مصباح الفقيه - ج ١١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

(المقدمة الخامسة : في مكان المصلّي)

وهو عرفا : موضعه ، أي محلّه الذي يستقرّ عليه حال تشاغله بأفعال الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود وغيرها.

ولكنّ المراد به في المقام ما يعمّ الفضاء الذي يشغله المصلّي ، كما لعلّه هو معناه لغة بمقتضى وضعه الأصلي.

وربما فسّر في عرف الفقهاء بتفاسير لا تسلم عن الخدشة.

والأولى تفسير ما أرادوه بالمكان في المقام بما أشرنا إليه من معناه اللغوي ، أي محلّ وجوده قرارا وفضاء.

وكيف كان فلا يترتّب على شرح مفهومه عرفا أو لغة أو اصطلاحا فائدة مهمّة ؛ لأنّ الأحكام اللاحقة له ـ التي يقع البحث عنها في هذا المبحث ـ بأسرها معلّقة ـ بحسب أدلّتها ـ على موضوعات لا تتوقّف معرفة شي‌ء منها على صدق مفهوم المكان.

٧

فمن جملة تلك الأحكام ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : (الصلاة في الأماكن كلّها جائزة).

وهذا ممّا لا شبهة بل لا خلاف فيه على ما ادّعاه بعض (١) ، بل الإجماع عليه على ما في المدارك (٢) وغيره (٣).

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الأصل والإجماع ـ الأخبار المستفيضة الواردة في مقام الامتنان ، الدالّة على عموم مسجديّة الأرض.

كمرسلة الصدوق ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٤) الحديث.

وخبر أبان بن عثمان عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ الله أعطى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ـ إلى أن قال ـ : وجعل له الأرض مسجدا وطهورا» (٥).

وعن المحقّق في المعتبر مرسلا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا أينما أدركتني الصلاة صلّيت» (٦).

وعن محاسن البرقي عن النوفلي بإسناده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) الشهيد في الذكرى ٣ : ٧٧.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٦.

(٣) الغنية : ٦٦.

(٤) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٥) الكافي ٢ : ١٧ (باب الشرائع) ح ١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١.

(٦) المعتبر ٢ : ١١٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٥.

٨

«الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام والمقبرة» (١).

وخبر عبيد بن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «الأرض كلّها مسجد إلّا بئر غائط أو مقبرة أو حمّام» (٢).

وما في هذين الخبرين من الاستثناء فهو على سبيل الكراهة ، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله.

ولكن (بشرط أن يكون) المكان (مملوكا) للمصلّي (أو مأذونا) في التصرّف (فيه) ولو في خصوص الصلاة من مالكه أو من قام مقامه وكالة أو ولاية.

وأمّا الأماكن التي ليست بالفعل ملكا لأحد كالأراضي الغامرة ، أو العامرة التي انجلى عنها أهلها فهي ملك للإمام عليه‌السلام ، وقد رخّص شيعته في التصرّف فيها بأنحاء التصرّفات فضلا عن الصلاة التي لا شبهة في رضاه بل رضا كلّ مسلم في إيقاعها فيما يدخل تحت ولايته ما لم يكن مضرّا بحاله من جهة من الجهات.

وملخّص الكلام : إنّ ما يتعلّق بالإمام عليه‌السلام من الأنفال وما جرى مجراها ممّا يكون ملكا له أو أمره راجعا إليه فلا شبهة في جواز الصلاة فيه ورضا الإمام بذلك ، وأمّا ما كان ملكا لغيره فيعتبر إذنه ، أي رضاه أو رضا من قام مقامه وكالة أو ولاية ؛ لأنّه لا يحلّ مال امري‌ء إلّا عن طيب نفسه نصّا وإجماعا.

__________________

(١) المحاسن : ٣٦٥ / ١١٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٣ ، وفيهما : «القبر» بدل «المقبرة».

(٢) التهذيب ٣ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ / ٧٢٨ ، وليس فيه «أو حمّام» ، الاستبصار ١ : ٤٤١ / ١٦٩٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٤.

٩

ففي خبر سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنّه لا يحلّ دم امرى‌ء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه» (١).

وفي خبر [ الحسن بن ] علي بن شعبة ـ المرويّ عن تحف العقول ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في خطبة الوداع : «أيّها الناس (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه» (٢).

