لم يقصد بذلك ما ينافي هذا التوجيه ؛ فإنّ مراده بالوقت الواحد ـ على الظاهر ـ هو ما بين الغروب إلى سقوط الشفق ؛ لا خصوص أوّل الوقت وإن أو همه ظاهر عبارته.
فعلى هذا يتّجه له الاستدلال على مدّعاه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ بالمستفيضة الدالّة على أنّ آخر وقت المغرب غيبوبة الشفق.
منها : موثّقة إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : سألته عن وقت المغرب ، قال : «ما بين غروب الشمس إلى سقوط الشفق» (١).
وفي رواية زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام : «وآخر وقت المغرب إياب الشفق ، فإذا آب الشفق دخل وقت العشاء الآخرة» (٢).
وصحيحة بكر بن محمّد عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : سأله سائل عن وقت المغرب ، فقال : «إنّ الله تعالى يقول في كتابه لإبراهيم عليهالسلام (فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) (٣) وهذا أوّل الوقت ، وآخر ذلك غيبوبة الشفق» (٤) الحديث.
وفي مكاتبة إسماعيل بن مهران : «كذلك الوقت غير أنّ وقت المغرب ضيّق ، وآخر وقتها ذهاب الحمرة ، ومصيرها إلى البياض» (٥).
__________________
(١) التهذيب ٢ : ٢٥٨ / ١٠٢٩ ، الاستبصار ١ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ / ٩٥٠ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ١٤.
(٢) التهذيب ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ / ١٠٤٥ ، الاستبصار ١ : ٢٦٩ / ٩٧٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٣.
(٣) الأنعام ٦ : ٧٦.
(٤) تقدّم تخريجها في ص ١٥٢ ، الهامش (٤).
(٥) تقدّم تخريجها في ص ٨٢ ، الهامش (٣).
ولعلّه إلى هذا يرجع ما في بعض الأخبار من تحديد وقتها إلى أن تشتبك النجوم.
كخبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «وقت المغرب من حين تغيب الشمس إلى أن تشتبك النجوم» (١).
وقد ورد التوبيخ والتبرّي عمّن أخّر المغرب حتى تشتبك النجوم في جملة من الأخبار :
مثل : رواية زيد الشحّام ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «من أخّر المغرب حتّى تشتبك النجوم من غير علّة فأنا إلى الله منه بريء» (٢).
لكن لا يبعد أن يكون المقصود بهذه الروايات التعريض والتبرّي عن أصحاب أبي الخطّاب الذين كانوا يؤخّرونها طلبا لفضلها ، كما يشهد بذلك جملة من الأخبار.
مثل : مرسلة الصدوق ، قال : قال الصادق عليهالسلام : «ملعون ملعون من أخّر المغرب طلبا لفضلها» قال : وقيل له : إنّ أهل العراق يؤخّرون المغرب حتى تشتبك النجوم ، فقال : «هذا من عمل عدوّ الله أبي الخطّاب» (٣).
وفي بعض الأخبار الآتية أيضا شهادة عليه.
وكيف كان فهذه الأخبار بظاهرها تدلّ على انتهاء وقت المغرب بسقوط
__________________
(١) التهذيب ٢ : ٢٥٧ / ١٠٢٣ ، الاستبصار ١ : ٢٦٣ / ٩٤٨ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ٢٦ ، وكذا الباب ١٨ من تلك الأبواب ، ح ١٥.
(٢) الأمالي ـ للصدوق ـ : ٣٢٠ / ١ (المجلس ٦٢) الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ٨.
(٣) الفقيه ١ : ١٤٢ / ٦٦٠ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ٦.
الشفق ، لكن لا بدّ من حملها على ما لا ينافي غيرها من الأخبار الكثيرة الدالّة على بقاء وقتها بعد غيبوبة الشفق في الجملة ، المعتضدة بفتوى الأصحاب وإجماعهم.
وما سمعت (١) حكايته عن بعض أصحابنا من القول بأنّه ليس لها إلّا وقت واحد فهو ممّا لم يعرف قائله ، بل قد يغلب على الظنّ أنّ مراد هذا البعض ليس إلّا وقتها الاختياريّ لا مطلقا ، فإنّ من المستبعد التزام أحد بخروج وقته مطلقا بسقوط الشفق حتّى للمضطرّ والمعذور ؛ لمخالفته للمعتبرة المستفيضة بل المتواترة الدالّة بالصراحة على بقاء وقتها في الجملة بعد غيبوبة الشفق ، فهذا البعض ـ على ما يظنّ به ـ إمّا مفصّل بين المغرب وغيرها ، فيرى جواز تأخير سائر الصلوات اختيارا إلى آخر أوقاتها دون المغرب ، كما لا يبعد الالتزام به بالنظر إلى ظواهر الأخبار وإن لم نعرف قائلا بذلك ، أو أنّه يمنع عن التأخير اختيارا في سائر الصلوات أيضا ولكنّه خصّ المغرب بالوقت الواحد بواسطة النصوص المتقدّمة الدالّة عليه بعد توجيهها على ما لا ينافي مذهبه ببعض التقريبات الآتية.
