مصباح الفقيه - ج ٩

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٩

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

تعبّديّا لصحّة النافلة ، كما يقتضيه الجمود على ظواهر أغلب الأخبار الناهية ، وعليه يبتني استدلال القائلين بالمنع ، أو شرطا لكمالها ، كما هو أقرب المحامل في بعض تلك الأخبار على القول بالجواز.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : أمّا صحيحة زرارة ، الأخيرة : فقد عرفت قوّة احتمال اتّحادها مع الأولى ، وأنّها على تقدير المغايرة لا تنهض دليلا لإثبات المدّعى.

وأمّا صحيحته الأولى : فالاستدلال بها للمشهور إنّما يتّجه على تقدير العمل بظاهرها في موردها ، أي في ركعتي الفجر ، وهو خلاف المشهور ، بل لم ينقل القول به إلّا عن ابن الجنيد (١) والشيخ في كتابي الأخبار (٢) ، وتبعهما في ذلك صاحب الحدائق (٣).

وقد عرفت فيما سبق أنّ الأقوى خلافه ، وأنّ المتّجه حمل الصحيحة على استحباب البدأة بالفريضة عند طلوع الفجر ، وعدم تأخير الركعتين إلى ذلك الوقت كي تزاحم بهما الفريضة في أوّل وقتها ؛ جمعا بينها وبين المعتبرة المستفيضة التي هي نصّ في جواز تأخيرهما عن الفجر.

فما عن بعض من دعوى صراحة هذه الصحيحة في الحرمة من جهة المقايسة والتنظير بما هي معلومة فيه (٤) لا يخلو عن نظر ، مع أنّه على تقدير تسليم صراحتها فيما ذكر وعدم قبولها للتوجيه ، لتعيّن ردّ علمها إلى أهله ، كما تقدّم الكلام فيه مفصّلا ، فراجع.

__________________

(١) تقدّم تخريج قوله في ص ٢٧٦ ، الهامش (١).

(٢) راجع : التهذيب ٢ : ١٣٤ ، ذيل ح ٥٢٣ ، وص ١٣٥ ، ذيل ح ٥٢٥ ، والاستبصار ١ : ٢٨٥ ، ذيل ح ١٠٤٥ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٢٤٠.

(٣) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٤٠.

(٤) رياض المسائل ٢ : ٢٣٣ ، وراجع : جواهر الكلام ٧ : ٢٤٨.

٣٢١

وأمّا صحيحته الثانية : فهي إنّما تدلّ على المنع عن التطوّع لمن عليه قضاء ، وهي مسألة أخرى سيأتي التكلّم فيها.

ودعوى أنّ الحاضرة أولى بهذا الحكم من الفائتة ، ممنوعة ، خصوصا على القول بالمضايقة في القضاء ، كما هو واضح.

وأمّا سائر الروايات : فالمراد بوقت الفريضة فيها بحسب الظاهر هو وقتها الذي أمر فيه بأن يبدأ بالفريضة ويترك عنده النافلة ، وهو بالنسبة إلى الظهرين بعد الذراع والذراعين ، وبالنسبة إلى العشاء بعد ذهاب الشفق ؛ فإنّ المراد بالنافلة في هذه الروايات إمّا خصوص الراتبة ، كما يشهد له الأمر بقضائها في جملة منها ، والتعبير بنفي الضرر عن ترك ما قبلها من النافلة في خبر (١) زياد ، أو الأعمّ منها ومن المبتدأة ، لا خصوص المبتدأة ، كما لا يخفى ، فلا يستقيم حينئذ حمل وقت المكتوبة على إرادة مطلق وقتها الذي يجوز إيقاعها فيه حتّى يتّجه الاستدلال بها لمذهب المشهور.

ودعوى أنّ مقتضى إطلاق قوله عليه‌السلام في أغلب تلك الأخبار : «إذا دخل وقت الفريضة فابدأ بها» أو «فلا تطوّع» (٢) أو نحو ذلك : إنّما هو إرادة مطلق وقتها الذي يجوز إيقاعها فيه ، لا خصوص ما بعد الذراع والذراعين أو وقت الفضيلة ، وإرادة هذا المعنى من بعض الأخبار لا تصلح شاهدة لحمل ما عداها عليه ، وإنّما رفعنا اليد عن هذا الظاهر بالنسبة إلى النوافل المرتّبة المأتيّ بها أداء بواسطة الأخبار الدالّة عليه ، التي هي أخصّ مطلقا من هذه الروايات ، مدفوعة : بأنّ

__________________

(١) تقدّم الخبر في ص ٣١٨.

(٢) راجع : ص ٣١٨ و ٣١٩.

