مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

الظاهر من حسنة أبان وصحيحته : المقتول في سبيل الله ، فيختصّ بمن كان الجهاد راجحا في حقّه أو جوهد به ، كما إذا توقّف دفع العدوّ على الاستعانة بالأطفال (١). انتهى.

أقول : لا يبعد أن يقال : إنّ الظاهر من المقتول في سبيل الله في المقام ليس إلّا إرادة المقتول في الجهاد من عسكر المسلمين مطلقا ولو لم يكن المقتول بالخصوص ناويا بفعله التقرّب ، بل إظهار الشجاعة وتحصيل الغنيمة ، ونحو هما ممّا ينافي الإخلاص المصحّح كونه عبادة ، فلا يعتبر في ثبوت الحكم إلّا تحقّق العنوان ولو لم يكن في حقّ خصوص المقتول راجحا بحيث لا يعمّ (٢) مثل المجنون والصغير. اللهمّ إلّا أن يدّعى انصراف سائر الأخبار عنه.

وكيف كان فالاحتياط بالغسل في مثل هذه الموارد ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

ولا فرق في سقوط الغسل عن الشهيد بين الجنب وغيره ، وكذا الحائض والنفساء ، لإطلاق النصوص والفتاوى ، مضافا إلى عدم وجوب الغسل على الميّت ، والأصل براءة ذمّة الأحياء عن تغسيله سيّما على المختار من عدم وجوب الغسل إلّا لغاياته الواجبة.

فما عن السيّد وابن الجنيد ـ من وجوب غسل الجنابة (٣) ـ ضعيف.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣١٤.

(٢) كذا في «ض ٧ ، ٨» والطبعة الحجريّة. والظاهر أنّ العبارة هكذا : «بحيث يعمّ». وأنّ «لا» زائدة.

(٣) حكاه عنهما المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣١٠.

١٢١

وربما استشهد له : بما روي من أنّ الميّت الجنب يغسّل غسلين (١) ، وبما روي من تغسيل الملائكة حنظلة بن الراهب حيث اتّفق خروجه إلى الجهاد جنبا ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما شأن حنظلة ، رأيت الملائكة يغسّلونه» فقيل له : جامع فسمع الصيحة فخرج إلى الجهاد (٢).

وفيه ما لا يخفى.

ولو وجد في المعركة ميّت من عسكر الإسلام وعليه أثر القتل ، فلا إشكال بل لا خلاف ظاهرا في سقوط تغسيله ، عملا بظاهر الحال ، وشهادة الأمارة ، كما عليه بناء العرف في تشخيص الموضوع ، ولولاه قلّما يبقى للأخبار المتقدّمة مورد.

ولو لم يوجد فيه أثر القتل ، فعن ظاهر المشهور (٣) : الحكم بكونه شهيدا ، عملا بالظاهر ، فإنّ القتل لا يستلزم ظهور الأثر.

وعن ابن الجنيد : أنّه ليس بشهيد ، للشكّ في الشرط ، وأصالة وجوب الغسل (٤).

وعن ظاهر الذكرى والروض : التوقّف (٥) ، حيث اقتصرا على نقل الخلاف.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٣٣ / ١٣٨٦ ـ ١٣٨٨ ، الإستبصار ١ : ١٩٤ ـ ١٩٥ / ٦٨٢ ـ ٦٨٤ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب غسل الميّت ، الأحاديث ٦ ـ ٨.

(٢) أورده ابنا قدامة في المغني ٢ : ٣٩٩ ، والشرح الكبير ٢ : ٣٢٩ نقلا عن ابن إسحاق في المغازي. راجع سيرة ابن إسحاق : ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٣) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٤١٨ ـ ٤١٩.

(٤) الحاكي عنه هو المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣١٢ ، وكذا العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٤١ ، المسألة ١٨٢ ، والشهيد في الذكرى ١ : ٣٢٢.

(٥) الحاكي عن ظاهر هما هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٤١٩ ، وانظر : الذكرى ١ : ٣٢٢ ، وروض الجنان : ١١١.

١٢٢

والأظهر ما هو المشهور من عدم تغسيله ولو لم نقل بحجّيّة ظاهر الحال ، فإنّ الأصل براءة الذمّة عن التكليف به. والتمسّك بعمومات وجوب الغسل لا يجدي في الشبهات المصداقيّة ، كما عرفته غير مرّة ، والله العالم.

ثمّ إنّ الكلام في تكفين الشهيد عند تجرّده من الثياب ، وعدمه بدونه ، والصلاة عليه يأتي مفصّلا في محالّها إن شاء الله.

(وكذلك) أي كالشهيد في كونه مستثنى ممّا تقدّم من وجوب تغسيل كلّ مسلم بعد موته (من وجب عليه القتل) بقصاص أو حدّ ، فإنّه (يؤمر بالاغتسال قبل قتله) فإن اغتسل حينئذ (ثمّ) قتل (لا يغسّل بعد ذلك) غسل الأموات بلا خلاف فيه ظاهرا ، بل يظهر من إطلاق مثل المتن كصريح جملة منهم ـ على ما حكي (١) عنهم ـ : عدم الفرق بين كون الحدّ رجما أو غيره.