والحاصل أنّه لا مجال للارتياب في بقاء وقت المغرب بعد سقوط الشفق في الجملة ، أمّا في السفر ونحوه من موارد الضرورة العرفيّة فهو من القطعيّات الغير القابلة للتشكيك حيث يدلّ عليه ـ مضافا إلى كونه هو القدر المتيقّن من مورد المستفيضة المتقدّمة عند التكلّم في امتداد وقتها إلى نصف الليل إلّا مقدار فعل العشاء ، وغيرها من الأخبار المطلقة الآتية ـ خصوص أخبار مستفيضة :
منها : خبر القاسم بن سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : ذكر أبو الخطّاب
__________________
(١) في ص ١٥٨.
فلعنه ، ثمّ قال : «إنّه لم يكن يحفظ شيئا حدّثته ، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله غابت له الشمس في مكان كذا وكذا ، وصلّى المغرب بالشجرة وبينهما ستّة أميال ، فأخبرته بذلك في السفر فوضعه في الحضر» (١).
ومرسلة سعيد بن جناح عن الرضا عليهالسلام ، قال : «إنّ أبا الخطاب قد كان أفسد عامّة أهل الكوفة ، وكانوا لا يصلّون المغرب حتّى يغيب الشفق ، وإنّما ذلك للمسافر والخائف ولصاحب الحاجة» (٢).
وصحيحة عليّ بن يقطين قال : سألته عن الرجل تدركه صلاة المغرب في الطريق أيؤخّرها إلى أن يغيب الشفق؟ قال : «لا بأس بذلك في السفر ، وأمّا في الحضر فدون ذلك شيئا» (٣).
ومؤثّقة جميل بن درّاج ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما تقول في الرجل يصلّي المغرب بعد ما يسقط الشفق؟ فقال : «لعلّة لا بأس» (٤).
وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام : «لا بأس أن تؤخّر المغرب في السفر حتّى يغيب الشفق ، ولا بأس أن تعجّل العتمة في السفر قبل أن يغيب الشفق» (٥).
__________________
(١) التهذيب ٢ : ٢٥٨ / ١٠٢٨ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ١٧.
(٢) التهذيب ٢ : ٣٣ / ٩٩ ، الاستبصار ١ : ٢٦٨ / ٩٦٨ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المواقيت ، ح ١٩.
(٣) التهذيب ٢ : ٣٢ / ٩٧ ، الاستبصار ١ : ٢٦٧ / ٩٦٧ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ١٥.
(٤) التهذيب ٢ : ٣٣ / ١٠١ ، الاستبصار ١ : ٢٦٨ / ٩٦٩ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ١٣.
(٥) التهذيب ٢ : ٣٥ / ١٠٨ ، الاستبصار ١ : ٢٧٢ / ٩٨٤ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب المواقيت ، ح ١.
ورواية إسماعيل بن جابر ، قال : كنت مع أبي عبد الله عليهالسلام حتّى إذا بلغنا بين العشاءين ، قال : «يا إسماعيل امض مع الثقل والعيال حتّى ألحقك» وكان ذلك عند سقوط الشمس ، فكرهت أن أنزل واصلّي وأدع العيال وقد أمرني أن أكون معهم ، فسرت ثمّ لحقني أبو عبد الله عليهالسلام ، فقال : «يا إسماعيل هل صلّيت المغرب بعد؟» فقلت : لا ، فنزل عن دابّته وأذّن وأقام وصلّى المغرب وصلّيت معه ، وكان من الموضع الذي فارقته فيه إلى الموضع الذي لحقني ستّة أميال (١).
وصحيحة عمر بن يزيد ـ المرويّة عن التهذيب ـ عن أبي عبد الله عليهالسلام قال :«وقت المغرب في السفر إلى ربع الليل» (٢).
وعن الكافي بسند غير نقيّ نحوها (٣).
وعنه أيضا بسند صحيح مثلها ، إلّا أنّه قال : «إلى ثلث الليل» (٤).
ورواية أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «أنت في وقت من المغرب في السفر إلى خمسة أميال من بعد غروب الشمس» (٥).
فهذه الأخبار كغيرها من الأخبار التي تقدّم بعضها وسيأتي بعضها الآخر صريحة الدلالة على بقاء وقتها في الجملة بعد غيبوبة الشفق ، فيستفاد من ذلك أنّ الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّه ليس للمغرب إلّا وقت واحد لم يقصد بها الحصر
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٣٤ / ٦١٤ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ٧.
(٢) التهذيب ٣ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ / ٦١٠ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ٥.
(٣) الكافي ٣ : ٢٨١ / ١٤ ، وفيه مثلها ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ٢.
(٤) الكافي ٣ : ٤٣١ ـ ٤٣٢ / ٥ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ١.
(٥) الفقيه ١ : ٢٨٦ / ١٣٠٠ ، التهذيب ٣ : ٢٣٤ / ٦١١ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب المواقيت ، ح ٦.
