مصباح الفقيه - ج ٩

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٩

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

المنتفية في حقّهم ، فلا معارضة بين هذه الروايات وبين الأخبار المتقدّمة وغيرها ممّا دلّ على استحباب هاتين الركعتين ، كما أنّه لا تعارض تلك الأخبار الروايات التي يستشعر أو يستظهر منها انحصار عدد الركعات في أقلّ من ذلك.

مثل : مرسلة الصدوق ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصلّي بالنهار شيئا حتّى تزول الشمس ، وإذا زالت صلّي ثماني ركعات ، وهي صلاة الأوّابين ، تفتح في تلك الساعة أبواب السماء ، وتستجاب الدعاء ، وتهبّ الرياح ، وينظر الله إلى خلقه ، فإذا فاء الفي ذراعا ، صلّى الظهر أربعا ، وصلّى بعد الظهر ركعتين ، ثمّ صلّى ركعتين اخراوين ، ثمّ صلّى العصر أربعا ، إذا فاء الفي‌ء ذراعا ، ثمّ لا يصلّي بعد العصر شيئا حتّى تؤوب الشمس ، فإذا آبت ـ وهو أن تغيب ـ صلّى المغرب ثلاثا وبعد المغرب أربعا ، ثمّ لا يصلّي شيئا حتّى يزول نصف الليل ، فإذا زال نصف الليل ، صلّى ثماني ركعات ، وأوتر في الربع الأخير من الليل بثلاث ركعات ، فقرأ فيهنّ بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ، ويفصل بين الثلاث بتسليمة ويتكلّم ويأمر بالحاجة ولا يخرج من مصلّاه حتّى يصلّي الثالثة التي يوتر فيها ، ويقنت قبل الركوع ، ثمّ يسلّم ويصلّي ركعتي الفجر قبل الفجر وعنده وبعيده ، ثمّ يصلّي ركعتي الصبح ، وهي الفجر إذا اعترض وأضاء حسنا ، فهذه صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التي قبضه الله عزوجل عليها» (١).

ولا يبعد أن يكون ما تضمّنته هذه الرواية ـ وهي تسع وعشرون بإسقاط

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧ / ٦٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٦.

٢١

الوتيرة وأربع ركعات من نافلة العصر ـ هي التي لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يأتي بأقلّ منه لا لضرورة.

ويحتمل جري هذه الرواية مجرى التقيّة.

ويؤيّد التوجيه الأوّل ـ أي إرادة ما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقصر عنه وإن كان كثيرا مّا يأتي بأزيد منه ـ مضافا إلى ما في ذيلها من الإشعار به : رواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن التطوّع بالليل والنهار ، فقال : «الذي يستحبّ أن لا يقصر منه ثمان ركعات عند زوال الشمس ، وبعد الظهر ركعتان ، وقبل العصر ركعتان ، وبعد المغرب ركعتان ، وقبل العتمة ركعتان ، وفي السحر ثمان ركعات ثمّ يوتر ، والوتر ثلاث ركعات مفصولة ، ثمّ ركعتان قبل صلاة الفجر ، وأحبّ صلاة الليل إليهم آخر الليل» (١) فإنّ في قوله عليه‌السلام : «الذي يستحبّ أن لا يقصر منه» إشعارا باستحباب الزيادة ، وأنّ هذه التسعة والعشرين ـ التي هي مع الفرائض تنتهي إلى ستّة وأربعين ركعة ـ هي أفضل ما يؤتى بها من النوافل ، وعليه تنطبق رواية يحيى ابن حبيب ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى الله من الصلاة ، قال : «ستّة وأربعون ركعة فرائضه ونوافله» قلت : هذه رواية زرارة ، قال : «أو ترى أحدا كان أصدع بالحقّ منه؟» (٢) فلا منافاة بينها وبين أن يكون الفضل في إكمالها إلى أن ينتهي إلى إحدى وخمسين ركعة.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٦ / ١١ ، الاستبصار ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ / ٧٧٧ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٦ / ١٠ ، الاستبصار ١ : ٢١٩ / ٧٧٦ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٥.

٢٢

ولا ينبغي الالتفات إلى ما فيها من الإشعار بانحصار عدد الفرائض والنوافل المرتّبة فيما ذكر بعد ورود التصريح بشرعيّة ما زاد عليه في سائر الروايات.

كما أنّه لا ينبغي الالتفات إلى ما يستشعر من صحيحة زرارة من انحصار عدد الفرائض والنوافل في الأربع والأربعين بالاقتصار في نافلة العصر على الأربع ، وفي نافلة العشاءين على ركعتين بينهما ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّي رجل تاجر أختلف فكيف لي بالزوال والمحافظة على صلاة الزوال؟ وكم تصلّى؟ قال عليه‌السلام : «تصلّي ثماني ركعات إذا زالت الشمس ، وركعتين بعد الظهر ، وركعتين قبل العصر ، فهذه اثنتا عشرة ركعة ، وتصلّي بعد المغرب ركعتين ، وبعد ما ينتصف الليل ثلاث عشرة ركعة منها : الوتر ، ومنها : ركعتا الفجر ، فتلك سبع وعشرون ركعة سوى الفريضة ، وإنّما هذا كلّه تطوّع ، وليس بمفروض ، إنّ تارك الفريضة كافر ، وإنّ تارك هذا ليس بكافر ولكنّها معصية ، لأنّه يستحبّ إذا عمل الرجل عملا من الخير أن يدوم عليه» (١) فإنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما تقدّمها : حمل ما في هذه الرواية على بيان أقلّ المجزئ ، كما يشعر بذلك صحيحة ابن سنان ، الناهية عن الأقلّ من ذلك.

قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا تصلّ أقلّ من أربع وأربعين ركعة» قال : ورأيته يصلّي بعد العتمة أربع ركعات (٢).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٧ ـ ٨ / ١٣ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٦ / ٩ ، الاستبصار ١ : ٢١٩ / ٧٧٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٤.

٢٣

أقول : الأربع ركعات التي رآها منه بعد العتمة لم يعرف وجهها ، فلعلّها صلاة جعفر ونحوها ، فلا تنافي الأخبار السابقة.

وربّما يظهر من صحيحة أخرى لزرارة : انحصار ما جرت به السنّة في الأربع والأربعين ، فتناقض الأخبار السابقة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما جرت به السنّة في الصلاة؟ فقال : «ثمان ركعات الزوال ، وركعتان بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر ، وركعتان بعد المغرب ، وثلاث عشرة ركعة من آخر الليل ، منها : الوتر ، وركعتا الفجر» قلت : فهذا جميع ما جرت به السنّة؟ قال : «نعم» فقال أبو الخطّاب : أفرأيت إن قوي فزاد؟ قال : فجلس وكان متّكئا ، فقال : «إن قويت فصلّها كما كانت تصلّى ، وكما ليست في ساعة من النهار فليست في ساعة من الليل ، إنّ الله يقول : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) (١)» (٢) فإنّ مفادها أنّ ما تضمّنته من عدد الركعات هي جميع ما جرت به السنّة.

ولكنّه لا بدّ من تأويلها أو طرحها ؛ لعدم صلاحيّتها لمعارضة الأخبار المتقدّمة وغيرها من الأخبار الواردة في خصوص نافلة الظهرين والأربع ركعات بعد المغرب والركعتين بعد العشاء الآخرة ، البالغة مرتبة (٣) التواتر بل فوقها ، الدالّة بالصراحة على شرعيّتها وكونها من السنّة ، فلا يبعد أن يكون المراد بكون ما في هذه الصحيحة «جميع ما جرت به السنّة» هي جميع ما استمرّ سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على فعلها بحيث لم يكن يأتي بأقلّ منها ، لا أنّها جميع ما سنّها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) طه ٢٠ : ١٣٠.

(٢) التهذيب ٢ : ٧ / ١٢ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٣.

(٣) في «ض ١١ ، ١٤» : «حدّ» بدل «مرتبة».

٢٤

ولا ينافي إرادة هذا المعنى ما في ذيل الرواية من ظهور أثر الغضب من فعل الإمام عليه‌السلام وقوله في جواب أبي الخطّاب السائل عن شرعيّة الازدياد ؛ فإنّ غضبه على الظاهر نشأ من سوء تعبير السائل ، كما يشهد لذلك خبر الصيقل عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إنّي لأمقت الرجل يأتيني فيسألني عن عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول : أزيد؟ كأنّه يرى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قصّر في شئ» (١) الحديث ، فلو كان يسأله عن شرعيّة الإتيان بالزائد لا بهذه العبارة ـ كما في بعض الأخبار المتقدّمة ـ لأجابه الإمام عليه‌السلام بالجواز ؛ لأنّ «الصلاة خير موضوع من شاء استقلّ ومن شاء استكثر» (٢) غاية الأمر أنّه لا ينوي بالزائد استحبابه بالخصوص ما لم يثبت.

والغرض من إطالة الكلام بيان أنّ أخبار الباب لدى المتأمّل ليست من الأخبار المتعارضة ، بل الاختلافات الواقعة فيها منزّلة على اختلاف المراتب في الفضل ، وإلّا فمن الواضح أنّه لا يصلح سائر الروايات لمعارضة الأخبار الدالّة على شرعيّة الإحدى والخميس ، المعتضدة بفتوى الأصحاب وعملهم.

وممّا يشهد بعدم التنافي بين الأخبار وصحّة الجميع : ما رواه عبد الله بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل ، قال : «وعليكم بالصلاة الستّة والأربعين ، وعليك بالحجّ أن تهلّ بالإفراد وتنوي الفسخ إذا قدمت مكّة» ثمّ قال : «والذي أتاك به أبو بصير من صلاة إحدى وخمسين والإهلال بالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ وما أمرناه به من أن يهلّ بالتمتّع ، فلذلك عندنا معان وتصاريف لذلك (٣) ، ما

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٠٣ / ١٣٨٦ ، وعنه في الوافي ٧ : ٧٧ / ٥٤٨٤ ـ ٥.

(٢) الخصال : ٥٢٣ / ١١ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٥٩٧.