لكن عن المنتهى وجماعة ممّن تأخّر عنه التوقّف في الإطلاق ، بل المنع ، فاقتصروا على المقتول قودا وخصوص المرجوم من أنواع الحدّ (٢) ، وقوفا فيما خالف الأصل على محلّ النصّ الذي هو مستند الحكم ، ولا ريب في أنّ هذا هو الأحوط.

والأصل في هذا الحكم : ما رواه الكليني عن مسمع كردين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المرجوم والمرجومة يغسلان ويحنّطان ويلبسان

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٩٣ ، وانظر : الذكرى ١ : ٣٢٩ ، وجامع المقاصد ١ : ٣٦٦ ، وروض الجنان : ١١٣.

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٩٤ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٣٤ ، وكشف اللثام ٢ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، والحدائق الناضرة ٣ : ٤٢٨.

١٢٣

[الكفن] (١) قبل ذلك ثمّ يرجمان ويصلّى عليهما ، والمقتصّ منه بمنزلة ذلك يغسل ويحنّط ويلبس الكفن ثمّ يقاد ويصلّى عليه» (٢).

ورواه الصدوق مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

وعن الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب مثله (٤) ، وبإسناد آخر فيه إرسال عن مسمع كردين عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥).

لكن عن التهذيب «يغتسلان» (٦) من الافتعال بدل «يغسلان».

وكيف كان فلا إشكال فيما تضمّنته الرواية من الحكم ، ولا يلتفت إلى ما فيها من ضعف السند بالإرسال وغيره بعد انجباره بفتوى الأصحاب من غير خلاف يعرف ، كما عن جماعة الاعتراف بذلك (٧).

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : قال في الجواهر : إنّ ظاهر النصّ كالفتوى بل صرّح به جماعة أنّ هذا الغسل إنّما هو غسل الميّت قدّم ، فيعتبر فيه حينئذ ما يعتبر فيه من الأغسال الثلاثة مع مزج الخليطين في الاثنين منها ونحو ذلك من غير خلاف أجده فيه ، سوى العلّامة في القواعد ، وتبعه من تأخّر عنه حيث استشكل في وجوب الثلاثة ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الكافي ٣ : ٢١٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٣) الفقيه ١ : ٩٦ / ٤٤٣ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب غسل الميّت ، ذيل الحديث ١.

(٤) التهذيب ١ : ٣٣٤ / ٩٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب غسل الميّت ، ذيل الحديث ١.

(٥) التهذيب ١ : ٣٣٤ / ٩٧٩ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب غسل الميّت ، ذيل الحديث ١.

(٦) المصدر في الهامش (٤).

(٧) حكاه صاحب الجواهر ـ وقال به هو أيضا ـ فيها ٤ : ٩٤ عن المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٤٧ ، والشهيد في الذكرى ١ : ٣٢٩ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٤٢٨.

١٢٤

وعلّله بعضهم بأصالة البراءة ، وبأنّ المعهود الوحدة في غسل الأحياء ، وبإطلاق الأمر بالاغتسال في النصّ والفتوى ، فيتحقّق مع الوحدة. وضعف الجميع واضح (١). انتهى.

أقول : أمّا ظهور النصّ والفتاوى في كونه غسل الميّت بقرينة الأمر بالحنوط والكفن : فغير بعيد وإن احتمل قويّا كونه غسل التوبة ، ونحوها ، واجتزئ به عن غسل الميّت خصوصا على القول باتّحاد ماهيّة الغسل.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّ المراد به في النصّ والفتاوى ليس إلّا الغسل بالماء القراح دون الغسل مع مزج الخليطين ، إذ من المستبعد جدّا بل المحال عادة في خصوص الفتاوى أن يكون المقصود بالغسل الأغسال الثلاثة من دون إشارة إليها ، مع أنّه لا ينسبق إلى الذهن من أمر الحيّ بالغسل ـ كما وقع في عبائرهم ـ إلّا الغسل بالماء القراح ، فكيف يجوز في مثل الفرض الإهمال في بيان المقصود اتّكالا على ظهور العبارة في إرادة غسل الميّت!؟ مع أنّه ـ على تقدير تسليم الظهور ـ لا دلالة فيها على إرادة الأغسال الثلاثة ، لاحتمال اختصاص الغسل بالممزوج بالميّت لخصوصيّة فيه ، وكون الغسل الحقيقي المؤثّر في رفع حدثه هو الغسل بالماء القراح ، فاستظهار اعتبار التثليث من إطلاق النصّ وفتاوى الأصحاب ـ كما زعمه غير واحد من المتأخّرين ـ غير سديد ، فالأظهر كفاية الغسل الواحد بالماء القراح وإن كان التثليث أحوط خروجا من شبهة الخلاف.

الثاني : لا إشكال في الاجتزاء بهذا الغسل عن الغسل بعد الموت ، كما يدلّ عليه النصّ والفتاوى ، ومقتضاه ترتّب أثر غسل الميّت عليه من طهارة بدن الميّت

__________________

(١) جواهر الكلام ٤ : ٩٥ ، وانظر : قواعد الأحكام ١ : ١٧.

