مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

١
٢

٣
٤

٥
٦

(القول) [في المقام] (١) الثاني (في أحكام النجاسات).

المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ أنّ كلّ ما حكم بنجاسته شرعا يؤثّر في تنجيس ما يلاقيه برطوبة مسرية ، عدا الماء الكثير وشبهه ، بل القليل أيضا في الجملة أو مطلقا على الخلاف المتقدّم في محلّه ، فينجّس الملاقي له وينجس ما يلاقيه وهكذا بلغ ما بلغ.

وقد وقع الخلاف في ذلك في مقامين :

الأوّل : في اشتراط الرطوبة في السراية ، وقد أنكره غير واحد في الميتة إمّا مطلقا أو في خصوص ميّت الإنسان ، فزعموا سراية النجاسة منها إلى ما يلاقيها ولو مع الجفاف.

وقد تقدّم (٢) تفصيل الكلام فيه مع ما فيه من الضعف في محلّه.

الثاني : في سراية النجاسة من كلّ ما حكم بنجاسته إلى ملاقيه.

وقد خالف في ذلك ابن إدريس ، فإنّه قال في السرائر ـ بعد الكلام في

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق. وقد مرّ المقام الأوّل في ج ٧ ، ص ٧.

(٢) في ج ٧ ، ص ٥٦ وما بعدها.

٧

تغسيل الميّت ـ : ويغتسل الغاسل فرضا واجبا في الحال أو فيما بعد ، فإن مسّ مائعا قبل اغتساله وخالطه ، لا يفسده ولا ينجّسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميّت من قبل غسله إناء ثمّ أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع ، فإنّه لا ينجس ذلك المائع وإن كان الإناء يجب غسله ، لأنّه لاقى جسد الميّت ، وليس كذلك المائع الذي حصل فيه ، لأنّه لم يلاق جسد الميّت ، وحمله على ذلك قياس وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل قاطع للعذر وإن كنّا متعبّدين بغسل ما لاقى جسد الميّت ، لأنّ هذه نجاسات حكميّات وليست بعينيّات ، والأحكام الشرعيّة نثبتها بحسب الأدلّة الشرعيّة.

ولا خلاف أيضا بين الأمّة كافّة أنّ المساجد يجب أن تنزّه وتجنّب النجاسات العينيّة ، وقد أجمعنا بلا خلاف في ذلك بيننا على أنّ من غسّل ميّتا له أن يدخل المسجد ويجلس فيه فضلا عن مروره وجوازه ودخوله إليه ، فلو كان نجس العين ، لما جاز ذلك ، وأدّى إلى تناقض الأدلّة.

وأيضا فإنّ الماء المستعمل في الطهارة على ضربين : ماء استعمل في الصغرى ، والآخر ما استعمل في الكبرى ، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا أنّه طاهر مطهّر ، والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصحيح عند محقّقي أصحابنا أنّه أيضا طاهر مطهّر ، ومن خالف فيه من أصحابنا من قال : هو طاهر يزيل النجاسات العينيّات ، ولا يرفع به الحكميّات ، فقد اتّفقوا جميعا على أنّه طاهر ، ومن جملة الأغسال والطهارات الكبار غسل من غسّل ميّتا ، فلو نجس ما يلاقيه من المائعات ، لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله وإزالة حدثه طاهرا

٨

بالاتّفاق والإجماع اللّذين أشرنا إليهما (١). انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى دليله الأوّل إنكار سراية النجاسة من المتنجّسات الخالية من أعيان النجاسات مطلقا ، إذ لا خصوصيّة لملاقي الميّت في ذلك.

اللهمّ إلّا أن يقول بكون نجاسة الميّت أيضا حكميّة ـ كما حكي (٢) القول بذلك عن المرتضى رحمه‌الله ـ فعلى هذا يكون مقصوده بقوله : «وهذه نجاسات حكميّات» نجاسة الميّت وما يلاقيه.

لكن يبعّد ذلك ـ مضافا إلى عدم معروفيّة الخلاف عنه في نجاسة الميّت ـ التتبّع في كلماته في باب البئر وغيره ممّا يظهر منه كون نجاسة الميّت من ذي النفس مطلقا إنسانا كان أو غيره لديه عينيّة.