(٣) في «اختيار معرفة الرجال» : «كذلك» بدل «لذلك».

٢٥

يسعنا ويسعكم ، ولا يخالف شي‌ء منه الحقّ ولا يضادّه» (١).

ويحتمل قويّا كون الستّة والأربعين التي أمر بها في هذه الرواية جارية مجرى التقيّة ؛ حيث إنّه عليه‌السلام بعد أن أمر بهذا العدد نبّه على صدور رواية اخرى متضمّنة للأمر بإحدى وخمسين غير مضادّة للحقّ لم يكن يسع الإمام عليه‌السلام توجيهها في ذلك المجلس إلّا على سبيل الإجمال والاعتذار بأنّ لها معان وتصاريف غير مخالفة للواقع ، ففيها إيماء إلى أنّ ما عدا الرواية التي فيها الأمر بإحدى وخمسين كلّها من هذا القبيل ، والله العالم.

تنبيهات :

الأوّل : قال صاحب المدارك قدس‌سره : المشهور بين الأصحاب أنّ نافلة الظهر ثمان ركعات قبلها ، ونافلة العصر ثمان ركعات قبلها.

وقال ابن الجنيد : يصلّى قبل الظهر ثمان ركعات وثمان ركعات بعدها ، منها : ركعتان نافلة العصر. ومقتضاه أنّ الزائد ليس لها.

وربّما كان مستنده رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صلاة النافلة ثمان ركعات حين تزول الشمس قبل الظهر ، وستّ ركعات بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر» (٢) وهي لا تعطي كون الستّة للظهر ، مع أنّ في رواية البزنطي أنّه «يصلّى أربع بعد الظهر ، وأربع قبل العصر» (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٤٠ ـ ١٤١ / ٢٢١ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٧.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ١٥ ، الهامش (١).

(٣) تقدّم تخريجها في ص ١٣ ، الهامش (٢).

٢٦

وبالجملة ، فليس في الروايات دلالة على التعيين بوجه ، وإنّما المستفاد منها استحباب صلاة ثمان ركعات قبل الظهر ، وثمان بعدها ، وأربع بعد المغرب من غير إضافة إلى الفريضة ، فينبغي الاقتصار في نيّتها على ملاحظة الامتثال بها خاصّة (١). انتهى.

أقول : لا ريب أنّ الأمر المتعلّق بالنوافل ليس أمرا غيريّا ناشئا من كون الفريضة مسبوقة أو ملحوقة بنافلة شرطا لكمالها بأن يكون حال النافلة حال الأذان والإقامة في كونها بمنزلة الأجزاء المستحبّة للصلاة ، بل هي عبادات مستقلّة قد تعلّق الأمر بإيجادها في أوقات معيّنة قبل فعل الفرائض أو بعدها ؛ فلها نحو تعلّق بأوقاتها وبالفرائض التي اعتبر الشارع وقوعها قبلها أو بعدها ، فتصحّ باعتبار تلك العلاقة إضافتها إلى وقتها أو إلى الفريضة المرتبطة بها ؛ فإنّه يكفي في الإضافة أدنى مناسبة ، فلا يهمّنا تحقيق أنّ إضافتها إلى الفرض من قبيل إضافة المسبّب إلى سببه وأنّ حكمة تعلّق الأمر بها المناسبة المتحقّقة بين الفرائض وبينها ، المقتضية لتشريعها ، أو أنّ إضافتها إلى الوقت كذلك ، فإنّ الآتي بها سواء أضافها إلى الوقت أو إلى الفرض لا ينوي بفعلها إلّا النافلة المعهودة المسنونة التي تعلّق الأمر الشرعي بإيجادها في ذلك الوقت قبل الفرض أو بعده ، فإضافتها إلى الوقت أو إلى الفرض إنّما هي لكونها معرّفة لتلك الماهيّة ومميّزة إيّاها عن غيرها ، وبها يحصل التميّز ، فتصحّ معها العبادة من غير حاجة إلى تحقيق السبب ولا إلى معرفة أنّ الشارع أطلق عليها نافلة الوقت أو سمّاها نافلة الفرض.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ١٣.

٢٧

هذا ، ولكنّ الذي يقوى في النظر ـ بالنظر إلى ظواهر كلمات الأصحاب ، حيث أضافوها إلى الفرض ، وبالتدبّر في الأخبار الواردة في حكمة تشريع النوافل من أنّها لتكميل الفرائض ، وما دلّ على أنّ لكلّ ركعة من الفريضة ركعتين من النافلة ، وغيرها من الروايات ـ أنّ العلاقة المصحّحة لإضافتها إلى الفريضة ليست مجرّد القبليّة والبعديّة ، لكن لا يترتّب على تحقيقها ثمرة عمليّة.

قال في المدارك ـ بعد عبارته المتقدّمة (١) ـ قيل : وتظهر فائدة الخلاف في اعتبار إيقاع الستّ قبل القدمين أو المثل إن جعلناها للظهر ، وفيما إذا نذر نافلة العصر ، فإنّ الواجب الثمان عند (٢) المشهور ، وركعتان على قول ابن الجنيد.