١٢٥

وعدم وجوب الغسل بمسّه وغير هما من الآثار ، فيكون الغسل المتقدّم مانعا من تأثير الموت فيما يقتضيه من نجاسة البدن ونحوها ، ولا استبعاد فيه بعد مساعدة الدليل.

ويؤيّده : خبر محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) «إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : إنّي زنيت فطهّرني» ثمّ ساق الخبر في حكاية رحمه ، فمات الرجل ، قال : «فأخرجه أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمر فحفر له وصلّى عليه فدفنه ، فقيل : يا أمير المؤمنين ألا تغسّله؟ فقال : اغتسل بماء طاهر إلى يوم القيامة ، ولقد صبر على أمر عظيم» (٢).

وعدم اشتمال الخبر على ذلك الغسل قبل الرجم لا يدلّ على عدمه كي يخالف النصّ والفتوى. وكيف كان فلا يخلو عن تأييد.

ولا فرق في سقوط الغسل بسبب الغسل السابق بين كونه محدثا بحدث الجنابة ونحوها ، وعدمه.

أمّا إن قلنا بالاجتزاء لكلّ غسل عن سائر الأحداث ، أو بكون غسل الميّت بالخصوص رافعا لسائر الأحداث ، كما يفهم من جملة من الأخبار الدالّة على كونه بعينه غسل الجنابة ، والتزمنا بكون الغسل المتقدّم بعينه هو غسل الميّت ، فلا إشكال.

وأمّا إن لم نقل بالتداخل مطلقا ، أو قلنا به في خصوص غسل الميّت لكن

__________________

(١) هكذا في «ض ٧ ، ٨» والطبعة الحجريّة وجواهر الكلام ٤ : ٩٥. والخبر في المصدر : مرفوعة أحمد بن محمد بن خالد.

(٢) الكافي ٧ : ١٨٨ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب حدّ الزنا ، الحديث ٤ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

١٢٦

منعنا كون الغسل المتقدّم عينه ، فالظاهر أيضا كذلك ، إذ لا دليل على وجوب تطهير الميّت عن حدث الجنابة كفاية على عامّة المكلّفين.

وما ورد في الأخبار من تعليل غسل الميّت بصيرورته جنبا عند خروج روحه (١) وإن اقتضى ـ بمقتضى مفهوم العلّة ـ وجوب تطهيره من حدث الجنابة لكنّها من العلل التعبّديّة التي لا تنالها عقولنا ولا يدور مدارها الأحكام الشرعيّة ، مع أنّ مقتضاها سقوط غسل الجنابة في مثل الفرض وإن حدثت بسبب سابق على الموت ، بل ولو بعد الغسل لو لم نقل بانتقاض الغسل به ، كما لعلّه لا يخلو عن وجه. والاحتياط لا ينبغي تركه في جميع الصور ، والله العالم.

الثالث : أنّ تقديم هذا الغسل هل هو رخصة كما عن بعض المتأخّرين (٢) أو عزيمة كما نسب إلى ظاهر الأكثر وصريح بعض؟ (٣).

واستدلّ له بظهور النصّ والفتاوى في الوجوب. وفي دلالتها عليه تأمّل.

الرابع : هل يجب الأمر بالغسل ـ قبل القتل ـ على الإمام أو نائبه كما عن بعض (٤) ، أو مطلقا كما اختاره بعض (٥) ، أم لا يجب؟ أقوال ، أقواها : الأخير ، للأصل وخلوّ النصّ ـ الذي هو مستند الحكم ـ عن ذكره.

نعم ، لو قلنا بوجوب التقديم ، ربما يجب الأمر به من باب الإرشاد أو الأمر

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٦١ ـ ١٦٣ / ١ ، علل الشرائع : ٣٠٠ ـ ٣٠١ (الباب ٢٣٨) الحديث ٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢ و ٨.

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٩٩ ، وانظر : الذكرى ١ : ٣٢٩ ، وكشف اللثام ٢ : ٢٢٩.

(٣) الناسب هو صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٢٢٩ ، وانظر : المراسم : ٤٦ ، والسرائر ١ : ١٦٧.

(٤) حكاه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٩٩ عن المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٣٦٦ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ١١٣.

(٥) كصاحب الجواهر فيها ٤ : ٩٩.

١٢٧

بالمعروف ، وهو خارج من محطّ النظر.

وربما نسب (١) إلى ظاهر الأصحاب وجوب الأمر إجمالا ، حيث عبّروا كعبارة المتن ، الظاهرة في وجوب الأمر.

ولقد أغرب شيخنا قدس‌سره في جواهره في الاستدلال عليه بوجوب كون غسل الميّت واجبا كفائيّا مخاطبا به عامّة المكلّفين ، وحيث لم يرد المباشرة منهم في مثل الفرض فيكون الأمر من المكلّف بمنزلة تغسيله له بعد الموت (٢).

وأغرب منه ما بنى عليه من اشتراط صحّة هذا الغسل بتحقّق الأمر ، فلو اغتسل من دون أمر به ، لم يكن مجزئا (٣).

