مصباح الفقيه - ج ٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

١
٢

٣
٤

(مسائل ثمان) :

(الاولى : الترتيب واجب في الوضوء) إجماعا وسنّة ، بل قيل :ويدلّ عليه ظاهر الكتاب (١). وفيه تأمّل.

وكيف كان ، فيجب أوّلا كون غسل (الوجه قبل اليمنى) بأن يكون غسل اليمنى مترتّبا على غسل الوجه ، فهذا أوّل المراتب ، وأمّا نفس غسل الوجه ابتداء فلا دخل له بمسألة الترتيب ، وإنّما الترتيب عبارة عن وقوعه قبل اليمنى ، الذي هو عبارة أخرى عن غسل اليمنى بعد غسل الوجه. (و) يجب ثانيا غسل (اليسرى بعدها ومسح الرأس ثالثا و) مسح (الرّجلين أخيرا) ولا ترتيب بينهما على الأقوى كما عرفت (فلو خالف) الترتيب (أعاد الوضوء عمدا كان أو نسيانا) لأنّ المشروط ينعدم بانعدام شرطه ، كما أنّه يعيد الوضوء لو ترك جزءا من أجزائه عمدا أو نسيانا.

__________________

(١) انظر : الذكرى : ٩٠ ، وروض الجنان : ٣٧.

٥

هذا (إن) لم يمكن تدارك ما أخلّ به لفوات وقته بأن (كان قد جفّ) ما على الأعضاء من ماء (الوضوء ، و) أمّا (إن) أمكن تداركه بأن (كان البلل باقيا ، أعاد على ما يحصل معه الترتيب) ولا يجب عليه إعادة الوضوء من رأس ، لعدم المقتضي ، مضافا إلى الأخبار المستفيضة الآتية.

وعن العلّامة في التحرير أنّ التفصيل في صورة النسيان ، وإلّا ففي العمد تجب إعادة الوضوء من رأس ، جفّ أو لم يجفّ (١).

ولعلّه مبني على مختاره في الموالاة من أنّها المتابعة مع الاختيار ، ومراعاة الجفاف مع الاضطرار. وستعرف ما فيه.

وقيل في توجيه مذهبه : إنّه يدلّ عليه مفهوم موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثمّ اغسل ذراعيك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد الأيمن ثمّ اغسل اليسار ، وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثمّ اغسل رجليك» (٢) لأنّ مفهومها : إن لم تنس فلا تعد غسل وجهك والأيمن ، وحينئذ فإمّا أن يكون المراد البناء مع عدم الإعادة ، وهو خلاف الإجماع ، فليس إلّا الاستئناف ، وبمفهومها يقيّد إطلاق ما تضمّن الصحّة مع العود على ما يحصل معه الترتيب.

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ٢٥٠ ، وانظر : تحرير الأحكام ١ : ١٠.

(٢) الكافي ٣ : ٣٥ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٩٩ ـ ٢٥٨ ، الإستبصار ١ : ٧٤ ـ ٢٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

٦

ثمّ ردّه بأنّ التقييد فرع المكافئة ، وهي مفقودة ، لمخالفة الشهرة العظيمة بل ظهور الاتّفاق ممّن عداه (١). انتهى.

وفي التوجيه والردّ ما لا يخفى بعد وضوح أنّه لا مفهوم للشرطيّة في مثل هذه الموارد التي سيقت لبيان تحقّق الموضوع ، نظير قولك : إن نسيت أداء حقّ زيد فأدّه مهما ذكرت ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

كيف! ولو كان للشرطيّة مفهوم في مثل المقام ، لكان مفهومها : إن لم تنس فلم تغسل ذراعك قبل وجهك ـ يعني لم تخالف الترتيب ـ فلا تعد ، نظير قولك : إن طلعت الشمس فوجد النهار يضي‌ء العالم ، فإنّ مفهومه : إن لم تطلع الشمس فلم يوجد النهار فلا يضي‌ء العالم ، لا إن لم تطلع الشمس فوجد النهار فلا يضي‌ء العالم ، كما عليه يبتني توجيه الموجّه.

