مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

١
٢

٣
٤

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين ، ربّ يسّر ولا تعسّر الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

المقدّمة (الثالثة : في القبلة) (والنظر في) أربعة مواضع : ماهيّة (القبلة) وطريق تشخيصها (و) أحكام (المستقبل) بالكسر (وما يجب) الاستقبال (له ، وأحكام الخلل).

أمّا (القبلة) (١) فهي لغة ـ على ما في الحدائق (٢) وغيره (٣) ـ الحالة التي عليها الإنسان حال استقباله الشي‌ء وغلب استعماله في عرف المتشرّعة بل في محاورات الشارع أيضا فيما يجب استقباله حال الصلاة ونحوها (وهي الكعبة)

__________________

(١) وهي الموضع الأوّل.

(٢) الحدائق الناضرة ٦ : ٣٦٨.

(٣) جواهر الكلام ٧ : ٣٢٠.

٧

المعظّمة ـ التي جعلها الله قياما للناس وقبلة للمصلّين ـ من موضعها إلى السماء ، كما يشهد لذلك موثّقة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سأله رجل قال : صلّيت فوق أبي قبيس العصر ، فهل يجزى‌ء ذلك والكعبة تحتي؟ قال : «نعم ، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء» (١).

وهذا إجمالا ممّا لا خلاف فيه ، بل من ضروريّات الدين ، ولكن اختلفت كلمات الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بالنسبة إلى من لم يشاهد الكعبة وكان خارجا عن المسجد الحرام.

فعن السيّد وابن الجنيد وأبي الصلاح وابن إدريس والمصنّف في المعتبر والنافع ، والعلّامة وأكثر المتأخّرين أنّها عين الكعبة لمن تمكّن من العلم بها من غير مشقّة شديدة عادة ، كالمصلّي في بيوت مكّة ، وجهتها لغيره من البعيد ونحوه (٢).

وعن الشيخين وكثير من الأصحاب (٣) ـ بل أكثرهم كما عن الذكرى والروضة (٤) ، بل عن مجمع البيان نسبته إلى الأصحاب (٥) ، وعن الخلاف

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٨٣ / ١٥٩٨ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب القبلة ، ح ١.

(٢) جمل العلم والعمل : ٦٢ ـ ٦٣ ، الكافي في الفقه : ١٣٨ ، السرائر ١ : ٢٠٤ ، المعتبر ٢ : ٦٥ ، المختصر النافع : ٧٠ ، مختلف الشيعة ٢ : ٧٩ ، المسألة ٢٤ ، وفيه حكايته أيضا عن ابن الجنيد ، منتهى المطلب ٤ : ١٦٢ ، جامع المقاصد ٢ : ٤٨ ، روض الجنان ٢ : ٥١٣ ، مدارك الأحكام ٣ : ١١٩ ، وحكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٢.

(٣) المقنعة : ٩٥ ، النهاية : ٦٢ ـ ٦٣ ، المبسوط ١ : ٧٧ ـ ٧٨ ، الخلاف ١ : ٢٩٥ ، المسألة ٤١ ، المراسم : ٦٠ ، المهذّب ١ : ٨٤ ، الوسيلة : ٨٥ ، وحكاه عنهم العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٧٩ ، المسألة ٢٤.

(٤) الذكرى ٣ : ١٥٩ ، الروضة البهيّة ١ : ٥٠١ ، وحكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٢٠.

(٥) مجمع البيان ١ ـ ٢ : ٢٢٧ ، وكما في جواهر الكلام ٧ : ٣٢٠.

٨

الإجماع (١) عليه ـ مثل ما في المتن : أنّها الكعبة (لمن كان في المسجد ، والمسجد لمن كان في الحرم ، والحرم لمن خرج عنه).

وربما نسب (٢) هذا القول إلى السيّد أبي المكارم ابن زهرة أيضا.