نعم ، يتّجه ـ بناء على ما ذكره من كون الأمر بمنزله تغسيله له ـ ما احتمله من اعتبار صدوره ممّن يجوز له التغسيل بعد الموت من المماثل والمحرم ، فعلى هذا يجب أن يكون بإذن الوليّ.

وفي الجميع ما لا يخفى.

الخامس : لو مات بعد الغسل حتف أنفه ، غسّل ، بل وكذا لو قتل بسبب آخر غير ما اغتسل له ، كما لو اغتسل لأن يرجم ، فقتل قصاصا ، بل وكذا لو قتل بفرد آخر من ذلك السبب ، كما لو اغتسل لأن يقتل قصاصا لشخص ثمّ عفي عنه ، فقتل لشخص آخر وإن كان السقوط في هذا الفرض لا يخلو عن وجه ، لكنّ الأوّل أحوط ، اقتصارا في الحكم المخالف للأصل على مورده ، والله العالم.

(وإذا وجد بعض الميّت ، فإن كان فيه الصدر أو الصدر وحده ،

__________________

(١) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٩٩.

(٢) جواهر الكلام ٤ : ٩٩.

(٣) جواهر الكلام ٤ : ٩٩.

١٢٨

غسّل وكفّن وصلّي عليه ودفن) ما لم يكن مسبوقا بشي‌ء منها ولو بالأصل عند انتفاء أمارة معتبرة كما لو وجد كلّه بلا خلاف محقّق أجده في شي‌ء من ذلك بين المتقدّمين والمتأخّرين ، كما في الجواهر (١) ، بل عليه نقل الإجماع من جماعة ، بل يظهر من غير واحد أنّ عمدة المستند في المقام هو الإجماع ، وإلّا فإثبات جميع المدّعى بما يستفاد من الأخبار مشكل ، وسيتّضح لك تحقيقه إن شاء الله.

ثمّ إنّ كلام المجمعين لا يخلو عن اختلاف ، فكأنّ المدّعين للإجماع فهموا من عبائر الجميع إرادة معنى واحد ، كما ليس بالبعيد.

وأمّا الاختلاف الواقع في كلماتهم فمن جهتين.

أولاهما : فيما يفعل به من التجهيزات. فعن بعضهم الاقتصار على ذكر الصلاة عليه. وعن بعضهم الاقتصار عليها مع دفنه. وزاد بعضهم عليهما تكفينه ، وبعضهم إضافة التغسيل أيضا. وعن بعضهم الالتزام بجميع الأحكام حتى التحنيط (٢).

وهذا الاختلاف أمره ـ مع قطع النظر عن الحنوط ـ سهل ، إذ لا ينبغي الارتياب في أخصّيّة الصلاة لديهم من الغسل والكفن والدفن ، فكان من المعلوم لديهم أنّ الشارع لا يهتمّ بالصلاة على من لم يوجب احترامه بالدفن والكفن والغسل ، كما يفصح عن ذلك استدلالهم لهذا الأحكام : بالأخبار الآتية التي لم يشتمل أكثرها إلّا على ذكر الصلاة.

ولعمري أنّ هذه الدعوى منهم غير بعيدة عن الصواب ، ولعلّه يعترف بها

__________________

(١) جواهر الكلام ٤ : ١٠٠.

(٢) انظر : مفتاح الكرامة ١ : ٤١٢ ـ ٤١٣ ، وجواهر الكلام ٤ : ١٠٠.

١٢٩

كلّ من تتبّع في أحكام الأموات ، واستأنس بمذاق الشرع ، خصوصا بملاحظة مسلّميّتها لدى الأعلام على ما يظهر منهم تلويحا وتصريحا.

هذا ، مضافا إلى إمكان استفادة المدّعى من خصوص الأخبار الآتية ، كما سيتّضح لك إن شاء الله ، والنقض عليها بالشهيد والمقتول الذي تقدّم غسله بيّن الفساد ، فإنكارها ـ كما عن بعض متأخّري المتأخّرين ـ ممّا لا ينبغي ، بل عن اللوامع أنّه مكابرة.

وثانيتهما : الاختلاف في الموضوع ، أي فيما يصلّى عليه.

فعن بعض (١) ـ كما في المتن ـ هو ما فيه الصدر أو الصدر وحده ، فالموضوع في الحقيقة هو الصدر وحده ، سواء انفرد أو انضمّ إلى غيره.

وعن الحلّي ـ كما في النافع ـ الاقتصار على ما فيه الصدر (٢).

وعن الوسيلة والغنية والمبسوط والنهاية التعبير بموضع الصدر (٣).

وعن الخلاف : إذا وجد قطعة من ميّت فيه عظم ، وجب غسله ، وإن كان صدره وما فيه القلب ، وجب الصلاة عليه (٤).

وعن الجامع : إن قطع نصفين ، فعل بما فيه القلب كذلك (٥) ، يعني الغسل والكفن والصلاة.

__________________

(١) كسلّار في المراسم : ٤٦ ، وحكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٢٠٨.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٠٠ ، وانظر : المختصر النافع : ١٥.