وأبعد من ذلك احتمال أن يكون مقصوده بملاقاة الإناء للميّت ملاقاته له مع الجفاف لا مطلقا ، كما حكي القول بنجاسته الحكميّة في الفرض ـ بمعنى وجوب غسله وعدم تأثيره في تنجيس ملاقيه ـ عن بعض (٣) ، لأنّ كلامه كالصريح في عدم إرادته خصوص هذا الفرض ، لأنّه ذكر مسألة الإناء من باب الاستطراد ، وغرضه الأصلي إثبات عدم انفعال المائع الذي مسّه غاسل الميّت قبل التطهير الذي زعم عدم حصوله إلّا بالاغتسال ، فغرضه ليس إلّا إنكار سراية النجاسة من الجسم المتنجّس بملاقاة الميّت ، تشبّثا بعدم الدليل عليها ، وكون الحكم بثبوت هذا

__________________

(١) السرائر ١ : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) الحاكي هو فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٦٦.

(٣) راجع ، ج ٧ ، ص ٥٦.

٩

الحكم للمتنجّس قياسا.

ولذا اعترضه المصنّف رحمه‌الله ـ في محكيّ المعتبر ـ بقوله : لمّا اجتمع الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميّت وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقع فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع لا بالقياس (١). انتهى.

وكيف كان فلا خفاء في ظهور عبارة الحلّي في الإنكار في مورد الكلام ، كما أنّه لا خفاء في اقتضاء دليله منع السراية في المتنجّسات مطلقا.

ولعلّه ملتزم بذلك في غير المائعات الملاقية لأعيان النجاسات التي تتأثّر ذواتها بملاقاة النجس ولا تقبل التطهير.

كما ربما يظهر ذلك ممّا ذكره في كتابه بعد ذكر النجاسات وبيان وجوب إزالة قليلها وكثيرها من الثوب ونحوه حيث قال : وجملة الأمر وعقد الباب أنّ ما يؤثّر التنجيس على ثلاثة أضرب : أحدها يؤثّر بالمخالطة ، وثانيها بالملاقاة ، وثالثها بعدم الحياة. فالأوّل : أبوال وخرء كلّ ما لا يؤكل لحمه ، وما يؤكل إذا كان جلّالا ، والشراب المسكر والفقّاع والمنيّ والدم المسفوح وكلّ مائع نجس بغيره. والثاني : أن يماسّ الماء أو غيره حيوان نجس العين ، وهو الكلب والخنزير والكافر. والثالث : أن يموت في الماء وغيره حيوان له نفس سائلة ، ولا حكم لما عدا ما ذكر في التنجيس (٢). انتهى ، فإنّ الأجسام الجامدة الملاقية لأعيان النجاسات الخالية منها خارجة من هذه الأقسام ، كما لا يخفى.

وكيف كان فقد اختار هذا القول ـ أي عدم سراية النجاسة من المتنجّسات

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٥ : ٣٥٢ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٥٠.

(٢) السرائر ١ : ١٧٩.

١٠

الخالية من أعيان النجاسات الى ما يلاقيها ـ المحدّث الكاشاني ، وبالغ في نصرته ، وأكثر الطعن ـ في جملة من كلماته ـ على المشهور القائلين بالسراية.

قال في محكيّ المفاتيح : إنّما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة ، وأمّا ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه العين بالتمسّح ونحوه بحيث لا يبقى فيه شي‌ء منها فلا يجب غسله ، كما يستفاد من المعتبرة (١).

على أنّا لا نحتاج إلى دليل على ذلك ، فإنّ عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب ، إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ، ولا حكم إلّا بعد البرهان (٢).

ثمّ جرى على قلمه تعريضا على المشهور القائلين بالسراية بعض الكلمات التي لا يناسب صدورها من مثله ، عصمنا الله من الزلل في القول والعمل.

وعن موضع آخر من كتابه ـ بعد ذكر النجاسات العشرة في طيّ مفاتيح ـ قال : مفتاح : كلّ شي‌ء غير ما ذكر فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة ، للأصل السالم من المعارض ، وللموثّق : «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (٣) (٤). انتهى.

وظاهر هاتين العبارتين التزامه بسراية النجاسة من أعيان النجاسات ، ووجوب غسل ما يلاقيها مطلقا ولو بعد زوال العين ، وإنكارها بالنسبة إلى المتنجّس.

__________________

(١) تأتي المعتبرة في ص ٣٠.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٢٦٦ ، وانظر : مفاتيح الشرائع ١ : ٧٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ، وانظر : مفاتيح الشرائع ١ : ٧٢ ـ ٧٣.

