مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا إلى معالم الدين ، وأرشدنا إلى شرائع الإسلام ، والصلاة والسلام على سيّد الأنام ، محمد الصادع بحدود الحلال والحرام ، وآله البررة الكرام ، ومصابيح الظلام وينابيع الأحكام.

وبعد ، فيقول العبد الجاني محمد رضا ابن الشيخ الفقيه الآقا محمد هادي الهمداني ، تغمّده الله برحمته : لمّا وفّقني الله تعالى للبحث عن مسائل الفقه وبنائها على مبانيها أحببت أن أصنع في ذلك كتابا يهدي في كلّ فرع إلى أصله مع بسط الكلام في مبانيه حسبما يناسبه المقام ، مستقصيا لنقل الروايات الواردة فيه ، كي يكون وافيا بمقام الاستدلال ، مغنيا عمّا سواه ممّا نسج على هذا المنوال ، وجعلته شرحا على كتاب «شرائع الإسلام» من مصنّفات الإمام المحقّق الفريد ، الشيخ أبي القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد تيمّنا به ، واقتداء بكثير من مشايخنا السابقين

٣

رضوان الله عليهم أجمعين ، وسمّيته ب «مصباح الفقيه» مبتهلا إلى الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وذريعة إلى فضله الجسيم ، راجيا منه أن يجعله كاسمه مصباحا للفقيه ، وأن يوفّقني لإتمامه ، وينفعني به وإخواني المؤمنين ، إنّه أرحم الراحمين.

٤

كتاب الطهارة

٥
٦

(كتاب الطهارة) يطلق في عرف الفقهاء على مجموع المباحث المدوّنة لمعرفة الأحكام الشرعية العارضة لفعل المكلّف ممّا يتعلّق بالخبث والحدث.

وأمّا (الطهارة) فهي لغة : النظافة والنزاهة (١).

وكثيرا ما يراد منها في إطلاقات الشارع ومحاورات أهل الشرع : ضدّ النجاسة بمعناها المعروف عند المتشرّعة.

وقد يراد منها الأعمّ منه ومن الأثر الشرعي الحاصل من الوضوء والغسل والتيمّم ، أعني النظافة المعنوية الموجبة لإباحة الصلاة.

وقد يراد منها خصوص الثاني ، وقد شاع استعمالها في عرف أهل الشرع في نفس هذه الأفعال ، بحيث كادت أن تكون حقيقة فيها لديهم.

بل قيل : إنّها (اسم للوضوء أو الغسل أو التيمّم) ولكن لا مطلقا ، بل إذا كان (على وجه له تأثير في استباحة الصلاة) بخلاف وضوء الحائض ، والجنب ، والأغسال المندوبة ـ على المشهور ـ والتيمّم للنوم ، فإنّ إطلاق الطهارة على هذه الأفعال بحسب الظاهر إنّما هو لكونها أسبابا لحصول النظافة الشرعية التي يباح بها الدخول في الصلاة ، فلا

__________________

(١) راجع : العين ٤ : ١٩ ، والقاموس المحيط ٢ : ٧٩ ، ومجمع البحرين ٣ : ٣٨١.

٧

يكون استعمالها غالبا إلّا في ما هو سبب للاستباحة ، فلو قلنا بحصول النقل أيضا لا يكون إلّا في هذا الصنف لا مطلقا ، فتأمّل.

(وكلّ واحد منها) أي من الوضوء والغسل والتيمّم (ينقسم إلى : واجب وندب) (١) وحمل الجواز والكراهة عليها في بعض المقامات مبني على نحو من الاعتبار ، وإطلاق الوضوء وكذا غيره من أسامي العبادات على ما يحكم عليه بالحرمة ـ كالوضوء بالماء المغصوب ـ مسامحة.

(فالواجب من الوضوء ما كان) مقدّمة (لصلاة واجبة) ولو بنذر وشبهه ، وبحكمها أجزاؤها المنسية (أو طواف واجب ، أو لمسّ كتابة القرآن) وأسماء الله تعالى ، بل وأنبيائه والأئمّة عليهم‌السلام في وجه قويّ (إن وجب) بنذر وشبهه.

