مصباح الفقيه - ج ٧

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٧

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

١
٢

٣

٤

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(الركن الرابع) من كتاب الطهارة : (في النجاسات وأحكامها).

أمّا النجاسة فهي لغة : القذارة.

وفي عرف الشارع والمتشرّعة : قذارة خاصّة مجهولة الكنه لدينا اقتضت وجوب هجرها في أمور مخصوصة ، فكلّ جسم خلا عن تلك القذارة فهو طاهر نظيف شرعا.

وهل هي صفة متأصّلة مقتضية لإيجاب الهجر ، أو أنّها منتزعة من حكم الشارع بالهجر في تلك الأمور لمصلحة رآها الشارع؟ وجهان ، بل قولان ، أشبههما بظواهر الأدلّة : الأوّل.

وكيف كان يقع (القول) في هذا الركن في مقامين :

الأوّل : (في) تشخيص أعيان (النجاسات).

٧

(وهي عشرة أنواع) على ما في المتن وغيره من جملة من الكتب ، بل ولعلّه هو المشهور.

(الأوّل والثاني) : ما يستحقّ إطلاق اسم (البول والغائط) عليه عرفا ، ولا يصحّ سلب الاسم عنه حقيقة ، فمثل الدود والحبّ الخارج من المحلّ صحيحا غير مستحيل خارج من الموضوع ، من كلّ حيوان (ممّا لا) يجوز أن (يؤكل لحمه) آدميّا كان أم غيره (إذا كان للحيوان نفس سائلة).

والبحث عن نجاسة فضلات المعصومين المنزّهين عن الرجس إساءة الأدب.

والذي تقتضيه القواعد التعبّديّة : التجنّب عنها في المأكول والمشروب والصلاة ونحوها من الأمور المشروطة بالطهارة ، فلعلّ حكمته الاطّراد في الحكم أو غيره من الحكم المقتضية للاجتناب ، لا الاستقذار ، فليس علينا البحث عن تحقيق السبب بعد إطلاق الأمر بإزالة البول عن الثوب عند إرادة الصلاة ، والنهي عن شربه ، ولم يثبت ما يقتضي التقييد بالنسبة إلى أحد وإن روي أن أمّ أيمن شربت بول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذن لا تلج النار بطنك» (١) فلذلك قال الشافعي بطهارة بوله على ما قيل (٢). لكنّ الرواية لم تثبت.

وكيف كان فلا شبهة ولا خلاف في نجاسة البول والغائط من كلّ حيوان ذي نفس سائلة لا يؤكل لحمه ، عدا ما سيأتي التكلّم فيه ، بل عن المعتبر : أجمع

__________________

(١) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز ١ : ٣٧ ، وانظر : المستدرك ـ للحاكم ـ ٤ : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) القائل هو المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤١٠ ـ ٤١١ ، وانظر : العزيز شرح الوجيز ١ : ٣٦.

٨

علماء الإسلام على نجاسة البول والغائط ممّا لا يؤكل لحمه ، سواء كان ذلك من الإنسان أو غيره إذا كان ذا نفس سائلة (١). انتهى.

والمراد بالنفس السائلة ـ على ما نسب إلى أهل اللغة والأصحاب ـ الدم الذي يجتمع في العروق ، ويخرج عند قطعها بقوّة ودفق ، لا كدم السمك (٢) ، بل هذا هو المتبادر من توصيف النفس بالسائلة في مقام التحديد ، لا مطلق الجريان ، كما قد يتوهّم.

وكيف كان فمراد الأصحاب بالسائلة ـ على الظاهر ـ ليس إلّا ما عرفت وإن اختلفت عبائر بعضهم ، إذ لا خلاف عندهم ـ على الظاهر ـ في كون السمك ونحوه ـ ممّا يخرج دمه بالرشح ـ من غير ذي النفس ، مع جريان دمه عند الخروج وبعده.