١١

لكن قد يلوح من بعض عبائره المحكيّة عنه ـ التي سيأتي نقلها ـ إنكار ذلك أيضا ، والتزامه بدوران حكم النجاسة مدار عينها ، إلّا في الموارد التي ثبت تعبّدا وجوب غسل ملاقيها ، كالثوب والبدن ، دون سائر الأجسام ، وجعل ذلك وجها للحكم بطهارة البواطن وبدن الحيوانات بزوال العين عنها ، لا لخصوصيّة فيها.

وربما يلوح هذا المعنى ـ أي دوران حكم النجاسات مدار عينها ـ من السيّد رحمه‌الله في بعض كلماته المحكيّة عنه ، كاستدلاله لجواز استعمال المائعات الطاهرة ـ غير الماء ـ في تطهير الثوب : بأنّ تطهير الثوب ليس إلّا إزالة النجاسة عنه ، وقد زالت بغير الماء مشاهدة ، لأنّ الثوب لا تلحقه عبادة (١).

وأصرح من ذلك ما حكي عنه من القول بجواز تطهير الأجسام الصيقليّة بالمسح بحيث يزول عنها العين ، معلّلا لذلك : بزوال العلّة (٢).

وعن المحدّث الكاشاني ـ بعد أن حكى هذا القول والاستدلال عن السيّد ـ قال : وهو لا يخلو من قوّة ، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات ، أمّا وجوب غسلها بالماء من كلّ جسم فلا ، فما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهّره ، إلّا ما خرج بدليل يقتضي اشتراط الماء ، كالثوب والبدن ، ومن هنا يظهر طهارة البواطن بزوال العين ، وطهارة أعضاء الحيوان النجسة غير الآدمي ، كما يستفاد من الصحاح (٣). انتهى.

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٥٩ ـ ٦٠ ، ضمن المسألة ٣٠ ، وانظر : مسائل الناصريّات : ١٠٥ ، المسألة ٢٢.

(٢) حكاه عنه الفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٧٧ ، وكذا العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، المسألة ٢٤٩.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، وانظر : مفاتيح الشرائع ١ : ٧٧.

١٢

ولا يخفى عليك أنّ هذا المعنى الذي يظهر من السيّد ماله إلى إنكار السراية رأسا حتّى بالنسبة إلى النجاسات العينيّة.

لكنّ الظاهر بل المقطوع به : أنّ محطّ نظر هؤلاء الجماعة ـ كما هو صريح العبارة المحكيّة عن الحلّي ـ إنّما هو إنكار كون الأجسام الجامدة المتأثّرة بملاقاة النجاسات كأعيانها من حيث الحكم ، وأمّا المائعات الملاقية لها التي تتأثّر ذواتها بملاقاة النجس فلا خلاف في كونها كأعيانها في وجوب إزالتها عن الثوب والبدن وغيره من آثار النجس ، كما يشهد بذلك : التدبّر في كلماتهم.

ثمّ إنّا وإن استظهرنا من الحلّي والسيّد القول بمنع السراية لكنّ القائل به صريحا إنّما هو المحدّث الكاشاني ، ولذا جلّ من تأخّر عنه ـ ممّن تعرّض لإبطال هذا المذهب ـ جعلوه من متفرّداته ، وطعنوه بمخالفته للإجماع ، بل عن بعضهم الترقّي عن ذلك ، وطعنه بمخالفته للضرورة.

أقول : إن أريد بالضرورة غير معناها الذي تقدّم (١) الكلام في كفر منكره ، فله وجه ، وإلّا فرميه بذلك غفلة من الرامي ، فإنّ ضروريّات الشرع في هذه الأعصار منحصرة في الأحكام الكثيرة الدوران في كلمات الشارع من الكتاب والسنّة القطعيّة ، كالصلاة والصوم والزكاة ونحوها ممّا لا تختفي شرعيّتها على من راجع الكلمات المعلومة الصدور من الشارع. وأمّا ما عداها من الأحكام وإن كانت إجماعيّة أو ضروريّة لدى المتشرّعة في هذه الأعصار بأن عرفها جميعهم بحيث لم يحتملوا خلافها ، فإثبات صدورها من الشارع ولو بعد تسليم كونها

__________________

(١) في ج ٧ ، ص ٢٧١ وما بعدها.

