب الانتظار إلى أن تذهب الحمرة التي يتعارف ارتفاعها بعد الغروب وهي الحمرة المشرقيّة؟نعم ، بناء على أن يكون متن الرواية «فوق الجبل» كما في بعض النسخ ، لا «الليل» كما في بعضها الآخر ، لا يبعد أن يكون المراد بها الحمرة الحادثة في الأماكن العالية بواسطة انعكاس الحمرة الحاصلة في ناحية المغرب بعد غيبوبة القرص ، وعلى هذا التقدير أيضا تدلّ على المطلوب ، كما لا يخفى.

والحاصل أنّه لا مجال للارتياب في أنّ المقصود بالسؤال والجواب إنّما هو بيان أصل الوقت ، لا حكم الشاكّ في استتار القرص وعدمه ، فما وقع في الجواب من التعبير بلفظ الاحتياط مع ما فيه من الإشعار بكونه مستحبّيّا لم يكن إلّا لعدم تمكّن الإمام عليه‌السلام من إظهار الحقّ إلّا بهذا الوجه القابل للتوجيه على مذهب المخالفين ، فيستفاد من هذين الخبرين عدم تمكّن الأئمّة عليهم‌السلام من الأمر بتأخير

١٥٤

المغرب إلى ذهاب الحمرة على رؤوس الأشهاد على وجه يعرفه المخالف والمؤالف ، كما يستشعر هذا المطلب من جملة من الأخبار بل يشهد بذلك الاعتبار مع قطع النظر عن الأخبار ؛ لقضاء العادة بصيرورة وقت صلاة المغرب لدى العامّة في عصر الصادقين عليهم‌السلام بعد استقرار مذهبهم على دخوله بغيبوبة القرص وشهادة أخبارهم المرويّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، وشدّة مواظبتهم على حفظ الأوقات في أنظارهم من الضروريّات الواصلة إليهم يدا بيد من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان إظهار خلافه عندهم من قبيل إنكار الضروري الموجب للكفر ، فالأئمّة عليهم‌السلام في مثل هذه الموارد كانوا مضطرّين إلى موافقتهم قولا وفعلا ، سواء كان الوقت لديهم في الواقع استتار القرص أم ذهاب الحمرة ، بل كانت الحاجة إلى التقيّة في مثل الفرض أشدّ من الحاجة إليها في تصديق أئمّتهم وعدم القدح فيهم ، بل ربّما كانوا يتّقون في مثل هذه المقامات من جلّ شيعتهم الذين لم يرسخ في قلوبهم عصمتهم عليهم‌السلام فضلا عن العامّة ، فيشكل في مثل الفرض استكشاف الحكم الواقعي من أقوال الأئمّة عليهم‌السلام وأفعالهم الموافقة للعامّة ؛ إذ لا يصحّ الاعتماد على أصالة عدم التقيّة بعد شهادة الحال بتحقّق ما يقتضيها وقضاء الضرورة بصدور مثل هذه الأقوال والأفعال منهم أحيانا من باب التقيّة على تقدير مخالفتهم في الرأي بحيث لو لم يصل إلينا إلّا الأخبار المخالفة للعامّة ربّما كنّا نجزم من مماشاة الأئمّة عليهم‌السلام مع العامّة ومداراتهم معهم بصدور مثل هذه الأخبار الموافقة لهم عنهم في مثل المقام وإن لم تكن واصلة إلينا ، فلا يجري في مثل الفرض أصالة عدم التقيّة ، فيشكل الحكم بمطابقة مضمون مثل هذه الروايات للواقع.

١٥٥

اللهمّ إلّا أن نلتزم بحجّيّة أصالة الظهور من حيث هي ، لا لرجوعها إلى الاصول العدميّة ، كأصالة عدم القرينة أو أصالة عدم المقتضي لإظهار خلاف الواقع من تقيّة ونحوها ، وهو لا يخلو عن تأمّل.

فمن هنا يظهر أنّه لو كانت الطائفة الاولى من الأخبار الدالّة على دخول الوقت باستتار القرص سليمة عن المعارض ومخالفة المشهور ، لم يكن استكشاف الحكم الواقعي منها خاليا عن التأمّل فضلا عن صلاحيّتها ـ بعد إعراض المشهور ـ لمعارضة الأخبار الأخيرة المعتضدة بالشهرة ومغروسيّة مضمونها في أذهان الشيعة من صدر الشريعة ، خصوصا مع كون جملة من هذه الروايات ـ كمرسلة (١) ابن أبي عمير وغيرها ممّا وقع فيها تفسير الغروب وسقوط القرص باستتاره في الافق بحيث

لم يبق له أثر في ناحية المشرق ـ بمدلولها اللفظي حاكمة على جلّ تلك الروايات ممّا ورد فيها التحديد بسقوط القرص وغيبوبة الشمس ونحوهما ، وما يبقى منها ممّا لا يقبل هذا التأويل ممّا هو صريح الدلالة في الخلاف فهو في حدّ ذاته غير قابل لمعارضة هذه الروايات.