(٣) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٠٠ ، وانظر : الوسيلة : ٦٣ ، والغنية : ١٠٢ ، والمبسوط ١ : ١٨٢ ، والنهاية : ٤٠.

(٤) كما في جواهر الكلام ٤ : ١٠٠ ، وانظر : الخلاف ١ : ٧١٥ ، المسألة ٥٢٧.

(٥) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٠٠ ، وانظر : الجامع للشرائع : ٤٩.

١٣٠

ولقد حاول في الكشف (١) إرجاع بعض العبائر إلى بعض برفع التنافي بينها.

وفيه : أنّه إن أريد من رفع التنافي إثبات اتّحاد مراد الكلّ من أنّ موضوع الحكم لدى الجميع هو الصدر وحده منفردا أو منضمّا كي يتحقّق به إجماعهم ، ففيه : أنّه كيف يمكن أن يفهم من عبارة الجامع ونظائرها أنّه لو وجد الصدر وحده يترتّب عليه هذه الأحكام!؟

وإن أريد بيان مجرّد عدم التنافي بين العبائر ، فهو حسن ، إذ لا إشعار في شي‌ء من عبائرهم بانحصار الموضوع فيما هو المذكور فيه على وجه ينافي موضوعيّة الصدر وحده ، كما لا يخفى على من تأمّلها ، لكن لا يستكشف من ذلك إجماعهم إلّا بالنسبة إلى ما يفهم من أخصّ عبائرهم كعبارة الجامع ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، بل لا حاجة بالنسبة إليه إلى الإجماع ، لدلالة النصّ عليه ، كما ستعرفه ، فدعوى عدم التنافي بين العبائر غير مجدية في إثبات كون الصدر موضوعا.

اللهمّ إلّا أن يتشبّث لذلك بالإجماع المنقول ، وقيل بحجّيّته في خصوص مثل الفرض ، أعني ما لم يعلم الخلاف ، لا مطلقا ، فتكون هذه الدعوى حينئذ مجدية.

لكنّا لا نقول بحجّيّة نقل الإجماع ما لم تعضده الأمارات المورثة للوثوق بصدق مضمونه.

فالإنصاف أنّ الذي يمكن دعوى القطع بإجماعهم عليه إنّما هو ثبوت الأحكام المذكورة فيما إذا وجد النصف الأعلى من جثّة الميّت ، المشتمل على

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ٢٠٩.

١٣١

الصدر ولو عند خلوّها عن الأطراف ، كالرأس واليدين ، بل ولو لم يبق من ذلك النصف الخالي أيضا إلّا مسمّاه عرفا.

وهذا المعنى وإن قصر عن إفادته عبارة الجامع ونحوها لكن لا يبعد دعوى القطع بعدم كون الأطراف لديه من مقوّمات الموضوع ، وعلى تقدير كونه كذلك لدى المعبّرين بمثل ذلك فلا يكون ذلك خلافا يعتدّ به ، كما أنّه لا يقدح في ذلك ما حكي (١) عن معتبر المصنّف من اعتبار ضمّ اليدين إلى الصدر في الجملة ، فإنّ مثل هذه المخالفات لا يقدح في كاشفيّة الإجماع.

هذا ، مع إمكان إثبات الحكم بالنسبة إلى ما ادّعينا عليه الإجماع بالأخبار ، كما ستعرفه.

وأمّا الإجماع على خصوص الصدر ـ أعني الجزء المسامت للوجه ، الذي هو مسمّى الصدر حقيقة عند انفصاله عن سائر الأجزاء حتى ما يحاذيه من الظهر ـ فلم يتحقّق لدينا ، بل المظنون ـ لو لا المقطوع به ـ خلافه ، بل لا وثوق بإرادة مثل المتن مع تصريحه بالصدر وحده بإرادة ذلك ، فإنّ من المحتمل قويّا أن يكون مقصوده بما فيه الصدر النصف الأعلى عند فرض انقطاعه نصفين مثلا ، ومقصوده بالصدر هو الصدر مع ما يتّصل به ، أي الجزء المشتمل على العظم المتّصل المحيط بالطرف الأعلى من جثّة الميّت ممّا دون الترقوة ، فيتّحد مع ما ادّعينا عليه الإجماع ، وينطبق على غيره من العبائر التي عبّر فيها عن الموضوع بما فيه الصدر ونحوها.

وكيف كان ، فهذا هو الذي يمكن دعوى الإجماع عليه ، بل لا ينبغي

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣١٥ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢١٧.

١٣٢

الارتياب فيه ، كما يؤيّده كون هذا الجزء من جثّة الميّت هو الجزء المعظم الذي ربما يطلق عليه بدن الميّت عرفا ، وسائر الأطراف يضاف إليه ، كرأسه ويديه ورجليه ونحوها.