٣٢٢

ارتكاب التخصيص في هذه الروايات بإخراج النوافل المرتّبة التي هي أظهر مصاديق النافلة أبعد من حمل الوقت فيها على ذلك المعنى الشائع إرادته من إطلاقه في كلمات الأئمّة عليهم‌السلام بحيث فسّر الوقت به في النصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة في تحديد أوقات الفرائض ، المتقدّمة في محلّها ، مع ما في بعضها ـ ممّا ورد في تحديد وقت الظهرين بما بعد الذراع والذراعين ـ من التصريح بأنّه «إنّما جعل الذراع والذراعين لمكان النافلة» وأنّ «للرجل أن يتنفّل إلى أن يبلغ الفي‌ء ذراعا ، فإذا بلغ الفي‌ء ذراعا بدأ بالفريضة وترك النافلة» (١) وفي بعضها التعليل لذلك بأن «لا يكون تطوّع في وقت فريضة» (٢) فيستفاد من هذه الروايات بمدلولها اللفظي أنّ التطوّع قبل الذراع والذراعين خارج عن موضوع الأخبار الناهية عن التطوّع في وقت الفريضة.

هذا ، مع أنّ وحدة السياق تشهد بإرادة معنى واحد من وقت الفريضة في هذه الأخبار وفي غيرها ممّا ورد فيه الأمر بقضاء النافلة بعدها ، كما لا يخفى.

فظهر بما ذكرنا أنّه لا يتمّ الاستدلال بشي‌ء من هذه الروايات للمشهور ، وأنّه على تقدير تسليم دلالتها على الحرمة والغضّ عن معارضتها بالأخبار الآتية الحاكمة عليها إنّما يتمّ الاستدلال بها للمنع عن التطوّع بعد خروج وقت النوافل المرتّبة ، لا مطلقا.

هذا ، مع قوّة احتمال أن يكون المراد بحضور المكتوبة في خبر (٣) زياد ، و

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٨٦ ، الهامش (٣).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٨٧ ، الهامش (٤).

(٣) تقدّم الخبر في ص ٣١٨.

٣٢٣

كذا المراد بإدراك الصلاة في الرواية (١) ـ التي بعدها ـ انعقادها جماعة ، كما يؤيّد هذا الاحتمال الصحيحة الآتية (٢) التي وقع فيها تفسير وقت الفريضة ، الذي لا ينبغي التطوّع فيه : بما إذا قال المؤذّن : قد قامت الصلاة.

احتجّ المجوّزون : بجملة من الأخبار :

منها : موثّقة سماعة ، التي رواها المشايخ الثلاثة.

فعن الكافي بإسناده عن سماعة قال : سألته عن الرجل يأتي المسجد وقد صلّى أهله أيبتدئ بالمكتوبة أو يتطوّع؟ فقال : «إن كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوّع قبل الفريضة ، وإن كان خاف الفوت من أجل ما مضى من الوقت فليبدأ بالفريضة ، وهو حقّ الله ، ثمّ ليتطوّع ما شاء ، الأمر (٣) موسّع أن يصلّي الإنسان في أوّل دخول وقت الفريضة النوافل إلّا أن يخاف فوت الفريضة ، والفضل إذا صلّى الإنسان وحده أن يبدأ بالفريضة إذا دخل وقتها ليكون فضل أوّل الوقت للفريضة ، وليس بمحظور عليه أن يصلّي النوافل من أوّل الوقت إلى قريب من آخر.

الوقت» (٤).

وعن التهذيب (٥) نحوه.

وعن الفقيه بإسناده عن سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : الرجل يأتي

__________________

(١) أي : حسنة نجيّة ، المتقدّمة في ص ٣١٨.

(٢) في ص ٣٢٦.

(٣) في المصدر والوسائل : «ألا هو» بدل «الأمر». وما في المتن كما في التهذيب.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب المواقيت ، ح ١.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٦٤ / ١٠٥١ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب المواقيت ، ذيل ح ١.

٣٢٤

المسجد ، وساق الحديث نحوه إلى قوله عليه‌السلام : «ثمّ ليتطوّع ما شاء» (١) بإسقاط قوله :«والفضل» إلى آخره.

وهذه الرواية كما تراها صريحة في المدّعى.

وما احتمله بعض من كون قوله : «والفضل» إلى آخره من عبارة الكليني رحمه‌الله (٢) ، مع مخالفته للظاهر غير قادح في الاستدلال ؛ فإنّ ما تقدّمه كاف في إثبات المطلوب ، فإنّه كالصريح في جواز التطوّع في وقت الفريضة ما لم يخف فوتها.

نعم ، لو كانت هذه الفقرة من تتمّة الحديث ـ كما هو الظاهر ـ لكان لها نحو حكومة على الأخبار التي ورد فيها الأمر بالبدأة بالفريضة وترك النافلة عند حضور وقتها ، مع ما فيها من الإشارة إلى علّة الحكم واختصاصه بما إذا لم يكن الراجح تأخيرها لانتظار الجماعة ، كما أنّ في قوله عليه‌السلام في الفقرة السابقة : «وهو حقّ الله» إشارة إلى أنّ الأمر بالبدأة بالفريضة عند خوف فواتها لأجل أهمّيّتها من النافلة ، لا عدم صلاحيّة الوقت من حيث هو للنافلة ، أو كون تقديم الفريضة شرطا في صحّتها ، كما هو من لوازم مذهب المانعين.