فمناقشة بعض (٣) في تفسير مرادهم بما عرفت ـ نظرا إلى كون السيلان عرفا مساوقا للجريان الذي هو أعمّ من ذلك ـ في غير محلّها.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ نجاسة البول والعذرة من الإنسان بل وبعض صنوف الحيوانات كالهرّة والكلب ونحوهما كادت تكون ضروريّة ، كطهارة الماء ، بل قد أشرنا إلى انعقاد الإجماع على نجاستهما في غير ما سيأتي الكلام فيه ، فلا ينبغي إطالة الكلام بذكر الأخبار الخاصّة المتظافرة الدالّة على نجاستهما من الإنسان أو من غيره ممّا لا شبهة فيه ، وإنّما الإشكال في تشخيص الحكم في المورد الذي

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٥٨ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤١٠.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٣٦ ، وانظر أيضا الحدائق الناضرة ٥ : ٢.

(٣) لم نتحقّقه.

٩

وقع الخلاف فيه ، وهو في مقامين :

أحدهما : في خرء غير المأكول من الطير وبوله.

وقد نسب إلى المشهور القول بنجاستهما (١).

وعن بعض دعوى الإجماع عليها (٢) صريحا ، كما هو ظاهر غيره ممّن ادّعى الإجماع على نجاستهما من غير مأكول اللحم مطلقا.

لكن تصريح بعضهم (٣) ـ بعد أن ادّعى الإجماع على الإطلاق ـ بوقوع الخلاف في الطير ربّما يشهد بإرادته من معقد إجماعه ما عداه.

وكيف كان فقد حكي عن الصدوق والعماني والجعفي القول بطهارتهما (٤).

وعن الشيخ في المبسوط موافقتهم ، إلّا أنّه استثنى منه الخشّاف (٥).

وعن العلّامة في المنتهى وشارح الدروس وكاشف الأسرار والفخريّة وشرحها وشرح الفقيه للمجلسي وحديقته والمفاتيح كما في كشف اللثام والمدارك والحدائق والمستند متابعتهم (٦).

__________________

(١) نسبه إليه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٣٨٩ ، وكذا صاحب الجواهر فيها ٥ : ٢٧٥ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٣٦.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٣٦ عن المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤١٠.

(٣) كالمحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤١٠ و ٤١١ ، والعلّامة الحلّي في منتهى المطلب ١ : ١٥٩.

(٤) حكاه عنهم الشهيد في الذكرى ١ : ٢١٠ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٥٩ ، وانظر : الفقيه ١ : ٤١.

(٥) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ١ : ١١٠ ، وكذا العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٥٩ ، وانظر :المبسوط ١ : ٣٩.

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، مشارق الشموس : ٢٩٦ ، روضة المتّقين ١ : ٢١٠ ـ ٢١١ ، مفاتيح الشرائع ١ : ٦٥ ، كشف اللثام ١ : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، مدارك الأحكام ٢ : ٢٦٢ ، الحدائق الناضرة ٥ : ١١ ، مستند الشيعة ١ : ١٤١ ، وأمّا كشف الأسرار والفخريّة وشرحها والحديقة للمجلسي فبعضها مخطوط ، وبعضها لم يكن متوفّرا لدينا ، وانظر أيضا جواهر الكلام ٥ : ٢٧٥ ، وكتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٣٦.

١٠

لكن في المدارك بعد جزمه بطهارة الخرء تردّد في البول نوع تردّد ، إلّا أنّه قوّى طهارته أيضا (١).

وحكي عن البحار والذخيرة القول بطهارة الذرق مع التردّد في البول (٢).

حجّة القول بالطهارة مطلقا بعد الأصل وعموم «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (٣) خصوص موثّقة أبي بصير ـ بل مصحّحته ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :«كلّ شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله» (٤).

واستدلّ له أيضا في المدارك بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطائر وغيره هل يحكّه وهو في صلاته؟ قال : «لا بأس» (٥) فإنّ ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يفيد العموم (٦).

وفيه : أنّ الجواب مسوق لنفي البأس عن الحكّ ـ الذي استفهم السائل

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٢٦٢.

(٢) بحار الأنوار ٨٠ : ١١١ ، ذخيرة المعاد : ١٤٥ ، وانظر : جواهر الكلام ٥ : ٢٧٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٤) الكافي ٣ : ٥٨ / ٩ ، التهذيب ١ : ٢٦٦ / ٧٧٩ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٥) الفقيه ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥ / ٧٧٥ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ١.