كما يشير إلى ذلك ما يمكن استفادة تمام المدّعى منه ، وهو خبر الفضل بن عثمان الأعور عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام في الرجل يقتل فيوجد رأسه في قبيلة ووسطه وصدره ويداه في قبيلة والباقي منه في قبيلة ، قال : «ديته على من وجد في قبيلته صدره ويداه ، والصلاة عليه» (١) فإنّ مفاد الرواية بظاهرها أنّ هذا الجزء هو الجزء الذي يكون بمنزلة كلّ الميّت في آثاره من مطالبة الدية والصلاة عليه ، ولذا يفهم منها وجوب سائر التجهيزات لا خصوص الصلاة.

فالمناقشة فيها : بمنع دلالتها إلّا على الصلاة ضعيفة ، فإنّها ليست مسوقة لبيان وجوب الصلاة على هذا الجزء من حيث هو كي يتوهم عدم دلالتها على الغسل وغيره حتى نحتاج في دفعه إلى التشبّث بالإجماع ونحوه ، فإنّ جواب الإمام عليه‌السلام كالصريح في أنّ المقصود ليس إلّا بيان أنّ هذا الجزء هو الذي يعامل معه معاملة الميّت ، فقوله عليه‌السلام : «والصلاة عليه» إنّما هو لبيان هذا المعنى ، لا لتأسيس حكم جديد ، كما يشهد به الذوق السليم.

وأضعف منها : المناقشة في سندها ، فإنّه ليس من دأبنا الاعتناء بضعف السند في مثل هذه الروايات المعمول بها خصوصا في هذه الرواية التي قيل : إنّها

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٠٤ / ٤٨٤ ، التهذيب ٣ : ٣٢٩ / ١٠٣٠ ، وفيه عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٤.

١٣٣

في بعض كتب الرجال المعتمدة مصحّحة (١).

نعم ، ربما يخدش في الاستدلال بها : بقصورها عن إثبات الحكم عند عدم انضمام اليدين إلى الصدر ، لأنّ الموضوع في الرواية صدره ويداه ، فيكون مدلولها أخصّ من المدّعى.

ويدفعه : عدم مدخليّة اليدين في قوام الموضوع ، وذكر هما في كلام الإمام عليه‌السلام إنّما هو لتطبيق الجواب على السؤال ، وإلّا فلو كان مفروض السائل كون يديه في قبيلة أخرى ، لم يكن يجيبه إلّا بذلك بالنسبة إلى صدره ، كما يساعده الوجدان ، ويؤيّده عدم الخلاف فيه إلّا عن ظاهر المصنّف في المعتبر (٢).

ويدلّ عليه غير واحد من الروايات :ففي مرفوعة البزنطي ، المرويّة في المعتبر قال : «المقتول إذا قطع بعض أعضائه يصلّى على العضو الذي فيه القلب» (٣) فإنّ ما فيه القلب هو الصدر بالمعنى المتقدّم.

ومرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام : عن رجل قتل ووجدت أعضاؤه متفرّقة كيف يصلّى عليه؟ قال : «يصلّى على الذي فيه قلبه» (٤).

ورواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «لا يصلّى على عضو رجل من رجل أو يد أو رأس ، فإذا كان البدن فصلّ عليه وإن كان ناقصا من الرأس

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٤ : ١٠١ ، وانظر : خلاصة الأقوال : ٢٧٧ (الفائدة الثامنة).

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٠٢ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣١٧.

(٣) المعتبر ١ : ٣١٧ ، وعنه في الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ١٢.

(٤) الفقيه ٤ : ١٢٣ / ٤٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٣.

١٣٤

واليد والرّجل» (١).

وهذه الروايات أيضا خصوصا الأخيرة منها لا يتبادر منها إلّا إرادة بيان أنّ ما فيه القلب أو البدن الناقص يصلّى عليه ، لكونه بمنزلة التامّ ، كما وقع التصريح بذلك في عبائر الأعلام ، فيفهم منها وجوب سائر التجهيزات ، ويكون تخصيص الصلاة بالذكر ، لكونها أخصّ لدى الشارع والمتشرّعة.

وإن أبيت عن ظهور الروايات فيما ادّعيناه ، فلا أقلّ من إشعارها بذلك ، وعند اعتضاده بفهم الأصحاب وغيره من المؤيّدات لا تقصر عن حدّ الدلالة ، ولذا يتّجه القول ـ بدلالة الروايات كفتاوى الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة ـ بوجوب التحنيط أيضا لكن فيما بقي من موضعه ، إذ لا يعقل الأمر بالحنوط بالنسبة إلى الأجزاء الفاقدة ، وقيام جزء آخر مقام الفاقد يحتاج إلى دليل ، كما أنّه يجب تكفينه أيضا كذلك بمعنى أنّه يسقط اعتبار المئزر ـ مثلا ـ لو لم يبق من موضعه المقصود بالأصالة شي‌ء.

وجواز شدّه من الصدر لا يقتضي بقيام الصدر مقام موضعه الأصلي عند التعذّر.

فما عن الروض ـ من الالتزام به (٢) ـ ضعيف.

وربما نسب (٣) ذلك إلى ظاهر الأصحاب ، نظرا إلى إطلاق قولهم بوجوب التكفين ، المنصرف إلى إرادة القطع المعهودة.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٢٩ / ١٠٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٧.