ويمكن المناقشة في الموضعين.

أمّا الأوّل : فبأنّ مقتضى النصوص : اعتبار إيقاع الثمان ـ التي قبل الظهر ـ قبل القدمين أو المثل ، والثمان ـ التي بعدها ـ قبل الأربعة أو المثلين ، سواء جعلنا الستّ منها للظهر أم للعصر.

وأمّا الثاني : فلأنّ النذر يتبع قصد الناذر ، فإن قصد الثماني أو الركعتين ، وجب. وإن قصد ما وظّفه الشارع للعصر ، أمكن التوقّف في صحّة النذر ؛ لعدم ثبوت الاختصاص ، كما بيّنّاه (٣). انتهى.

أقول : أمّا الثمرة الاولى : فيتوجّه عليها ما ذكره.

وأمّا الثمرة الثانية : فالأولى أن يخدش فيها : بأنّه لا يليق بالفقيه أن يذكرها

__________________

(١) في ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) في المصدر : «على» بدل «عند».

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ١٣ ـ ١٤.

٢٨

ثمرة لتحقيق المباحث الفقهيّة حتّى يقابل بالردّ ، كما لا يخفى.

الثاني : يكره الكلام بين الأربع ركعات التي بعد المغرب ؛ لرواية أبي الفوارس (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : نهاني أن أتكلّم بين الأربع ركعات التي بعد المغرب (٢).

لكن قد ينافيها بعض الأخبار المتقدّمة الظاهرة في استحباب التفريق وإتيان ركعتين منها بعد المغرب وركعتين قبل العشاء.

ولكنّه لا ينبغي الالتفات إلى هذا الظاهر بعد مخالفته للفتاوى وظواهر سائر النصوص أو صريحها ، فليتأمّل ، وسيأتي لذلك مزيد تحقيق ـ يرتفع به التنافي بين الأخبار ـ في المواقيت إن شاء الله.

واستشهد في المدارك بالرواية المتقدّمة (٣) لإثبات كراهة الكلام بين المغرب ونافلتها قائلا في تقريبه : إنّ كراهة الكلام بين الأربع تقتضي كراهة الكلام بينها وبين المغرب بطريق أولى (٤).

واستشهد لها أيضا برواية أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من صلّى المغرب ثمّ عقّب ولم يتكلّم حتّى يصلّي ركعتين كتبتا له في علّيّين ، فإن صلّى أربعا كتبت له حجّة مبرورة» (٥) (٦).

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أبي فارس». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٢) الكافي ٣ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤ / ٧ ، التهذيب ٢ : ١١٤ / ٤٢٥ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب التعقيب ، ح ١.

(٣) أي : رواية أبي الفوارس ، المتقدّمة آنفا.

(٤) مدارك الأحكام ٣ : ١٤.

(٥) التهذيب ٢ : ١١٣ / ٤٢٢ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب التعقيب ، ح ٢.

(٦) مدارك الأحكام ٣ : ١٤.

٢٩

ولا يخفى عليك ما في دعوى الأولويّة من النظر خصوصا على ما ذهب إليه من عدم ثبوت اختصاص النافلة بالفرض ، وأنّ القدر المتيقّن الثابت بالأخبار أنّها صلوات مسنونة في أوقات معيّنة.

وأمّا الرواية : فلا تدلّ إلّا على استحباب ترك التكلّم ، لا كراهة الكلام.

الثالث : لا يتعيّن الجلوس في الركعتين اللّتين تعدّان بركعة ، كما يوهمه ظاهر المتن وغيره ، كظواهر كثير من النصوص الواردة فيهما ، بل يجوز الإتيان بهما قائما ، بل هو أفضل ، كما هو صريح موثّقة سليمان بن خالد ، المتقدّمة (١) ، قال فيها : «وركعتان بعد العشاء الآخرة تقرأ فيهما مائة آية قائما أو قاعدا ، والقيام أفضل» الحديث.

وظاهر رواية الحارث بن المغيرة ـ المتقدّمة (٢) المصحّحة بطريق الشيخ ـ قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام ، إلى أن قال : «وركعتان بعد العشاء الآخرة ، كان أبي يصلّيهما وهو قاعد ، وأنا أصلّيهما وأنا قائم» فإنّ الظاهر أنّ مواظبته عليه‌السلام على القيام لم يكن إلّا لأفضليّته. وأمّا أبوه عليه‌السلام فكان يشقّ عليه الصلاة قائما ، فلا ينافي فعله أفضليّة القيام ، كما يشهد بذلك خبر حنان بن سدير عن أبيه ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أتصلّي النوافل وأنت قاعد؟ قال : «ما أصلّيها إلّا وأنا قاعد منذ حملت هذا اللحم وبلغت هذا السنّ» (٣).

__________________

(١) في ص ١٤.

(٢) في ص ١٣ ـ ١٤.

(٣) الكافي ٣ : ٤١٠ / ١ ، التهذيب ٢ : ١٦٩ ـ ١٧٠ / ٦٧٤ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القيام ، ح ١.