الحقيقي ، كما أنّه لم يقصد بالأخبار الدالّة على انتهاء وقتها عند سقوط الشفق خروج وقتها بذلك على الإطلاق وصيرورتها قضاء ، كغيرها من الأخبار الكثيرة الواردة في تحديد أوقات سائر الصلوات التي لم يقصد بها إلّا بيان وقتها الأوّل الذي وقع الخلاف في كونه وقت الفضيلة أو الاختيار ، فالمراد بالحصر في تلك الأخبار إمّا الحصر الادّعائي تنزيلا لما بعد غيبوبة الشفق منزلة خارج الوقت بواسطة كراهة التأخير ومرجوحيّة اتّخاذه وقتا لها ، فلا تنافي حينئذ مذهب المشهور ، أو أنّ المراد بها الحصر بالنسبة إلى من لا عذر له في التأخير من سفر ونحوه من الأعذار العرفيّة ، أي الوقت الاختياري ، فتنطبق حينئذ على مذهب الجماعة التي سبقت الإشارة إليهم ، لكن مقتضاها جواز تأخير سائر الصلوات ـ التي جعل لها وقتان ـ إلى وقتها الأخير اختيارا ؛ إذ لو كان ذلك الوقت وقتا اضطراريّا لتلك الصلوات ، لشاركتها المغرب ، فلم يكن وجه لاستثنائها من العموم ، فإن أمكن القول بالفصل بالالتزام بجواز التأخير في سائر الصلوات اختيارا دون المغرب ولم يكن إحداث قول ثالث ، لكان للاستدلال له بهذه الأخبار وجه ، وإلّا اتّجه حمل هذه الأخبار على إرادة المعنى الأوّل ، فتنهض حينئذ شاهدة لمدّعى المشهور حيث يستفاد منها جواز التأخير في سائر الصلوات ، ومن عدم جواز التفصيل : مشاركة المغرب لها في أصل الجواز ، فالشركة التي يقطعها هذه الأخبار المفصّلة هي شدّة الكراهة ، وكون الوقت الثاني بالنسبة إلى المغرب كالعدم.
ويمكن إبقاء الحصر في هذه الأخبار على حقيقته بأن يقال : إنّ المراد.
بالوقتين في هذه الروايات ـ على ما نطق به صحيحتا الشحّام وأديم بن الحرّ ، المتقدّمتان (١) ـ هما الوقتان اللّذان أتى بهما جبرئيل عليهالسلام ، أو وضعهما النبيّ صلىاللهعليهوآله لكلّ صلاة بأمر جبرئيل ، فيكون استثناء المغرب حينئذ في محلّه ، فإنّه عليهالسلام لم يأت للمغرب إلّا بوقت واحد.
كما يدلّ عليه موثّقة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أتى جبرئيل عليهالسلام رسول الله صلىاللهعليهوآله بمواقيت الصلاة فأتاه حين زالت الشمس فأمره فصلّى الظهر ، ثمّ أتاه حين زاد الظلّ قامة فأمره فصلّى العصر ، ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب ، ثمّ أتاه حين سقط الشفق فأمره فصلّى العشاء ، ثمّ أتاه حين طلع الفجر فأمره فصلّى الصبح ، ثمّ أتاه من الغد حين زاد في الظلّ قامة ، فأمره فصلّى الظهر ، ثمّ أتاه حين زاد في الظلّ قامتان ، فأمره فصلّى العصر ، ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب ، ثمّ أتاه حين ذهب ثلث الليل فأمره فصلّى العشاء ، ثمّ أتاه حين نوّر الصبح فأمره فصلّى الصبح ، ثمّ قال : ما بينهما وقت» (٢).
ورواية معاوية بن ميسرة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أتى جبرئيل عليهالسلام» وذكر مثله إلّا أنّه قال بدل «القامة والقامتين» : «ذراع وذراعين» (٣).
ورواية مفضّل بن عمر ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «نزل جبرئيل عليهالسلام» و
__________________
(١) في ص ١٥٩.
(٢) التهذيب ٢ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ / ١٠٠١ ، الاستبصار ١ : ٢٥٧ / ٩٢٢ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٥.
(٣) التهذيب ٢ : ٢٥٣ / ١٠٠٢ ، الاستبصار ١ : ٢٥٧ / ٩٢٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٦.
ذكر مثله إلّا أنّه ذكر بدل «القامة والقامتين» : «قدمين وأربعة أقدام» (١).
أقول : القامة والذراع وقدمان مرجعها إلى شيء واحد ، كما تقدّمت (٢) الإشارة إليه في أوائل المبحث ، فلا منافاة بين هذه الروايات.