وكيف كان فلو بدأ بغسل يده اليسرى قبل اليمنى ، يجب عليه إعادة غسلها بعد غسل اليمنى لو لم يكن قد غسلها أوّلا.

وأمّا لو كان قد غسلها أوّلا قبل نيّة العود ، فهل عليه إعادة غسلها قبل اليسرى ليقع كلّ غسل في محلّه ، لأنّ تأخير المتقدّم كتقديم المتأخّر يوجب خروجه من محلّه؟ وجهان ، أقواهما ـ كما عن المشهور ـ هو الثاني ، بل في الجواهر : لم أجد فيه خلافا (٢). وعن اللوامع : الوفاق عليه ، ونسب إلى الصدوق الأوّل.

__________________

(١) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

(٢) جواهر الكلام ٢ : ٢٤٨.

٧

وعبارته المحكيّة عنه تشعر بالتخيير ، لأجل تعارض الأخبار.

قال : وروي في من بدأ بيساره قبل يمينه أنّه يعيد على يمينه ، ثمّ يعيد على يساره.

ثمّ قال : وقد روي أنّه يعيد على يساره (١). انتهى.

وعن المناهل نسبته إلى ظاهر المقنعة والنهاية والسرائر (٢).

ويستدلّ عليه بموثّقة أبي بصير ، المتقدّمة (٣).

ويؤيّد مضمونها الوجه الاعتباري الذي أشرنا إليه من أنّ تأخير المتقدّم كتقديم المتأخّر يخرج الشي‌ء من محلّه. ولكنّ الوجه الاعتباري كما تراه.

وأمّا الموثّقة : فظاهرها ـ لأجل اشتمالها على لفظ الإعادة ـ يوافق القول المحكيّ عن ظاهر المقنعة وغيرها ، إلّا أنّه يتعيّن رفع اليد عن هذا الظاهر ، لا لمجرّد إعراض الأصحاب عنه ، أو لأجل موافقة ذيلها للعامّة ، بل لمعارضتها بما هو أظهر منها دلالة ، مع اعتضاده بعمل الأصحاب ، وموافقته للأصول والقواعد.

ففي رواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث تقديم السعي على الطواف ، قال : «ألا ترى أنّك إذا غسلت شمالك قبل يمينك

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٩ ـ ٩٠ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٠ و ١١.

(٢) المقنعة : ٤٩ ، النهاية : ١٥ ، السرائر ١ : ١٠٣.

(٣) في ص ٦.

٨

كان عليك أن تعيد على شمالك» (١).

وفي موثّقة ابن أبي يعفور ، المحكيّة عن مستطرفات السرائر عن نوادر البزنطي ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثمّ استيقنت بعد أنّك بدأت بها ، غسلت يسارك ثمّ مسحت رأسك ورجليك» (٢).

فيتعيّن حمل الموثّقة إمّا على الاستحباب ، أو على أنّ مورد الحكم ما إذا تذكّر تقدّم المتأخّر قبل غسل المتقدّم ، كما يؤيّد (٣) هذا الاحتمال ما في ذيلها «وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك» لأنّ وحدة السياق تشهد بإرادة معنى واحد من الجميع ، فيراد من الأمر بإعادة غسل الوجه والأيمن عود المكلّف لتداركهما.

وإطلاق لفظ الإعادة في مثل الفرض شائع ، ولعلّ وجهه : أنّ تقدّمه في الرتبة يجعل إيجاده بعد فعل المتأخّر بمنزلة الإعادة.

وربّما يستظهر مضمون الموثّقة من روايات أخر :

منها : قوله عليه‌السلام في المرويّ عن قرب الإسناد ، في رجل توضّأ فغسل يساره قبل يمينه ، قال عليه‌السلام : «يعيد الوضوء من حيث أخطأ يغسل يمينه ثمّ يساره ثمّ يمسح رأسه ورجليه» (٤).

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١٢٩ ـ ٤٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

(٢) السرائر ٣ : ٥٥٣ ـ ٥٥٤ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٤.