ولعلّ ما في الأخبار ـ التي تقدّمت الإشارة إليها ـ من جعل ذهاب الحمرة معرّفا لغيبوبة القرص لا حدّا بنفسه نشأ من معروفيّة التحديد بالغيبوبة لدى الناس بحيث لم يجد الأئمّة عليهم‌السلام بدّا إلّا من الاعتراف به ، وتأويله إلى الحقّ.

فالأظهر عدم صلاحيّة الأخبار المتقدّمة لمعارضة الروايات الأخيرة وإن كثرت وصحّت أسانيدها.

__________________

(١) تقدّمت في ص ١٤٩.

١٥٦

فما هو المشهور من اعتبار ذهاب الحمرة ـ مع موافقته للأصل والاحتياط بوجه ـ هو الأقوى ، ولكنّ الأحوط عدم تأخير الظهرين عن استتار القرص وإن كان الأظهر ما عرفت.

وما عن جملة من متأخّري المتأخّرين وفاقا لبعض القدماء من تحديد الغروب بغيبوبة القرص ، وتنزيل الأخبار الأخيرة على أفضليّة التأخير ؛ جمعا بينها وبين ما يعارضها بشهادة قوله عليه‌السلام في خبر عبد الله بن وضاح : «أرى لك أن تنتظر» (١) الحديث ، وخبر شهاب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يا شهاب إنّي احبّ إذا صلّيت المغرب أن أرى في السماء كوكبا» (٢) ضعيف ؛ لما عرفت من كون الأخبار الموافقة للعامّة في مثل هذه الموارد في حدّ ذاتها بمنزلة الكلام المحفوف بما يصلح أن يكون قرينة لإرادة خلاف ظاهره في عدم العبرة بظاهره ، أو وهنه وعدم صلاحيّته لصرف الأخبار المخالفة ـ المسوقة بظاهرها لبيان الحكم الواقعي ـ عن ظاهرها ، خصوصا مع ما في بعض تلك الأخبار المخالفة من الإيماء إلى وجه صدور الروايات الموافقة ، وكون جملة منها بمدلولها اللفظي حاكمة على جلّ تلك الروايات.

هذا ، مع أنّ جملة من هذه الروايات آبية عن هذا الحمل ، كمرسلة (٣) ابن أبي عمير ، وغيرها (٤) ممّا جعل فيها ذهاب الحمرة معرّفا لاستتار القرص ، فإنّها

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٥٣ ، الهامش (٢).

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦١ / ١٠٤٠ ، الاستبصار ١ : ٢٦٨ / ٩٧١ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٩.

(٣) تقدّمت في ص ١٤٩.

(٤) كخبري يزيد بن معاوية وعليّ بن أحمد بن أشيم ، المتقدّمين في ص ١٤٩.

١٥٧

كادت تكون صريحة في إرادة أوّل الوقت الذي يجوز عنده الصلاة والإفطار.

هذا ، مع منافاته للأخبار الآتية الدالّة عموما على أنّ الصلاة في أوّل وقتها أبدا أفضل وخصوصا في المغرب حتى ورد فيها التبرّي واللعن على من أخّرها ؛ طلبا لفضلها (١).

ولكن يمكن تنزيل هذه الأخبار المشتملة على اللعن والتبرّي على التعريض على أصحاب أبي الخطّاب الذين كانوا يؤخّرونها إلى أن تشتبك النجوم ، كما ستعرف ، فليتأمّل.

هذا كلّه فيما يتحقّق به زوال الشمس وغروبها وذكر مواقيت الصلوات على الإجمال.

وأمّا التفصيل : فالمشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بل كاد أن يكون إجماعا ـ كما صرّح به في الحدائق (٢) وغيره (٣) ـ أنّ لكلّ صلاة من الصلوات الخمس وقتين : أوّلا وآخرا ، سواء في ذلك المغرب وغيرها.