١٣

كذلك يحتاج إلى مقدّمات نظريّة ، كقاعدة اللّطف ، أو استكشاف رأي الرئيس من اجتماع المرؤوسين ، أو قضاء العادة بوصول الحكم إليهم يدا بيد ، إلى غير ذلك من المقدّمات التي غايتها بعد الإذعان بها صيرورة الحكم بواسطتها قطعيّا.

والأحكام الضروريّة عبارة عن الأحكام التي قياساتها معها بأن كان صدورها من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة عليهم‌السلام بديهيّا بحيث يكون الاعتراف بصدقهم كافيا في الإذعان بتحقّقها من غير احتياجها إلى توسيط مقدّمة خارجيّة من إجماع ونحوه.

وكيف كان فالذي يمكن أن يستدلّ به للسراية أمور :

الأوّل : إجماع العلماء عليها خلفا عن سلف ،كما يكشف عن ذلك إرسالهم إرسال المسلّمات التي لا يشوبها شائبة إنكار ، مع تصريح جملة منهم بكونها إجماعيّة.

الثاني : معروفيّتها لدى المتشرّعة ومغروسيّتها في أذهانهم على وجه يزعمونها من ضروريّات المذهب ، فيستكشف بها وصول الحكم إليهم يدا بيد عن الأئمّة عليهم‌السلام.

الثالث : الأخبار المستفيضة الدّالة عليها.

فمنها : ما يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس ، وحرمة الانتفاع به إن كان مائعا ولو مع خلوّه من عين النجاسة ، كالمستفيضة الدالّة على نجاسة الماء القليل الواقع فيه شي‌ء من النجاسات (١) ، والأخبار الدالّة على نجاسة السمن و

__________________

(١) راجع الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٤ و ٧ ـ ١١.

١٤

الزيت وغيرهما من المائعات التي مات فيها الفأرة ونحوها (١) ، وما دلّ على عدم جواز الاستصباح بأليات الغنم ، المقطوعة من الحيّ ، معلّلا «بأنّه يصيب الثوب والبدن ، وهو حرام» (٢).

وهذه الطائفة من الأخبار إنّما تنهض حجّة على من أنكر السراية رأسا وقال بدوران النجاسة مدار عينها ، كما ربما يستشعر من عبارة السيّد وبعض عبائر المحدّث المتقدّم (٣).

ونحوها الأخبار الدالّة على وجوب غسل الثوب والبدن وغيرهما من الأجسام الملاقية للنجس ، الدالّة على عدم كفاية إزالة عينها بغير الغسل ، بل في بعضها (٤) الأمر بغسل الملاقي للميتة ونحوها ممّا لا يبقى فيه أثر محسوس بعد جفافه.

ولا يعارضها ما يظهر من بعض (٥) الأخبار من دوران حكم النجاسة مدار عينها ، لعدم المكافئة خصوصا مع إعراض الأصحاب عنه.

ومنها : موثّقة عمّار : في الرجل يجد في إنائه فأرة وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا واغتسل وغسل ثيابه ، وقد كانت الفأرة متسلّخة ، فقال : «إن كان رآها قبل أن

__________________

(١) راجع الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٢) الكافي ٦ : ٢٥٥ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ١.

(٣) أي : الفيض الكاشاني ، وتقدّمت عبارته وكذا عبارة السيّد في ص ١١ و ١٢.

(٤) الكافي ٣ : ٦ ـ ٦١ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٦٢ / ٧٦٣ ، و ٢٧٧ / ٨١٦ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٥) انظر : الكافي ٣ : ٢٠ / ٤ ، والفقيه ١ : ٤١ / ١٦٠ ، والتهذيب ١ : ٣٤٨ / ١٠٢٢ ، والوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٧.

١٥

يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ثمّ يفعل ذلك بعد ما رآها ، فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله ، فلا يمسّ من ذلك الماء شيئا ، وليس عليه شي‌ء ، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه» ثمّ قال : «لعلّه إنّما سقطت فيه في تلك الساعة [التي رآها]» (١).

وهذه الموثّقة كما تراها كادت تكون صريحة في نجاسة الماء الملاقي للميتة وتنجيس ما يلاقيه.

ومنها : الأخبار (٢) الدالّة على وجوب غسل الإناء الذي شرب منه الكلب والخنزير.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار من وجهين :

أحدهما : أنّه يظهر من إطلاق الأمر بغسل الإناء مع عدم الملازمة بين ولوغ الكلب والخنزير من مائه وبين ملاقاتهما للإناء : أنّ الماء الذي ولغ منه الكلب والخنزير ـ كأعيان النجاسات ـ مؤثّر في تنجيس ملاقيه.