(٣) أقول : فيه نظر ، فإنّ متعلّق النسيان في الفقرة الأخيرة بمقتضى سوق العبارة نفس المسح ، وفيما قبلها الترتيب بين الغسلات ، فليتأمّل. (منه عفي عنه).

(٤) قرب الإسناد : ١٧٦ ـ ١٧٧ ـ ٦٤٩ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٥.

٩

ومنها : صحيحة زرارة «فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع ، وإن مسحت على الرّجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرّجل ثمّ أعد على الرّجل» (١).

وصحيحته الأخرى عن رجل بدأ بيده قبل وجهه وبرجليه قبل يديه ، قال : «يبدأ بما بدأ الله ، وليعد ما كان فعل» (٢).

وصحيحة منصور في الرجل يتوضّأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين ، قال :«يغسل اليمين ويعيد اليسار» (٣).

وصحيحة علي بن جعفر عليه‌السلام عن رجل توضّأ فغسل يساره قبل يمينه كيف يصنع؟ قال : «يعيد الوضوء من حيث أخطأ يغسل يمينه ثمّ يساره ثمّ يمسح رأسه ورجليه» (٤).

ورواية علي الصائغ في من بدأ بالمروة قبل الصفا ، قال : «يعيد ألا ترى أنّه لو بدأ بشماله قبل يمينه كان عليه أن يبدأ بيمينه ثمّ يعيد على شماله» (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٤ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٩٧ ـ ٢٥١ ، الإستبصار ١ : ٧٣ ـ ٢٢٣ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ٩٧ ـ ٢٥٢ ، الإستبصار ١ : ٧٣ ـ ٢٢٤ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ٩٧ ـ ٢٥٣ ، الإستبصار ١ : ٧٣ ـ ٢٢٥ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٤) قرب الإسناد : ١٧٦ ـ ١٧٧ ـ ٦٤٩ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٥. وقد تقدّم الحديث آنفا.

(٥) الكافي ٤ : ٤٣٦ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ١٥١ ـ ٤٩٧ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب السعي ، الحديث ٥.

١٠

ولكنّك خبير بما في الاستظهار.

والإنصاف أنّ المتأمّل في مجموع الأخبار المتقدّمة وغيرها ممّا ورد في بيان حكم من ترك شيئا من أجزاء الوضوء نسيانا لا يكاد يرتاب في أنّ هذه الأخبار الكثيرة بأسرها مسوقة لبيان وجوب البدأة بما بدأ به الله تعالى ، وتدارك ما أخلّ به على وجه يحصل معه الترتيب ، فيستفاد من مجموعها أنّ الأمر بإعادة ما أخلّ به ليس إلّا لتحصيل الترتيب المعتبر بين أعضاء الوضوء ، فيدور الحكم مداره ، ولا يكافئه ظهور لفظ الإعادة في الموثّقة ، أو ظهور كلمة «قبل» الظاهرة في القبليّة الفعليّة فيما ينافيه.

هذا كلّه مع قطع النظر عن القرائن الداخليّة والخارجيّة التي تشهد بصدق ما ادّعيناه ، كما يقف عليها المتأمّل. مضافا إلى عدم ظهور مخالف صريح في المسألة.

ولا فرق في جميع ما تقدّم بالنسبة إلى مخالفة الترتيب بين تمام العضو وبعضه ، فمن ترك شيئا من الوجه مثلا ، وجب عليه إعادته وما بعده إن لم يجفّ الوضوء ، وإلّا استأنف.

وعن ابن الجنيد أنّه إذا كان المنسي لمعة دون سعة الدرهم ، كفى بلّها من غير إعادة ما بعده (١).

وفيه : أنّه لا يساعد عليه دليل يعتدّ به ، عدا ما رواه الصدوق عن الكاظم عليه‌السلام في عيون الأخبار عن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل يبقى

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة في المختلف ١ : ١٤١ ، المسألة ٩٣.

١١

من وجهه إذا توضّأ موضع لم يصبه الماء ، فقال : «يجزئه أن يبلّه من بعض جسده» (١).

وهي بإطلاقها غير معمول بها ، فلا بدّ من تقييدها بما لا ينافي الأدلّة المتقدّمة ، والله العالم.