ومنها : حسنة محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة؟ قال : «إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة ، وإنّما أخّرت الظهر ذراعا [من عند الزوال] من أجل صلاة الأوّابين» (٣) فإنّ ظاهرها جواز التنفّل

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥٧ / ١١٦٥ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب المواقيت ، ذيل ح ١.

(٢) كما في جواهر الكلام ٧ : ٢٤٣.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٩ / ٥ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب المواقيت ، ح ٢ و ٣ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٣٢٥

في وقت الفريضة ، وكون البدأة بها عند دخول وقتها من باب الاستحباب.

وقوله عليه‌السلام : «وإنّما أخّرت الظهر» إلى آخره ، يحتمل أن يكون مسوقا لدفع التنافي بين استحباب البدأة بالفريضة عند حضور وقتها واستحباب التنفّل قبلها في أوّل الوقت ببيان تأخّر وقتها عن أوّل الوقت بمقدار الذراع لمكان النافلة.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود بيان أنّ الظهر متأخّرة عن وقتها الأصلي بمقدار ذراع ، فلا ينبغي تأخيرها أزيد من ذلك.

ويحتمل أيضا أن يكون استدراكا عمّا تقدّمه بأن يكون المراد بالرواية بيان أنّ الفضل إنّما هو بالبدأة بالفريضة حين حضور وقتها ، أي المسارعة إلى فعلها في أوّل الوقت ، ولكن أخّرت الظهر بمقدار ذراع عن أوّل وقتها لأجل صلاة الأوّابين ، التي هي لدى الشارع كالفرائض من المهمّات التي لا يجوز تركها.

ومنها : صحيحة عمر بن يزيد ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرواية التي يروون أنّه لا ينبغي أن يتطوّع في وقت فريضة ما حدّ هذا الوقت؟ قال : «إذا أخذ المقيم في الإقامة» فقال له : إنّ الناس يختلفون في الإقامة ، قال عليه‌السلام : «المقيم الذي يصلّى معه» (١).

وهذه الصحيحة حاكمة على الأخبار الناهية عن التطوّع في وقت الفريضة ومفسّرة لها ، وظاهرها كون النهي المتعلّق به بصيغة «لا ينبغي» الظاهرة في الكراهة ، ومقتضى تحديد ذلك الوقت بما إذا أخذ المقيم في الإقامة : اختصاص المنع بهذه الصورة ، وهذا ربما ينافيه بعض تلك الأخبار ممّا هو نصّ في شمول

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥٢ / ١١٣٦ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب المواقيت ، ح ٩.

٣٢٦

المنع للمنفرد الذي لا يصلّي جماعة ، فلا يبعد أن يكون المراد بهذه الصحيحة تحديد ذلك الوقت بالنظر إلى من ينتظر الجماعة ، لا مطلقا.

ويمكن إبقاء هذه الصحيحة على ظاهرها ، وتنزيل الأخبار الدالّة على المنع في حقّ المنفرد على الإرشاد إلى ما هو الأصلح ، كما ربما يستشعر ذلك من بعض عبائرها ، لا على الكراهة أو الحرمة ، فليتأمّل.

وكيف كان فهي نصّ في جواز التطوّع بعد دخول وقت الفريضة في الجملة ولو لخصوص من ينتظر الجماعة.

ونحوها رواية إسحاق بن عمّار ، قال : قلت : أصلّي في وقت فريضة نافلة؟قال : «نعم في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به ، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة» (١).

والمراد بأوّل وقت الفريضة في هذه الرواية وكذا في الروايات السابقة إنّما هو بعد الذراع والذراعين كما حددّ أوّل وقتها بذلك في الأخبار الكثيرة المتقدّمة في أوّل مبحث المواقيت (٢) ، فإنّ هذا هو الوقت الذي يكون مأمورا بأن يبدأ عند حضوره بالمكتوبة لو صلّي وحده ، دون ما قبل الذراع والذراعين ، الذي يكون الراجح فيه الابتداء بالنافلة نصّا وفتوى ، فهذه الرواية أيضا كسابقتها تدلّ على جواز التطوّع في وقت الفريضة عند انتظار الجماعة.

وكون المتبادر من أغلب هذه الروايات إرادة النوافل المرتّبة غير قادح في الاستدلال بعد حكومة هذه الأخبار على الأخبار الناهية عن التطوّع ، التي هي

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٩ / ٤ ، التهذيب ٢ : ٢٦٤ / ١٠٥٢ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

(٢) راجع : ص ٨٦ وما بعدها.

٣٢٧

مستند القائلين بالمنع ، خصوصا مع أنّ الظاهر عدم قول ـ يعتدّ به ـ بالتفصيل بين النوافل المرتّبة بعد خروج وقتها وبين النوافل المبتدأة.

هذا ، مع أنّ المنساق إلى الذهن من الخبرين الأخيرين إرادة مطلق النافلة ، لا خصوص الراتبة.

واستدلّ له أيضا بموثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن فاتك شي‌ء من تطوّع الليل والنهار فاقضه عند زوال الشمس وبعد الظهر عند العصر وبعد المغرب وبعد العتمة ومن آخر السحر» (١).