بل وكذا لا منافاة بينها وبين خبر ذريح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أتى جبرئيل عليهالسلام رسول الله صلىاللهعليهوآله فأعلمه مواقيت الصلاة ، فقال : صلّ الفجر حين ينشقّ الفجر ، وصلّ الأولى إذا زالت الشمس ، وصلّ العصر بعيدها ، وصلّ المغرب إذا سقط القرص ، وصلّ العتمة إذا غاب الشفق ، ثمّ أتاه من الغد ، فقال : أسفر بالفجر ، فأسفر ثمّ أخّر الظهر حين كان الوقت الذي صلّى فيه العصر ، وصلّى العصر بعيدها ، وصلّى المغرب قبل سقوط الشفق ، وصلّى العتمة حين ذهب ثلث الليل ، ثمّ قال : ما بين هذين الوقتين وقت» (٣) الحديث ؛ فإنّ أمره بأن يصلّي المغرب قبل سقوط الشفق ـ كما في هذا الخبر ـ لا يدلّ إلّا على تحديد آخر الوقت ، فمن الجائز أن يكون أتاه في اليوم الثاني أيضا حين غربت الشمس وقد أمره بأن يصلّي المغرب موسّعا في وقتها مادام بقاء الشفق ، فلا منافاة بينه وبين الأخبار المتقدّمة (٤) التي وقع فيها التصريح بأنّه أتى في اليوم الثاني أيضا حين غربت الشمس.
__________________
(١) التهذيب ٢ : ٢٥٣ / ١٠٠٢ ، الاستبصار ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ / ٩٢٤ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٧.
(٢) في ص ٩٣.
(٣) التهذيب ٢ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ / ١٠٠٤ ، الاستبصار ١ : ٢٥٨ / ٩٢٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، ح ٨.
(٤) آنفا.
هذا ، مع أنّه على تقدير أن يكون في اليوم الثاني آتيا بوقت آخر للمغرب ـ كما يستشعر من هذه الرواية ـ فلأجل قربه بالوقت الأوّل ومصادفته لوقت الفضيلة أو الاختيار الذي هو أوّل الوقتين المجعولين لكلّ صلاة نصّا وفتوى ، وكون مجموع الوقتين بمقدار أداء الفعل مع توابعه تقريبا ـ كما أشار إليه الكليني رحمهالله في عبارته المتقدّمة (١) ـ صحّ أن يقال : إنّ جبرئيل عليهالسلام أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله فجعل لكلّ صلاة وقتين إلّا المغرب.
والحاصل أنّه لا مانع عن حمل الأخبار المذكورة على إرادة الحصر الحقيقي بالتقريب المتقدّم ، ولا منافاة بينها وبينها وبين ما ذكره الأصحاب ودلّت عليه صحيحة ابن سنان ـ الآتية (٢) ـ من أنّ لكلّ صلاة وقتين ، سواء في ذلك المغرب وغيرها.
وبهذا ظهر لك الخدشة فيما ذكرناه من الاستدلال بهذه الأخبار لجواز تأخير سائر الصلوات اختيارا إلى الوقت الأخير المجعول لكلّ صلاة.
نعم ، يتّجه الاستدلال له بأخبار نزول جبرئيل عليهالسلام بالأوقات ، فإنّها تدلّ على أنّ مجيء جبرئيل عليهالسلام في اليوم الثاني في وقت مغاير للوقت الأوّل إنّما هو لبيان توسعة الوقت وجواز فعل الصلوات في الأوقات التي أتاه في الغد ، وقد أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله بفعلها بعد مجيئه في الوقت الأخير في حال لم يكن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ بحسب الظاهر ـ مضطرّا في التأخير ولا مريضا أو مسافرا أو نحو ذلك حتّى يكون مجيئه في تلك الحالة لبيان كون وقت مجيئه وقتا لها عند الضرورة.
__________________
(١) في ص ١٦٠.
(٢) في ص ١٧٤.
والحاصل أنّ هذه الروايات من أقوى الشواهد على جواز التأخير إلى الوقت الثاني اختيارا فيما عدا المغرب التي لم يأت لها إلّا بوقت واحد.
ويؤكّد دلالتها على المدّعى ما في خبر ذريح بعد بيان الأوقات : «وأوّل الوقت أفضله» (١) كما لا يخفى.
ويدلّ على جواز تأخير الظهرين والعشاءين إلى آخر أوقاتها اختيارا : قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (٢) فإنّه بعد أنّ علم أنّه لم يقصد بالآية الشريفة وجوب الاشتغال بالصلاة في مجموع المدّة وإنّما سيقت لإيجاب صلوات خاصّة في طول هذه المدّة ، فلا يتبادر منها إلّا إرادة تلك الصلوات في هذه المدّة على سبيل التوسعة ، ولكن ثبت بدليل خارجيّ تقييد الاوليين بكونهما قبل الغروب ، والاخريين بما بعده ، فيرفع اليد عن ظاهر الآية بمقدار دلالة الدليل.