ولا فرق بين المسلم وغيره ممّن هو محقون المال بلا خلاف فيه ولا إشكال ، فتخصيص المؤمن أو المسلم بالذكر في الخبرين لعلّه للجري مجرى الغالب في مقام الابتلاء ، أو لكونه الأصل في الاحترام وكون احترام مال غيره بالتبع.

وكيف كان فلا إشكال في الحكم.

وما يقال من أنّ متعلّق عدم الحلّ فيما دلّ على أنّه لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه غير معلوم ؛ لاحتمال أن يكون المقصود به خصوص التصرّفات المتلفة ، فممّا لا ينبغي الالتفات إليه بعد اعتضاد إطلاقه بالعقل والإجماع ، وبما روي عن صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ أنّه قال : «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» (٣) ولا شبهة أنّ الصلاة في ملك الغير تصرّف في مال الغير ،

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٦٦ ـ ٦٧ / ١٩٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١ ، وفيهما : «.. بطيبة نفسه» بدل «بطيبة نفس منه».

(٢) تحف العقول : ٣٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٣.

(٣) إكمال الدين : ٥٢٠ ـ ٥٢١ / ٤٩ ، الاحتجاج : ٤٨٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، ح ٧.

١٠

فلا تجوز إلّا بإذنه.

ولا ينافيه إطلاق الأخبار المتقدّمة (١) الدالّة على عموم مسجديّة الأرض ؛ لأنّ إطلاقها وارد مورد حكم آخر ، أعني جواز الصلاة في الأماكن كلّها من حيث هي ، ولا ينافي ذلك اعتبار رضا مالكها إذا كانت مملوكة للغير.

وما قد يقال من أنّ لكلّ أحد حقّا في أن يصلّي في ملك الغير فهو ممّا لم يثبت ، وإطلاقات أوامر الصلاة ونحوها غير مجدية في إثباته ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله.

(والإذن قد يكون بعوض كأجرة وشبهها).

وقد يناقش في جعل ما يستحقّه بالأجرة من أنحاء ما يستباح بالإذن : بأنّ منافع العين المستأجرة ملك للمستأجر ، فلا ينوط استيفاؤها بإذن المالك بعد حصول الإجارة عن طيب نفسه ، فطيب نفسه بالإجارة ـ التي هي المعاوضة بين المنافع والعوض ـ أثّر في صيرورة المنافع ملكا للمستأجر ، لا في إباحة استيفائها ، فلو أريد بالمملوك ما يعمّ ملك المنفعة لكان أولى ، فليتأمّل.

(و) قد يكون الإذن (بالإباحة. وهي إمّا صريحة ، كقوله : صلّ فيه ، أو بالفحوى ، كإذنه بالكون فيه).

ونوقش (٢) في تسمية هذا النحو من الإذن بالفحوى : بأنّ الفحوى في مصطلحهم مفهوم الموافقة ، كاستفادة حرمة الضرب من قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) (٣) إذا قصد الكناية عن أدنى مراتب الأذيّة ، وأمّا في المقام فليس

__________________

(١) في ص ٨ ـ ٩.

(٢) المناقش هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢١٦.

(٣) الإسراء ١٧ : ٢٣.

١١

استفادة جواز الصلاة منه من هذا القبيل ، بل من باب أنّ الإذن في الشي‌ء إذن فيما يلزمه عرفا وعادة.

(أو بشاهد الحال ، كما إذا كان هناك أمارة تشهد أنّ المالك لا يكره) بل يرضى بفعله ، وهذا ـ أي رضاه بالتصرّف ـ هو الملاك في حلّه ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

والإذن إنّما يعوّل عليه لكونه كاشفا عن الرضا ، لا لكونه بنفسه سببا مستقلا ، فمتى استكشف رضاه بتصرّف من أمارة أخرى حاليّة أو مقاليّة ، جاز ذلك التصرّف وإن لم يقترن بإنشاء الإذن ، وتسمية رضاه المستكشف بشهادة الحال ونحوه إذنا مبنيّة على التوسّع.

ويكفي في تحقّق الرضا المبيح للتصرّف وجوده شأنا بأن يكون المالك بالقوّة راضيا بذلك التصرّف وإن صدر من غير اطّلاعه أو في حال نومه أو نحو ذلك ممّا يمتنع أن يتحقّق معه الرضا الفعلي ، كما يشهد لذلك استقرار سيرة العقلاء قاطبة على الاكتفاء بهذا النوع من الرضا في استباحة التصرّف في مال الغير ، فهو لدى العرف والعقلاء بحكم الرضا الفعلي بحيث لا يفهم عرفا ممّا دل على أنّه لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه اعتبار أزيد من ذلك ، بل لو قلنا بظهوره في إرادة الرضا الفعلي ، فلا بد من تعميمه على وجه يعمّ مثل الفرض ، لقضاء السيرة عليه.