ويدلّ على وجوبه شرعا للأمور المذكورة ـ بعد استفادة شرطيته لها من الأدلّة الشرعية ـ الأمر المولوي التبعي الغيري المتولّد لدى العقل من الأمر بغاياته ، كما تقرر في الأصول.

ومن ينكر وجوب مقدّمة الواجب يشكل عليه الالتزام بوجوب الوضوء في المقام ، إذ ليس له إلّا أن يتشبّث بظاهر (٢) الأوامر المتعلّقة به في الكتاب والسنّة ، مع أنّ في دلالتها عليه إشكالا ، إذ لمانع أن يمنع ظهور الأمر المتعلّق بمقدّمات الأفعال في الطلب المولوي ، إذ الظاهر أنّه لا ينسبق إلى الذهن منها إلّا الوجوب الشرطي لا الإلزام الشرعي التكليفي.

__________________

(١) كذا ، وفي الشرائع : مندوب.

(٢) في «ض ١» بظواهر.

٨

وكيف كان فليعلم أنّا وإن قلنا بوجوب الوضوء للأمور المذكورة إلّا أنّا لا نلتزم باستحقاق العقاب على تزكه من حيث هو حتى يتوجّه علينا الطعن بلزوم استحقاق عقابات لا تحصى على ترك واجب نفسي يتوقّف على مقدّمات كثيرة مع قضاء العقل وقاعدة العقلاء ببطلانه ، لأنّ استحقاق العقاب من آثار ترك الواجب النفسي لا الغيري.

وما يقال من أنّ الواجب ما يستحقّ تاركه العقاب فلا ينافي ذلك ، لأنّ استحقاق العقاب أعمّ من أن يكون لذاته أو لإفضائه إلى ترك واجب نفسي ، فليتأمّل ، ولتمام التحقيق مقام آخر.

(والمندوب) من الوضوء (ما عداه) من الوضوءات المشروعة التي سنشير إليها إن شاء الله تعالى.

قال السيد في المدارك : لم يتعرّض المصنّف ـ رحمه‌الله ـ لبيان ما يستحب له الوضوء ، والذي يجتمع من الأخبار وكلام الأصحاب أنّه يستحب للصلاة والطواف المندوب ، ومسّ كتابة كتاب الله تعالى وقراءته وحمله ، ودخول المساجد ، واستدامة الطهارة ، وهو المراد بالكون عليها ، وللتأهّب لصلاة الفريضة قبل دخول وقتها ليوقعها في أول الوقت ، وللتجديد ، وصلاة الجنازة ، وطلب الحوائج ، وزيارة قبور المؤمنين ، وما لا يشترط فيه الطهارة من مناسك الحج ، وللنوم.

ويتأكّد في الجنب ، وجماع المحتلم قبل الغسل ، وذكر الحائض ، وجماع المرأة الحامل مخافة مجي‌ء الولد أعمى القلب بخيل اليد بدونه ، وجماع غاسل الميّت ولمّا يغتسل ، وإذا كان الغاسل جنبا ، ولمريد إدخال

٩

الميّت قبره ، ووضوء الميّت مضافا إلى غسله على قول ، ولإرادة وطء جارية بعد وطء اخرى ، وفي المذي في قول قويّ ، والرعاف والقي‌ء والتخليل المخرج للدم إذا كرهها الطبع ، والخارج من الذكر بعد الاستبراء ، والزيادة على أربعة أبيات شعر باطل ، والقهقهة في الصلاة عمدا ، والتقبيل بشهوة ، ومسّ الفرج ، وبعد الاستنجاء بالماء للمتوضّئ قبله ولو كان قد استجمر.

وقد ورد بجميع ذلك روايات إلّا أنّ في كثير منها قصورا من حيث السند.

وما قيل من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها ، فمنظور فيه ، لأنّ الاستحباب حكم شرعي فيتوقّف على الدليل الشرعي كسائر الأحكام (١). انتهى.

أقول : الظاهر أنّ مراده من قوله : وإذا كان الغاسل جنبا ، أنّه يستحب لمريد غسل الميّت وهو جنب ، كما صرّح باستحبابه غيره (٢) ، لا أنّه أراد بذلك تقييد كلامه (٣) السابق كما قد يتوهّم (٤).