فما في الحدائق ـ وفاقا لما حكاه عن شيخنا البهائي ـ من الخدشة في دلالة الآية : بأنّها لا تدلّ إلّا على كون مجموع هذه المدّة وقتا للصلوات في الجملة ، ولا ينافي ذلك كون آخر أوقات الصلوات أوقاتا اضطراريّة (٣) ، ضعيف ؛ فإنّ الآية ـ بحسب الظاهر ـ إمّا منزلة بعد شرعيّة الصلوات اليوميّة ونزول جبرئيل بها في أوقاتها الخمسة ، فاريد بالآية التوسعة في أوقات الصلوات المعهودة بجعل وقتها من دلوك الشمس إلى غسق الليل ، المفسّر في الأخبار المستفيضة بنصفه ، أو أنّها
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ١٦٨ ، الهامش (٣).
(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.
(٣) الحدائق الناضرة ٦ : ١١٣ ـ ١١٤ ، الحبل المتين : ١٣٥.
مسوقة ابتداء لإيجاب صلوات خاصّة على سبيل الإجمال في هذه المدّة المحدودة بين الحدّين ، فهي وإن كانت مجملة بالنسبة إلى أجزاء الصلوات وشرائطها وسائر خصوصيّاتها لكنّها بالنسبة إلى وقتها على سبيل الإجمال مبيّنة بمعنى أنّها تدلّ على أنّ مجموع هذه المدّة وقت لتلك الصلوات في الجملة ولو على سبيل التوزيع ، وحيث إنّ الخطاب بفعلها في طول هذه المدّة توجّه إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله من غير اعتبار الضرورة شرطا في جواز التأخير ، دلّت الآية على أنّ مجموع الوقت وقت اختياري لها على سبيل الإجمال ، فهي تدلّ على أنّ ما قبل انتصاف الليل وقت لتلك الصلوات في الجملة ولو لخصوص العشاء ، وكذا ما قبل الغروب وقت لها في الجملة ولو لخصوص العصر ، فيتمّ فيما عداهما بعدم القول بالفصل.
وممّا يؤكّد دلالة الآية على المدّعى : بعض الأخبار الواردة في تفسيرها ممّا هو بنفسه حجّة كافية.
مثل : ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام في تفسير الآية أنّه قال :«إنّ الله تعالى افترض أربع صلوات أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل ، منها : صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس ، إلّا أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل ، إلّا أنّ هذه قبل هذه» (١).
ويدلّ عليه أيضا صحيحة عبيد بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ٨٣ ، الهامش (١).
وقت الظهر والعصر ، فقال : «إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين : الظهر والعصر جميعا إلّا أنّ هذه قبل هذه ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتى تغيب الشمس» (١).
ومرسلة داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي أربع ركعات» (٢) الحديث.
ورواية زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «أحبّ الوقت إلىّ الله عزوجل أوّله حين يدخل وقت الصلاة فصلّ الفريضة ، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتى تغيب الشمس» (٣).
وصحيحة زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : «إنّ من الأمور أمورا مضيّقة وأمورا موسّعة ، وإنّ الوقت وقتان ، والصلاة ممّا فيه السعة ، فربّما عجّل رسول الله صلىاللهعليهوآله وربّما أخّر ، إلّا صلاة الجمعة فإنّ صلاة الجمعة من الأمر المضيّق إنّما لها وقت واحد حين تزول ، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيّام» (٤).
وما في الحدائق ـ من الخدشة في دلالة هذه الأخبار أيضا ـ كالآية
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ٨٢ ، الهامش (٤).
(٢) تقدّم تخريجها في ص ٨٥ ، الهامش (١).
(٣) تقدّم تخريجها في ص ٩٢ ، الهامش (١).
(٤) التهذيب ٣ : ١٣ / ٤٦ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب صلاة الجمعة ، ح ٣.
الشريفة ـ : بأنّ هذه الأدلّة كلّها لا تصريح ولا ظهور فيها بكون الامتداد إلى الغروب أو إلى الانتصاف وقتا للمختار ، كما هو المطلوب بالاستدلال ، وإنّما تدلّ على كونه وقتا في الجملة ، ويكفي في صدقه كونه وقتا لذوي الأعذار والاضطرار (١) ، انتهى ـ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ؛ ضرورة أنّ المتبادر من تحديد وقت التكاليف الموقّتة ليس إلّا إرادة الوقت الذي يجوز إتيانها فيه اختيارا ، كما لو سئل عن وقت صلاة الخسوف ، فقيل : من أوّله إلى زمان الأخذ في الانجلاء أو تمامه ، وعن وقت زكاة الفطرة أو غسل الجمعة ، فقيل : من طلوع الفجر إلى الزوال ، فهل يتوهّم أحد في مثل هذه الموارد شائبة إهمال أو إجمال خصوصا مع ما في بعضها ، كصحيحة عبيد : «ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتى تغيب الشمس» (٢) بل رواية زرارة ـ المتقدّمة (٣) ـ عن أبي جعفر عليهالسلام كبعض الأخبار الآتية كادت تكون صريحة في استحباب فعل الفريضة في أوّل الوقت ، وجواز تأخيرها اختيارا.
ويدلّ عليه أيضا الأخبار الكثيرة الدالّة على استحباب الصلاة في الوقت الأوّل ، وكونها أفضل منها في الوقت الأخير ؛ فإنّها تدلّ على جواز فعلها في الوقت الأخير ، ومرجوحيّتها بالإضافة.