ولكن حكي عنه في الغنية أنّه قال : القبلة هي الكعبة ، فمن كان مشاهدا لها وجب عليه التوجّه لها ، ومن شاهد المسجد ولم يشاهد الكعبة وجب عليه التوجّه إليه ، ومن لم يشاهده توجّه نحوه بلا خلاف (٣). انتهى.

وهذه العبارة ـ كما ترى ـ عارية عن ذكر الحرم ، كما أنّ عبارة شيخنا المفيد رحمه‌الله ـ المحكيّة عن مقنعته ـ أيضا كذلك ؛ فإنّه قال ـ على ما حكي عنه ـ : القبلة هي الكعبة ، ثمّ المسجد قبلة من نأى عنها ؛ لأنّ التوجّه إليه توجّه إليها. ثمّ قال بعد أسطر : ومن كان نائيا عنها خارجا من المسجد الحرام توجّه إليها بالتوجّه إليه (٤). انتهى.

فلعلّ نسبة القول المزبور إليهما نشأت من سائر عباراتهما ، أو استفيد ذلك من قرائن خارجيّة وإلّا فالمراد بالعبارتين إمّا القول الأوّل ـ كما هو الظاهر منهما بقرينة ما فيهما من التفريع والتعليل ـ أو قول ثالث ، وهو كون الكعبة قبلة لمن في المسجد ، والمسجد عينا أو جهة لمن هو خارج عنه مطلقا ، كما نسب بعض إليهما

__________________

(١) الخلاف ١ : ٢٩٥ ، المسألة ٤١ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) الناسب هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٧٩ ، المسألة ٢٤.

(٣) الغنية : ٦٨ ، وحكاه عنه السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢١٣.

(٤) المقنعة : ٩٥ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٢١.

٩

وإلى ابن شهر آشوب أيضا هذا القول (١) ، فجعله قولا ثالثا في المسألة.

فحينئذ يمكن الاستشهاد لهم بالنسبة إلى الجزء الأوّل من مدّعاهم ـ أي كون الكعبة قبلة لمن في المسجد ـ مضافا إلى الإجماع والضرورة : بالأدلّة الآتية ، وبالنسبة إلى الجزء الثاني ـ أي كون المسجد قبلة لسائر الناس ـ بظاهر قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (٢).

ولكن يتوجّه على الاستشهاد بالآية أنّها وإن كانت مشعرة بكون المأمور به هو التوجّه نحو المسجد من حيث هو وكونه بنفسه هو القبلة لكن الملحوظ فيها التوجّه نحو المسجد بلحاظ ما تضمّنته من البيت ، كما يفصح عن ذلك أخبار مستفيضة.

مثل ما عن الكافي ـ في الصحيح أو الحسن ـ عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم» فقلت : أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال : «أمّا إذا كان بمكّة فلا ، وأمّا إذا كان هاجرها إلى المدينة فنعم حتّى حوّل إلى الكعبة» (٣).

وعن الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم القمّي بإسناده إلى الصادق عليه‌السلام «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بمكّة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة ، وبعد هجرته صلّى

__________________

(١) نسبه إليهم الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ١٣٣ ، وكذا النراقي في مستند الشيعة ٤ : ١٥٢.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٤ و ١٥٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٦ / ١٢ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ٤.

١٠

بالمدينة سبعة أشهر ، ثمّ وجّهه الله إلى الكعبة ، وذلك أنّ اليهود كانوا يعيّرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون : أنت تابع لنا (١) تصلّي إلى قبلتنا ، فاغتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرا ، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فأخذ بعضده وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (٢) وكان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة» (٣).

وعن الصدوق في الفقيه : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيت المقدس بعد النبوّة ثلاث عشرة سنة بمكّة وتسعة عشر شهرا بالمدينة ثمّ عيّرته اليهود ، فقالوا له : أنت تابع قبلتنا ، فاغتمّ لذلك غمّا شديدا ، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل عليه‌السلام وقال (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٤) الآية ، ثمّ أخذ بيد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فحوّل وجهه إلى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، وبلغ

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «قبلتنا» بدل «لنا». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٤.