وكيف كان فتصريحه باستفادة استحباب الوضوء في هذه الموارد من الروايات أغنانا عن التعرّض لذكر أخبارها مفصّلا ، لكفاية مثله في

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢ ـ ١٣.

(٢) نهاية الاحكام ١ : ٢٠ ، الحدائق الناضرة ٢ : ١٣٩ ، جواهر الكلام ١ : ١٢.

(٣) في الطبعة الحجرية : الكلام.

(٤) كما في الحدائق الناضرة ٣ : ٤٧٩ ، وجواهر الكلام ١ : ١٢.

١٠

المستحبات.

وما ذكره من أنّ الاستحباب حكم شرعي فيتوقّف على الدليل الشرعي ، ففيه : أنّه مسلّم إلّا أنّ الأخبار المعتبرة المستفيضة الدالّة على أنّ «من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الأمر كما بلغه» (١) كافية في إثبات استحباب كلّ ما ورد فيه رواية ولو لم تكن بشرائط الحجّيّة ، مضافا إلى شهادة حكم العقل بحسن إيجاد ما يحتمل كونه محبوبا لله تعالى ، واستحقاق الأجر بسببه ، وهذا وإن لم يكن موجبا لصيرورة الفعل بعنوانه المخصوص به مستحبّا شرعيا ـ كما أنّ الأخبار المستفيضة التي تقدّمت الإشارة إليها أيضا لا تقتضي ذلك ، لأنّ غاية مفادها رجحان إيجاد الفعل الذي بلغ فيه ثواب أو ما هو ملزوم للثواب ، أعني الأمر الشرعي ، وهذا لا يدلّ على استحبابه شرعا بعنوانه المخصوص ـ إلّا أنّه يستفاد منها وكذا من حكم العقل رجحان إيجاده ما لم يكن فيه احتمال حرمته ذاتا إذا كان إيجاده لأجل كونه ممّا ورد فيه أمر شرعي ، أو لرجاء كونه محبوبا لله تعالى ، فهذا العنوان يجعله راجحا ومحبوبا لله تعالى ولو لم يكن له حسن ذاتي مع قطع النظر عن هذا العنوان.

نعم لا يترتّب عليه ما هو من آثار كونه مستحبّا شرعيّا بعنوانه المخصوص به.

مثلا : لو قلنا : بأنّ كلّ غسل مستحب يرفع أثر الجنابة ، ووردت

__________________

(١) الكافي ٢ : ٧١ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٧.

١١

رواية ضعيفة دالّة على استحباب غسل خاص ، نلتزم باستحبابه ولكن لا نقول بكونه رافعا لأثر الجنابة ، لأنّ هذا الفعل بعنوان كونه غسلا لم يثبت استحبابه ، وإنّما ثبت استحبابه بعنوان كونه فعلا ورد فيه أمر شرعي ، وبينهما فرق بيّن.

بقي في المقام إشكال ، وهو : أنّه إذا كان حسن الفعل بسبب هذا العنوان الطارئ ـ أعني إيجاده بقصد الاحتياط ورجاء محبوبيته لله تعالى ، أو بقصد كونه ممّا ورد فيه الأمر ـ كيف يطلقون الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ في فتاويهم القول باستحبابه!؟ مع أنّه يوجب إيجاد الفعل بعنوانه المخصوص به بقصد الاستحباب ، وهو تشريع محرّم.

ويدفعه : أنّ المجتهد إذا علم أنّ الفعل الخاص ممّا دلّ على استحبابه خبر ضعيف ، وثبت عنده أنّ كلّ ما ورد فيه خبر ضعيف يحبّ الله تعالى إيجاده ما لم يكن فيه مفسدة ذاتية ، له إطلاق القول باستحبابه بعد تشخيص صغراه ، والمقلّد لا يقصد بفعله إلّا امتثال الأمر الخاص المتعلّق بفعله ، المعلوم وجهه عند الله تعالى ، فلا يكون ذلك تشريعا ، وليس له أن يقصد بفعله امتثال الأمر المتعلّق به بعنوان كونه وضوءا أو غسلا من حيث هذا العنوان ، إذ لا طريق له إلى معرفة جهة حسن الفعل واستحبابه إلّا ببيان مجتهده ، والمفروض أنّه لم يبيّن له مجتهده إلّا استحباب هذا الفعل الخاص على وجه الإجمال ، فلو عيّن حينئذ جهته ، يتحقّق منه التشريع لا محالة ، سواء ثبت استحبابه بالخصوص لدى مجتهده أم لا.