٣٠

الرابع : لاريب في أنّ النوافل المرتّبة عبادات مستقلّة ونوافل متعدّدة ، وليس مجموع الستّة (١) والثلاثين ركعة عبادة واحدة بحيث لا يشرع الإتيان ببعضها إلّا مع العزم على الإتيان بما عداه ، فله الإتيان بنافلة الظهر عازما على الاقتصار عليها ، وهكذا سائر النوافل ، كما يشهد بذلك ـ مضافا إلى وضوحه ودلالة كثير من الأخبار المتقدّمة بل أكثرها عليه ، كما لا يخفى على المتأمّل ـ الأخبار الخاصّة الواردة فيها بالخصوص.

مثل : المستفيضة الواردة في خصوص الوتيرة ، وفي الأربع ركعات التي بعد المغرب ، وفي صلاة الليل ، وفي ركعتي الفجر اللّتين روي فيهما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أشدّ معاهدة بهما من سائر النوافل (٢) ، وأنّهما خير من الدنيا وما فيها (٣) ، وأنّهما المشهودتان لملائكة الليل والنهار (٤) ، ومن هنا قيل ـ بل حكي عليه الإجماع ـ : إنّهما أفضل من غيرهما من النوافل (٥) ، وغير ذلك من الأخبار التي ورد فيها الحثّ على آحادها.

مثل : ما في مرسلة الصدوق ـ المتقدّمة (٦) ـ من توصيف نافلة الزوال بأنّها

__________________

(١) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، والظاهر : «الأربع» بدل «الستّة».

(٢) كما في درر اللآلئ ، الورقة ١١ ، وعنه في مستدرك الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، ح ٤.

(٣) صحيح مسلم ١ : ٥٠١ / ٧٢٥ ، سنن الترمذي ٢ : ٢٧٥ / ٤١٦ ، سنن النسائي ٢ : ٢٥٢ ، سنن البيهقي ٢ : ٤٧٠ ، المستدك ـ للحاكم ـ ١ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٧ / ١١٦ ، أمالي الطوسي : ٦٩٥ / ١٤٨١ ـ ٢٤ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب المواقيت ، ح ١ و ٣.

(٥) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٢٤ عن الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٥٢٣ ، المسألة ٢٦٤.

(٦) في ص ٢١.

٣١

صلاة الأوّابين.

ونحوها ما عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : صلاة الزوال صلاة الأوّابين» (١).

وقد بالغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمرها بالخصوص في وصيّته لعليّ عليه‌السلام على ما رواه معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث قال له في الوصيّة : «عليك بصلاة الزوال ، وعليك بصلاة الزوال ، وعليك بصلاة الزوال» (٢).

وفي مرفوعة محمّد بن إسماعيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام «وعليك بصلاة الليل ـ يكرّرها أربعا ـ وعليك بصلاة الزوال» (٣).

وعن الفقه الرضوي ـ بعد أن ذكر إجمالا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل بإزاء كلّ ركعة من الفريضة ركعتين من النافلة ـ قال : «منها ثمان ركعات قبل زوال الشمس ، وهي صلاة الأوّابين ، وثمان بعد الظهر ، وهي صلاة الخاشعين ، وأربع ركعات بين المغرب والعشاء الآخرة ، وهي صلاة الذاكرين ، وركعتان بعد صلاة [العشاء] الآخرة من جلوس تحسب بركعة من قيام ، وهي صلاة الشاكرين ، وثمان ركعات صلاة الليل ، وهي صلاة الخائفين ، وثلاث ركعات الوتر ، وهي صلاة الراغبين ، وركعتان عند الفجر ، وهي صلاة الحامدين» (٤).

والحاصل : أنّه لا مجال للارتياب في أنّ كلّ نافلة من النوافل المرتّبة عبادة مستقلّة يجوز الاقتصار عليها.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٤٤ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٢.

(٢) الكافي ٨ : ٧٩ / ٣٣ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ١.

(٣) المحاسن : ١٧ / ٤٨ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٣.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٩ ـ ١٠٠ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٣.

٣٢

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر الرضوي ـ كأغلب الفتاوى والنصوص ـ : أنّ ركعات الوتر عبادة مستقلّة لاربط لها بنافلة الليل ، وأنّ نافلة الليل هي الثمان ركعات التي كان يأتي بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا زال نصف الليل ، دون ركعات الوتر التي كان يصلّيها في الربع الأخير كما في بعض (١) الأخبار المتقدّمة ، فلا يلتفت إلى ما يستشعر من بعض (٢) الروايات التي جعل فيها نافلة الليل ثلاث عشرة ركعة ، وعدّ منها الركعات الثلاثة وركعتي الفجر.

فالأظهر أنّها عبادات مستقلّة ، كما يشهد لذلك ـ مضافا إلى ظهور أغلب النصوص فيه ـ بعض الأخبار الدالّة على جواز الإتيان بها مستقلّة.

مثل : ما رواه معاوية بن وهب عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «أمّا يرضى أحدكم أن يقوم قبل الصبح ويوتر ويصلّي ركعتي الفجر ، فيكتب له صلاة الليل» (٣).