(٦) مدارك الأحكام ٢ : ٢٦٠.

١١

عنه ـ في الصلاة ، واحتمل كونه منافيا للصلاة ، لا عن خرء الطائر وغيره الذي جرى ذكرهما في السؤال من باب المثال ، فلو كان ترك الاستفصال مقتضيا للعموم في الخرء ، لكان في غيره أيضا كذلك ، وهو كما ترى.

وأجاب العلّامة في محكيّ (١) المختلف عن موثّقة أبي بصير : بأنّها مخصوصة بالخشّاف إجماعا ، فيختصّ بما شاركه في العلّة ، وهو عدم كونه مأكولا (٢). انتهى.

فكأنّه أراد بهذا الجواب إبطال استدلال الشيخ بالرواية لمذهبه ، فمراده بالإجماع موافقة الخصم ، لا الإجماع المصطلح حتّى يورد عليه بمناقضته لما حكاه في صدر المسألة عن ابن بابويه وابن أبي عقيل من القول بالطهارة مطلقا (٣).

وأمّا ما فرّعه عليه من إلحاق ما شاركه في العلّة فهو بظاهره قياس محض في مقابل النصّ حتّى أنّه اعترضه غير واحد بذلك.

لكنّه على الظاهر أراد بذلك تحكيم ما دلّ على نجاسة البول والعذرة من غير المأكول مطلقا على هذه الرواية في مورد الاحتمال بجعل الخشّاف شاهدا عليه حيث يختلّ به عموم الرواية ، وتتقوّى به أدلّة المشهور.

وكيف كان فستعرف ما في هذه المحاكمة.

واستدلّ للمشهور : بالإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة المحقّقة.

__________________

(١) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٦١.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٩٩ ، ذيل المسألة ٢٢٠.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٩٨ ، المسألة ٢٢٠.

١٢

وحسنة عبد الله بن سنان ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (١).

وفي رواية أخرى عنه : «اغسل ثوبك من بول كلّ ما لا يؤكل لحمه». (٢)

والمناقشة فيهما : بأنّ وجوب الغسل لازم أعمّ ، لإمكان كونه واجبا تعبّديّا ، أو لإزالة أجزاء غير المأكول ممّا لا ينبغي الالتفات إليها بعد معهوديّة نجاسة البول في الجملة من الصدر الأوّل ، وكون المقصود بالحكم في الأخبار المتظافرة الواردة في مطلق البول بيان حكمه من حيث النجاسة.

كما يشهد بذلك ـ مضافا إلى التدبّر في الأخبار ـ فهم الأصحاب النجاسة من الأمر بالغسل في مثل هذه الموارد ، بل المتبادر عرفا من الأمر بغسل الثوب من البول ليس إلّا إرادة تنظيفه منه ، فيفهم من ذلك أنّ البول لدى الشارع من القذارات التي تجب إزالتها ، وهذا معنى النجاسة.

واستدلّ لهم أيضا : بمفهوم الوصف الوارد في مقام بيان الضابط في موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كلّ ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» (٣).

وحسنة زرارة أنّهما قالا : «لا تغسل ثوبك من بول شي‌ء يؤكل لحمه» (٤).

والمرويّ عن قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا بأس ببول ما أكل لحمه» (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٧ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٦٤ / ٧٧٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ١٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٣) التهذيب ١ : ٢٦٦ / ٧٨١ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب النجاسات ، ح ١٢.

(٤) الكافي ٣ : ٥٧ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٦ / ٧١٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٥) قرب الإسناد : ١٥٦ / ٥٧٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب النجاسات ، ح ١٧.

١٣

وفيه : أنّها مسوقة لبيان ضابط الطهارة ، فلا يستفاد منها الانتفاء عند الانتفاء على الإطلاق.

نعم ، قد يستشعر منها ذلك استشعارا ضعيفا لا يعتدّ به ، كاستشعار النجاسة في غير الطير من قوله عليه‌السلام : «الذي يطير فلا بأس بخرئه وبوله» (١).