(٣) تفسير القمّي ١ : ٦٣ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٤) البقرة ٢ : ١٤٤.

١١

الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة ، فكانت أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين» (١) الحديث.

وخبر أبي بصير عن أحد هما عليهما‌السلام ، قال : قلت له : الله أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم ، ألا ترى إنّ الله يقول (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) (٢) الآية» قال : «إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس ، فقيل لهم : إنّ نبيّكم قد صرف إلى الكعبة ، فتحوّل النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة ، فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين» (٣).

وخبر معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له متى صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر» (٤).

ورواية أبي البختري ـ المرويّة عن قرب الإسناد ـ عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما‌السلام : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استقبل بيت المقدس تسعة (٥) عشر شهرا ثمّ صرف إلى الكعبة وهو في العصر» (٦).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩ / ٨٤٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ١٢.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٣ ـ ٤٤ / ١٣٨ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ٢.

(٤) التهذيب ٢ : ٤٣ / ١٣٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ١.

(٥) في قرب الإسناد : «سبعة».

(٦) قرب الإسناد : ١٤٨ / ٥٣٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ١٧.

١٢

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ الكعبة هي التي كانت مقصودة بالاستقبال.

وقد استشهد أصحاب القول الأوّل بهذه الأخبار ونظائرها لإثبات الجزء الأوّل من مدّعاهم ـ وهو : كون العين قبلة لمن تمكّن من العلم بها ـ وللجزء الثاني : بما في جملة من هذه الأخبار من الإشارة إلى أنّ البعيد يتوجّه نحوها ، فإنّ الظاهر منها إرادة الجهة ، كما أنّها هي التي تتبادر من قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١).

وأظهر منها في الدلالة على أنّها هي العين للقريب والجهة للبعيد : ما عن احتجاج الطبرسي رحمه‌الله بإسناده عن العسكري عليه‌السلام في احتجاج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المشركين ، قال : «إنّا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا ، [و] ننزجر عمّا زجرنا ـ إلى أن قال ـ : فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة أطعنا ، ثمّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فأطعنا ، فلم نخرج في شى‌ء من ذلك من اتّباع أمره» (٢).

هذا ، مع أنّ المتبادر من الأمر باستقبال الكعبة ونحوها ليس إلّا إرادة جهتها بالنسبة إلى البعيد الغير المتمكّن من العلم بها ، كما سنوضّحه إن شاء الله.

وأظهر منها دلالة على انحصار القبلة في الكعبة عينا أو جهة : خبر عبد الله بن سنان ـ المروي عن أمالي الصدوق ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ لله عزوجل

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤.

(٢) الاحتجاج : ٢٧ ، بحار الأنوار ٨٤ : ٧١ / ٣٠ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٣

حرمات ثلاثا ليس مثلهنّ شي : كتابه هو حكمة ونور ، وبيته الذي جعله قياما (١) للناس لا يقبل من أحد توجّها إلى غيره ، وعترة نبيّكم» (٢).

وعن الحميري في قرب الإسناد نحوه (٣).

واستدلّ أيضا لكفاية الجهة في المدارك (٤) : بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «لا صلاة إلّا إلى القبلة» قلت له : أين حدّ القبلة؟ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» (٥).

ونحوها صحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا وشمالا ، قال : «قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة» (٦).

ولكنّك خبير بما في الاستدلال بالروايتين من الإشكال ، فإنّ القول باتّساع الجهة بهذا المقدار ممّا لم ينقل عن أحد.

نعم ، صرّحوا بذلك في من أخطأ في تشخيص القبلة ، فصلّى فيما بين المشرق والمغرب ، فإنّه لا إعادة عليه ، كما ستعرف إن شاء الله.

