مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

معطوفة على الضمير المنصوب ـ حملها على مورد الضرورة ، كما يشعر بإرادته ظاهر السؤال.

كصحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل يموت وليس عنده من يغسّله إلّا النساء ، قال : «تغسّله امرأته أو ذو قرابته إن كانت له ، وتصبّ النساء عليه الماء صبّا ، وفي المرأة إذا ماتت يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسّلها» (١).

وموثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن الرجل يموت وليس عنده من يغسّله إلّا النساء هل تغسّله؟ فقال : «تغسّله امرأته أو ذات محرمه ، وتصبّ عليه النساء الماء من فوق الثياب» (٢).

ونظير هذه الروايات في قصر مفادها على ثبوت الحكم في حال الضرورة : صحيحة أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يموت في السفر في أرض ليس معه إلّا النساء ، قال : «يدفن ولا يغسّل ، والمرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة تدفن ولا تغسّل إلّا أن يكون زوجها معها ، فإن كان زوجها معها غسّلها من فوق الدرع» (٣).

ورواية داود بن سرحان عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يموت في السفر أو في أرض ليس معه فيها إلّا النساء ، قال : «يدفن ولا يغسّل» وقال : «في المرأة تكون

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥٧ / ١ ، التهذيب ١ : ٤٣٧ / ١٤١٠ ، الإستبصار ١ : ١٩٦ / ٦٨٩ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٣ : ١٥٧ / ٤ ، التهذيب ١ : ٤٣٩ / ١٤١٦ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨ / ٦٩٥ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

(٣) التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٤ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٢.

٦١

مع الرجل بتلك المنزلة إلّا أن يكون معها زوجها فليغسّلها من فوق الدرع ويسكب عليها الماء سكبا ، ولتغسّله امرأته إذا مات ، والمرأة ليست مثل الرجل ، والمرأة أسوأ منظرا حين تموت» (١).

ورواية زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة ماتت وهي في موضع ليس معهم امرأة غيرها ، قال : «إن لم يكن فيهم لها زوج ولا ذو رحم دفنوها بثيابها ولا يغسّلونها ، وإن كان معهم زوجها أو ذو رحم لها فليغسّلها من غير أن ينظر إلى عورتها» قال : وسألته عن رجل مات في السفر مع نساء ليس معهنّ رجل ، فقال : «إن لم يكن له فيهنّ امرأة فليدفن في ثيابه ولا يغسّل ، وإن كان له فيهنّ امرأة فليغسّل في قميص من غير أن تنظر إلى عورته» (٢).

ورواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في المرأة إذا ماتت وليس معها امرأة تغسّلها ، قال : «يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسّلها إلى المرافق» (٣) المراد منها ـ على ما يشهد به سائر الروايات ـ ما في موثّقة سماعة من أنّ «زوجها يدخل يده تحت قميصها إلى المرافق فيغسّلها» (٤).

ثمّ إنّ هذه الروايات بأسرها تدلّ على جواز تغسيل كلّ من الزوجين الآخر

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥٨ / ٧ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٥ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩٤ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٧.

(٢) التهذيب ١ : ٤٤٣ / ١٤٣٢ ، الإستبصار ١ : ٢٠٣ / ٧١٧ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٧.

(٣) الكافي ٣ : ١٥٨ / ١٠ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٣ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٨.

(٤) الكافي ٣ : ١٥٨ / ٦ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٢ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٥.

٦٢

في الجملة.

فما في ذيل صحيحة زرارة ، المتقدّمة (١) ـ من قوله عليه‌السلام : «وإذا ماتت لم يغسّلها لأنّه ليس منها في عدّة» ـ إمّا محمولة على التقيّة ، أو أنّ المراد النهي عن أن يغسّلها في حال الاختيار مجرّدة عن الثياب ، أو مطلقا كما ليس بالبعيد.

ويشهد للأوّل ـ أي مجرّدة عن الثياب ـ وقوع هذا التعليل بعينه تعليلا للمنع من النظر إلى شعرها وإلى شي‌ء منها في صحيحة الحلبي ، المتقدّمة (٢) المصرّحة بجواز تغسيلها من وراء الثوب ، فتكون حكمة إطلاق النهي عن التغسيل في هذه الصحيحة على هذا التقدير ملازمته عادة للنظر إلى شعرها وجسدها لو غسّلها بالكيفيّة المتعارفة المعهودة ، فينزّل النهي على إرادة غير صورة الاضطرار ، ولذا لم يأمره بالغسل من وراء الثوب ، كما في صحيحة الحلبي.

وهذا الحمل وإن كان ربما يتراءى منافاته لمورد السؤال حيث فرض السائل موته في مكان لا يكون فيه إلّا النساء إلّا أنّ هذا الفرض لا يخرجه غالبا من الاختيار ، فإنّ الغالب إمكان عثورهنّ على الرجل في طول يوم أو يومين مثلا وإن لم يكن حاضرا بالفعل ، كما هو مفروض السائل.

وكيف كان فلا بدّ من حمل هذه الصحيحة على ما لا ينافي صحيحة الحلبي.

وأمّا صحيحة الحلبي فظاهرها ـ بل كاد أن يكون صريحها بمقتضى التعليل الواقع فيها ـ إنّما هو جواز تغسيل الزوجة زوجها مطلقا ، وكذا عكسه مقيّدا في صورة العكس بكونه من وراء الثوب ، ومقتضى سياق الصحيحة والمناسبة

__________________

(١) في ص ٦٠.