نعم ، لا بأس بعدّ مثل هذه الأمور مؤيّدات للمشهور ، كما أنّه يؤيّدهم أيضا معروفيّة الملازمة بين حلّيّة الأكل وطهارة البول عند الرواة ، كما يفصح عن ذلك خبر زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام في أبوال الدوابّ تصيب الثوب فكرهه ، فقلت : أليس لحومها حلالا؟ فقال : «بلى ولكن ليس ممّا جعله الله للأكل» (٢) فيظن بمثل هذه المؤيّدات ثبوت الملازمة بين الحرمة والنجاسة أيضا وإن كان قد يوهن بمثل هذه الرواية إشعار الروايات السابقة أيضا حيث ظهر منها إناطة نفي البأس بكون الحيوان معدّا للأكل ، فيكون المراد بالبأس ـ الثابت بالمفهوم ـ ما يعمّ الكراهة.

كما يؤيّد هذا المعنى رواية عبد الرحمن عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل يمسّه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال : «يغسل بول الفرس والحمار والبغل ، فأمّا (٣) الشاة وكلّ ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» (٤).

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١١ ، الهامش (٤) وفي المصدر : «كلّ شي‌ء يطير ..».

(٢) الكافي ٣ : ٥٧ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٦٤ / ٧٧٢ ، الإستبصار ١ : ١٧٩ / ٦٢٦ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

(٣) في «ض ١١» والاستبصار : «وأمّا».

(٤) التهذيب ١ : ٢٤٧ / ٧١١ ، الإستبصار ١ : ١٧٩ / ٦٢٤ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب النجاسات ، ح ٩.

١٤

وكيف كان فغاية ما يمكن استفادته من الأخبار المتقدّمة نجاسة بول غير المأكول ، وأمّا نجاسة خرئه مطلقا فربما يستدلّ لها بالإجماع المركّب ، وبالأخبار الدالّة على نجاسة العذرة مطلقا.

مثل : مرسلة موسى بن أكيل عن بعض أصحابه عن أبي جعفر عليه‌السلام في شاة شربت بولا ثمّ ذبحت ، فقال : «يغسل ما في جوفها ثمّ لا بأس به ، وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلّالة» (١) ورواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطأ في العذرة أو البول أيعيد الوضوء؟ قال : «لا ، ولكن يغسل ما أصابه» (٢) فإنّ ترك الاستفصال في مثل هذه الروايات يفيد العموم ، والعذرة ـ على ما يظهر من غير واحد من اللغويّين ـ مرادفة للخرء ، فيتمّ الاستدلال ، ولا اعتداد بما يظهر من بعضهم (٣) من اختصاصها بفضلة الإنسان.

وفيه : بعد تسليم كونها حقيقة في الأعمّ ، فلا ينبغي التأمّل في انصرافها في مثل هذه الأخبار إلى عذرة الإنسان خصوصا بملاحظة استلزام التعميم ارتكاب التخصيص بإخراج مأكول اللحم ، ولا أقلّ من انصرافها عن رجيع الطير ، كفضلات ما لا نفس له. فعمدة المستند للتعميم هو الإجماع وعدم القول بالفصل ، المعتضد ببعض المؤيّدات المورثة للوثوق بعدم الفرق بينها وبين البول من كلّ حيوان من حيث النجاسة والطهارة.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٥١ ـ ٢٥٢ / ٥ ، التهذيب ٩ : ٤٧ / ١٩٤ ، الإستبصار ٤ : ٧٨ / ٢٨٧ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩ / ٤ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٢.

(٣) النهاية ـ لابن الأثير ـ ٣ : ١٩٩.

١٥

وما سمعته من بعض (١) المتأخّرين من الترديد فيه لا يوجب الوسوسة في الحكم بعد احتفاف نقل الإجماع بأمارات الصدق ، فالشأن إنّما هو في إثبات نجاسة بول الطير ، فإنّ عمدة مستندها حسنة ابن سنان ، المتقدّمة (٢).

وأمّا نقل الإجماع : فلا اعتداد به بعد تحقّق الخلاف قديما وحديثا وتصريح غير واحد من ناقلية بذلك.

وأمّا الحسنة : فلا تصلح لمعارضة الموثّقة ، لضعف ظهورها بالنسبة إلى الطير ، بل ربما يدّعى انصرافها عنه بعدم (٣) معهوديّة البول للطير أو ندرته ، كما في الخشّاف.