وعن صاحب الذخيرة الاستدلال له بالأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ

__________________

(١) في المصدر : «قبلة» بدل «قياما».

(٢) أمالي الصدوق : ٢٣٩ (المجلس ٤٨) ح ١٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ١٠.

(٣) كما في الوسائل ، ذيل ح ١٠ من الباب ٢ من أبواب القبلة ، ولم نجده في قرب الإسناد.

(٤) مدارك الأحكام ٣ : ١٩.

(٥) الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القبلة ، ح ٩.

(٦) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦ ، التهذيب ٢ : ٤٨ / ١٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ / ١٠٩٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب القبلة ، ح ١.

١٤

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى إلى الكعبة قائلا في تقريبه : إنّه ليس المراد عينها ألبتّة ، فيحمل على جهتها (١).

أقول : فكأنّه أراد بالعين نفس البناء الذي يمتنع رؤيته من المدينة ، وإلّا فالجزم بعدم إرادة استقبال العين بالمعنى المقصود بالبحث عنه في المقام ـ أي الجهة المحاذية لها ـ في غير محلّه ، خصوصا مع كون الفعل صادرا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بدلالة من لا يشتبه عليه مكان البيت.

حجّة القول الثاني : جملة من الأخبار :

منها : ما رواه الشيخ عن عبد الله بن محمّد الحجّال عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، والصدوق في الفقيه مرسلا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا» (٢).

وعن الصدوق في العلل عن أبيه عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن أحمد ابن يحيى عن الحسن (٣) بن الحسين عن الحجّال مثله (٤).

وعن بشر بن جعفر الجعفي ، قال : سمعت جعفر بن محمّد عليه‌السلام يقول : «البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للناس

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٣ ، وراجع : ذخيرة المعاد : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) التهذيب ٢ : ٤٤ / ١٣٩ ، الفقيه ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨ / ٨٤١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القبلة ، ح ١ و ٣.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، «الحسين» بدل «الحسن». وما أثبتناه من المصدر.

(٤) علل الشرائع : ٤١٥ (الباب ١٥٦) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القبلة ، ذيل ح ١.

١٥

جميعا» (١).

وفي العلل بإسناده عن أبي غرّة ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «البيت قبلة المسجد ، والمسجد قبلة مكّة ، ومكّة قبلة الحرم ، والحرم قبلة الدنيا» (٢).

لكن ما في هذه الرواية من كون مكّة قبلة الحرم ممّا لم ينقل القول به من أحد ، فهو ممّا يوهن الاستشهاد بهذه الرواية ، مع ما فيها من ضعف السند ، لكن لا يخلو إيرادها عن تأييد.

وممّا يؤيّد هذا القول بل يستدلّ به : الأخبار الدالّة على استحباب التياسر ، الواردة في أهل العراق على ما فهمه الأصحاب.

كخبر المفضّل بن عمر أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السبب فيه ، فقال : «إنّ الحجر الأسود لمّا أنزل من الجنّة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال كلّه اثنا عشر ميلا ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف الإنسان ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة» (٣) وغير ذلك من الأخبار الآتية في محلّها إن شاء الله.

وعن الشيخ في الخلاف الاستدلال عليه أيضا بأنّه لو كلّف التوجّه إلى عين

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٤ / ١٤٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القبلة ، ح ٢.

(٢) علل الشرائع : ٣١٨ (الباب ٣) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٣) الفقيه ١ : ١٧٨ / ٨٤٢ ، علل الشرائع : ٣١٨ (الباب ٣) ح ١ ، التهذيب ٢ : ٤٤ ـ ٤٥ / ١٤٢ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القبلة ، ح ٢.

١٦

الكعبة ، لوجب إذا كان في صفّ طويل خلف الإمام أن تكون صلاتهم أو صلاة أكثرهم إلى غير القبلة ، إلى أن قال : ولا يلزمنا مثل ذلك ؛ لأنّ الفرض التوجّه إلى الحرم ، والحرم طويل يمكن أن يكون كلّ واحد من الجماعة متوجّها إلى جزء منه (١). انتهى.