والظاهر أنّ المراد بالوتر في الرواية هي الركعات الثلاث ؛ لشيوع إطلاق اسم الوتر عليها في الأخبار.

ويحتمل إرادة خصوص الوتر.

وكيف كان فالظاهر أنّ خصوص الركعة المفردة ـ التي تسمّى بالوتر في مقابل الشفع ـ في حدّ ذاتها عبادة مستقلّة وإن كان مقتضى تسمية الركعات الثلاث في أغلب الأخبار وتراكون مجموعها نافلة واحدة.

ولا ينافيها كونها صلاتين مستقلّتين لكلّ منهما افتتاح واختتام ؛ إذ لا مانع

__________________

(١) هي مرسلة الصدوق ، المتقدّمة في ص ٢١.

(٢) هي صحيحة زرارة ، المتقدّمة في ص ٢٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٣٧ / ١٣٩١ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب المواقيت ، ح ٣.

٣٣

من تركيب (١) عبادة من عبادتين ، كالاعتكاف المعتبر فيها صوم ثلاثة أيّام ، فلا يجوز الإتيان بصوم كلّ يوم قاصدا لامتثال الأمر بالاعتكاف إلّا مع العزم على الإتيان بالباقي.

إلّا أنّه يظهر من خبر الأعمش ـ المتقدّم (٢) ـ أنّ كلّا من الشفع والوتر نافلة مستقلّة لها عنوان مخصوص في الشريعة ، فإنّه قال عند تعداد الركعات المسنونة :«وثمان ركعات في السحر ، وهي صلاة الليل ، والشفع ركعتان ، والوتر ركعة» ونحوه رواية الفضل بن شاذان ، المتقدّمة (٣) ، فإنّ سوق الروايتين يشهد بأنّ الأعداد المفصّلة كلّها نوافل مستقلّة.

ويؤيّده بعض (٤) الأخبار الواردة في الركعتين بعد العشاء ، اللّتين تعدّان بركعة ، الدالّة على أنّ حكمة تشريعهما من جلوس قيامهما مقام الوتر على تقدير حدوث الموت وعدم التمكّن من الإتيان بالوتر في آخر الليل ، فالمراد بالوتر ـ الذي تقوم الركعتان مقامه ـ ليس إلّا الركعة الأخيرة ، لا الثلاث ركعات ؛ لأنّ الركعتين لا تقومان مقام ثلاث ركعات من قيام.

وكيف كان فالظاهر جواز الإتيان بهذه الركعة مستقلّة ، وأمّا مع ركعتي الشفع فلا ينبغي الارتياب في شرعيّتها ، كما أنّه لا ينبغي الاستشكال في جواز الاقتصار في نافلة المغرب على ركعتين ، وفي نافلة العصر على أربع ركعات ؛

__________________

(١) في «ض ١١ ، ١٤» : «تركّب».

(٢) في ص ١٥ ـ ١٦.

(٣) في ص ١٥.

(٤) هو خبر أبي بصير ، المتقدّم في ص ١٩.

٣٤

لدلالة بعض (١) الأخبار ـ المتقدّمة ـ عليه ، بل الظاهر جواز الإتيان بركعتين من نافلة العصر ؛ لما في غير واحد من الأخبار الآمرة بأربع ركعات بين الظهرين من التفصيل بالأمر بركعتين بعد الظهر ، وركعتين قبل العصر ، فإنّ ظاهرها بشهادة السياق أنّ كلّ واحد من العناوين المذكورة في تلك الروايات نافلة مستقلّة ، فللمكلّف الإتيان بكلّ منها بقصد امتثال الأمر المتعلّق بذلك العنوان من غير التفات إلى ما عداها من التكاليف.

وبهذا ظهر أنّه يجوز الإتيان بستّ ركعات أيضا من نافلة العصر ؛ لقوله عليه‌السلام ـ في موثّقة سليمان بن خالد ـ : «صلاة النافلة ثمان ركعات حين تزول الشمس [قبل الظهر] ، وستّ ركعات بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر» (٢) فإنّ ظاهرها كون الستّ ركعات في حدّ ذاتها نافلة مستقلّة.

وفي خبر عيسى بن عبد الله القمّي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا كانت الشمس من هاهنا من العصر فصلّ ستّ ركعات» (٣).

ويظهر من بعض الأخبار جواز الاقتصار في نافلة الزوال أيضا على أربع ركعات :كخبر الحسين بن علوان ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام أنّه كان يقول : «إذا زالت الشمس عن كبد السماء فمن صلّى تلك

__________________

(١) هي صحيحة زرارة ، المتقدّمة في ص ٢٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٥ ، الهامش (١) وما بين المعقوفين من المصدر وكما تقدّم.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ / ٦١٠ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٨.

٣٥

الساعة أربع ركعات فقد وافق صلاة الأوّابين ، وذلك [بعد] نصف النهار» (١).