تفريع : لو ارتمس في ماء جار وتعاقبت جريات ثلاث على أعضائه الثلاثة مقرونا بالنيّة ، اجتزأ بها ، فيمسح رأسه ورجليه مع فرض عدم استهلاك بلل الوضوء في يده.

وكذا في الواقف بشرط حصول تحريك كلّ عضو عند إرادة غسله على وجه يحصل مسمّى الغسل المعتبر شرعا بأن يكون من أعلى العضو إلى أسفله.

وعن الذكرى أنّه استقرب كفاية قصد حصول غسل الأعضاء على الوجه المعتبر شرعا في الواقف أيضا ، كالجاري (٢).

وهو في غاية الإشكال ، إذ لا يتكرّر الغسل بتكرّر آناته ، فالغسلة المتحقّقة في الخارج من أوّل إدخال يده في الماء إلى آخره ليست إلّا غسلة واحدة ، ولا تأثير للنيّة في تعدّدها حتى يتحقّق الترتيب المعتبر شرعا.

نعم ، الغسلة الحاصلة بعد تحريك اليد عرفا وعقلا غير الغسلة

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢ ـ ٤٩ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ٢٤٧ ، وانظر : الذكرى : ٩١.

١٢

الحاصلة قبله ، فهي مجزئة ولكن بشرط حصول التحريك إلى جهة المرفق حتى تتّصف الغسلة الحاصلة بكونها من المرفق إلى الأصابع.

ولا يخفى عليك أنّ الإشكال سار في الجاري أيضا إذا كان جريه على نسق واحد ، ولم يكن لجريانه المتعاقبة امتياز عرفي ، فإنّه حينئذ كالواقف في عدم تأثير تكرّر الآنات في تعدّد الغسلات ، وإلّا للزم حصول غسلات غير متناهية في زمان متناه ، وهو باطل عقلا فضلا عن انتفاء الصدق عرفا ، فيعتبر أن تكون جريانه المتعاقبة ممتازا بعضها عن بعض حتى يمتاز بسببها الغسلات اللاحقة عن سابقتها عرفا حتى تترتّب إحدى الغسلتين على الأخرى.

وكذا يعتبر أن يكون وضع يده في الماء على وجه يجري الماء من المرفق ، فلو عكس لا يجزئ ، كما لو نكس في الغسل بالماء القليل.

ومجرّد قصد حصوله من الأعلى لا يؤثّر في انقلاب الفعل الشخصي الخارجي عمّا هو عليه في الواقع.

والحاصل : أنّ المدار على شهادة العرف بحصول غسل الأعضاء مترتّبا من الأعلى إلى الأسفل ، وهي منتفية في أغلب الفروض.

ولا ينتقض ما ذكرناه بشهادة العرف على صدق الامتثال بإبقاء اليد تحت الماء لو أمر المولى عبده بغسل يده ، وكانت يده في الماء من دون حاجة إلى إخراجها وإدخالها ثانيا بقصد الامتثال ، لوضوح الفرق بين المقامين ، لأنّ إدخال اليد في الماء وجوبه مقدّمي ، فينتفي أمره بعد حصول الغرض.

وأمّا حصول امتثال أمر المولى في المثال بمجرّد الإبقاء : فلأنّ إدامة

١٣

الغسل أيضا غسل حقيقة ، واتّصاله بسابقه يمنعه من الانفراد لا من حصول الطبيعة في ضمنه ، التي هي مناط الامتثال.

ألا ترى أنّ جزء الخطّ خطّ حقيقة ، وليس فردا منه بانفراده ما لم ينفصل عن سابقه ، فكونه جزءا من سابقه يمنع من حصول الترتيب بين الغسلات وأجزائها ، فما نحن فيه من قبيل ما لو أمر المولى عبده بغسل يده اليسرى عقيب اليمنى ، لا ما لو أمر بغسلها مطلقا ، وبينهما فرق بيّن.