وأورد عليه بالنقض بأهل العراق ونحوهم ممّن كان مكلّفا في تشخيص القبلة بالرجوع إلى علامة واحدة ، كجعل الجدي بين الكتفين أو خلف المنكب ونحو ذلك مع تشتّت بلادهم وأوسعيّتها من الحرم ، فيعلم إجمالا بعدم محاذاة أكثرهم للحرم محاذاة حقيقيّة ، فلو فرض صفّ طويل في العراق ـ مثلا ـ طوله أزيد من أربعة فراسخ ، يرد عليه من الإشكال مثل ما أورده علينا.

وحلّه : أنّ المعتبر في حقّ البعيد إنّما هو الاستقبال العرفي الحاصل بالتوجّه إلى الجهة المتضمّنة للقبلة ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بالنسبة إلى البعيد ـ كأهل العراق مثلا ـ بين أن تكون القبلة هي الكعبة أو الحرم ، وأمّا إذا كان قريبا من الكعبة بحيث يخرج بعض الصفّ المفروض عن مواجهة الكعبة عرفا ، فنلتزم ببطلان صلاتهم ، ولا محذور فيه.

أقول : أمّا ما قيل في حلّ الإشكال من الالتزام بكفاية الجهة فقد تفطّن له الشيخ ، وتعرّض لإبطاله في عبارته المحكيّة (٢) عنه بما لم نتحصّل مراده ، ولذا طويناها ، ولعلّها غير نقيّة عن الغلط.

__________________

(١) الخلاف ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، المسألة ٤١.

(٢) آنفا.

١٧

وكيف كان فستعرف عند شرح معنى الجهة صحّة ما قيل ، واندفاع الإشكال به بوجوه غير قابلة للتشكيك.

وأمّا النقض عليه برجوع أهل كلّ قطر من الأقطار العظيمة إلى أمارة واحدة :فيمكنه التفصّي عن ذلك بأنّ تكليف البعيد لأجل تعذّر تحصيل الموافقة القطعيّة ليس إلّا حرمة المخالفة القطعيّة والرجوع إلى الأمارات المشخّصة للجهة التي يقرب عندها احتمال الإصابة ما لم يعلم بعدم الإصابة في مورد ابتلائه ، فعلمه إجمالا بتخلّف الأمارة عن الواقع في الجملة غير قادح في حقّه ؛ لأنّ كلّ مكلّف يراعي ما يقتضيه تكليفه حين الفعل ، وليس جميع أطراف ما علمه بالإجمال مورد ابتلائه فعلا حتى يمنعه عن الاعتماد على الأمارة.

وحيث إنّ ما فرضه المعترض من الصفّ الطويل مجرّد فرض لا يكاد يتحقّق في الخارج لا يرد به النقض على الشيخ.

وأمّا الصفّ الذي فرضه الشيخ : فهو فرض كثير الوقوع ، ففي مثل هذا الفرض بناء على اعتبار محاذاة الكعبة كثيرا مّا يتولّد للمأموم من علمه الإجمالي بعدم محاذاة بعض أهل الصفّ للقبلة علم تفصيليّ ببطلان صلاته ، كما لو كان الفصل بينه وبين الإمام أو من يتّصل بواسطتهم إلى الإمام أزيد من طول الكعبة ، فتأمّل (١).

__________________

(١) قوله : «فتأمّل» إشارة إلى أنّ الانحراف الغير الموجب للخروج عمّا بين المشرق والمغرب ما لم يكن عن عمد لا يوجب بطلان الصلاة ، إلّا على قول لم يعرف له قائل محقّق وإن قوّاه بعض المتأخّرين واستظهره من كلام جملة من القدماء ، ولكنّك ستعرف في محلّه ضعفه.(منه).

١٨

وكيف كان فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه حجّة للقول المزبور هي الأخبار المتقدّمة.