١٢

إن قلت : إنّ العقل والنقل إنّما يدلّان على حسن إيجاد هذا الفعل برجاء امتثال الأمر ، فقصد الاحتياط من مقوّمات حسنه ، وهذا لا يتحقّق من المقلّد في الفرض.

قلت : هذه المناقشة لو تمّت فإنّما هي في ما إذا كان مستند الحكم بالاستحباب العقل ، وأمّا إذا كان مدركه الأخبار فلا ، لأنّ مفاد الأخبار أنّ «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمله لأجل ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الأمر كما بلغه» ومن المعلوم أنّ حصول هذا القصد ـ أي إتيان الفعل لأجل الثواب الموعود ، وكذا غيره من الغايات التي هي أكمل من قصد استحقاق الأجر كابتغاء رضوان الله تعالى ومغفرته ـ من المقلّد الذي لا يكون ملتفتا إلى احتمال عدم استحباب الفعل بعنوان ذاته أتمّ وأحسن ، كما هو ظاهر.

وأمّا إذا كان مدركه العقل الحاكم بحسن الاحتياط ورجحان إيجاد الفعل المحتمل كونه محبوبا لله تعالى ، فإن قلنا : بدلالته على صيرورة الفعل مستحبا شرعيا ولو لم يكن في الواقع كذلك ، أو قلنا : باستفادة استحبابه من الأخبار الكثيرة الدالّة على حسن الاحتياط وإيجاد ما يحتمل كونه محبوبا لله تعالى ، فلا إشكال أيضا ، لأنّ تشخيص مصاديق الأحكام ليس من وظيفة المقلّد ، والمجتهد بمنزلة النائب عنه ، فالمقلّد ينوي بفعله امتثال الأمر الواقعي المتعلّق به ، غاية الأمر أنّه لا يعلم أنّ الأمر المتعلّق به هو الأمر المستفاد من أخبار الاحتياط ، أو أنّه هو الأمر المتعلّق بنفس الفعل ، وهو غير ضائر في حسن الفعل وحصول الامتثال.

١٣

وإن قلنا : إنّه لا يستفاد من العقل ولا من أخبار الاحتياط استحباب الفعل شرعا ، وإنّما الأمر المستفاد منها إرشادي محض كأوامر الإطاعة والمعصية ، فلا يكون الفعل المأتي به ـ على تقدير عدم محبوبية الفعل ـ بعنوانه الخاص حسنا يستحقّ لأجله الثواب ، يشكل إطلاق القول باستحبابه ، لما عرفت من استلزامه التشريع ، لأنّ المقلّد ينوي القربة والامتثال بفعل لم يعلم كونه مقرّبا ، فعلى المجتهد إعلامه ليأتي بالفعل ، لاحتمال المطلوبية حتى لا يكون مشرّعا ، ولتمام الكلام مقام آخر.

وعسى أن تظفر في بعض المقامات المناسبة بما يوضّح لك بعض ما أجملناه في المقام ، كما ستقف إن شاء الله تعالى مفصّلا على مدرك الحكم باستحباب الوضوء في كثير من الموارد المذكورة ، بل ربما تطّلع على استحبابه في غير هذه الموارد أيضا ، كمن توضّأ ولم يذكر اسم الله تعالى على وضوئه ، فإنّه تستحب إعادته على الأظهر ، والله العالم. (والواجب من الغسل ما كان) مقدّمة (لأحد الأمور الثلاثة) المتقدّمة (أو لدخول المساجد ، أو لقراءة) شي‌ء من سور (العزائم) يعني ما كان مقدّمة لإباحتهما (إن وجبا. وقد يجب) الغسل بل يتضيّق وجوبه (إذا بقي لطلوع الفجر من يوم يجب صومه بقدر ما يغتسل الجنب) لتوقّف صحة الصوم وجواز الأمور المتقدّمة عليه ، كما يتّضح لك في محلّه.