(٢) في ص ٦٠.

٦٣

الظاهرة بين العلّة والمعلول كون التعليل الواقع فيها ـ من انقضاء عدّتها ـ تعليلا لمنع النظر لا لكون الغسل من وراء الثوب حتى يكون ذلك شرطا تعبّديّا في الغسل تجب رعايته وإن لم يكن الغاسل بصيرا ، فالأمر بغسله إيّاها من وراء الثوب على الظاهر ليس إلّا لكون غسلها مجرّدة ملزوما للنظر إلى شي‌ء منها. وعلى تقدير كونه شرطا تعبّديّا فإنّما هو شرط لكمال الغسل لا لصحّته ، لصراحة صحيحة منصور بن حازم ، المتقدّمة (١) في عدم اشتراطه بذلك ، بل يكفي فيه أن يلقي على عورتها خرقة ، بل وكذا صحيحة (٢) ابن سنان كالصريحة في ذلك ، كما أنّها صريحة في جواز أن ينظر الرجل إلى امرأته حين تموت ، ولذا يتعيّن حمل النهي عن النظر إلى شعرها وإلى شي‌ء منها على الكراهة ، وهي وإن كانت مخالفة لما يقتضيه التعليل بظاهره ـ حيث إنّ المتبادر منه ليس إلّا إرادة صيرورة الزوج بموت الزوجة أجنبيّا فيحرم النظر إليها ـ لكن يجب تأويل هذا الظاهر أو ردّ علمه إلى أهله ، لدلالة الأخبار المستفيضة بل المتواترة على عدم انقطاع العلاقة بالمرّة ، وقد سمعت التصريح بجواز النظر إليها في صحيحة ابن سنان ، وكذا صرّح بذلك فيما رواه محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن امرأة توفّيت أيصلح لزوجها أن ينظر إلى وجهها ورأسها؟ قال : «نعم» (٣) بل قد يفهم عدم انقطاع العلقة بالمرّة من نفس هذه الصحيحة حيث أجاز تغسيلها من وراء الثوب مع أنّه لا يجوز ذلك للأجنبيّ ، كما ستعرف ، فالمراد من التعليل بانقضاء عدّتها ـ على الظاهر ـ بيان

__________________

(١) في ص ٦٠.

(٢) المتقدّمة في ص ٥٩.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢٨ / ١٣٦٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٠.

٦٤

عدم بقاء العلقة على ما هي عليها ، كما في صورة العكس ، ولذا نهى عن أن ينظر إليها نهيا تنزيهيّا لا تحريما.

كما يشهد لذلك ـ مضافا إلى ما عرفت ـ رواية (١) داود بن سرحان حيث يظهر منها أنّ منشأ الأمر بتغسيلها من فوق الدرع كراهة النظر إليها ، لصيرورة المرأة حين تموت أسوأ منظرا من الرجل ، بل ربما يتأمّل في كراهته شرعا ، لجواز أن تكون حكمه الأمر بغسلها من فوق الدرع والنهي عن النظر إليها رعاية لحال أهل المرأة حيث يكرهون أن ينظر زوجها إلى شي‌ء يكرهونه ، كما صرّح بذلك في صحيحة (٢) ابن سنان بعد أن نفى البأس عن تغسيلها والنظر إليها.

لكن يدفعه : عدم التنافي بينه وبين كراهته شرعا ، ونفي البأس عنه صريح في نفي الحرمة لا نفي الكراهة ، وظهوره في ذلك ليس على وجه يصلح لصرف الأخبار المستفيضة الآمرة بغسلها من وراء الثوب ، الناهي بعضها (٣) عن النظر إليها ، بل في بعضها (٤) النهي عن تغسيلها ، مع ما فيها من التعليل بانقضاء عدّتها.

فالأظهر استحباب تغسيلها من وراء الثوب ، وكراهة النظر إلى شي‌ء منها ، وتغسيلها مجرّدة عن الثياب ، بل لا يبعد كراهة مباشرة تغسيلها مطلقا إلّا في حال الضرورة.

فاتّضح لك من جميع ما ذكرنا ضعف القول بحرمة تغسيلها مجرّدة ، و

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في ص ٦٢ ، الهامش (١).

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في ص ٥٩ ، الهامش (٢).

(٣) التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٤ ، و ٤٤٠ / ١٤٢٣ ، الاستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩٣ ، و ٢٠٠ ـ ٢٠١ / ٧٠٦ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١١ و ١٢.

(٤) التهذيب ١ : ٤٣٧ / ١٤٠٩ ، الإستبصار ١ : ١٩٨ / ٦٩٧ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٣.

٦٥

وجوب كونه من وراء الثوب ، كما عن الشيخ في الاستبصار (١) ، استنادا إلى ظاهر الأوامر الواردة في الأخبار المتقدّمة ، التي يجب صرفها عن ظاهرها بقرينة غيرها ممّا هو نصّ في الجواز.