ولا ينافي ذلك وقوع التصريح بنفي البأس عنه في الموثّقة ، لكونها مسوقة لبيان إعطاء الضابط ، فلا ينافيه ندرته بل عدم وجوده بالفعل ، بل يكفي فيه مجرّد الفرض الغير المستحيل في العادة ، وهذا بخلاف الحسنة التي ورد الأمر فيها بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، فإنّ المتبادر منه إرادة الحيوانات التي يتعارف لها البول ، ويتعارف وصول بولها إلى الثوب ، دون الفرضيّات.

هذا ، مع إمكان أن يدّعى انصراف إطلاق مأكول اللحم وغيره عن مثل الخشاف ونحوه ممّا لا اعتداد بلحمه عرفا.

لكنّ الإنصاف أنّ دعوى انصراف مثل قوله : «اغسل ثوبك من بول كلّ ما

__________________

(١) أي : صاحبا البحار والذخيرة ، وتقدّم قولهما في ص ١١.

(٢) في ص ١٣.

(٣) في «ض ١٠ و ١١» : «لعدم».

١٦

لا يؤكل لحمه» (١) عن مثل الخشّاف مع عموم الابتلاء به ووفور بوله إن كان ما يقذفه من الماء حال الطيران بوله ـ كما هو الظاهر ـ لا من حلقه ـ كما احتمله بعض ـ غير مسموعة.

فالأولى هو الاعتراف بدلالة الرواية على المدّعى ، لكنّها قاصرة عن معارضة الموثّقة التي هي صريحة في نفي البأس ، وكالصريحة في العموم ، بل يتعذّر ارتكاب التخصيص في الموثّقة بحملها على إرادة خصوص مأكول اللحم من الطير ، لأنّ تقييد الموضوع بوصف الطيران من غير أن يكون له مدخليّة في الحكم ولا في إحراز موضوعه وكون المناط حلّيّة الأكل من غير فرق بين الطائر وغيره في حدّ ذاته مستهجن عرفا ولو بقرينة متّصلة ، كما لو قال : «الذي يؤكل لحمه ويطير» إلى آخره ، فضلا عن أن يؤخذ الموصوف مستقلّا عنوانا للموضوع في مقام إعطاء القاعدة.

ولو سلّم قبولها للتخصيص ، فلا شبهة في أنّ التصرّف في الحسنة أهون.

ولو سلّم المكافئة الموجبة لإجمال الروايتين في مورد الاجتماع ، فالمرجع على الأظهر عموم «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) لا المرجّحات السنديّة ، كما في المتعارضين المتباينين.

ولو سلّم الرجوع إلى المرجّحات السنديّة ، أيضا لا يبعد أرجحيّة الموثّقة ، لأوثقيّة رجالها ، ولا أقلّ من مكافئتها للحسنة.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٣ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١١ ، الهامش (٣).

١٧

وتوهّم كون الحسنة مشهورة بين الأصحاب فتترجّح بذلك على الموثّقة مدفوع بأنّ المسلّم فتوى المشهور بمضمون الحسنة ، ولم يثبت بل لم يظنّ باستنادهم إليها في فتواهم حتى يترجّح بذلك سندها ، بل المظنون كون الموثّقة من الروايات المشهورة التي عرفها كلّ الأصحاب ، وعمل بها بعضهم ، وطرحها الآخرون ، وهذا لا يوجب وهنا في سندها.

ولو سلّم أرجحيّة الحسنة بواسطة الشهرة بل سقوط الموثّقة عن الحجّيّة ، لإعراض المشهور ، فغاية ما يفهم منها نجاسة بول الطير الغير المأكول ، ولم يعرف لغير الخشّاف من الطيور بول حتّى يتمّ به الاستدلال لمذهب المشهور ، لعدم القول بالفرق ، بل المعروف اختصاص الخشّاف بالبول ، والقول بالتفصيل بينه وبين غيره من الطيور محقّق ، كما سمعته من الشيخ.

ومن هنا ظهر لك وجه آخر لعدم إمكان تخصيص الموثّقة بالحسنة حيث إنّ الظاهر عدم البول لما يؤكل لحمه من الطيور ، فتكون الموثّقة بمنزلة الخاصّ المطلق ، فيخصّص بها إطلاق الحسنة.