وقد وقع الخلاف هنا في موضعين :

أحدهما : ما نقله في محكيّ المختلف عن ابن البرّاج أنّه قال : وفي أصحابنا من ذهب إلى أنّه لا وقت للمغرب إلّا واحد ، وهو غروب القرص في افق المغرب (٤).

__________________

(١) راجع الهامش (٢ و ٣) من ص ١٦٢.

(٢) الحدائق الناضرة ٦ : ٨٧.

(٣) كجواهر الكلام ٧ : ١٢١.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٨٧ ، وانظر : مختلف الشيعة ٢ : ٣٢ ، المسألة ٢ ، والمهذّب ١ : ٦٩.

١٥٨

وثانيهما : في أنّ الوقتين اللّذين لكلّ فريضة هل الأوّل منهما للفضيلة والثاني للإجزاء؟ كما عن المشهور (١) ، أو أنّ الأوّل للمختار والثاني للمضطرّين وذوي الأعذار؟ كما عن الشيخين وابن أبي عقيل وأبي الصلاح وابن البرّاج وبعض متأخّري المتأخّرين (٢).

حجّة القول بأنّه ليس للمغرب إلّا وقت واحد أخبار مستفيضة :

منها : صحيحة زيد الشحّام ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وقت المغرب ، فقال : «إنّ جبرئيل عليه‌السلام أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكلّ صلاة بوقتين غير [صلاة] المغرب فإنّ وقتها واحد ، ووقتها وجوبها» (٣).

في الحدائق : يعني سقوطها ، كقوله سبحانه (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) (٤) والضمير راجع إلى الشمس بقرينة المقام (٥). انتهى.

أقول : ولا يبعد أن يكون المراد بوجوبها وقت وجوبها ، أي تنجّز التكليف بفعلها ، أعني أوّل الوقت.

وصحيحة أديم بن الحرّ ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ

__________________

(١) نسبه إلى المشهور صاحب الحدائق فيها ٦ : ٨٩.

(٢) حكاه عنهم العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٣١ ، المسألة ١ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٨٩ ، وانظر : المقنعة : ٩٤ ، والنهاية : ٥٨ ، والمبسوط ١ : ٧٢ ، والخلاف ١ : ٢٧١. المسألة ١٣ ، والكافي في الفقه : ١٣٧ ، والمهذّب ١ : ٧١ ، ومفاتيح الشرائع ١ : ٨٨ ، مفتاح ٩٨ ، والوافي ٧ : ٢١٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٠ / ٨ ، التهذيب ٢ : ٢٦٠ / ١٠٣٦ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ١ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) الحج ٢٢ : ٣٦.

(٥) الحدائق الناضرة ٦ : ٨٨.

١٥٩

جبرئيل عليه‌السلام أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة كلّها ، فجعل لكلّ صلاة وقتين غير المغرب ، فإنّه جعل لها وقتا واحدا» (١).

وما عن الكافي ـ في الصحيح ـ عن زرارة والفضيل قالا : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّ لكلّ صلاة وقتين غير المغرب ، فإنّ وقتها واحد ، ووقتها وجوبها ، ووقت فوتها سقوط الشفق» (٢).

قال في محكيّ الكافي : وروي أنّ لها وقتين آخر وقتها سقوط الشفق.

ثمّ قال : وليس هذا ممّا يخالف الحديث الأوّل «إنّ لها وقتا واحدا» لأنّ الشفق هو الحمرة ، وليس بين غيبوبة الشمس وبين غيبوبة الحمرة إلّا شي‌ء يسير ، وذلك أنّ علامة غيبوبة الشمس بلوغ الحمرة القبلة ، وليس بين بلوغ الحمرة القبلة وبين غيبوبتها إلّا قدر ما يصلّي الإنسان صلاة المغرب ونوافلها إذا صلّاها على تؤدة (٣) وسكون ، وقد تفقّدت ذلك غير مرّة ، ولذلك صارت وقت المغرب ضيّقا (٤). انتهى.

أقول : وقد حكي هذا التوجيه عن غيره (٥) أيضا.

والظاهر أنّ القائل بأنّه ليس لها إلّا وقت واحد ـ وهو غروب القرص ـ

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٦٠ / ١٠٣٥ ، الاستبصار ١ : ٢٦٩ / ٩٧٤ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ١١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٨٠ / ٩ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

(٣) التؤدة : التأنّي. لسان العرب ٣ : ٤٤٣ «وأد».

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٠ ، ذيل ح ٩ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٨٨.

(٥) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٨٨ عن الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ : ٢٦٠ ، ذيل ح ١٠٣٦.

١٦٠