وأضعف منه تعميمه في صورة العكس أيضا ، كما عن غير واحد ، بل في المسالك : والمشهور أن يغسّل كلّ واحد من الزوجين صاحبه من وراء الثياب (٢) ، وعن ظاهر المختلف نسبته إلى أكثر علمائنا (٣) ، إذ لا شاهد له يعتدّ به في صورة العكس ، كما صرّح به غير واحد ، بل في بعض الأخبار المتقدّمة التصريح بالفرق بين الصورتين.

نعم ، لو قيل بوجوب ستر العورة وحرمة نظر كلّ منهما إلى عورة صاحبه بعد موته ، لم يكن بعيدا ، للأمر بسترها والنهي عن النظر إليها بالخصوص في جملة من الأخبار التي تقدّم بعضها ، ولا يعارضها سوى الأصل وإطلاق صحيحة (٤) ابن سنان ، لكنّه مع ذلك لا يخلو عن تأمّل ، والله العالم.

وقد ظهر أيضا ضعف ما قيل ـ كما عن الشيخ في التهذيبين وابن زهرة في الغنية ، والحلبي في إشارة السبق (٥) ـ من اختصاص الحكم ـ أعني جواز تغسيل كلّ من الزوجين صاحبه ـ بحال الاضطرار ، استنادا إلى بعض الأخبار المتقدّمة التي لا يفهم منها إلّا جوازه في حال الضرورة ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم.

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥١ ، وانظر : الاستبصار ١ : ١٩٧ ذيل الحديث ٦٩٤.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ٨١.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٢ ، وانظر : مختلف الشيعة ١ : ٢٤٥ ، المسألة ١٨٦.

(٤) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في ص ٥٩ ، الهامش (٢).

(٥) حكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٠ ، وانظر : التذهيب ١ : ٤٤٠ ذيل الحديث ١٤٢٠ ، والاستبصار ١ : ١٩٩ ذيل الحديث ٧٠١ ، والغنية : ١٠٢ ، وإشارة السبق : ٧٧.

٦٦

لكنّك خبير بعدم اقتضائها لتقييد المطلقات التي كاد أن يكون بعضها صريحا في الإطلاق ، كصحيحة ابن سنان وحسنة محمد بن مسلم (١).

وربما يستدلّ لهذا القول : برواية أبي حمزة عن الباقر عليه‌السلام قال : «لا يغسّل الرجل المرأة إلّا أن لا توجد امرأة» (٢).

وفيه ـ بعد تسليم سندها ـ لا بدّ من تخصيصها بما عدا الزوجة بالأخبار المتقدّمة ، فإنّ تخصيص هذه الرواية أهون من تقييد تلك المطلقات التي ربما يدّعى صراحة بعضها في الجواز حال الاختيار.

ولا يبعد أن تكون حكمة إطلاق النهي في هذه الرواية كراهة تغسيلها اختيارا ، فيكون المراد بالنهي ما يعمّ الكراهة.

واستدلّ له أيضا : برواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام «يغسّل الزوج امرأته في السفر ، والمرأة زوجها في السفر إذا لم يكن معهم رجل» (٣).

وفيه : أنّ هذه الرواية ـ مع ما فيها من قصور السند وضعف الدلالة ـ لا تصلح لإثبات أزيد من الكراهة في مقابل الأدلّة المتقدّمة.

واستدلّ له أيضا : بما في غير واحد من الأخبار (٤) من تعليل تغسيل أمير المؤمنين عليه‌السلام فاطمة سلام الله عليها : بكونها صدّيقة لا يغسّلها إلّا صدّيق.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يكن يغسّل كلّ من يموت من

__________________

(١) تقدّمت الصحيحة والحسنة في ص ٥٩.

(٢) التهذيب ١ : ٤٤٠ / ١٤٢١ ، الإستبصار ١ : ١٩٩ / ٧٠٢ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٠.

(٣) التهذيب ١ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠ / ١٤٢٠ ، الإستبصار ١ : ١٩٩ / ٧٠١ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٤.

(٤) منها : ما في الفقيه ١ : ٨٧ / ٤٠٢ ، والوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٥.

٦٧

أهله وأقاربه مماثلا كان أو غير مماثل ، وإنّما كان يغسّل مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة عليها‌السلام ممّن لا ينبغي أن يمسّه إلّا المطهّرون ، فكان اختياره لتغسيلها لنكتة بيّنها الإمام عليه‌السلام ، فلا يفهم من مثل هذه الروايات كراهته أيضا فضلا عن المنع.

نعم ، ربما يستشعر من خبر مفضّل بن عمر كونه خلاف المتعارف بحيث لم يكن يرتكبه أحد إلّا لضرورة ، ولذا ضاق صدر السائل حين سمعه من الإمام عليه‌السلام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من غسّل فاطمة عليها‌السلام؟ قال : «ذاك أمير المؤمنين عليه‌السلام» فكأنّما استضقت (١) ذلك من قوله ، فقال لي : «كأنّك ضقت ممّا أخبرتك به» فقلت : قد كان ذلك جعلت فداك ، فقال : «لا تضيقنّ فإنّها صدّيقة لم يكن يغسّلها إلّا صدّيق ، أما علمت أنّ مريم لم يغسّلها إلّا عيسى عليه‌السلام» (٢).

وأنت خبير بأنّ هذه الرواية لا يستشعر منها الكراهة شرعا فضلا عن دلالتها على المنع ، والله العالم.

وينبغي التنبيه على أمور.