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٠٤ ، وانظر : روض الجنان : ١١١.

(٣) المناسب هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٠٤.

١٣٥

وفيه : أنّ عدم قابليّة المحلّ قرينة لعدم إرادة ما لم يبق محلّه.

نعم ، لو بقي من موضعه جزء ولو يسيرا ، يجب ، فإنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

وكيف كان فلا مجال للتشكيك في دلالة الروايات ـ ولو بمعونة القرائن الخارجيّة ـ على أنّ صدر الميّت بالمعنى المتقدّم ـ أي النصف الأعلى من بدنه ، المشتمل على الصدر الذي هو محلّ القلب بل وكذا النصف الأسفل لو كان كذلك ـ بحكم الميّت في سائر تجهيزاته وإن خلا عن الأطراف.

والظاهر عدم إناطة الحكم ببقاء القلب فيه بالفعل وإن كان ظاهر جملة من الأخبار ـ التي تقدّم بعضها وسيأتي بعضها الآخر ، التي ورد الأمر فيها بالصلاة على الجزء الذي فيه القلب ـ إرادة وجود القلب فيه بالفعل لا مجرّد موضعه ، لكن لا دلالة فيها على إرادة إناطة الحكم بوجود القلب بالفعل وجودا وعدما ، إذ لا ظهور لمثل هذه الأخبار في إرادة الحدّ الاصطلاحي لما هو مناط الحكم ، فهذه الروايات ونظائرها ـ كمرسلة عبد الله بن الحسين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا وسّط الرجل نصفين ، صلّي على النصف الذي فيه القلب» (١) وذيل رواية خالد ، الآتية (٢) ـ لا تدلّ إلّا على ثبوت الحكم عند وجود القلب بالفعل ، لا انتفائه عند انتفائه حتى تتحقّق المعارضة بينها وبين ما يدلّ على وجوب الصلاة على من فقد قلبه.

نعم ، يفهم من هذه الروايات أنّ المدار ليس على خصوص النصف الأعلى

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢١٣ / ٥ ، التهذيب ١ : ٣٣٧ / ٩٨٥ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ١١.

(٢) في ص ١٣٨.

١٣٦

من البدن ، بل على الجزء المعظم الذي يكون فيه القلب عند توسيطه نصفين.

ولا ضير في الالتزام به ، فإنّ الصدر أيضا يكون حينئذ مع ذلك الجزء ولو بعضه المعتدّ به ، فلا معارضة بين الأخبار المتقدّمة من حيث المفاد.

نعم ، لا بدّ من تقييد قوله عليه‌السلام في رواية طلحة (١) : «فإذا كان البدن فصلّ عليه» (٢) بإرادة معظمه المشتمل على القلب والصدر ولو بعضه المعتدّ به الذي يكون القلب في تجاويفه ، سواء كان ذلك الجزء النصف الأعلى أو الأسفل بقرينة غيرها من الأخبار ، كما أنّه لا بدّ من تنزيل إطلاق ما في بعض هذه الأخبار ـ من الصلاة على الجزء الذي فيه قلبه ـ على ما لا ينافي غيرها ، كما هو الغالب.

فالذي يفهم من مجموع هذه الروايات إنّما هو كون الجزء المعظم من بدن الميّت ، المشتمل على القلب والصدر ولو في الجملة بحكم الميّت ، وأمّا كون خصوص الصدر كذلك فلا ، بل لعلّه ينافيه بعض هذه الروايات ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا ما ادّعيناه من أنّ الظاهر عدم إناطة الحكم ببقاء القلب فيه بالفعل فليس لأجل استفادته من الأخبار المتقدّمة ، فإنّها في حدّ ذاتها قاصرة عن إثبات ذلك حتى الرواية الأولى ، فإنّ الغالب في مثل ما فرضه السائل وجود القلب فيه بالفعل ، فلا يفهم منها عدم مدخليّته في موضوعيّة الموضوع ، ولا للإجماعات المنقولة الظاهرة أو الصريحة في عدم اعتبار وجوده بالفعل كي يناقش فيها بعدم

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : أبي طلحة. وما أثبتناه موافق للمصدر. والراوي : طلحة ابن زيد.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٢٩ / ١٠٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٧.

١٣٧

الحجّيّة ، بل للأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ المناط في ترتّب الأحكام إنّما هو وجود العظام ، سواء كان معها اللحم أم لم يكن ، والقلب من اللحم ، فلا يعتدّ بعدمه.

ففي صحيحة عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه‌السلام عن الرجل يأكله السبع أو الطير فتبقى عظامه بغير لحم كيف يصنع به؟ قال : «يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه ويدفن» (١).

ورواية خالد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن رجل يأكله السبع أو الطير فتبقى عظامه بغير لحم كيف يصنع به؟ قال : «يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه ويدفن ، فإذا كان الميّت نصفين ، صلّي على النصف الذي فيه قلبه» (٢).

ويحتمل أن يكون المراد بالنصف في هذه الرواية هو النصف من عظامه ، الذي هو موضع القلب ، فهي على هذا التقدير بنفسها شاهدة للمدّعى.