وهذه الموثّقة إنّما يتّجه الاستدلال بها في ردّ المشهور القائلين بعدم جواز التطوّع في وقت الفريضة مطلقا ، عدا النوافل اليوميّة مؤدّاة ، وإلّا فلو قيل باختصاص المنع بالنسبة إلى الظهرين بعد الذراع والذراعين وبالنسبة إلى العشاء بعد ذهاب الشفق ـ كما هو غاية ما يمكن استفادته من أدلّتهم على ما بيّنّاه فيما سبق ـ فيشكل استفادة ما ينافيه من هذه المؤثّقة ، كما لا يخفى.

وممّا يؤيّد المطلوب : الأخبار المستفيضة التي ورد فيها الأمر بصلوات خاصّة بين المغرب والعشاء ، التي تقدّم كثير منها في صدر الكتاب.

وقد أشرنا فيما تقدّم إلى إمكان توجيه بعضها بما لا ينافي المشهور ، وأمّا بعضها الآخر فهو نصّ في خلافهم ، مثل ما ورد فيه الأمر بعشر ركعات بعد المغرب ونافلتها (٢) ، بل مقتضى إطلاق مثل هذه الأخبار : جواز مزاحمتها لإيقاع

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٦٣ / ٦٤٢ ، الوسائل ، الباب ٥٧ من أبواب المواقيت ، ح ١٠.

(٢) الكافي ٣ : ٤٦٨ / ٤ ، التهذيب ٣ : ٣١٠ ـ ٣١١ / ٩٦٣ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، ح ١.

٣٢٨

العشاء في أوّل وقتها.

ولكنّك عرفت أنّ سندها لا يخلو عن قصور.

ويؤيّده إطلاق الأخبار الكثيرة المتقدّمة (١) عند البحث عن جواز تقديم النافلة على الزوال ، الدالّة على أنّ «النافلة بمنزلة الهديّة ، وأنّها في أيّ ساعة من ساعات النهار أتي بها قبلت» وإطلاق غيرها ممّا ورد فيه الأمر بالنوافل ، خصوصا ذوات الأسباب منها عند حصول أسبابها ، وعمومات قضاء الرواتب.

وفي خبر عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام المرويّ عن قرب الإسناد : الأمر بقضاء صلاة الليل والوتر فيما بين الظهر وبين صلاة العصر ، أو متى أحبّ.

قال : سألته عن رجل نسي صلاة الليل والوتر فيذكر إذا قام في صلاة الزوال ، فقال : «يبدأ بالنوافل ، فإذا صلّى الظهر صلّى صلاة الليل وأوتر ما بينه وبين العصر أو متى أحبّ» (٢).

إلى غير ذلك من الشواهد والمؤيّدات التي لا تخفى على المتتبّع.

واستدلّ أيضا بصحيح سليمان بن خالد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل دخل المسجد وافتتح الصلاة ، فبينما هو قائم يصلّي إذ أذّن المؤذّن وأقام الصلاة ، قال : «فليصلّ ركعتين ثمّ ليستأنف الصلاة مع الإمام ، ولتكن الركعتان تطوّعا» (٣).

__________________

(١) في ص ٢٣٥.

(٢) قرب الإسناد : ٢٠٢ / ٧٨٠ ، الوسائل ، الباب ٤٩ من أبواب المواقيت ، ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٣٧٩ / ٣ ، التهذيب ٣ : ٢٧٤ / ٧٩٢ ، الوسائل ، الباب ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ١.

٣٢٩

والصحيح عن محمّد بن نعمان الأحوال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا دخل المسافر مع أقوام حاضرين في صلاتهم ، فإن كانت الأولى فليجعل الفريضة في الركعتين الأوليين ، وإن كانت العصر فليجعل الأوليين نافلة والأخيرتين فريضة» (١).

أقول : ونحوه مرسلة ابن أبي عمير عن أحدهما عليهما‌السلام في مسافر أدرك الإمام ودخل معه في صلاة الظهر ، قال : «فليجعل الأوّلتين الظهر ، والأخيرتين السّبحة ، وإن كانت صلاة العصر فليجعل الأوّلتين السّبحة ، والأخيرتين العصر» (٢).

ويرد على الاستدلال بالصحيحة الأولى : أنّ الخصم ـ بحسب الظاهر ـ يلتزم بمفادها ، ويخصّص بها الأخبار الناهية ؛ لكونها أخصّ مطلقا من تلك الأخبار ، بل يظهر من بعض عدم الخلاف في ذلك ، فلا تكون هذه الصحيحة حجّة عليهم.

وأمّا الخبران الأخيران : فلا بدّ من حمل النافلة فيهما على الفريضة المعادة ، وإلّا فهما من الشواذّ التي يجب ردّ علمها إلى أهله ، فالمقصود بجعل الأوّلتين نافلة جعلهما إعادة الظهر لإدراك فضيلة الجماعة وإن كان قد يشكل ذلك بالنسبة إلى ما في المرسلة من جعل الأخيرتين سبحة إن كانت ظهرا ، فإنّ مشروعيّة إعادة ما صلّاها جماعة لا تخلو عن تأمّل.