وربما كان في خبر سعيد بن الحسن إيماء إليه ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام :«أيجي‌ء أحدكم إلى كيس أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟»

١٢

قلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «فلا شي‌ء إذا» قلت : فالهلاك إذا ، فقال : «إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم [ بعد ]» (١).

ونحوه الخبر المرويّ ـ عن كتاب الاختصاص للمفيد ـ عن أبان بن تغلب عن ربعي عن بريد العجلي ، قال : قيل لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ أصحابنا بالكوفة لجماعة كثيرة فلو أمرتهم لأطاعوك واتّبعوك ، قال : «يجي‌ء أحدكم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته؟» فقال : لا ، قال : «هم بدمائهم أبخل ، إنّ الناس في هدنة تناكحهم وتوارثهم حتى إذا قام القائم عليه‌السلام جاءت المزايلة ، وأتى الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته فلا يمنعه» (٢).

وتنزيلهما على إرادته في خصوص ما لو علم به المالك حين أخذ الفلوس من كيسه ممّا لا داعي إليه. بل المقصود بالاستفهام بحسب الظاهر هو الاستعلام عن وصولهم في مقام الأخوّة والصداقة إلى حدّ طابت نفوسهم بأن يتصرّف كلّ منهم في ملك صاحبه بما يحتاجه من غير احتياج إلى الاستئذان منه.

وكيف كان فهذا ـ أي كفاية الرضا الشأني بالمعنى المتقدّم ـ ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال فيما لو قارنه كراهة فعليّة ، كما لو علم من حاله أنّه يحبّ إكرام الفقراء ويرضى بتصرّفهم في ملكه ولكنّه زعم أن زيدا غني ، فمنعه عن ذلك ، فقد يتخيّل في مثل المقام أنّه يجوز لزيد أن يتصرّف في ملكه إذا علم باندراجه في الموضوع الذي علم من حاله الرضا لمن اندرج فيه.

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٧٣ ـ ١٧٤ (باب حقّ المؤمن على أخيه ..) ح ١٣ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) الاختصاص : ٢٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلي ، ح ٤.

١٣

ولكنّه في غاية الإشكال ، خصوصا في بعض الفروض ، الذي يكون فرض رضاه مجرّد الفرض ، كما لو نهى شخصا عن أكل ماله وكان في ذلك الشخص بعض الفضائل التي لو علم بها تطيب نفسه بأكله ، أو بلغت حاجته إلى حدّ كذلك ، بل الأظهر عدم الجواز في مثل هذه الفروض ، وإلّا لانفتح باب واسع لجواز أكل أموال الناس ، فالأقوى عدم الاعتداد بمثل هذا الرضا التقديري الذي مآله في الحقيقة بعض الجهات المقتضية له على تقدير الاطّلاع عليها ، كما أنّ الأمر بالعكس في عكسه.

نعم ، الظاهر كفاية الرضا التقديري ، وعدم العبرة بالكراهة الفعليّة فيما إذا كانت الكراهة ناشئة من الجهل بخصوص الشخص ، كما لو رأى شبحا من البعيد فنهاه عن الدخول في داره ، وكان ذلك الشخص ممّن لا يقصده بالنهي على تقدير معرفته بشخصه ، كما لو كان ابنه أو صديقه الذي يرضى بدخوله ، فالإشكال إنّما هو فيما إذا كان الشخص بخصوصه مقصودا بالنهي ، ولكن كان ذلك لشبهة لولاها لم ينهه عن التصرّف ، كما لو اعتقد أنّ زيدا عدوّ له ، فكره دخوله إلى داره ولم يكن زيد في الواقع كذلك ، فالفرق بين هذه الصورة وسابقته أن جهله أثّر في هذه الصورة في أن لم يرض بأن يدخل زيد بشخصه في داره ، وأمّا في الصورة السابقة فلم يقصده بشخصه ، بل قصد غيره ، فلا يؤثّر نهيه في حرمة دخول زيد ، المعلوم رضاه به.