وكيف كان فلا شبهة في عدم صلاحيّة الحسنة لمعارضة الموثّقة بوجه.

وقد اعترف بذلك شيخ مشايخنا المرتضى (١) رحمه‌الله.

لكنّه رجّح مقالة المشهور بمفهوم موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :«خرء الخطّاف لا بأس به هو ممّا يؤكل لحمه ، ولكن كره أكله لأنّه استجار بك

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٣٧.

١٨

وآوى إلى منزلك ، وكلّ طير يستجير بك فأجره» (١) حيث علّل الطهارة بأكل اللحم لا بالطيران.

وفيه : أنّ غايته الإشعار بالعلّيّة.

ولعلّ النكتة في ذكر قوله عليه‌السلام : «هو ممّا يؤكل لحمه» التنبيه على تحقّق حلّ اللحم الذي هو في حدّ ذاته سبب لنفي البأس ولو من غير طيران ، فلا ينافي ذلك كون الطيران أيضا سببا.

وعلى تقدير تسليم ظهوره في المدّعى فليس على وجه يعارض ظهور الموثّقة التي عرفت عدم قبولها للصرف ، بل لو سلّم صراحتها في السببيّة المنحصرة ، لتعيّن حمل البأس المفهوم منها على ما يعمّ الكراهة ، كما في رواية عبد الرحمن ، المتقدّمة (٢) ، جمعا بينها وبين الموثّقة.

فظهر بما ذكرنا عدم صلاحيّة شي‌ء من المذكورات لإثبات مذهب المشهور ، فالقائل بالطهارة مستظهر بحجّيّة ، بل لو لم يكن له النصّ الخاصّ ، لكفاه الأصل ، وعموم «كلّ شي‌ء نظيف» (٣) إلى آخره.

لكنّ الذي أوقعنا في الريبة من هذا القول وضوح ضعف مستند المشهور ، وعدم صلاحيّته لمعارضة الأصل ، فضلا عن النصّ الخاصّ ، فيظنّ بذلك أنّ استدلالهم بمثل هذه الأدلّة لم يكن إلّا من باب تطبيق الدليل على المدّعى ،

__________________

(١) أوردها العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٨ : ٣١٠ ، ضمن المسألة ٢٥ نقلا عن كتاب عمّار ابن موسى.

(٢) في ص ١٤.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١١ ، الهامش (٣).

١٩

لا استفادة المدّعى من الدليل.

فالذي يغلب على الظنّ معهوديّة الكلّيّة ـ أعني نجاسة البول والخرء من كلّ ما لا يؤكل لحمه ـ لديهم ، ووصولها إليهم يدا بيد على سبيل الإجمال ، كجملة من أحكام النجاسات ، فلمّا أرادوا إثباتها بالبرهان تشبّثوا بمثل هذه الأدلّة القاصرة ، ومن خالفهم نظر إلى قصور الأدلّة ، لا إلى معهوديّة المدّعي ، التي ألجأتهم إلى الاستدلال بها.

فالإنصاف أنّ مخالفة المشهور في مثل هذا الفرع في غاية الإشكال ، لكن موافقتهم ـ بطرح النصّ الخاصّ ورفع اليد عن الأصول المعتبرة ما لم يحصل القطع بتحقّق الكلّيّة في الشريعة على وجه لا تقبل التخصيص ـ أشكل ، فالمسألة موقع تردّد ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

هذا كلّه في غير الخشّاف ، وأمّا الخشّاف فقد يقال بأنّ المتعيّن نجاسة بوله ، لرواية داود الرقّي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فأطلبه ولا أجده ، قال : «اغسل ثوبك» (١).

وهذه الرواية مستند الشيخ في استثنائه الخشّاف في المبسوط على ما حكي (٢) عنه.

وفيه : أنّها معارضة بما رواه غياث عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : «لا بأس

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٦٥ / ٧٧٧ ، الإستبصار ١ : ١٨٨ / ٦٥٨ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٢) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ١ : ١١٠ ، وكذا العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٢٥٩ ، وانظر :المبسوط ١ : ٣٩.

٢٠