الأوّل : قال في محكيّ جامع المقاصد ـ بعد أن اختيار القول بجواز تغسيل كلّ من الزوجين الآخر من وراء الثياب ، كما صرّح به جمع من الأصحاب ـ ما صورته : ولم أقف في كلام على تعيين ما يعتبر في التغسيل من الثياب. والظاهر أنّ المراد ما يشمل جميع البدن ، وحمل الثياب على المعهود يقتضي استثناء

__________________

(١) في الموضع الثاني من الكافي : «استقطعت» وفي التهذيبين والعلل والموضع الأوّل من الكافي : «استعظمت».

(٢) الكافي ١ : ٤٥٩ / ٤ ، و ٣ : ١٩٥ / ١٣ ، علل الشرائع : ١٨٤ (الباب ١٤٨) الحديث ١ ، التهذيب ، ١ : ٤٤٠ / ١٤٢٢ ، الإستبصار ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ / ٧٠٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٦.

٦٨

الوجه والكفّين والقدمين ، فيجوز أن تكون مكشوفة (١). انتهى.

أقول : أمّا الأخبار الدالّة عليها فمنها : صحيحة الحلبي ، المتقدّمة (٢) الدالّة على أنّه يغسّلها من وراء الثوب ولا ينظر إلى شعرها و [لا] إلى شي‌ء منها ، وظاهرها ـ بقرينة النهي عن النظر إلى شي‌ء منها ـ إرادة ثوب يستر جميع بدنها ، اللهمّ إلّا أن يدّعى انصرافها عن الوجه والكفّين والقدمين. وفيه تأمّل.

نعم ، ما ذكره من حمل الثياب على المتعارف يتّجه في صحيحة محمد بن مسلم ونحوها ممّا أطلق فيها لفظ الثياب ، وقال فيها بعد أن سئل عن أنّ الرجل يغسّل امرأته؟ : «نعم من وراء الثياب» (٣) مع إمكان أن يقال : إنّ المتبادر من هذه الروايات أيضا ليس إلّا إرادة غسلها مستورة من دون أن ينظر إلى شي‌ء منها.

وكيف كان ففي جملة من الأخبار اقتصر على ذكر القميص أو الدرع.

ففي صحيحة الحلبي ، الأولى : «يدخل زوجها يده تحت قميصها» (٤).

وفي روايته المذكورة أخيرة قال : «يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسّلها إلى المرافق» (٥).

وفي موثّقة سماعة «يدخل زوجها يده تحت قميصها إلى المرافق

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٨٩ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٣٦٠.

(٢) في ص ٦٠.

(٣) الكافي ٣ : ١٥٧ / ٣ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١١ ، الإستبصار ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧ / ٦٩٠ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

(٤) الكافي ٣ : ١٥٧ / ١ ، التهذيب ١ : ٤٣٧ / ١٤١٠ ، الإستبصار ١ : ١٩٦ / ٦٨٩ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٣.

(٥) الكافي ٣ : ١٥٨ / ١٠ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٣ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٨.

٦٩

فيغسّلها» (١).

وفي صحيحة أبي الصباح «وإن كان زوجها معها غسّلها من فوق الدرع» (٢).

إلى غير ذلك من الروايات.

فيحتمل أن يكون المراد بهذه الروايات أيضا غسلها من وراء ثيابها المتعارفة ، وتخصيص القميص أو الدرع بالذكر ، لاشتماله على معظم البدن.

ويحتمل أن يكون المراد خصوص القميص أو ما هو بمنزلته ، فلا ضير في كون الرأس ـ كالوجه والكفّين والقدمين ـ مكشوفا ، كما يؤيّده ما في رواية زيد الشحّام «وإن كان له فيهنّ امرأة فليغسّل في قميص من غير أن تنظر إلى عورته» (٣) فإنّ ظاهرها إرادة خصوص القميص كي لا تنظر إلى عورته.

ويؤيّد ذلك ما رواه في عكس الفرض من قوله عليه‌السلام : «فليغسّلها من غير أن ينظر إلى عورتها» (٤).

وكيف كان فالأمر على ما اخترناه من الاستحباب سهل ، فإنّ الأفضل ستر جميع البدن ، ودونه في الفضل التغسيل في القميص ونحوه ، وأدون منه ستر خصوص العورة ، بل لا يخلو وجوبه عن وجه ، كما عرفته فيما سبق.

وأمّا على القول بالوجوب فالجمع بين الأخبار على وجه لا يستلزم طرح شي‌ء منها في غاية الإشكال ، كما لا يخفى على المتأمّل.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥٨ / ٦ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٢ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٥.

(٢) التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٤ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩٣ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

(٣) التهذيب ١ : ٤٤٣ / ١٤٣٢ ، الإستبصار ١ : ٢٠٣ / ٧١٧ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٧.

(٤) التهذيب ١ : ٤٤٣ / ١٤٣٢ ، الإستبصار ١ : ٢٠٣ / ٧١٧ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٧.

٧٠

الثاني : لا ريب في طهارة الميّت بتغسيله من وراء الثوب وعدم سراية النجاسة الحاصلة في الثوب ـ بمباشرة الميّت ـ إليه.

وهل يطهر الثوب بصبّ الماء عليه حال الغسل أم لا يطهر إلّا بعصره؟ وجهان ، بل قولان.