وكيف كان فهل يعتبر في إحراز رضا المالك ـ الذي يباح به التصرّف في أمواله مطلقا ، مكانا كان أو غيره ـ العلم به حقيقة أو حكما ، كما إذا كان مستندا إلى

١٤

أمارة معتبرة ، كظواهر الألفاظ أو البيّنة ونحوها ، أم يكفي الظنّ مطلقا أو في الجملة ، فيه وجوه ، بل أقوال ، فربما يظهر من بعض اعتبار العلم مطلقا ؛ تعويلا على أصالة عدم حجّية ما عداه ، بل هو صريح عبارة المدارك في شرح عبارة المصنف رحمه‌الله ، فإنّه ـ بعد أن بيّن أنحاء الإذن ـ قال : وبالجملة ، فالمعتبر في غير المباح والمملوك للمصلّي العلم برضا المالك ، سواء كان الدالّ على الرضا لفظا أو غيره. ثمّ نظّر في عبارة المصنّف رحمه‌الله من وجوه ، ثالثها : أنّ اكتفاءه ـ رحمه‌الله تعالى ـ في شاهد الحال بأن تكون هناك أمارة تشهد أن المالك لا يكره غير مستقيم ؛ لأنّ الأمارة تصدق على ما يفيد الظنّ أو منحصرة فيه ، وهو غير كاف هنا ، بل لا بدّ من إفادتها العلم كما بيّناه (١). انتهى.

وعن الشهيد الثاني التفصيل ، فاكتفى بشاهد الحال في المكان ، دون اللباس ، قال : اقتصارا فيما خالف الأصل ـ وهو التصرّف في مال الغير بغير إذنه ـ على محلّ الوفاق (٢). انتهى ، فكأنّه أراد بشاهد الحال الأمارات المورثة للظنّ بالرضا ، وإلّا فلا شبهة في جواز الاعتماد على الأمارات المفيدة للقطع مطلقا ؛ ضرورة أنّ العلم في حدّ ذاته واجب الاتّباع من أي سبب حصل ، فليس الاعتماد عليه مخالفا للأصل كي يقتصر على محلّ الوفاق ، فكلامه كالصريح في إرادة الاكتفاء بالأمارات الظنّية في المكان دون غيره.

وربما يفصّل في الأمارات الظنّية بين ما جرت العادة بالتعويل عليها ، أي ما كان له ظهور عرفي بحسب وضعه ، كالمضايف ونحوها ممّا كان بمقتضى وضعه

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٦.

(٢) روض الجنان ٢ : ٥٤٦ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٢٨١.

١٥

النوعي دالا على الرضا ببعض التصرّفات التي يتعارف وقوعها فيها من الجلوس والنوم والصلاة وأشباهها ، وبين غيرها ممّا لم تكن له دلالة وضعيّة ، فيعوّل على القسم الأوّل وإن لم يكن بالفعل مفيدا للظنّ أيضا ؛ لكونها ـ كظواهر الألفاظ ـ حجّة بشهادة العرف ، دون القسم الثاني.

اللهمّ إلّا أن يدلّ عليه دليل بالخصوص ، كما قد يدّعى ذلك بالنسبة إلى الأراضي المتّسعة كما ستعرفه.

وهذا لا يخلو عن قوّة ، كما لا يخفى ذلك على من تأمل في وجهه.

وربما ذهب بعض (١) إلى كفاية الظنّ بالرضا في جواز التصرّف في ملك الغير مطلقا ، وقد قوّاه في المستند ، وزعم أنّه هو الموافق للأصل ، وأنّ ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير من دون رضاه لا يدل إلا على حرمته مع العلم بعدم الرضا ، أو مع احتمال الرضا ، لا مع الظنّ به ، بل ادّعى في ذيل عبارته أنّ الأدلّة قاصرة عن شمول مثل الصلاة ونحوها لو لا الإجماع عليه في بعض صوره ، مع أنّه صرّح في صدر كلامه بما يناقض ذلك.

والأولى نقل جملة من عبائره وبيان ما فيها كي تتّضح حقيقة الحال ويتميّز صحيحها عن سقيمها.

قال : يشترط في مكان المصلّي الإباحة بأن يكون مباح الأصل أو مملوكا له عينا أو منفعة أو مأوذنا فيه خصوصا أو عموما ولو بالفحوى أو شاهد الحال ، فتحرم الصلاة في ملك الغير بغير إذنه بأحد الطرق الثلاثة بالإجماع المقطوع به ؛

__________________

(١) كالبحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٧٦.