وهل يجوز التخطّي عمّا يستفاد من النصوص بالإتيان بركعتين من نافلة الزوال ، أو ستّ ركعات أو ركعتين من نافلة الليل أو أربعا أو ستّا عازما عليه من أوّل الأمر؟ وجهان نفى عن أوّلهما البعد في الجواهر ، فإنّه ـ بعد أن ذكر أنّ ركعتي الفجر مستقلّة في الطلب لا يتوقّف استحباب فعلهما على فعل باقي صلاة الليل ، وأنّ الظاهر كون صلاة الوتر أيضا كذلك بشهادة بعض النصوص مع الأصل ـ قال : بل لا يبعد ذلك في الثمانية وأبعاضها وبعض الوتر ، وفاقا للعلّامة الطباطبائي ؛ للأصل ، ولتحقّق الفصل المقتضي للتعدّد ، ولعدم وجوب إكمال النافلة بالشروع ، ولأنّها شرّعت لتكميل الفرائض ، فيكون لكلّ بعض قسط منه ، فيصحّ الإتيان به وحده ، ولذا جاز الإتيان بنافلة النهار بدون الليل ، وبالعكس ، وبنافلة كلّ من الصلوات الخمس مع ترك الباقي وإن ذكر الجميع بعدد واحد في النصّ والفتوى ؛ إذ المنساق منه إلى الذهن عدم اشتراط الهيئة الاجتماعيّة في الصحّة ، كما يومئ إليه الزيادة والنقصان في النصوص السابقة.

ومن هنا تعرف البحث حينئذ في تبعيض صلاة الزوال والعصر والمغرب ؛ إذ الجميع من واد واحد. والإشكال بأنّ صلاة الليل ـ مثلا ـ عبادة واحدة فلا تتبعّض سار في الكلّ ، ورفعه بمنع الاتّحاد الذي يمتنع معه التبعيض متّجه في الجميع ، والجمع بالعدد كالثمان والأربع ـ مثلا ـ هنا لا يقتضيه ، فتأمّل (٢). انتهى

__________________

(١) قرب الإسناد : ١١٥ / ٤٠٣ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٤ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) جواهر الكلام ٧ : ٢٨ ـ ٢٩.

٣٦

كلامه رفع مقامه.

أقول : أمّا الأصل : فلا أصل له في مثل الفرض ، سواء اريد به أصالة عدم الاشتراط ، أو أصالة براءة الذمّة عن التكليف بالشرط.

أمّا الأوّل : فلأنّه ليس للمستصحب حالة سابقة معلومة ، واستصحاب العدم الأزلي الصادق مع انتفاء الموضوع لا يجدي في إحراز كون ما تعلّق به الطلب لا بشرط.

وأمّا الثاني : فلأنّه ـ بعد تسليم جريان أصل البراءة في المستحبّات ـ لا معنى لأصالة البراءة بعد أن علم تعلّق الطلب بمجموع الثمان ركعات وشكّ في أنّ المجموع الذي تعلّق به الطلب هل هو مطلوب واحد فيكون المكلّف به ارتباطيّا ، أو أنّه غير ارتباطيّ فيكون الطلب المتعلّق به قائما مقام طلبات متعدّدة؟ بل الأصل في مثل المقام عدم تعلّق طلب نفسيّ بالأبعاض كي يصحّ إتيان كلّ بعض منها مستقلّا بقصد امتثال أمره حتّى يقع عبادة.

ولا يقاس ما نحن فيه بمسألة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة التي نقول فيهما بالبراءة ؛ فإنّ التكليف بالجزء المشكوك أو الشي‌ء الذي ينتزع منه الشرطيّة في تلك المسألة غير محرز ، فينفيه أصل البراءة ، وأصالة عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه ، وأصالة عدم وجوب الأكثر ، ولا يجري في جانب الأقلّ شي‌ء من هذه الاصول حتّى تتحقّق المعارضة ؛ لأنّ وجوبه المردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا محرز ، فلا يجري معه شي‌ء من هذه الاصول ، وإنّما الأصل الجاري فيه أصالة عدم كونه واجبا نفسيّا ، أي عدم كونه من حيث هو متعلّقا للطلب ، وهو معارض

٣٧

بأصالة عدم كون الأكثر أيضا كذلك ، فيتساقطان ، ويرجع إلى الاصول المتقدّمة النافية لوجوب الأكثر ، السالمة عن المعارض.

وأمّا فيما نحن فيه : فلا يجري شي‌ء من الأصول المتقدّمة لا في طرف الأكثر ولا في طرف الأقلّ ؛ لأنّ مطلوبيّة الجميع معلومة ، إلّا أنّ كون الأقلّ مطلوبا نفسيّا غير معلوم ، فينفيه الأصل.

ولا يعارضه في المقام أصالة عدم كون الأكثر كذلك ؛ لأنّ الطلب المعلوم تعلّقه بالأكثر نفسيّ بلا شبهة ، وإنّما الشكّ في أنّ متعلّقه عبادة واحدة أو عبادات متعدّدة حتّى تكون أبعاضه أيضا واجبات نفسيّة ، فتدبّر.