وكيف كان فإن أريد بها صلاة التطوّع ، فهي من الشواذّ ، وإلّا فخارج عن

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٦٥ ـ ١٦٦ / ٣٦٠ ، و ٢٢٦ / ٥٧٣ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٤.

(٢) المحاسن : ٣٢٦ / ٧٧ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٨.

٣٣٠

محلّ الكلام ، سواء أريد بها المعادة أو قضاء الصلوات الماضية ، أو إعادتها احتياطا أو استحبابا.

وما يقال ـ من أنّ إطلاق كلمات المانعين يشمل المعادة ، وقولهم باستحباب الإعادة لمن صلّى وحده أعمّ من ذلك ؛ فيخصّص بما لا يستلزم تطوّعا في وقت فريضة ـ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ؛ فإنّ إطلاق كلماتهم ينصرف عن المعادة ، خصوصا مع عموم قولهم باستحبابها لمن صلّى وحده ولا أقلّ من عدم ثبوت التزامهم بعدم الفرق كي يصحّ الاستشهاد في ردّهم بمثل هذه الأخبار.

فالعمدة في تضعيف مذهبهم ما عرفت من قصور أدلّتهم عن إثبات مدّعاهم على سبيل العموم ، وحكومة الأخبار الدالّة على الجواز على الأدلّة الدالّة على المنع ، وكون المعارضة بينهما من قبيل معارضة النصّ والظاهر القابل للتوجيه القريب الذي ربما يستأنس له ببعض ألفاظ الروايات من كون المنع عن التطوّع للحثّ على إيقاع الفريضة في أوّل وقتها الذي هو أفضل ، أو لكراهة الاشتغال بالسنن والمسامحة في أمر الفريضة التي هي حقّ الله الأهمّ ، أو كراهته عند انعقاد صلاة الجماعة ، فيكون المراد بوقت الفريضة هو هذا الحين الذي يكون الاشتغال فيه بالتطوّع منافيا لاحترام الجماعة ، أو غير ذلك من المحامل.

هذا ، مع أنّ ما في النفس ـ من استبعاد حرمة النافلة ـ التي هي خير موضوع ـ في الوقت الصالح لفعلها من حيث هو بمجرّد اشتغال الذمّة بفريضة موسّعة يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت والإتيان بسائر الأفعال المباحة ـ ربما يصرف النواهي عن إرادة الحرمة.

٣٣١

فظهر بما ذكرنا أنّ الأقوى إنّما هو جواز التطوّع في وقت الفريضة مطلقا ما لم يتضيّق وقتها ، كما لعلّه المشهور بين المتأخّرين ، وقد وقع التصريح به في الموثّقة المتقدّمة.

وهل يكره ذلك على حدّ غيره من العبادات المكروهة التي عرفت توجيهها غير مرّة ، كالوضوء بالماء المسخّن ، أو قراءة القرآن للحائض والجنب ، أو أنّه مرجوح بالإضافة إلى البدأة بالفريضة ، وإلّا فهي في حدّ ذاتها صلاة تامّة كاملة غير مشتملة على منقصة؟ فيه تردّد ، وإن كان الأظهر هو الكراهة لكن في وقت فضيلة الفرائض ، لا مطلقا ، أي بعد مضيّ مقدار ذراع أو ذراعين في الظهرين ، وفي العشاء بعد غيبوبة الشفق خصوصا عند انعقاد الجماعة وشروع المؤذّن في الإقامة ، بل لو قيل باختصاص الكراهة بهذه الصورة ومرجوحيّته بالإضافة في غيرها ، لم يكن خاليا عن وجه ، كما تقدّمت الإشارة إليه فيما سبق ، والله العالم.

تذنيب : اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في جواز النافلة لمن عليه قضاء فريضة.

قيل بالمنع (١) ، اختاره في الحدائق (٢) ، ونسبه إلى الأكثر ، بل المشهور.

وقيل بالجواز (٣) ، وربما نسب (٤) هذا القول أيضا إلى ظاهر الأكثر.

__________________

(١) قال به العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٥٩ ، الفرع «ط» من المسألة ٦١ ، ومختلف الشيعة ٢ : ٤٥١ ، المسألة ٣١١ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٢٥.

(٢) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٦٨.

(٣) قال به ابن الجنيد كما في مختلف الشيعة ٢ : ٤٥١ ، المسألة ٣١١ ، والشيخ الصدوق في الفقيه ١ : ٢٣٣ ، والشهيد في الذكرى ٢ : ٤٠٢ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٤٩٦ ـ ٤٩٩ ، ومسالك الأفهام ١ : ١٤٥.

(٤) الناسب هو صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ٦٨ ، كما في جواهر الكلام ٧ : ٢٥٢.

٣٣٢

وكيف كان فهذا هو الأظهر ولو على القول بالمضايقة في القضاء ؛ لما ستعرف ـ إن شاء الله ـ في محلّه من أنّ المتّجه على هذا القول أيضا أو سعيّة الأمر من ذلك ، وعدم كون التضييق بمرتبة ينافيها الإتيان بنافلة أو ما جرى مجراها من الأفعال المستحبّة أو المباحة في خلال التشاغل بالقضاء ، فالاستدلال للمنع بأدلّة القول بالمضايقة غير وجيه ، مضافا إلى ما ستعرف ـ إن شاء الله ـ من ضعف هذا القول.