١٦

لأنّها تصرّف ، وهو في ملك الغير بغير إذنه غير جائز باتّفاق جميع الأديان والملل ، ويدلّ عليه عموم الروايتين المتقدّمتين في مسألة اللباس الغصبي (١).

أقول : كونه اتّفاقيّا في جميع الأديان والملل يكشف عن كونه من المستقلّات العقليّة التي يلتزم به كافّة العقلاء ، بل هو في حدّ ذاته من ضروريّات العقل ، وكونه كذلك لعلّه هو الذي دعاه إلى ادّعاء اتّفاق جميع أرباب الملل ، وإلّا فلا طريق بحسب الظاهر لاستكشاف آراء الجميع بغير هذا الوجه.

ومراده بالروايتين المتقدّمتين الخبر المروي عن صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ أنّه قال : «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغيره إذنه» (٢) ورواية محمّد بن زيد (٣) الطبري : «لا يحلّ مال إلّا من وجه أحلّه الله» (٤).

ثمّ قال بعد أسطر : وأمّا ما توهّمه بعض من قاربنا عصره من عدم توقّف هذا النوع من التصرّفات على الإذن من المالك ؛ لثبوت الإذن من الشارع ، للإجماع عليه ؛ حيث إنّا نرى المسلمين في الأعصار والأمصار بل الأئمّة وأصحابهم يصلّون ويمرّون في صحاري الغير وبساتينهم وجماعاتهم وحمّاماتهم وخاناتهم ، وفي أملاك من لا يتصوّر في حقّه الإذن كالصغير والمجنون ، وفي أملاك من يكون الظاهر عدم إذنهم ؛ لمخالفتهم في العقائد ، ففيه : أنّه يمكن أن تكون هذه التصرّفات منهم للعلم بالرضا أو الظنّ بشاهد حال أو نحوه ، ولم يثبت

__________________

(١) مستند الشيعة ٤ : ٤٠١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (٣).

(٣) في التهذيبين : «يزيد».

(٤) الكافي ١ : ٥٤٧ ـ ٥٤٨ (باب الفي والأنفال ..) ح ٢٥ ، التهذيب ٤ : ١٣٩ / ٣٩٥ ، الاستبصار ٢ : ٥٩ / ١٩٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، ح ٢.

١٧

عندنا تصرّفهم في الزائد على ما ظنّ فيه ذلك بحيث يبلغ حدّ الإجماع بل الاشتهار ، كما لا يخفي. وأمّا نحو أملاك الصغير والمجنون فهما وإن لم يصلحا للإذن إلّا أنّه لا يخلو أحدهما عن وليّ ولو كان الوليّ العام ، وإذنه قائم مقام إذنه قطعا ، فالعلم به أو الظنّ كاف في الجواز.

إلى أن قال : وهل يكفي في شاهد الحال بل مطلق الإذن المزيل للتحريم ، الموجب لصحّة الصلاة حصول الظنّ بالرضا ، أم يتوقّف على العلم به؟ الأظهر الأشهر ـ كما صرّح به في الحدائق ـ الأوّل ؛ لأصالة جواز التصرّف في كلّ شي‌ء ، السالمة عمّا يصلح للمعارضة ؛ إذ ليس إلّا الإجماع المنتفي في المقام قطعا ، واستصحاب حرمة التصرّف ، المعارض باستصحاب جوازه لو كانت الحالة السابقة العلم بالرضا ، والمردود بأنّ المعلوم أوّلا ليس إلّا حرمة التصرّف ما دام عدم الظنّ بالرضا دون الزائد ، والروايتان المتقدّمتان في مسألة اللباس ، المردودتان بالضعف الخالي عن الجابر في المقام مع ضعف دلالة ثانيتهما ؛ لعدم العلم بمتعلّق عدم الحلّيّة بأنّه هل يعمّ جميع التصرّفات حتّى غير المتلفة أيضا أم لا. وجعل المال في المقام هو الانتفاع في المكان بالاستقرار بقدر الصلاة فيتلف بالصلاة مردود بعدم معلوميّة صدق المال عرفا على هذا القدر من الانتفاع.

ومنه يظهر ما في رواية تحف العقول ـ يعني ما رواها عنه في صدر المسألة (١) من قوله عليه‌السلام : «انظر فيما تصلّي وعلى ما تصلّي ، فإن لم يكن على وجهه وحلّه فلا قبول» (٢) ـ وضعف الاستدلال بقوله صلّي الله عليه وآله وسلّم : «لا يحلّ مال امرئ

__________________

(١) مستند الشيعة ٤ : ٤٠١.