مثل : ما رواه معاوية بن عمّار ـ أو ابن وهب ـ قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام :«لكلّ صلاة وقتان ، وأوّل الوقت أفضلهما» (٤).
__________________
(١) الحدائق الناضرة ٦ : ١١٣ ـ ١١٤.
(٢) تقدّم تخريجها في ص ٨٢ ، الهامش (٤).
(٣) في ص ٩٢ و ١٧٢.
(٤) الكافي ٣ : ٢٧٤ / ٤ ، التهذيب ٢ : ٤٠ / ١٢٥ ، الاستبصار ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ / ٨٧١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب المواقيت ، ح ١١.
وما رواه بكر بن محمّد الأزدي ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «لفضل الوقت الأوّل على الأخير خير للرجل من ولده وماله» (١).
وعن قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ فضل الوقت الأوّل على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا» (٢).
إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه.
واستدلّ في الحدائق لما اختاره ـ من كون الوقت الأوّل للمختار ، والثاني للمضطرّ وأوّلي الأعذار ـ بطوائف من الأخبار :
منها : ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : «لكلّ صلاة وقتان ، وأوّل الوقت أفضله ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلّا في عذر من غير علّة» (٣).
وما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا ، قال : قال الصادق عليهالسلام : «أوّل الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله ، والعفو لا يكون إلّا عن ذنب» (٤).
وما رواه الشيخ في التهذيب عن ربعي عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «إنّا لنقدّم ونؤخّر ، وليس كما يقال من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك ، وإنّما الرخصة للناسي والمريض والمدنف والمسافر والنائم في تأخيرها» (٥).
__________________
(١) الكافي ٣ : ٢٧٤ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٠ / ١٢٦ ، وفيه : «للمؤمن» بدل «للرجل» ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب المواقيت ، ح ١٤.
(٢) الكافي ٣ : ٢٧٤ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٤٠ ـ ٤١ / ١٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب المواقيت ، ح ١٥.
(٣) الكافي ٣ : ٢٧٤ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب المواقيت ، ح ١٣.
(٤) الفقيه ١ : ١٤٠ / ٦٥١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب المواقيت ، ح ١٦.
(٥) التهذيب ٢ : ٤١ / ١٣٢ ، الاستبصار ١ : ٢٦٢ / ٩٣٩ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب المواقيت ، ح ٧.
وما رواه الشيخ في التهذيب ـ في الصحيح ـ عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لكلّ صلاة وقتان ، وأوّل الوقتين أفضلهما ، ووقت صلاة الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء ، ولا ينبغي تأخير ذلك عمدا لكنّه وقت لمن شغل أو نسي أو سها ، ووقت المغرب حين تجب الشمس إلى أن تشتبك النجوم ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلّا من عذر أو علّة» (١).
ورواية إبراهيم الكرخي ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليهالسلام : متى يدخل وقت الظهر؟ قال : «إذا زالت الشمس» فقلت : متى يخرج وقتها؟ قال : «من بعد ما يمضي من زوالها أربعة أقدام ـ إلى أن قال ـ : وقت العصر إلى أن تغرب الشمس ، وذلك من علّة ، وهو تضييع» فقلت له : لو أنّ رجلا صلّى الظهر بعد ما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام أكان عندك غير مؤدّ لها؟ فقال : «إن كان فعل ذلك ليخالف السنّة والوقت لم يقبل منه ، كما لو أنّ رجلا أخّر العصر إلى قرب أن تغرب الشمس متعمّدا من غير علّة لم يقبل منه ، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله وقّت للصلوات المفروضات أوقاتا وحدّ لها حدودا في سنّته للناس ، فمن رغب عن سنّة من سننه الموجبات [كان مثل من] (٢) رغب عن فرائض الله تعالى» (٣).
ومنها : ما رواه في الكافي عن داود بن فرقد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام :قوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (٤) قال : «كتابا ثابتا ،
__________________
(١) التهذيب ٢ : ٣٩ / ١٢٣ ، الاستبصار ١ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ / ١٠٠٣ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب المواقيت ، ح ٥.
(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «كمن». وما أثبتناه من المصدر.
(٣) تقدّم تخريجها في ص ٩٧ ، الهامش (١).
(٤) النساء ٤ : ١٠٣.
وليس إنّ عجّلت قليلا وأخّرت قليلا بالذي يضرّك ما لم تضيّع تلك الإضاعة ، فإنّ الله عزوجل يقول لقوم (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (١)» (٢) بناء على ما عن بعض المحدّثين من أنّ المراد بالإضاعة التأخير عن وقت الفضيلة بلا عذر (٣).
وموثّقة أبي بصير قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «إنّ الموتور أهله وماله من ضيّع صلاة العصر» قلت : وما الموتور؟ قال : «لا يكون له أهل ومال في الجنّة» قلت : وما تضييعها؟ قال : «يدعها حتّى تصفرّ وتغيب» (٤).