وأضعف من ذلك : ما في الحدائق من الاستدلال عليه أيضا بالروايات الدالّة على وجوب ترتيب الحاضرة على الفائتة ، وأنّه يجب تأخير الحاضرة إلى أن يتضيّق وقتها قائلا في تقريبه : إنّه إذا وجب ذلك في الفريضة ـ التي هي صاحبة الوقت ـ ففي نافلتها بطريق أولى ، وأولى منه في غير نافلتها (١).

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ المانع عن فعل الحاضرة قبل الفائتة ـ بناء على العمل بظاهر هذه الروايات ـ إنّما هو وجوب الترتيب بين الفرائض ، ولذا ربما يقول به من لا يلتزم بالمضايقة في القضاء ، فحال الحاضرة بالنسبة إلى الفائتة حال العصر بالنسبة إلى الظهر ، فتنظير النافلة عليها خصوصا النوافل المبتدأة أو قضاء الفوائت منها قبل الفريضة الفائتة قياس مع الفارق.

نعم ، لو كان مناط إيجاب تأخير الفريضة إلى آخر وقتها المضايقة في أمر القضاء لا غير ، لكان للأولويّة التي ادّعاها وجه ، لكن من أين علم ذلك؟ مع مخالفته لظواهر غير واحد من تلك الروايات ، كما ستسمعها في محلّها إن شاء الله.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

٣٣٣

واستدلّ عليه أيضا بجملة من الأخبار :

منها : صحيحة زرارة ، الثانية المتقدّمة (١) في صدر المبحث ، وهي ما رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلاة لم يصلّها أو نام عنها ، فقال : «يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار ، فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت ، وهذه أحقّ فليقضها (٢) ، فإذا قضاها فليصلّ ما فاته ممّا قد مضى ، ولا يتطوّع بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها».

وصحيحته (٣) الرابعة المحكيّة عن الروض ، المشتملة على مقايسة الصلاة بالصوم.

قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أصلّي النافلة وعليّ فريضة ، أو في وقت فريضة؟ قال : «لا ، إنّه لا تصلّى نافلة في وقت فريضة ، أرأيت لو كان عليك من شهر رمضان أكان لك أن تتطوّع حتّى تقضيه؟» قال : قلت : لا ، قال : «فكذلك الصلاة» الحديث.

وما تكلّفه بعض (٤) في الجواب عن هذه الصحيحة ـ بالحمل على الأداء خاصّة بقرينة قوله عليه‌السلام : «في وقت فريضة» الظاهر في وقت الأداء ، وتنزيل الترديد الواقع في السؤال على كونه من الرواة لا من السائل ، وكون المراد بقوله :

__________________

(١) في ص ٣١٦.

(٢) في المصادر بدل «وهذه أحقّ فليقضها» : «وهذه أحقّ بوقتها فليصلّها».

(٣) تقدّمت في ص ٣١٧.

(٤) كما في الحدائق الناضرة ٦ : ٢٦٩ ، وانظر : ذخيرة المعاد : ٢٠٤.

٣٣٤

«لو كان عليك من شهر رمضان» وجوب الصوم عند حلول الشهر ، فأريد بقضائه فعله في وقته ، لا القضاء المصطلح ؛ تصحيحا للقياس على التطوّع في وقت الفريضة ـ ففيه ما لا يخفى ؛ فإنّ قوله عليه‌السلام : «في وقت فريضة» لا يصلح قرينة لمثل هذه التكلّفات ، بل الظاهر أنّ المراد بوقت الفريضة ـ بقرينة السؤال والتنظير ـ هو الوقت الذي تنجّز في حقّه التكليف بفريضة أداء كانت أم قضاء ، فأريد بالتشبيه بيان أنّه لا تطوّع عند تنجّز تكليف وجوبيّ بالصلاة كالصوم ، وحمله على إرادة الصوم في رمضان يبطل القياس حيث يتعيّن عليه الصوم الواجب حينئذ ، فلا يتمكّن معه من التطوّع ، فكيف يقاس عليه الصلاة في سعة الوقت!؟

ومنها : صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتى تبزغ (١) الشمس أيصلّي حين يستيقظ ، أو ينتظر حتّى تنبسط الشمس؟ فقال : «يصلّي حين يستيقظ» قلت : يوتر أو يصلّي ركعتين؟ قال :«بل يبدأ بالفريضة» (٢).

واستدلّ له أيضا بالنبويّ المرسل : «لا صلاة لمن عليه صلاة» (٣).

احتجّ القائلون بالجواز : بالعمومات الدالّة على شرعيّة النوافل ، وأنّها بمنزلة الهديّة متى أتي بها قبلت (٤) ، وبإطلاقات الأوامر المتعلّقة بالصلوات الخاصّة التي لا تحصى من ذوات الأسباب وغيرها مع غلبة اشتغال ذمّة

__________________

(١) البزوغ : الطلوع. الصحاح ٤ : ١٣١٥ «بزغ».