وقد عرفت أنّ ما يتوقّف عليه الواجب واجب عقلا ، فوجوب الغسل لأجل الأمور المذكورة بعد أن ثبت توقّفها عليه ممّا لا شبهة فيه ،

١٤

بناء على وجوب مقدّمة الواجب ، كما هو المشهور المنصور ، إلّا أنّ في المقام إشكالا وهو : أنّه كيف يعقل وجوب الغسل في الليل لصوم اليوم!؟

مع أنّ وجوب المقدّمة مسبّب عن وجوب ذيها ولم يتحقّق بعد في الفرض ، لأنّ الأمر بالصوم لا يتنجّز على المكلّف إلّا في اليوم ، والضرورة قاضية باستحالة تقدّم المعلول على علّته في الوجود الخارجي.

ولا اختصاص لهذا الإشكال بالمقام ، بل هو سار في كثير من الموارد ، كوجوب المسير إلى الحج قبل زمانه ، ووجوب تحصيل العلم بالمسائل الشرعية قبل زمان العمل ، الى غير ذلك ممّا لا يحصى.

ولقد اضطربت كلمات الأعلام في التفصّي عن الإشكال حتى أنّ منهم من التزم بالوجوب النفسي للمقدّمة في مثل هذه الموارد (١).

ومنهم من أنكر وجوب الغسل للصوم مع اعترافه بوجوب المقدّمة وتوقّف صحة الصوم عليه ، ولذا اعترض العلّامة عليه : بأنّه لا يحترز عن التناقض في كلامه (٢).

ومنهم من قال بأنّ العلم بوجوب ذي المقدّمة في وقته سبب لوجوبها لا وجوبه (٣).

ومنهم من التزم بجواز وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها متشبّثا بذيل العقلاء في حكمهم بالنسبة إلى أوامر الموالي والعبيد بقبح ترك

__________________

(١) العلّامة الحلّي في منتهى المطلب ١ : ٩٣.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٩٤ ، وراجع : السرائر ١ : ١٣١ و ١٣٢.

(٣) راجع : الحدائق الناضرة ٣ : ٥٩ ـ ٦٠.

١٥

مقدّمات واجب يقصر زمانه عن الفعل ومقدّماته مع شهادة العقل في مثل الفرض بوجوبها قبل ذلك الزمان ، وإلّا لغا الأمر منهم (١).

ومنهم من تشبّث بتقبيح العقل تفويت التكاليف ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، وفي الجميع ما لا يخفى.

أمّا القول بالوجوب النفسي للمقدّمة في مثل الفرض ، ففيه ـ مع أنّه يحتاج إلى دليل خاص في كلّ مورد ـ أنّا نعلم في أغلب الموارد أنّها ليست مطلوبة لذاتها ، بل مطلوبيتها ليست إلّا لأجل المقدّمية ، كالمسير إلى الحجّ ، فإنّ من الواضح أنّه لا يجب عليه السير لو علم بأنّه يفوته (٢) الحج.

ودعوى : أنّ الواجب النفسي هو السير الذي يتعقّبه الحج ، شطط من الكلام ، إذ من المعلوم أنّه ليس في الأدلّة الشرعية ما يقتضي وجوب السير لذاته.

هذا ، مع أنّ لنا أن نفرض تصريح الشارع بأنّي لا أريد السير إلّا مقدّمة للحج.

وكيف كان فهذا الجواب لا يغني من جوع.

وأمّا القول بعدم وجوب المقدّمة في الفرض ، ففيه : أنّ أدلّة القائلين بوجوبها لا تقصر عن شمول مثل هذه المقدّمات ، لأنّ مقتضاها وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، والمفروض أنّ الصوم لا يتمّ إلّا بالغسل في الليل.

__________________

(١) راجع : جواهر الكلام ١ : ٣٩.

(٢) في «ض ١» يفوت منه.