وعن الفقه الرضوي : «اعلم أنّ لكلّ صلاة وقتين : أوّلا وآخرا ، فأوّل الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله ، ويروى أنّ لكلّ صلاة ثلاثة أوقات : أوّل ووسط وآخر ، فأوّل الوقت رضوان الله ، وأوسطه عفو الله ، وآخره غفران الله ، وأوّل الوقت أفضله ، وليس لأحد أن يتّخذ آخر الوقت وقتا ، إنّما جعل آخر الوقت للمريض والمعتلّ والمسافر.
وفيه أيضا بعد أن ذكر صلاة الظهر في استقبال القدم الثالث ، والعصر في استقبال القدم الخامس ، قال : «فإذا صلّى بعد ذلك ، فقد ضيّع الصلاة ، وهو قاض بعد الوقت».
وفيه أيضا في الباب المذكور بعد ذلك : «وجاء أنّ لكلّ صلاة وقتين : أوّلا و
__________________
(١) مريم ١٩ : ٥٩.
(٢) الكافي ٣ : ٢٧٠ / ١٣ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٤.
(٣) الوافي ٧ : ٥٣ ، ذيل ح ٥٤٦٤ ـ ١٩ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٩١.
(٤) التهذيب ٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ / ١٠١٨ ، الاستبصار ١ : ٢٥٩ / ٩٣٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب المواقيت ، ح ١.
آخرا ، كما ذكرنا في أوّل الباب ، وأوّل الوقت أفضلهما ، وإنّما جعل آخر الوقت للمعلول فصار آخر الوقت رخصة للضعيف لحال علّته ونفسه وماله» إلى آخره.
وفي موضع آخر بعد ما ذكر التحديد بالقدمين والأربعة : «وقد رخّص للعليل والمسافر منها (١) إلى أن يبلغ ستّة أقدام وللمضطرّ إلى مغيب الشمس» (٢).
واستدلّ أيضا بالأخبار التي ورد فيها الأمر بالمحافظة على الصلوات في مواقيتها ؛ إذ الظاهر أنّ المراد بالمواقيت ـ التي ورد الحثّ والترغيب على محافظتها ـ هي الأوقات الأوائل ، كما لا يخفى على المتأمّل.
واستدلّ أيضا بالأخبار المتقدّمة الواردة في وضع الأوقات ، وإشارة جبرئيل عليهالسلام بها إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله (٣). انتهى ملخّصا.
وقد عرفت آنفا أنّ الطائفة الأخيرة ـ أي الأخبار الواردة في وضع الأوقات ـ من أقوى الأدلّة على ضعف هذا القول ، وجواز تأخير الصلاة إلى الوقت الأخير اختيارا.
ولكنّه رحمهالله زعم أنّ مجيء جبرئيل عليهالسلام في اليوم الثاني لم يكن إلّا لبيان انتهاء الوقت الأوّل الذي هو الوقت الحقيقي عند مجيئه ، لا لبيان كون هذا الوقت أيضا من حيث هو وقتا لها حتّى يدلّ على جواز فعلها فيه اختيارا ، ولذا لم يحدّد آخره.
وفيه ما لا يخفى.
__________________
(١) في المصدر : «فيهما» بدل «منها».
(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليهالسلام : ٧١ و ٧٣ و ٧٥ و ١٠٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٩٢.
(٣) الحدائق الناضرة ٦ : ٩٠ ـ ٩٥.
وأمّا روايتا (١) ابن سنان ـ المرويّتان عن التهذيب والكافي ـ وإن كان ظاهر ذيلهما ـ وهو قوله عليهالسلام : «وليس لأحد أن يجعل» إلى آخره ـ عدم جواز التأخير لا لعذر ، لكن ظاهر صدرهما خلافه ؛ فإنّ قضيّة أفضليّة أوّل الوقتين مشاركة الوقت الأخير له في أصل الفضيلة ، وكون التقديم مستحبّا ، ولذا استدلّ غير واحد بهذه الفقرة للمشهور.
وما عن بعض (٢) من الخدشة في دلالة الأفضليّة على ذلك : بدعوى أنّ التكاليف الاختياريّة أفضل من تكاليف اولي الأعذار ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.
نعم ، بناء على أن يكون مراد القائلين بكون الوقت الأخير لاولي الأعذار عدم جواز التأخير اختيارا ، لا صيرورتها قضاء بحيث يعامل معها معاملة الفوائت ـ كما صرّح به بعضهم (٣) على وجه يظهر منه كونه من المسلّمات ـ يمكن الخدشة فيما ذكر في تقريب الاستدلال ـ من أنّ قضيّة الأفضليّة مشاركة الوقتين في أصل الفضيلة ـ : بأنّ المشاركة في الفضيلة لا تنافي وجوب المسابقة إلى الأفضل وحرمة تفويت ما فيه من المزيّة ، فالخصم لا ينكر مشاركة الوقتين في أصل الفضيلة ، ولذا أوجب اختيار الوقت الأخير على تقدير تفويت الأفضل.