وأمّا الفصل بين الأبعاض وانفصال كلّ بعض عن الآخر بالتسليم الموجب للخروج عن الصلاة فهو بنفسه لا يقتضي التعدّد ، وعدم ارتباط بعضها ببعض بالنسبة إلى العنوان الصادق على الجميع الواقع في حيّز الطلب ، كما في صلاة جعفر وصوم الاعتكاف.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مغروسيّة كون الأبعاض في حدّ ذاتها بعنوان كونها صلاة عبادات مستقلّة في النفس ، وكون كلّ منها في حدّ ذاتها مشتملة على مصلحة مقتضية للطلب ، وكون الأعداد الواقعة في حيّز الطلب غالبا عناوين إجماليّة انتزاعيّة عن (١) موضوعاتها توجب صرف الذهن إلى إرادة التكليف الغير الارتباطي ، كما لو أمر المولى عبده بأن يعطي زيدا عشرين درهما.

ولا يقاس المقام بالأمر بصوم ثلاثة أيّام للاعتكاف ممّا كان المطلوب

__________________

(١) في «ض ١١ ، ١٤» : «من» بدل «عن».

٣٨

النفسيّ عنوانا آخر غير نفس العدد الذي هو بنفسه غالبا عنوان انتزاعيّ ، بل ما نحن فيه نظير ما لو أمر بصوم ثلاثة أيّام في أوّل كلّ شهر ، فهذا بنظر العرف ليس إلّا كالأمر بإعطاء ثلاثة دراهم لا يفهمون منه إلّا تكليفا غير ارتباطيّ ، فليتأمّل.

وأمّا عدم وجوب إكمال النافلة بالشروع فيها فلا يدلّ على جواز الإتيان ببعضها عازما عليه من أوّل الأمر.

ألا ترى أنّا ربّما نلتزم بجواز قطع النافلة اختيارا مع أنّه لا يشرع الإتيان بجزئها من حيث هو ، كما هو واضح.

وأمّا كون حكمة شرع النوافل تكميل الفرائض فهو لا يدلّ على شرعيّة التوزيع ، ولذا لا يجوز الإتيان بركعة مستقلّة.

اللهمّ إلّا أن يقال بأنّه يستفاد من ذلك أنّ المصلحة المقتضية لشرع النوافل متقوّمة بذواتها من حيث كونها صلاة ، لا من حيث كونها بهذا العدد المخصوص ، فالمأمور به في الحقيقة هو الصلوات المتعدّدة التي ينتهي عدد ركعاتها إلى الثمانية مثلا ، فالأمر تعلّق بكلّ جزء جزء بعنوان كونه صلاة ، لا كونه جزءا من الثمانية.

وكيف كان فعمدة المستند لإثبات جواز الإتيان بالبعض ما أشار إليه قدس‌سره في ذيل العبارة من أنّ دلالة النصوص على جواز الاقتصار على البعض في نافلة العصر وغيرها ـ كما عرفته مفصّلا ـ بضميمة مغروسيّة محبوبيّة طبيعة الصلاة في النفس ، وكون كلّ فرد منها في حدّ ذاتها عبادة مستقلّة ، وكون الحكمة المقتضية لتشريعها مناسبة لتعلّق الطلب بذواتها من حيث كونها صلاة توجب انسباق الذهن عند الأمر بثمان ركعات في نافلة الزوال ـ مثلا ـ إلى إرادة تكليف غير ارتباطيّ ،

٣٩

كالأمر بإعطاء الدراهم أو الإنفاق على شخص في مدّة ، وغير ذلك من الموارد المناسبة لكون المأمور به من قبيل تعدّد المطلوب بلا ارتباط.

فالأظهر عدم الفرق بين النوافل ، وجواز الاقتصار على البعض في الجميع وإن كان الأحوط في غير الموارد التي استفدنا جوازها بالخصوص من النصوص المعتبرة : عدم قصد الخصوصيّة الموظّفة إلّا على سبيل الاحتياط ، فالأولى عند إرادة الإتيان ببعض نافلة الليل مقتصرا عليه أن يأتي به بقصد امتثال الأمر المتعلّق بمطلق الصلاة ـ التي هي خير موضوع ـ برجاء حصول الخصوصيّة الموظّفة على تقدير شرعيّتها من غير أن يقصدها على سبيل الجزم ، وفي نافلة الزوال ونحوها أيضا الأولى هو الإتيان بهذا القصد إن قلنا بجواز التطوّع في وقت الفريضة ، وإلّا فلا يقصد بفعله إلّا الاحتياط والإتيان به برجاء المطلوبيّة ، والله العالم.

الخامس : حكي (١) عن جملة من الأصحاب التصريح بأنّ في الوتر ـ بمعناه الأعمّ من ركعتي الشفع ومفردة الوتر ـ قنوتات ثلاثة :

أحدها : في الركعة الثانية من الشفع.

والثاني : في مفردة الوتر قبل الركوع.

والثالث : فيها أيضا بعد الركوع.

واستدلّ للأوّل بعموم الأخبار الدالّة على أنّ القنوت في كلّ ركعتين من الفريضة والنافلة في الركعة الثانية ، وفي بعضها أيضا بزيادة قبل الركوع ، وسيأتي إن شاء الله في باب القنوت.

__________________

(١) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٨ ـ ٣٩.

٤٠