المسألة (الثانية : الموالاة واجبة) في الجملة إجماعا محصّلا ومنقولا ، كما في الجواهر (١) ، وفي طهارة شيخنا المرتضى قدس‌سره : إجماعا مستفيضا بل محقّقا (٢). (وهي) لغة وعرفا : متابعة الأفعال وتعاقب بعضها لبعض غير منقطع عنه بفصل يعتدّ به عرفا ، أو بتخلّل ما ينافيه.

ولكنّ الأقوى الأشهر بل المشهور : أنّ الموالاة المعتبرة في الوضوء (أن يغسل كلّ عضو قبل أن يجفّ) جميع (ما تقدّمه).

وعن الإسكافي : قبل أن يجفّ شي‌ء ممّا تقدّمه (٣).

وعن الحلّي وغيره قبل أن يجفّ العضو المتلو لما يغسله (٤).

__________________

(١) جواهر الكلام ٢ : ٢٥٢.

(٢) كتاب الطهارة : ١٣٣.

(٣) حكاه عنه الشهيد في الذكرى : ٩١ ، وكما في مدارك الأحكام ١ : ٢٢٩.

(٤) حكاه عنه وعن السيّد المرتضى وابني حمزة وزهرة ، العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٣٤ ، المسألة ٨٢ ، وانظر : السرائر ١ : ١٠١ ، ومسائل الناصريّات : ١٢٦ ، المسألة ٣٣ ، والوسيلة : ٥٠ ، والغنية : ٥٩.

١٤

ويحتمل قريبا رجوع الأخير إلى المختار.

وكيف كان ، فلو أخّر غسل عضو إلى أن يجفّ ما تقدّمه بسبب التأخير لا لشدّة حرارة الهواء وغيرها من الأمور الداخليّة والخارجيّة ، بطل وضوؤه بلا خلاف.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماع ـ صحيحة معاوية بن عمّار ، قال :قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربّما توضّأت فنفد الماء فدعوت الجارية فأبطأت عليّ بالماء ، فيجفّ وضوئي ، فقال عليه‌السلام : «أعده» (١).

وموثّقة أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا توضّأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى يبس وضوؤك فأعد وضوءك فإنّ الوضوء لا يبعّض» (٢).

وقد يستدلّ له أيضا ببعض الأخبار المتقدّمة في مبحث اشتراط كون المسح ببقيّة بلل الوضوء ، الدالّ على وجوب إعادة الوضوء على من نسي مسح رأسه وفقد البلّة من أعضاء وضوئه ، كمرسلة الصدوق «إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك ـ إلى أن قال ـ :وإن لم يبق من بلّة وضوئك شي‌ء أعدت الوضوء» (٣).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥ ـ ٨ ، التهذيب ١ : ٨٧ ـ ٢٣١ ، الإستبصار ١ : ٧٢ ـ ٢٢١ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣٥ ـ ٧ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) الفقيه ١ : ٣٦ ـ ١٣٤ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

١٥

وفيه : عدم انحصار وجه الإعادة في الفرض بفوت الموالاة حتى يكون مثل هذه الأخبار شاهدا على المطلوب ، لإمكان كون الأمر بالإعادة مسبّبا عن تعذّر المسح ببقيّة البلل ، كما هو ظاهر.

ولا يخفى عليك أنّه يستفاد من الغاية المذكورة في صدر موثّقة أبي بصير : عدم وجوب إعادة الوضوء لو انقضت حاجته العارضة قبل أن ييبس وضوؤه ، بل يبني عليه ويتمّه.

وظهوره حاكم على إطلاق العلّة المذكورة في ذيلها ، إذ به يستكشف المراد من التبعيض المنهيّ عنه في الوضوء.

وإن شئت قلت : إنّ تقييد عروض الحاجة باليبس ثمّ تعليله بالتبعيض ظاهر في مدخليّة الجفاف في حصوله ، فتكون هذه الموثّقة قرينة على تعيين المراد من العلّة المذكورة في رواية حكم بن حكيم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي من الوضوء الذراع والرأس ، قال : «يعيد الوضوء ، إنّ الوضوء يتبع بعضه بعضا» (١) فيختصّ موردها بما إذا تذكّر بعد الجفاف.