قال في محكيّ الروض : وهل يطهر الثوب بصبّ الماء عليه من غير عصر؟مقتضى المذهب عدمه ، وبه صرّح المحقّق في المعتبر في تغسيل الميّت في قميصه من مماثله (١). انتهى.

وعن الذكرى والروضة وجامع المقاصد وغيرها القول بطهارته بمجرّد الصبّ من غير حاجة إلى العصر ، لإطلاق الأخبار (٢).

قال في محكيّ الذكرى ـ بعد الاستشهاد بإطلاق الرواية ـ : وجاز أن يجري مجرى ما لا يمكن عصره (٣).

أقول : الذي يستفاد من الأخبار استفادة قطعيّة إنّما هو كفاية غسل الميّت من وراء الثوب وعدم الحاجة إلى تطهيره بعده عن النجاسة العرضيّة المكتسبة من ملاقاة الثوب ، فيفهم من ذلك عدم تأثّره من الملاقاة ، وإلّا لما أجاز فعله اختيارا ، بل كان يأمر بتطهيره بعد الغسل في تلك الأخبار ، فخلوّ الأخبار عن ذلك يدلّ على طهارته بالغسل ، وحيث يفهم منها ذلك يستفاد منها بالدلالة الالتزاميّة التبعيّة طهارة ما هو من توابع العمل ، كيد الغاسل وأدوات الغسل والثوب

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٤ ، وانظر روض الجنان : ٩٦ ، والمعتبر ١ : ٢٧١.

(٢) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٤ ، وانظر : الذكرى ١ : ٣٤٢ ، والروضة البهيّة ١ : ٤١٢ ، وجامع المقاصد ١ : ١٧٥ ، والحدائق الناضرة ٣ : ٤٤٨.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ ٢٨٤ ، وانظر : الذكرى ١ : ٣٤٢.

٧١

المطروح عليه بواسطة الملازمة المغروسة في أذهان المتشرّعة من كون النجس منجّسا ، فلا يتعقّلون طهارة أحد الملاصقين برطوبة مسرية وبقاء الآخر على نجاسته ، ولذا لم يحتمل صاحب الحدائق طهارة الميّت وبقاء القميص على نجاسته حيث استدلّ على المطلوب بقوله : فلأنّ ظواهر الأخبار هو أنّه بعد التغسيل في قميصه ينقل إلى الأكفان ، ولو توقّف طهارة القميص على العصر ـ كما يدّعون ـ للزم نجاسة الميّت بعد تمام الغسل وقبل نزعها ، ووجب تطهيره زيادة على الغسل الموظّف ، وظواهر النصوص المذكورة تردّه ، وما ذلك إلّا من حيث طهرها بمجرّد الصبّ في الغسلة الثالثة (١). انتهى.

بل لم يظهر من القائلين باعتبار العصر التزامهم ببقاء الثوب على نجاسته وعدم تنجيس الميّت ، فإنّهم ـ على الظاهر ـ إمّا يوجبون العصر خلال الغسل ، كما يشعر به عبارة الذكرى حيث أجاز أن يكون الثوب جاريا مجرى ما لا يمكن عصره (٢) ، فإنّه يستشعر منه أنّ القائلين باعتبار العصر يوجبونه في خلال الغسل ، أو يلتزمون بنجاسة الميّت بعد غسله نجاسة عرضيّة لأجل الملاقاة ، كما يظهر من المحكيّ عن المعتبر في تغسيل المماثل من وراء الثوب.

قال فيما حكي عنه : وإن تجرّد ، كان أفضل ، لأنّه أمكن للتطهير ، ولأنّ الثوب قد نجس بما يخرج من الميّت ، فلا يطهر بصبّ الماء ، فينجّس الميّت والغاسل (٣). انتهى.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩١.

(٢) الذكرى ١ : ٣٤٢.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٤ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٧١.

٧٢

وكأنّ هذه العبارة هي التي قصدها في الروض ، وفهم منها الموافقة لما اختاره من عدم طهارة الثوب بصبّ الماء عليه من غير عصر.

لكن قد يتأمّل في دلالة هذه العبارة على مدّعاه ، لظهورها في إرادة النجاسة الخارجيّة التي تخرج من الميّت ، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

ويدفعه أنّ خروج النجاسة ليس ملازما لغسله من وراء الثوب كي يكون هذا مراده بالعبارة ، فمقصوده على الظاهر ليس إلّا إرادة غسالة الميّت ، فكأنّه عنى بهذا التعبير الإشارة إلى أنّ ما ينفصل عن الميّت سبب لتنجيسه ، فلا يطهر ، بل يبقى على نجاسته فينجس الميّت.

وكيف كان فهذه العبارة كغيرها من عبائرهم صريحة في ثبوت الملازمة بين بقاء الثوب على نجاسته وتنجيس الميّت ، بل هذا هو الذي تقتضيه القواعد ، فكما يفهم من الأخبار طهارة الميّت بغسله ، يفهم طهارة ما يلاصقه من مكانه وثوبه ونحوهما ، ولا يقاس ثوب الميّت بماء الغسالة حيث تعقّلنا فيه نجاستها عند طهارة المحلّ ، لوضوح الفرق بينهما ، بل هو نظير الإناء الذي يغسل فيه شي‌ء نجس ، فلو قيل في كيفيّة تطهيره : صبّ عليه الماء مرّتين ، فكما يفهم من ذلك طهارة ذلك الشي‌ء بصبّ الماء عليه مرّتين ، يفهم منه طهارة الإناء أيضا ، كما لا يخفى.