ونوقش فيها بضعف السند ومعارضتها بالأخبار المتقدّمة التي هي أرجح منها من حيث الشهرة والكثرة وعدالة الراوي في بعضها ، وعلى تقدير التكافؤ فالمرجع قاعدة الاشتغال.

والجواب : أمّا عن ضعف السند : فبانجباره بشهرة الروايات وعمل الأصحاب بها قديما وحديثا.

وأمّا عن المعارضة : فبالمنع ؛ فإنّ الأخبار المتقدّمة ـ مع عدم ظهور يعتدّ به لما عدا روايتي (١) الطبرسي وابن سنان في الانحصار ـ قابلة للحمل على ما لا ينافي هذا التفصيل ، لا بارتكاب التخصيص وحمل ما دلّ على أنّ الكعبة هي القبلة على إرادتها بالنسبة إلى خصوص من في المسجد ، فإنّه في غاية البعد ، بل بعضها صريح أو كالصريح في خلافه ، كرواية الاحتجاج وخبر ابن سنان ، المتقدّمتين (٢) ، بل بالحمل على إرادة البيت وتوابعه ممّا حوله ، كجهتي الفوق والتحت إمّا لتبعيّتها له أو من باب تسمية الكلّ باسم أشرف أجزائه.

وأمّا هذه الأخبار فإنّه وإن أمكن تأويلها أيضا بما لا ينافي القول الأوّل ـ كالحمل على إرادة سعة جهة المحاذاة للبعيد وجري التعبير مجرى العادة ـ لكنّ التصرّف فيها أبعد من التصرّف في تلك الأخبار ، بل بعض هذه الروايات ـ كخبر (٣)

__________________

(١) تقدّمت في ص ١٣.

(٢) تقدّمت في ص ١٣.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٦ ، الهامش (٣).

١٩

المفضّل ـ نصّ في أعمّيّة القبلة للبعيد من نفس الكعبة.

فالقول بالتفصيل أظهر بالنظر إلى ما يقتضيه الجمع بين الأخبار.

ولكن قد يشكل ذلك بعدم التزام العاملين بهذه الروايات بظاهرها من الإطلاق ؛ فإنّه قد استفيض نقل الإجماع حتّى من أصحاب القول بالتفصيل على وجوب استقبال العين مع التمكّن من مشاهدتها ، بل عن بعضهم التصريح بكون الكعبة قبلة لمن تمكّن من العلم بها وادّعاء الإجماع عليه (١) ، فكأنّهم فهموا من مجموع الأخبار أنّ الكعبة هي القبلة أصالة ، وأنّ التعميم توسعة من باب الضرورة ، وحيث إنّ هذه الأخبار بظاهرها غير معمول بها يشكل الاعتماد على مأوّلها وجعلها قرينة لارتكاب التأويل في الأخبار الدالّة بظاهرها على أنّ الكعبة هي القبلة مع قبول هذه الروايات أيضا للتأويل.

فالقول بأنّ القبلة هي الكعبة مطلقا إن لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط.

ولكن لا يترتّب على الخلاف ثمرة عمليّة للبعيد الذي تكليفه الرجوع إلى الأمارات المشخّصة للجهة ، ولا يتميّز بواسطة بعده ـ على تقدير مشاهدته للعين ـ استقباله للكعبة عن استقباله للحرم حيث يقع المجموع بجملته بين يديه ، وأمّا بالنسبة إلى القريب الذي يتفاوت حسّا محاذاته للكعبة أو لطرف من المسجد أو الحرم بحيث يصحّ عرفا عند استقباله لطرف من المسجد سلب استقباله عن الكعبة ، فلو لا التزام القائلين بالتفصيل بعدم جواز العدول عن جهة الكعبة لدى التمكّن من العلم بها ، لكان فيه فائدة عظيمة.

__________________

(١) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٧٤ عن الشيخ نجيب الدين في الشرح.

٢٠