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦٥ / ١٠٥٦ ، الاستبصار ١ : ٢٨٦ / ١٠٤٧ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، ح ٤.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٣١٩ ، الهامش (٦).

(٤) راجع : ص ٢٣٥.

٣٣٥

المخاطبين بشي‌ء من الفوائت بحسب العادة ، وبجملة من الأخبار الخاصّة.

منها : موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال سألته عن رجل نام عن الغداة حتّي طلعت الشمس ، قال : «يصلّي ركعتين ثمّ يصلّي الغداة» (١).

ومنها : ما روي بطرق عديدة ـ منها الصحيح وغيره ـ من نومه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاة الصبح حتّى آذاه حرّ الشمس ، فاستيقظ وركع ركعتي الفجر ثمّ صلّى الصبح بعدهما.

كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رقد فغلبته عيناه فلم يستيقظ حتّى آذاه حرّ الشمس ثمّ استيقظ فعاد ناديه ساعة فركع ركعتين ثمّ صلّى الصبح ، وقال : يا بلال ما لك؟ فقال بلال :أرقدني الذي أرقدك يا رسول الله؟» قال : «وكره المقام وقال : نمتم بوادي الشيطان» (٢).

وأجاب الشيخ في محكيّ الاستبصار عن الخبرين : بحملهما على من يريد أن يصلّي بقوم وينتظر اجتماعهم ، فأجاز له أن يبدأ بركعتي النافلة كما فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون ما إذا كان وحده فلا يجوز له ذلك (٣).

وفيه : أنّ تنزيل إطلاق الموثّقة على إرادة ما إذا كان ذلك الرجل يريد أن يصلّي بقوم جماعة مع ما فيها من إطلاق السؤال وكون المفروض من الفروض

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٦٥ / ١٠٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٨٦ / ١٠٤٨ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦٥ / ١٠٥٨ ، الاستبصار ١ : ٢٨٦ / ١٠٤٩ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب المواقيت ، ح ١.

(٣) الاستبصار ١ : ٢٨٧ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٢٧٠.

٣٣٦

النادرة التحقّق كما ترى.

نعم ، ما ذكره من انتظار الجماعة يحتمل أن يكون وجها لصدور الركعتين من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحيث إنّ الفعل مجمل يشكل الاستدلال بالرواية الأخيرة وما جرى مجراها من الأخبار الحاكية له لإثبات جوازهما على الإطلاق.

وأجاب عنهما في الحدائق : بأنّ مدلول الخبرين ركعتا الفجر وصلاة الصبح ، والمدّعى أعمّ من ذلك.

وما يقال في أمثال هذه المقامات ـ من أنّ هذه الأخبار قد دلّت على الجواز في هذا الموضع ويضمّ إليه أنّه لا قائل بالفرق فيتمّ في الجميع ـ فكلام ظاهريّ لا يعوّل عليه ، وتخريج شعريّ لا يلتفت إليه (١). انتهى.

أقول : وكفى بدلالتها على الجواز شاهدة لصرف الأمر بالبدأة بالفريضة في خبر (٢) يعقوب بن شعيب ـ الوارد في خصوص هذا الموضع ـ إلى الاستحباب ، وأفضليّة المبادرة إلى تفريغ الذمّة من الواجب من فعل النافلة التي هي في حدّ ذاتها أيضا من العبادات الراجحة المأمور بها ، فتكون إرادة الاستحباب من الأمر في هذا الموضع من موهنات إرادة الإلزام من النهي عن التطوّع في سائر الأخبار ، بل ربما يشهد بعدمه إن قلنا بأنّ حمل تلك الأخبار على الاستحباب أولى من ارتكاب التخصيص بإخراج هذا الموضع من مثل هذه العمومات الآبية عن التخصيص ، كما ليس بالبعيد.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٧١.

(٢) تقدّم الخبر في ص ٣٣٥.

٣٣٧

ومنها : ما عن الشهيد في الذكرى بسنده الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتّى يبدأ بالمكتوبة» قال : فقدمت الكوفة فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحابه ، فقبلوا ذلك منّي ، فلمّا كان في القابل لقيت أبا جعفر عليه‌السلام فحدّثني «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عرّس (١) في بعض أسفاره وقال : من يكلؤنا (٢)؟ فقال بلال : أنا ، فنام بلال وناموا حتى طلعت الشمس ، فقال : يا بلال ما أرقدك؟ فقال : يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفاسكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا فتحوّلوا عن مكانكم الذي أصابكم فيه الغفلة ، وقال : يا بلال أذّن فأذّن ، فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ركعتي الفجر وأمر أصحابه ، فصلّوا ركعتي الفجر ، ثمّ قام فصلّى بهم الصبح وقال :من نسي شيئا من الصلاة فليصلّها إذا ذكرها ، فإنّ الله عزوجل يقول (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٣)» قال زرارة : فحملت الحديث إلى الحكم وأصحابه ، فقالوا : نقضت حديثك الأوّل ، فقدمت على أبي جعفر عليه‌السلام ، فأخبرته بما قال القوم ، فقال : «يا زرارة ألا أخبرتهم أنّه قد فات الوقتان جميعا ، وأنّ ذلك كان قضاء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٤).