وقد ظهر لك بما قرّرنا أنّ المراد من الاستدلال بإطلاق الأخبار في هذا المقام ليس بالإطلاق المصطلح ، بل هو بمنزلة من حيث الحاجة إلى بيان زائد ، فلا يستلزم من الالتزام بوجوب تطهير الميّت بعد غسله فضلا عن وجوب عصر ثيابه بعد الغسل أو في أثنائه تقييد لتلك الإطلاقات حتى ينفيه أصالة الإطلاق.

٧٣

الثالث : لا عبرة ـ على الظاهر ـ بانقضاء عدّة الوفاة في جواز النظر واللمس والتغسيل ونحوها ، للأصل.

قال في محكيّ الذكرى : ولا عبرة بانقضاء عدّة المرأة عندنا ، بل لو نكحت ، جاز لها تغسيله وإن كان الفرض بعيدا (١). انتهى.

واستدلّ له : بإطلاق الأخبار.

ونوقش فيه : بانصرافها عنه حيث إنّ الحاجة إلى تغسيلها بعد انقضاء عدّتها من الفروض النادرة لا ينصرف إليه الإطلاقات ، بل لا يصدق عليها اسم الزوجة حينئذ ، لانقطاع علاقة الزوجيّة بينهما بانقضاء العدّة خصوصا بعد أن نكحت.

ويؤيّده تعليل ترك النظر والغسل في صحيحتي الحلبي وزرارة ، المتقدّمتين (٢) : بانقضاء عدّتها.

وفيه ـ بعد الغضّ عن أنّ إطلاق الزوجة عليها بعد انقضاء العدّة ليس إلّا كإطلاقها قبله ، وأنّ الانصراف ليس منشؤه إلّا ندرة الوقوع ، وإلّا فلو اتّفق ابتلاء نسوة بميّت مطروح في مفازة بلا غسل ولا كفن ولا دفن وكانت فيها زوجته ، لا يشكّ أحد ممّن سمع بهذه الروايات أنّه يتعيّن على زوجته تغسيله ، كما أنّها ترثه وتتولّى أمره ، ولا يلتفت الذهن أصلا إلى كون ذلك قبل انقضاء عدّتها أم بعده ـ أنّه يتوجّه عليه أنّ المرجع في مثل المقام ـ على تقدير الشكّ بل القطع بعدم إرادته من الأدلّة ـ إنّما هو استصحاب الأحكام الثابتة قبل انقضاء عدّتها من جواز

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٦ ، وانظر ، الذكرى ١ : ٣١٢.

(٢) في ص ٦٠.

٧٤

النظر واللمس والتغسيل ونحوها ، لا العمومات الناهية عن النظر واللمس وتغسيل غير المماثل ، لخروج الزوجة من تحت تلك العمومات ، بل لو لم نقل بجريان الاستصحاب إمّا لمنعه من أصله أو للمناقشة في إحراز موضوعه ، لكان المرجع أصالة الإباحة لا العمومات ، إذ ليس الفرد الخارج باعتبار كونه قبل العدّة وبعدها فردين للعامّ (١) حتى يبقى للعامّ دلالة بالنسبة إلى حكم ما بعد العدّة ، كما لا يخفى على المتأمّل ، وحيثما جاز لها التغسيل يجب ، لعموم دليله.

نعم ، لو سلّم صدق الأجنبيّة عليها وعدم انصرافها عنها ، لأمكن إثبات هذه الأحكام لها ولو بتنقيح المناط ، لكنّ الفرض غير محقّق بل مقطوع العدم.

وأمّا الاستشهاد بالصحيحتين ففيه : أنّ مفادهما ـ على ما تقتضيه العلّة المنصوصة ـ إنّما هو كون حكم المرأة عند انقضاء عدّتها حكم الرجل عند موت زوجته ، فإنّهما صريحتان في انتفاء الحكم المعلّل له عند موت الزوجة بانتفاء علّته ، وهي كونها معتدّة ، فوجب أن يكون المعلول أمرا آخر غير حرمة التغسيل مطلقا ، لما ثبت نصّا وإجماعا جوازه في الجملة ولو حال الضرورة من وراء الثوب ، فالمعلول في صحيحة زرارة أمّا حرمة التغسيل اختيارا أو مجرّدا عن الثياب لا مطلقا ، أو كراهته كما هو الأقوى على ما عرفت تفصيله فيما سبق ، أو أنّ الصحيحة ـ مع ما فيها من التعليل ـ جارية مجرى التقيّة حيث حكي القول بمضمونها عن أبي حنيفة (٢).

وأمّا صحيحة الحلبي فظاهرها كون المعلول حرمة النظر ووجوب كون

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : «للمقام» بدل «للعامّ».

(٢) تحفة الفقهاء ١ : ٢٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٢ : ٤٠٣ ، المجموع ٥ : ١٥٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٣١١.

٧٥

الغسل من وراء الثوب ، لا حرمة الغسل من حيث هو كما عرفت وعلمت أنّه لا بدّ من ارتكاب التأويل في هذا الظاهر ، وعلى تقدير إرادته أيضا لا يضرّ لما نحن بصدده من جواز التغسيل في الجملة.