١٦

مضافا إلى أنّ إنكار وجوب المقدّمة مطلقا فضلا عن خصوص المقام ممّا لا يجدي في حلّ الإشكال ، لأنّ نافي وجوبها لا ينكر إلزام العقل بإيجادها فرارا عن محذور ترك الواجب ، وإلّا لقبح العقاب على ترك ذيها بعد ترخيص العقل والشرع في تركها ، فالإشكال يبقى بحاله ، لأنّ إلزام العقل بفعل المقدّمة فرع لزوم ذيها ، وما لم يجب لا يحكم العقل بلزوم إيجاد مقدّماته ، كما هو الشأن في جميع المقدّمات الوجوبية في الواجبات المشروطة.

وما قيل في دفع الإشكال من أنّ العقلاء مطبقون على مذمّة من ترك مثل هذه المقدّمات ، فهذا كاشف عن وجوبها قبل وجوب ذيها ، ففيه : أنّه مسلّم ، وإنّما نشأ الإشكال من ذلك حيث إنّ وجوبها لذي العقل والعقلاء ليس إلّا لوجوب ذيها ، فكيف يقدّم المعلول على علّته!؟

وما قيل من أنّ العلم بوجوب ذيها علّة لوجوبها لا وجوبه ، ففيه : أنّ البديهة تشهد بأنّ العلم في حدّ ذاته ليس مقتضيا لوجوبها ، بل المقتضي له ليس إلّا توقّف ذيها عليها ، والعلم ليس إلّا طريقا لمعرفة الحكم.

والتحقيق في الجواب : هو أنّ الزمان في هذه الموارد ظرف للواجب لا شرط للوجوب ، أعني الطلب الشرعي المتعلّق بالفعل ، بل لا يعقل أن يكون الزمان الذي يقع فيه الواجب ظرفا للإيجاب حتى يكون تحقّقه مشروطا بحصوله ، لأنّ الطلب إنّما يتعلّق بإيجاد الفعل بعد زمان صدوره ، فيجب أن يكون زمان وقوع الفعل غير زمان الإيجاب ، ومن المعلوم أنّ الآمر به قد يقصد بطلبه إيجاب إيجاد الفعل بعد صدور الأمر

١٧

بلا مهلة ، وقد يقصد إيجاده مطلقا ، وقد يأمر بإيجاده في وقت معيّن ، فالإيجاب على جميع التقادير مطلق ، والفعل في الفرض الأول والثالث مقيّد بزمان مخصوص دون الفرض الثاني ، والذي هو سبب لإيجاب المقدّمة إيجاب ذيها لا حضور زمان إيجاد الفعل.

والحاصل : أنّه لا بدّ من تأخّر زمان الفعل الذي تعلّق به الطلب عن زمان الإيجاب عقلا ، حتى لو فرض أنّه أمره في أوّل الصبح بعمل إلى الغروب ، نقول بشهادة العقل : إنّ زمان صدور الأمر الذي تحقّق به الإيجاب ليس مشمولا للطلب ، فإذا فرضنا أنّه يجب عليه الصوم من أول الصبح يجب عقلا أن يكون إيجابه قبل الصبح ، بل يعتبر في صحة التكليف أن يكون إيجابه مقدّما على زمان الفعل بمقدار يتمكّن فيه من تحصيل مقدّماته ، وإلّا فالتكليف قبيح.

فما يقال : من أنّ الواجبات المؤقّتة لا تجب إلّا بعد أوقاتها ، إن أريد أنّه لا يجب إيجادها إلّا في أوقاتها ، فهو حقّ ، وإن أريد أنّه لا يتحقّق وجوبها إلّا بعد الوقت ، ففيه ما عرفت.

وبما ذكرنا ظهر لك ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا ـ بطلان قول من زعم أنّ العلم بصيرورة الصوم في اليوم واجبا سبب لوجوب الغسل ، لأنّ العلم بصيرورة الصوم في الصبح واجبا موقوف على جواز إيجابه عليه في أول الصبح ، وهو موقوف على أن لا يكون جنبا ، وإلّا يستلزم التكليف بما لا يطاق ، وكونه مقدورا بالواسطة في السابق لا يصحّح الإيجاب اللاحق ، فإذا كان صحة الطلب موقوفة على الغسل السابق ، كيف يكون العلم

١٨

بتحقّقه علّة لإيجاب الغسل!؟

إن قلت : إنّ القدرة على الامتثال ـ كما اعترفت به ـ شرط في حسن التكليف وتوجيه الطلب ، وهو لا يحصل إلّا بعد حضور زمان الفعل.