(٢) تحف العقول : ١٧٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

١٨

مسلم إلّا بطيب نفسه».

إلى أن قال : بل لولا خروج صورة احتمال الرضا بالإجماع ولا أقلّ من الشهرة الجابرة لأولى الروايتين ، الناهية عن التصرّف بغير الإذن ، المستدعي لحصول الإذن الواقعي الغير المعلوم في غير صورة العلم بالإذن ، لقلنا بالجواز فيها أيضا ، ولكنّها بما ذكر خارجة.

إلى أن قال في ذيل كلامه في مقام الاستدلال لجواز الصلاة في الوقف من غير توقّفه على إذن المتولّي أو الواقف أو الموقوف عليهم : إنّ الأصل جواز هذا النوع من التصرّف لكلّ أحد في كلّ مال ، وعدم تأثير منه المالك فيه ؛ إذ لا يمنع العقل من جواز الاستناد أو وضع اليد أو الرّجل في ملك الغير بدون إذنه إذا لم يتضرّر به ، بل ولو مع منعه كما في الاستظلال بظلّ جداره والاستضاءه بضوء سراجه ، وإنّما المانع الدليل الشرعي ، وليس إلّا الأخبار والإجماع.

أمّا الأخبار ـ فمع عدم صراحتها بل ولا ظهورها في أمثال هذه التصرّفات وعدم معلوميّة شمولها للموقوفات ولا للموقوف عليهم ـ ضعيفة لا تصلح للحجيّة في غير مورد الانجبار والاشتهار ، وهو غير صورة العلم بعدم إذن المالك في المملوك الطلق أو مع احتمال عدم الإذن غير معلوم.

وأمّا الإجماع فظاهر كيف! ويدّعي بعضهم الإجماع على جوازه هذه التصرّفات ، وأنّها كالاستظلال بظلّ الحائط ما لم يتضرّر المالك مطلقا (١). انتهى.

وفي كلماته مواقع للنظر لا يهمّنا الإطالة في إيضاحها بعد شهادة جميع

__________________

(١) مستند الشيعة ٤ : ٤٠١ و ٤٠٢ ـ ٤٠٣ و ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

١٩

أرباب الملل ـ الذين ادّعى اتّفاقهم على عدم جواز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه ـ بأنّ اعتبار العلم بالإذن أو الظنّ في إباحة التصرّف على جهة الطريقيّة ، وأن رضا المالك بنفسه هو السبب لحلّ التصرّف ، والعلم به أو الظنّ المعتبر كاشف عن تحقّقه ، كما في سائر الأسباب المبيحة أو المملكة ، لا أن العلم بعدم الإذن أو الظنّ به من حيث هو سبب للحرمة كي يكون عدمه مناطا للحل كما زعمه قدس‌سره وصرّح به في طيّ بعض كلماته التي طوينا ذكرها.

ويشهد لذلك ـ مضافا إلى ذلك ـ النصوص والفتاوى المعتضدة بصريح العقل ، وقاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، القاضية بحرمة الاستيلاء على ملك الغير من غير رضاه.

والخدشة في دلالة ما دلّ على أنّه «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» لقصوره عن إفادة اعتبار الطيب بالنسبة إلى التصرّفات الغير المتلفة ممّا لا ينبغي الالتفات إليها بعد اعتضاده بما عرفت ، وظهوره عرفا في إرادة المنع عن الاستيلاء على مال الغير من غير رضاه ، كما تقدّمت الإشارة إليه في صدر المبحث.

وكيف كان فاشتراط حلّ التصرّف في مال الغير برضاه من الوضوح بمكان لا يحوم حوله شائبة ارتياب ، فلا بدّ من إحرازه بالعلم أو ما قام مقامه ، كالبيّنة وظواهر الألفاظ وخبر الثقة إن اعتبرناه في الموضوعات ، كما هو الأظهر على ما بيّنّاه في المواقيت وغيرها من المباحث السابقة.

وأمّا الأمارات الظنّيّة المعبّر عنها بشاهد الحال فهي أيضا حجّة معتمدة إن كانت ممّا جرت العادة على التعويل عليها بأن كان لها ظهور عرفيّ معتدّ به لدى

٢٠