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إذا قتل قتيل فلم يوجد إلّا اللحم بلا عظم ، لم يصلّ عليه ، فإن وجد عظم بلا لحم صلّي عليه» (٣).

وهذه الأخبار وإن كان ظاهر الأوّلين منها إرادة مجموع عظامه ولو بالمسامحة العرفيّة ، كما هو الغالب في أكيل السبع ، والرواية الأخيرة أيضا يتعيّن ـ بشهادة النصّ والإجماع ـ صرفها إلى ذلك لو لم نقل بانصرافها ، فيكون المراد بها عظمه المطلق ، لا مطلق عظمه ، فتتّحد مع الأوليين ، لكن يفهم من مجموعها عدم

__________________

(١) الفقيه ١ : ٩٦ / ٤٤٤ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٢٩ / ١٠٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٢١٢ / ٢ ، التهذيب ١ : ٣٣٦ / ٩٨٤ ، و ٣ : ٣٢٩ / ١٠٣١ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٨.

١٣٨

مدخليّة اللحم في ترتّب الأحكام ، فيكون بمنزلة كبرى تضمّ إلى الصغرى التي استفدناها من الأخبار السابقة من أنّ بدن الميّت وإن كان ناقصا بمنزلة كلّه.

وقد أشرنا فيما سبق إلى دلالة الأخبار المتقدّمة على أنّ هذا التنزيل الشرعي ليس من باب تعميم الحكم ، بل من قبيل بيان أعمّيّة الموضوع ، ولذا قلنا بدلالتها على وجوب ترتيب جميع أحكام الميّت ، لا خصوص الصلاة عليه ، كما أنّ هذه الأخبار الواردة في العظم المجرّد أيضا كذلك ، كما يؤيّده الاقتصار في الصحيحة الأخيرة على ذكر الصلاة مع أنّ المقصود بها أعمّ ، كما وقع التصريح به في الأوليين ، فيفهم من الأخبار السابقة أنّ المناط في وجوب التجهيزات وجود معظم بدن الميّت ولو نصفه الأعظم المشتمل على الصدر والقلب عند توسّطه نصفين ، ويفهم من هذه الأخبار عدم مدخليّة اللحم فيما هو مناط الحكم ، فينتج المطلوب.

لكن يمكن الخدشة فيه : بإمكان أن يكون المناط كون الموجود بنحو من الاعتبار والمسامحة العرفيّة مصداقا للميّت ، وهو يتحقّق بالنسبة إلى معظم بدنه ، وكذا بالنسبة إلى مجموع عظامه المجرّد وأمّا بالنسبة إلى عظام معظم البدن فلا ، ولا ملازمة بين الأمرين ، لكن مع ذلك لا شبهة في أنّ الأوّل لو لم يكن أقوى فهو أحوط ، بل لا يبعد كونه مسلّما لديهم ، كما يشعر بذلك ما في الوسائل في توجيه هذه الأخبار : بأنّ وجهه وجود عظام الصدر (١) ، بل عبارة الجواهر (٢) أيضا تشعر بذلك.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، ذيل الحديث ٨.

(٢) جواهر الكلام ٤ : ١٠٣.

١٣٩

فما في عبارة بعض ـ من أنّ الصلاة على العظم المجرّد ما لم يكن تمام العظام منفيّة بالإجماع ـ لا ينبغي الإصغاء إليه إن أراد ما يعمّ المفروض.

وكيف كان فلا ينبغي ترك الاحتياط في مثل المقام ، بل وكذا فيما لو وجد خصوص مسمّى الصدر وإن كان القول بالوجوب فيه في غاية الإشكال ، بل ينبغي رعاية الاحتياط فيما لو وجد جزء تامّ من رأس أو يد أو رجل أو نحوها خصوصا الرأس.

ففي صحيحة أحمد بن محمد بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا وجد الرجل قتيلا فإن وجد له عضو تامّ صلّي عليه ودفن ، وإن لم يوجد له عضو تامّ لم يصلّ عليه ودفن» (١).

وفي الوسائل : قال الكليني : وروي أنّه يصلّى على الرأس إذا أفرد عن الجسد» (٢).

ورواية ابن المغيرة ، قال : بلغني عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه «يصلّى على كلّ عضو رجلا كان أو يدا أو الرأس جزءا فما زاد ، فإذا نقص عن رأس أو يد أو رجل لم يصلّ عليه» (٣).

وهذه الروايات وإن كان ظاهرها الوجوب إلّا أنّها ـ مع معارضتها برواية طلحة (٤) ، المتقدّمة (٥) ، وإعراض الأصحاب عنها ـ لا تصلح دليلا لإثبات الوجوب ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢١٢ / ٣ ، التهذيب ١ : ٣٣٧ / ٩٨٧ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٩.

(٢) الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ١٠ ، وفي الكافي ٣ : ٢١٢ ذيل الحديث ٢ : وروي أنّه لا يصلّى ، إلى آخره.

(٣) المعتبر ١ : ٣١٨ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ١٣.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أبي طلحة». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) في ص ١٣٧.

١٤٠