وممّا يدلّ أيضا على اختصاص موردها بما ذكرناه ، وأنّ المراد من المتابعة فيها إنّما هو تلاحق بعض أفعال الوضوء لبعض قبل جفاف سابقه : الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ ناسي المسح يأخذ من بلّة لحيته وأشفار عينيه وحاجبيه ما دامت البلّة باقية ، فيمسح بها مطلقا ، وإلّا فيعيد وضوءه.

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٨٩ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

١٦

هذا ، مضافا إلى الإجماع على أنّ المتابعة المعتبرة في حقّ الناسي ، التي يوجب الإخلال بها إعادة الوضوء ـ كما هو مورد الرواية ـ ليست إلّا بالمعنى المذكور.

ولا ينافي ما استظهرناه من الموثّقة ـ من عدم وجوب الإعادة ما لم يجفّ العضو السابق ـ إطلاق قوله عليه‌السلام في حسنة الحلبي : «أتبع وضوءك بعضه بعضا» (١) لأنّ المراد من المتابعة فيها ـ على ما يشهد به ما قبل هذه الفقرة ـ هو الترتيب بين الأعضاء بإيجاد المتأخّر في مرتبته ، نظير قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «تابع بين الوضوء كما قال الله عزوجل ، ابدأ بالوجه ثمّ باليدين ثمّ امسح الرأس والرّجلين ، ولا تقدّمنّ شيئا بين يدي شي‌ء تخالف ما أمرت به ، فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع ، وإن مسحت الرّجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرّجل ثمّ أعد على الرّجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به» (٢) فإنّ ظاهرها كالصريح في إرادة الترتيب من المتابعة.

وأمّا ما يشهد بإرادة الترتيب من المتابعة في الحسنة ، فهو قوله عليه‌السلام قبل هذه الفقرة : «إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وإن كان إنّما نسي شماله ، فليغسل الشمال ، ولا يعيد على ما كان توضّأ»

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٤ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٩٩ ـ ٢٥٩ ، الإستبصار ١ : ٧٤ ـ ٢٢٨ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ٣٤ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٩٧ ـ ٢٥١ ، الإستبصار ١ : ٧٣ ـ ٢٢٣ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

١٧

وقال : «أتبع وضوءك» (١) إلى آخره ، إذ الظاهر أنّ قوله عليه‌السلام : «أتبع وضوءك» إلى آخره ، بمنزلة الدليل للحكم المذكور في الرواية ، أعني إعادة الجزء المنسيّ وما بعده ، فيراد منه الترتيب لا المتابعة العرفيّة ، وإلّا لكان مقتضاها الحكم بإعادة الوضوء من رأس ولو في بعض صوره ، مع أنّه عليه‌السلام نصّ على عدم إعادة ما كان توضّأه ، فيظهر أنّها غير مسوقة إلّا لبيان الحكم من حيث الإخلال بالترتيب لأجل النسيان.

هذا ، مع أنّه لو حملنا المتابعة المأمور بها في هذه الرواية على إرادة الموالاة ، لتعيّن حملها على الموالاة بالمعنى المتقدّم ، أعنى تلاحق بعض الأجزاء لبعض قبل جفاف سابقه حتى يعمّ الناسي وغيره ، لأنّ حملها على المتابعة العرفيّة ، المستلزم لتخصيصها بما عدا الناسي نصّا وإجماعا مع كون صدر الرواية مسوقا لبيان حكم الناسي كما ترى.

هذا كلّه بالنظر إلى القرائن الداخليّة ، وإلّا فمقتضى الجمع بينها وبين الأدلّة السابقة : تقييد مثل هذه الروايات بما لا ينافيها ، لحكومة مفهوم الروايتين عليها ، لأنّ مفاده أنّ لحوق اللاحق بأثر السابق ، وعدم انقطاعه عن أثره متابعة ، فلا يعارضه إطلاق أصلا.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ لبقاء الأثر نحو تأثير في صدق المتابعة عرفا ، فإنّ الفعل السابق ما دام وجود أثره بمنزلة المتجدّد بنظر العرف ، فلا يخرج الفعل اللاحق ما دام الأثر موجودا من قابليّة الانضمام إلى

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٤ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٩٩ ـ ٢٥٩ ، الإستبصار ١ : ٧٤ ـ ٢٢٨ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٩.