قال الشهيد في محكيّ الذكرى ـ بعد نقل الخبر المذكور ـ : إنّ فيه فوائد :

منها : استحباب أن يكون للقوم حافظ إذا ناموا صيانة لهم عن هجوم ما

__________________

(١) التعريس : نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة. مجمع البحرين ٤ : ٨٦ «عرس».

(٢) يكلؤنا : يحفظنا. مجمع البحرين ١ : ٣٦٠ «كلا».

(٣) طه ٢٠ : ١٤.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٣١٧ ، الهامش (١).

٣٣٨

يخاف منه.

ومنها : ما تقدّم من أنّ الله أنام نبيّه [لتعليم] (١) أمّته ، ولئلّا يعيّر بعض الأمّة بذلك ، ولم أقف على رادّ لهذا الخبر من حيث توهّم القدح في العصمة به.

ومنها : أنّ العبد ينبغي أن يتفأّل بالمكان والزمان بحسب ما يصيبه فيهما من خير وغيره ، ولهذا تحوّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكان إلى آخر.

ومنها : استحباب الأذان للفائتة ، كما يستحبّ للحاضرة ، وقد روى العامّة عن أبي قتادة وجماعة من الصحابة في هذه الصورة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بلالا فأذّن فصلّي ركعتي الفجر ثمّ أمره فأقام فصلّى صلاة الفجر (٢).

ومنها : استحباب قضاء السنن.

ومنها : جواز فعلها لمن عليه قضاء وإن كان قد منع عنه أكثر المتأخّرين.

ومنها : شرعيّة الجماعة في القضاء كالأداء.

ومنها : وجوب قضاء الفائتة ؛ لفعله عليه‌السلام ، ووجوب التأسّي به ، وقوله :«فليصلّها».

ومنها : أنّ وقت قضائها ذكرها.

ومنها : أنّ المراد بالآية الكريمة ذلك (٣). انتهى.

وفي الحدائق ـ بعد أن نقل ما سمعته عن الذكرى ـ قال ما لفظه : أقول : قد

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «ليعلم». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٤٧٢ ـ ٤٧٣ / ٦٨١ ، سنن أبي داود ١ : ١٢١ ـ ١٢٢ / ٤٤٥ ، سنن البيهقي ١ : ٤٠٤ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ١ : ٥٨٧ ـ ٥٨٩ / ٢٢٣٧ ـ ٢٢٤٠.

(٣) الذكرى ٢ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٢٧٢.

٣٣٩

أهمل شيخنا قدس‌سره هنا شيئا هو أظهر الأشياء من الرواية إمّا غفلة أو لمنافاته لما اختاره في المسألة ، وهو المنع من صلاة النافلة إذا دخل وقت المكتوبة حتّى يبدأ بالمكتوبة ، كما صرّح به عليه‌السلام في صدر الخبر ، وأكّده بالفرق بينه وبين القضاء.

وأمّا قوله قدس‌سره : «ومنها : جواز فعلها ـ يعني السنن ـ لمن عليه قضاء» فهو ممنوع ؛ إذ أقصى ما دلّ عليه الخبر خصوص جواز ركعتي الفجر في هذه المادّة ، وقضيّة الجمع بينه وبين ما قدّمناه من الأخبار : قصر هذا الخبر على مورده ، واستثناء هذا الموضع من المنع رخصة إمّا مطلقا ، كما ذكره المحدّث الكاشاني (١) ، أو لانتظار اجتماع الجماعة ، كما ذكره الشيخ (٢) ، فلا دلالة له على الجواز مطلقا كما زعمه قدس‌سره (٣). انتهى.

أقول : أمّا دلالة الخبر على المنع عن النافلة عند حضور وقت المكتوبة فهي واضحة ، ولكنّك عرفت في المبحث السابق أنّ المنع محمول على الكراهة أو المرجوحيّة بالإضافة بشهادة المعتبرة الدالّة عليه.

وأمّا ما ذكره ـ من أنّ أقصى ما دلّ عليه الخبر جواز خصوص ركعتي الفجر ، فيستثنى هذا الموضع بالخصوص من المنع ـ ففيه : أنّ ما في ذيل الرواية ـ الذي هو بمنزلة التعليل لجواز الركعتين ـ نصّ في أنّ خروج الركعتين عمّا دلّ على المنع عن التطوّع في وقت الفريضة ليس لخصوصيّة فيهما ، بل لعدم اندراجهما في موضوع المنع ، حيث إنّ الفائتة لا تقع إلّا في خارج الوقت ، فلا يكون التطوّع عند اشتغال الذمّة بها تطوّعا في وقت الفريضة ، فهذه الصحيحة ممّا لا قصور في

__________________

(١) الوافي ٧ : ٣٥٥ ، ذيل ح ٦٠٨٦ ـ ٨.

(٢) تقدّم تخريج ما ذكره الشيخ في ص ٣٣٦ ، الهامش (٣).

(٣) الحدائق الناضرة ٦ : ٢٧٢.

٣٤٠