والاستدلال بهذه الروايات بهذه النحو من التقريب ، وكذا الاستدلال بموثّقة عمّار ، المتقدّمة (٣) إنّما يجدي في مقابل من أنكر السراية من المتنجّس رأسا حتّى في المائعات الملاقية لأعيان النجاسات.

وقد أشرنا إلى أنّه لم يعلم من أحد إنكار كون المائعات الملاقية للنجس

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤ / ٢٦ ، التهذيب ١ : ٤١٨ ـ ٤١٩ / ١٣٢٢ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الماء المطلق ، ح ١ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) منها : ما في التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٤ ، و ٢٦١ / ٧٦٠ ، والاستبصار ١ : ١٨ ـ ١٩ / ٣٩ ، والوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، ح ٢ و ٣.

(٣) آنفا.

١٦

بمنزلتها من حيث السراية ، بل الظاهر ـ كما هو صريح الحلّي (١) ـ التزام الكلّ بذلك ، فلا تكون هذه الروايات حجّة عليهم بهذا التقريب.

ثانيهما : أنّه يستفاد من الأمر بغسل الإناء ـ في هذه الأخبار وكذا من غيرها ممّا ورد في كيفيّة غسل الأواني والفرش والبسط ونحوها ـ سراية النجاسة إلى ما يلاقيها برطوبة مسرية ، وإلّا لم تكن فائدة في التكليف بتطهيرها ، ضرورة أنّ تطهيرها بنفسه ليس واجبا نفسيّا ، وليست هذه الأشياء بنفسها ممّا يستعمل فيما يشترط بالطهارة ، فالمقصود بتطهيرها ليس إلّا حفظ ما يلاقيها برطوبة مسرية ـ من الأشياء المشروطة بالطهارة ـ من النجاسة.

ويتوجّه عليه : أنّ غاية ما يمكن استفادته من الأمر بغسل الأواني ونحوها ـ بعد البناء على ظهورها في الوجوب الغيريّ ، كما هو الظاهر بل المتعيّن ـ إنّما هي حرمة استعمالها حال كونها متنجّسة في المأكول والمشروب المطلوب فيهما النظافة والطهارة في الجملة ولو بالنسبة إلى المائعات التي يتنفّر الطبع من شربها في إناء يستقذره ، وأمّا تأثيرها في نجاسة ما فيها على وجه تبقى نجاسته بعد نقله إلى مكان آخر فلا.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بغسل أوانيه الوسخة التي يستعملها في أكله وشربه ، لا يفهم منه إلّا كراهة استعمالها حال كونها قذرة في الأكل والشرب.

لا صيرورة ما يلاقيها برطوبة مكروها على الإطلاق.

وأمّا ما ورد في كيفيّة تطهير الفرش ونحوها فلم يظهر منها إرادة أزيد من

__________________

(١) راجع : السرائر ١ : ١٧٩.

١٧

إزالة العين ، مع أنّه لا يستفاد منها وجوب التطهير.

ويكفي في حسن تشريعه كون الحكمة فيه المبالغة في إزالة العين التي لا كلام في سراية النجاسة منها إلى ما يلاقيها ، أو استحباب التنزّه عن استعمال النجس في سائر الأفعال التي يبتلى بها المكلّف ، وإن لم يكن جوازها مشروطا بالطهارة.

والحاصل : أنّ دعوى استفادة مثل هذا الحكم من مثل هذه الروايات مجازفة محضة ، وإنّما يتوهّم دلالتها عليه لأجل مغروسيّة الحكم في الذهن ، فيظنّ بواسطتها كونه هو الوجه في صدور الأمر بغسل الأواني ونحوها في هذه الروايات. وإلّا فليس في شي‌ء منها إشعار بذلك.

فالذي يمكن أن يستدلّ به عليه ليس إلّا الإجماع ، بل لو سلّمت دلالة الأخبار على المدّعى ، فهي غير مغنية عن الإجماع ، كما توهّمه بعض من لا يعتمد على الإجماع في إثبات الأحكام الشرعيّة ، فإنّ غايتها الدلالة على السراية بواسطة أو واسطتين ، وأمّا بالوسائط فلا.

ودعوى القطع بالمناط مجازفة ، لإمكان أن يكون لقلّة الوسائط دخل في التأثير ، كما في القذارات الحسّيّة ، فالتخطّي عن كلّ مرتبة بل عن كلّ نجاسة إلى غيرها يحتاج إلى دليل ، وهو منحصر في الإجماع.