والحاصل : أنّ هذه العلّة ممّا لا يمكننا تعقّله ، بل علينا ردّ علمها إلى أهله ، لكن مع ذلك يستفاد منها إجمالا استفادة غير قابلة للتشكيك أنّ الحكم المثبت للزوجة بوجود العلّة عين الحكم المنفيّ من طرف الزوج بفقدها ، فالصحيحتان تدلّان بالصراحة على مشاركة الزوجة بعد انقضاء عدّتها مع الزوج في الحكم المسبّب عن فقد العلّة المنصوصة ، فوجب أن لا يكون ذلك الحكم حرمة الغسل ، وإلّا لكانت الرواية صادرة عن علّة.

وكيف كان فلا يمكن إثبات الحرمة بهذا التعليل مع ما فيه من الإشكال ، ولذا جعله المستدلّ مؤيّدا لمطلبه من دون أن يستند إليه ، والله العالم.

الرابع : تلحق بالزوجة في جواز تغسيل كلّ منهما صاحبه الأمة ما لم تكن مزوّجة أو معتدّة أو مبعّضة أو مكاتبة على الأظهر ، فلها تغسيله وله تغسيلها ، كما عن القواعد والبيان ومجمع البرهان (١) ، بل عن ظاهر الأخير نفي الخلاف فيه بالنسبة للثاني (٢) ، أي تغسيله لها.

وأمّا عكسه فقد منعه بعض ، كصاحبي المدارك والحدائق (٣).

__________________

(١) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٧ ، وانظر : قواعد الأحكام ١ : ١٧ ، والبيان : ٢٣ ، ومجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٧٩.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٧ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٧٩.

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ٦٣ ، الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩٢.

٧٦

وعن جمع من الأصحاب ـ منهم المصنّف في المعتبر (١) ـ التفصيل بين أمّ الولد وغيرها ، فمنعوه في غيرها ، لزوال المحرميّة بانتقال الملك ، وأمّا أمّ الولد فيجوز لها ، لرواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أنّ عليّ ابن الحسين عليه‌السلام أوصى أن تغسّله أمّ ولد ، فغسّلته» (٢).

وخدش فيها صاحب المدارك : بضعف السند (٣) ، وصاحب الحدائق : بما في متنها من المخالفة لما روي في الأخبار المستفيضة من أنّ الصدّيق لا يغسّله إلّا صدّيق ، ولذا اختار المنع مطلقا نظرا إلى صيرورة أمّ الولد أيضا أجنبيّة بالانعتاق (٤).

أقول : ليس الانتقال إلى الغير سببا لحرمة النظر وزوال المحرميّة كما علّلها به في المدارك (٥) ، بل السبب إنّما هو الخروج من الملك وصيرورتها أجنبيّة ، ولذا قيل ، بتحقّقه في أمّ الولد أيضا ، وعلى هذا فلا وجه لما جزم به في صورة العكس حيث قال : ويجوز تغسيل السيّد لأمته قطعا (٦) ، ضرورة خروج الأمة بموتها من ملك السيّد ، لخروجها من أهليّة التملّك ، كما أنّ خروجها من ملكه في عكس الفرض إنّما هو لخروج السيّد من أهليّة المالكيّة ، وإلحاقها بالزوجة قياس بزعمهم ، فجزمه بالجواز فيما فرضه لا منشأ له إلّا عدم كون الخروج من الملكيّة لخروج أحد الطرفين من الأهليّة كخروجه بناقل شرعيّ في صيرورة الطرف الآخر أجنبيّا عن صاحبه ، فكانت العلقة من طرفه في الفرض باقية لدى العرف بنحو من

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٢١.

(٢) التهذيب ١ : ٤٤٤ / ١٤٣٧ ، الإستبصار ١ : ٢٠٠ / ٧٠٤ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ٦٣.

(٤) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩٢.

(٥) مدارك الأحكام ٢ : ٦٣.

(٦) مدارك الأحكام ٢ : ٦٣.

٧٧

الاعتبار بحيث لا يعدّون الأمة يموت سيّدها أجنبيّة عنه ، كما أنّهم لا يعدّون زوجته بعد موته أجنبيّة.

وليس انتقالها إلى الوارث منافيا لبقاء العلقة ، بل يؤكّدها ، فإنّ مالكيّة الوارث من شؤون مالكيّة السيّد ، فكأنّ ملكيّته متحقّقة في ضمن ملكيّة الورثة.

والحاصل : أنّ ما يدلّ على الجواز في الصورة التي قطع به فيها يدلّ على الجواز في عكسها أيضا ، وعمدة المستند في كلتا الصورتين هي الأصل بعد انصراف ما دلّ على المنع من تغسيل عدا المماثل عن الأمة وسيّدها ، وعدم شمول ما دلّ على حرمة النظر واللمس لهما ، كما عرفت تحقيقه في الفرع السابق ، بل لا يبعد دعوى استفادة حكم الأمة من الأخبار المتقدّمة الدالّة على جواز تغسيل كلّ من الزوجين صاحبه بأن يقال : إنّ موضوع الحكم في تلك الأخبار وإن كان الزوجين والمتبادر منهما لدى الإطلاق غير الأمة وسيّدها لكنّ المناط الذي يتعقّله العرف منشأ للجواز ليس إلّا المعنى القائم بالزوجين ، الموجود بين الأمة وسيّدها ، أعني حلّيّة النظر واللمس والاستمتاع بالوطي وغيره ، فلا يتعقّل العرف من الزوجة في مثل المقام ـ ولو لأجل المناسبة بين الحكم وموضوعه ـ إلّا ما يعمّ الأمة والمنقطعة كالدائمة ، مع أنّ المتبادر منها لدى الإطلاق ليس إلّا الأخيرة ، فتأمّل.