قلت : ما هو شرط لصحة التكليف كون المكلّف قادرا على أن يمتثل بأن يأتي بالفعل في الوقت الذي كلّف بإيجاده فيه ، لا كونه قادرا على الامتثال حين الطلب ، إذ لا يعقل أن تكون القدرة بهذا المعنى شرطا في حسن الطلب ، لتوقّف موضوعها في الخارج على أن يكون مسبوقا بالطلب ، فلا يعقل تأثيرها في حسن الإيجاب.

إن قلت : هب أنّ القدرة على إيجاد المأمور به في وقته كافية في جواز إيجابه مطلقا ، إلّا أنّ الواجب لا يخرج بذلك عن كونه واجبا مشروطا ، وقد تسالموا على عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط.

قلت : هذا إنّما هو في المقدّمات الوجوبية ، وأمّا المقدّمات الوجودية فلا فرق فيها بين الواجبات ، لأنّ المناط في وجوبها إنّما هو وجوب ذيها ، وقد تقرّر في الأصول أنّه لا فرق بين الواجبات المطلقة والمشروطة في أنّ صيغة الأمر مستعملة في الطلب الإلزامي ، وأن الواجب المشروط مرجعه إلى إيجاب مطلق على موضوع تقديري ، فتجب مقدّماتها على حسب وجوب ذيها ، لا أنّ الواجب المشروط بمنزلة الإخبار عن أنّه سيجب الفعل بعد حصول الشرط ، فليس حصول الشرط مؤثّرا في حدوث الوجوب ، بل هو كاشف عن كون الوجوب محقّقا من حين صدور الأمر إلّا أنّه لم يكن منجّزا عليه ، لعدم علمه بأنّ الشرط يتحقّق ،

١٩

وإلّا فلو علم بذلك يجب عليه إيجاد مقدّماته ولو قبل حصول الشرط ، فلو قال المولى لعبده : أكرم زيدا في الغد على تقدير مجيئه إيّاك ، فإذا أحرز العبد بطريق معتبر أنّه يتحقّق المجي‌ء لا محالة ـ كما لو أرسل زيد خادمه إليه قبل مجيئه وأخبره بذلك ـ علم بتنجّز الخطاب في حقّه ، فيجب عليه السعي في تحصيل مقدّماته ولو قبل مجيئه ، فلو ترك بعض المقدّمات التي لا يمكن تحصيلها إلّا قبل الوقت ، ليس له الاعتذار بعدم تحقّق المجي‌ء بعد أن علم أنّه سيتحقّق ، لما عرفت من أنّ الإيجاب على تقدير المجي‌ء حاصل من حين صدور الخطاب ، فليس له مخالفته بعد علمه بحصول التقدير.

ومن هذا الباب وجوب تعلّم الأحكام التي يعلم إجمالا بأنّه لو لم يتعلّمها يقع في محذور مخالفة الشارع في شي‌ء من التكاليف الشرعية ولو لم يتحقّق بالفعل شرطه أو لم يجب إيجاده إلّا بعد حين ، لأنّ الأحكام الشرعية بأسرها تعلّقت بموضوعاتها بعناوينها الكليّة بلحاظ تحقّقها في ضمن مصاديقها الخارجية من حين حدوث الشريعة ، فإذا بلغ المكلّف حدّ التكليف واندرج في زمرة من توجّهت إليه الخطابات الشرعية ، يتنجّز في حقّه جميع التكاليف الشرعية مطلقاتها ومقيّداتها ، منجّزاتها ومؤقّتاتها ، غاية الأمر أنّ الخروج عن عهدتها مرهونة بأوقاتها وموقوفة على حصول شرائطها ، فيجب عقلا ونقلا التهيّؤ للخروج عن عهدتها ولكن بشرط العلم بتحقّق شرط الوجوب ، أو أنّه سيتحقّق في ما بعد.

٢٠