وأمّا معروفيّته لدى المتشرّعة : فهي أيضا بنفسها لا تصلح أن تكون دليلا له ، لقضاء العادة بصيرورة الحكم ـ إذا كان ممّا يعمّ به الابتلاء ـ معروفا لدى العوام على وجه لا يحتملون خلافه إذا اتّفقت عليه كلمات العلماء ولو في الأعصار

١٨

المتأخّرة ، فلا ملازمة بينه وبين وصول الحكم إليهم يدا بيد عن المعصوم ، وحيث إنّ عمدة المستند هو الإجماع ، فلا بدّ من تحقيق حاله.

فنقول : المدار في حجّيّة الإجماع لدينا على القطع بموافقة المعصوم ـ أو وجود دليل معتبر فيما بين المجمعين بحيث لو وصل إلينا تفصيلا ، لوجدناه واجب الاتّباع من حيث الدلالة والسند ، فلو فرض عدم حصول القطع بأحد الأمرين لأحد من اتّفاق كلمة علمائنا الإماميّة ـ رضوان الله عليهم ـ لم يجب عليه بل لا يجوز له متابعتهم إن كان من أهل النظر والاستدلال ، إذ لا دليل على اعتباره من حيث هو من شرع أو عقل ، بل لم ينقل القول باعتباره تعبّدا من أحد من أصحابنا ، وإن كان ربما يستشعر ذلك من استدلالاتهم به في الفروع وإرسالهم دليليّته إرسال المسلّمات ، لكن ينافيه تصريحاتهم في الأصول بما هو مناط اعتباره.

نعم ، زعم بعض كون الشهرة ـ التي هي أعمّ من اتّفاق الكلّ ـ من الظنون المعتبرة.

لكنّه مع كونه خلاف المشهور في غاية الضعف.

فالحقّ أنّ اتّفاق العلماء إنّما يكون حجّة من حيث إفادته للقطع بثبوت متعلّقه لأجل كونه سببا عاديّا لاستكشاف أحد الأمرين المتقدّمين ، لا من باب التعبّد.

وأمّا الإجماع الذي هو حجّة من باب التعبّد فهو الإجماع الحقيقي المشتمل على مقالة المعصوم ، واعتباره على هذا التقدير أيضا ليس عندنا من

١٩

حيث نفس الإجماع ، بل بواسطة وجوب التعبّد بمقالة المعصوم الذي هو أحد المجمعين.

وزعم كثير من أصحابنا ـ على ما يظهر من مراجعة كتبهم ـ أنّ اتّفاق جميع العلماء ولو في عصر واحد طريق عقليّ لاستكشاف رأي الإمام عليه‌السلام بقاعدة اللّطف.

وهو خلاف التحقيق ، لعدم تماميّة القاعدة ، ولذا لم يعوّل عليها جلّ علمائنا المتأخّرين ، وبنوا على أنّ طريق استكشاف رأي الإمام عليه‌السلام من الإجماعات المتحقّقة في هذه الأعصار منحصر في الحدس الناشئ من الملازمة العادية بين اتفاق العلماء في جميع الأعصار وبين موافقة الإمام عليه‌السلام ، ولذا اعتبروا في حجّيّة الإجماع اتّفاق كلّ العلماء في جميع الأعصار أو جلّهم على وجه يستلزم عادة موافقة المعصوم.

ولا يخفى أنّ الأسباب العادية غالبا من قبيل المقتضيات ربما يمنعها من التأثير بعض الموانع المكتنفة بها ، وحيث إنّا نفينا الملازمة العقليّة ، واعتمدنا على الملازمة العاديّة لم يجز لنا اتّباعهم في الموارد التي لم يحصل لنا القطع بالموافقة بواسطة بعض الأمور المنافية للحدس القطعيّ ، كمعلوميّة مستند المجمعين ، أو العثور على ما يحتمل استنادهم إليه ، أو غير ذلك من الأمور المانعة من القطع.

وكونه نوعا سببا عاديّا للقطع ولو في خصوص المورد بالنسبة إلى نوع المكلّفين غير مجد بالنسبة إلى الشخص الذي لم يحصل له القطع ، لما أشرنا إليه من أنّه لا دليل على اعتباره من باب التعبّد ، وإنّما يدور حجّيته مدار صفة القطع ،

٢٠