فالأولى أن يقال في تقريب الاستدلال : إنّ ظاهر قوله عليهالسلام : «إنّ لكلّ صلاة وقتين وأوّل الوقتين أفضلهما» (٤) ـ على ما يتبادر منه عرفا ـ ليس إلّا استحباب
__________________
(١) تقدّمتا في ص ١٧٤ و ١٧٥.
(٢) راجع : الوافي ٧ : ٢١٠.
(٣) لم نتحقّقه.
(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٧٥ ، الهامش (١).
اختيار أوّل الوقتين ، وجواز الأخير على سبيل المرجوحيّة بالإضافة.
ويؤيّد ذلك قوله عليهالسلام فيما رواه في التهذيب : «ولا ينبغي تأخير ذلك عمدا» (١) فإنّ كلمة «لا ينبغي» ظاهرة في الكراهة ، ولا يصلح الاستدراك الواقع بعدها لصرفها عن هذا الظاهر ، فإنّه لم يقصد منه على الظاهر بيان الحكم الوضعي ، أعني اختصاص الوقت الأخير حقيقة بمن شغل أو نسي أوسها بحيث يكون بالنسبة إلى غيرهم كخارج الوقت ، وإلّا لعارضه جلّ أخبار الباب ، مع مخالفته لظاهر سائر فقرات الرواية ، كما لا يخفى على المتأمّل. فالمراد بكون الوقت لهم كونهم مرخّصين في التأخير في مقابل المنع الثابت لغيرهم ، الذي اريد من قوله عليهالسلام : «ولا ينبغي تأخير ذلك عمدا» فيكون ظهور «لا ينبغي» هو المرجع في تشخيص المراد من الاستدراك.
وكيف كان فيتوجّه على الاستدلال بها للمشهور ما عرفته من معارضة ظهور الصدر في الاستحباب بظهور الفقرة الأخيرة في عدم الجواز لغير اولي الأعذار.
ولا يبعد أن يكون ظهور الذيل في المنع أقوى من ظهور الصدر في الجواز لو لا المرجّحات الخارجيّة ، لكن لا يصلح مثل هذا الظهور ـ بعد تسليمه ـ لمعارضة الأدلّة المتقدّمة ، كما هو واضح.
هذا ، مع أنّ الظاهر اتّحاد روايتي ابن سنان ، المرويّتين عن الكافي والتهذيب ، فقوله عليهالسلام : «وليس لأحد» إلى آخره ، كان مذكورا في الرواية بعد بيان
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ١٧٥ ، الهامش (١).
وقت المغرب ، فيحتمل قويّا إرادتهما بالنسبة إلى صلاة المغرب ؛ إذ الظاهر أنّ تخصيص صلاتي الفجر والمغرب ببيان وقتهما الأوّل وجعله تفسيرا لمطلق وقتهما للتنبيه على مزيّة أفضليّتهما فيه ، وكون وقتهما الثاني لغير اولي الأعذار بمنزلة خارج الوقت ، فكأنّه قال من باب المبالغة : ووقت صلاة الفجر هو وقتها الأوّل الذي هو عبارة عمّا بين الطلوع إلى أن يتجلّل الصبح السماء ، ولا ينبغي تأخيرها عن ذلك إلى وقتها الأخير ، فإنّه وقت لأولي الأعذار ، ووقت المغرب أيضا كذلك هو وقتها الأوّل ، فلا يبعد أن يكون قوله عليهالسلام : «وليس لأحد» إلى آخره ، بمنزلة قوله عليهالسلام : «ولا ينبغي تأخير ذلك» بعد بيان وقت الفجر في كونه مربوطا بما تقدّمه ، فليتأمّل.
وأمّا مرسلة (١) الفقيه : ففيها ـ مع احتمال أن يكون ما في ذيلها «والعفو لا يكون إلّا عن ذنب» من عبارة الصدوق ـ : أنّها لا تنهض دليلا لإثبات أزيد من الكراهة ، لا لإرسالها أو كون الإخبار بالعفو في المحرّمات قبل تحقّقها منافيا للغرض الباعث على التحريم ، بل لأنّ المتبادر من مثل هذه الرواية ـ خصوصا بعد تصريح الشارع بتوسعة الوقت في جواب من سأله عن أوقات الصلاة ـ ليس إلّا إرادة أفضليّة أوّل الوقت ، لا حرمة التأخير ، بل المتبادر منها ليس إلّا جواز التأخير ، غاية الأمر أنّ ما في ذيلها من قوله : «والعفو لا يكون إلّا عن ذنب» يدلّ على كون التأخير متضمّنا لذنب مصحّح لإطلاق العفو ، وهو أعمّ من الذنب المصحّح للعقاب ، فإنّه يكفي في ذلك ارتكاب العبد ما لا يناسبه في مقام العبوديّة ممّا
__________________
(١) تقدّم تخريجها في ص ١٧٤ ، الهامش (٤).