وأمّا الرواية فعلى تقدير تضعيف سندها والاستشكال في متنها وعدم إمكان توجيهها ولو بحملها على إرادة الوصيّة في الإعانة على الغسل بغسل بعض المواضع أو بحمل «الصدّيق» في سائر الأخبار على معنى يمكن تحقّقه في أمّ ولد عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، فهي لا تخرج من صلاحية التأييد.

٧٨

ويؤيّده أيضا بل يصلح شاهدا لتعيين المراد من الرواية المتقدّمة بل دليلا على المطلوب : ما عن الفقه الرضوي : ونروى أنّ عليّ بن الحسين عليه‌السلام لمّا مات قال الباقر عليه‌السلام : «لقد كنت أكره أن أنظر إلى عورتك في حياتك ، فما أنا بالذي أنظر إليها بعد موتك» فأدخل يده وغسل جسده ثمّ دعا أمّ ولد له فأدخلت يدها فغسّلت عورته (١) وكذلك فعلت أنا بأبي (٢) ، فإنّ هذه الرواية ليست كسائر ما في الكتاب ، إذ لا يتطرّق فيها ما يتطرّق في الكتاب من احتمال عدم كونه من الإمام عليه‌السلام وكونه من مصنّفات بعض الأعلام ، لكون هذه الرواية مرويّة عن الباقر عليه‌السلام ، فإن كان رواية الرضا عليه‌السلام ، فروايته وعمله حجّة قاطعة ، وإن كان غيره ، فلا شبهة في كونه واحدا من أجلّة فقهاء المذهب ، فيكون اعتماده بما أرسله من الرواية منشأ للوثوق بها ، فالأظهر إنّما هو جواز النظر وتغسيلها له ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

(ويجوز أن يغسّل الكافر المسلم إذا لم يحضره مسلم ولا مسلمة ذات رحم ، وكذا تغسّل الكافرة المسلمة إذا لم تكن مسلمة ولا ذو رحم) على المشهور ، كما صرّح به جماعة (٣) ، بل عن الذكرى : لا أعلم لهذا الحكم مخالفا من الأصحاب سوى المحقّق في المعتبر (٤).

وعن التذكرة نسبته إلى علمائنا ذلك مع زيادة حضور الأجانب من

__________________

(١) في الحدائق ونسخة من الفقه الرضوي «مراقة» بدل «عورته».

(٢) أورده عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٩٢ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام :١٨٨.

(٣) منهم : الشهيد الأوّل في الذكرى ١ : ٣١٠ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ١٢٥ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٣٦١ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٤٠١.

(٤) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٩ ، وانظر : الذكرى ١ : ٣١٠ ، والمعتبر ١ : ٣٢٦.

٧٩

المسلمين والمسلمات ، فيأمرون الكافر بالاغتسال أوّلا ثمّ يعلّموه كيفيّة غسل المسلمين ، فيغسّل (١).

وكيف كان فالمراد بذي الرحم في الفتاوى وكذا ذوي القرابة في الموثّقة الآتية خصوص المحارم منها لا مطلقا ، وينبغي تعميمها ولو مسامحة على نحو يعمّ مطلق المحارم ولو برضاع أو مصاهرة ، لما ستعرف من اشتراك الجميع في جواز التغسيل المانع من تحقّق الضرورة المبيحة لتغسيل الكافر ، كاشتراك من عداها في عدم الجواز من غير فرق بين أولي الأرحام وغيرها.

ومستند الحكم موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : قلت :فإن مات رجل مسلم وليس معه رجل مسلم ولا امرأة مسلمة من ذوي قرابته ومعه رجال نصارى ونساء مسلمات ليس بينه وبينهنّ قرابة ، قال : «يغتسل النصارى ثمّ يغسّلونه فقد اضطرّ» وعن المرأة المسلمة تموت وليس معها امرأة مسلمة ولا رجل مسلم من ذوي قرابتها ومعها نصرانيّة ورجال مسلمون وليس بينها وبينهم قرابة ، قال : «تغتسل النصرانيّة ثمّ تغسّلها» (٢).

وخبر عمرو بن خالد عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليه‌السلام قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفر ، فقالوا : إنّ امرأة توفّيت معنا وليس معها ذو محرم ، فقال : كيف صنعتم؟ فقالوا : صببنا عليها الماء صبّا ، فقال : أو ما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسّلها؟ قالوا : لا ، قال : أفلا يمّمتموها؟» (٣).

__________________

(١) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٩ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٣٦١ ، المسألة ١٣٠.

(٢) الكافي ٣ : ١٥٩ / ١٢ ، الفقيه ١ : ٩٥ ـ ٩٦ / ٤٣٩ و ٤٤٠ ، التهذيب ١ : ٣٤٠ ـ ٣٤١ / ٩٩٧ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤ / ١٤٣٣ ، الإستبصار ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ / ٧١٨ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

٨٠