١٨

سابقه ، فمعه تتحقّق المتابعة وعدم التبعيض عرفا ، فلا تنافي بين الأخبار أصلا. (و) بما ذكرنا ظهر لك ضعف ما (قيل) كما عن صريح المبسوط وظاهر المقنعة (١) ـ من أنّ الموالاة المعتبرة في الوضوء (هي المتابعة بين الأعضاء مع الاختيار ومراعاة) عدم (الجفاف مع) التفريق لأجل (الاضطرار) اتّكالا على إطلاق بعض الأخبار المتقدّمة بعد تخصيصها بالعامد ، جمعا بين الأدلّة.

وقد عرفت أنّ الجمع يقتضي خلافه ، مضافا إلى القرائن المستفادة من نفس الأخبار.

واستدلّ له أيضا بقاعدة الاشتغال ، وبالوضوءات البيانيّة.

وفيه ـ بعد تسليم كون المقام مجرى قاعدة الاشتغال لا البراءة ـ : أنّ إطلاقات الكتاب والسنّة واردة عليها.

وأمّا المتابعة الحاصلة في الوضوءات البيانيّة ـ بعد تسليم ظهور الأخبار فيها ـ فلأجل جريها مجرى العادة خصوصا في مقام التعليم لا تدلّ على اعتبارها في ماهيّة الوضوء ، كما هو ظاهر.

وربّما يتوهّم جواز الاستدلال له : بالإجماعات المنقولة المستفيضة على وجوب الموالاة واعتبارها في الوضوء ، بناء على أنّ الظاهر من لفظ

__________________

(١) حكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٣٣ ، وانظر : المبسوط ١ : ٣٣ ، والمقنعة : ٤٧.

١٩

«الموالاة» الواقع في معاقد الإجماعات هو المتابعة بين الأعضاء.

وفيه : أنّه لا مسرح للتشبّث بظاهر معقد الإجماع بعد وضوح اختلاف مراد المجمعين ، وليس معقد الإجماع اعتبار مفهوم هذا اللفظ حتى يرجع فيه إلى العرف واللغة.

ويفصح عن ذلك ـ مضافا إلى وضوحه عند من راجع كلماتهم ـ تصريح نقلة الإجماع بوقوع الخلاف بين المجمعين في معناها بحيث يعلم منه أنّ خلافهم ليس في تفسير مدلول اللفظ.

وعن صريح المعتبر وغير واحد من كتب العلّامة أنّ الموالاة بهذا المعنى ـ أعني المتابعة العرفيّة ـ واجبة مستقلّة غير معتبرة في صحّة الوضوء ، فيختصّ وجوبها بغير المضطرّ ، وإنّما المعتبر في الوضوء اختيارا واضطرارا هو الموالاة بالمعنى الأوّل (١).

وفي الحدائق : إنّ هذا القول هو المشهور عند أصحاب القول بوجوب المتابعة بين الأعضاء (٢) ، بل عن شرح الإرشاد لفخر الدين والتنقيح وجامع المقاصد وكشف الالتباس : انحصار القول بوجوب المتابعة بمعنى التعاقب في هذا القول ، وأنّه لا يبطل الوضوء إلّا بالجفاف قولا واحدا ، وأنّ فائدة الخلاف تظهر في الإثمّ وعدمه (٣).

__________________

(١) حكاه عنها الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٣٤ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٥٧ ، وتحرير الأحكام ١ : ١٠ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ١٨٩ ، ومنتهى المطلب ١ : ٧٠ ، ونهاية الإحكام ١ : ٤٩.

(٢) الحدائق الناضرة ٢ : ٣٤٨.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٣٤ ، وانظر : التنقيح الرائع ١ : ٨٥ ، وجامع المقاصد ١ : ٢٢٥ ، وكشف الالتباس ١ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، وشرح الإرشاد غير مطبوع.

٢٠