مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

إجماعاتهم المحكيّة وجوب إزالة النجاسة عن بدن الميّت (أوّلا) ثمّ الشروع في تغسيله ، فتكون حينئذ واجبا تعبّديّا لا شرطيّا.

لكنّ التأمّل في كلماتهم في هذا الباب ككلماتهم في باب الجنابة يعطي عدم ظهورها إلّا في إرادة عدم الاجتزاء بصبّة واحدة للغسل والإزالة ، ووجوب تقديم الإزالة على الغسل في الجملة ولو في كلّ عضو بالنظر إلى نفس ذلك العضو لا مطلقا.

ويشهد لذلك استدلال بعضهم عليه ـ كما عن المعتبر (١) وغيره (٢) ـ بأنّ المراد تطهيره ، وهو لا يحصل إلّا بها ، وأنّه إذا وجب إزالة الحكميّة فالعينيّة أولى ، ولئلّا ينجس ماء الغسل بملاقاة النجس.

وأنت خبير بأنّ مقتضى التعليل الأوّل والأخير هو الوجوب الشرطي ، ومقتضاه ما عرفت.

وأمّا الثاني : فمقتضاه الوجوب النفسي ، فلا يقتضي المقارنة أيضا فضلا عن وجوب التقدّم ، فلذا يضعف الاستدلال به للمدّعى ، كما أنّ الاستدلال بالأوّلين أيضا كذلك ، فإنّ توقّف الطهارة على سبق إزالة النجاسة ـ كما هو مقتضى الدليل الأوّل ـ أوّل الكلام ، إذ من الجائز أن يرتفع الحدث وعين النجاسة فضلا عن أثرها بصبّة واحدة ، إلّا أن يثبت الاشتراط بدليل خارجيّ ، كما عرفت تحقيقه في مبحث الجنابة.

وأمّا الدليل الثالث : فمرجعه إلى دعوى التنافي بين الاجتزاء بصبّة واحدة

__________________

(١) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٣٤٣ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٦٤.

(٢) انظر : الذكرى ١ : ٣٤٣.

١٦١

للغسل والإزالة ، لما دلّ على اشتراط الطهارة في ماء الغسل من النصّ والإجماع ، فمتى لاقى الماء البدن النجس يتنجّس ، فلا يفيده الطهارة عن الحدث.

وفيه : ما عرفته في مبحث الغسالة من عدم شمول القاعدة المستفادة من النصّ والإجماع من أنّ النجس لا يكون مطهّرا ، وأنّه يشترط الطهارة في الماء المستعمل في التطهير لما إذا كان انفعال الماء من أثر نفس الاستعمال ، وقد عرفت في مبحث غسل الجنابة أنّ عمدة المستند في اشتراط طهارة البدن إنّما هو الدليل التعبّدي ، لا هذه القاعدة ، فالأمر في المقام أوضح حيث إنّ نجاسة الماء حين الاستعمال لازمة البتّة ، لملاقاته لبدن الميّت ، فلا تكون نجاسته المكتسبة من الاستعمال في التطهير مانعة من حصول التطهير.

ودعوى ثبوت العفو عن خصوص هذه النجاسة اللازمة لمكان الضرورة ، دون النجاسة العارضة القابلة للإزالة ليست بأولى من دعوى تخصّص القاعدة بالنسبة إلى النجاسة الحاصلة بالاستعمال لازمة كانت أم غير لازمة ، بل العكس أولى ، كما عرفته في مبحث الغسالة.

وأضعف من الدليل المتقدّم : الاستدلال له : بأنّ كلّا من الموت والنجاسة العارضة أثّر في وجوب غسل البدن ، والأصل عدم تداخل مسبّبيهما.

وفيه أوّلا : أنّ هذا الدليل لا يقتضي إلّا وجوب تكرير غسل البدن من دون فرق بين سبق الإزالة على الغسل أو تأخّرها عنه ، فلا يثبت به المدّعى.

وثانيا : أنّ وجوب الإزالة توصّليّ لا يتوقّف حصولها على القصد ، فلو غسل البدن بقصد غسل الميّت ، تتحقّق الإزالة جزما ، فيرتفع التكليف عنها ، لحصول الغرض ، كما أنّه يرتفع التكليف عن الغسل أيضا ، لحصول الامتثال ،

١٦٢

ولا يعقل بقاء التكليف به بعد الإتيان به بقصد الامتثال ، إلّا أن تكون صحّة المنويّ مشروطة بسبق الإزالة ، وهو أوّل الكلام ، وقد تقدّم توضيح المقام في غسل الجنابة.

فاتّضح لك أنّ عمدة المستند إنّما هو النصوص والإجماعات المستفيضة.

بقي في المقام إشكال ، وهو : أنّه لا يتصوّر تظهير بدن الميّت قبل الغسل من النجاسة العرضيّة بناء على ما هو المشهور من كونه نجس العين ، فإنّ نجس العين لا يطهر ، ومن هنا استظهر كاشف اللثام من كلمات الأصحاب إرادة إزالة العين دون الأثر ، قال : إنّ بدن الميّت نجس منجّس للماء لا يطهر إلّا بعد التغسيل ، فالتقديم ممتنع ، إلّا أن نجوّز الطهارة من نجاسة دون اخرى ، ولم يعهد ، فالظاهر أنّ مراد الفاضلين وكلّ من ذكر تقديم الإزالة والتنجية أراد إزالة العين ، لئلّا يمتزج بماء الغسل وإن لم يحصل التطهير (١). انتهى.

واعترضه جلّ من تأخّر عنه : بأنّ الطهارة والنجاسة أمران توقيفيّان ، فلا استحالة في أن يتأثّر بعض الأعيان النجسة بملاقاة نجاسة أخرى ، ويرتفع أثره المكتسب بالعرض بغسله مرّة أو مرّتين كسائر المتنجّسات ، فلا مانع من الالتزام به بعد مساعدة الدليل.

والإنصاف عدم ورود الاعتراض عليه ، بل لا يخلو ما ذكره عن وجه ، إذ لم يدّع استحالته عقلا كي يرد عليه ما قيل ، بل ادّعى عدم معهوديّة الطهارة من نجاسة دون اخرى شرعا ، فلا يتعقّلها المتشرّعة ، ولا ينسبق إلى أذهانهم عند الأمر بغسل بدن الميّت وتنظيفه عن الدم ونحوه إرادتها.

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ٢٣٧.

١٦٣

ألا ترى أنّه لو قيل بأنّ الدم المعفوّ عنه في الثوب والبدن لو أصابه نجاسة أخرى ـ كالعذرة ـ يتأثّر منها ويكتسب نجاستها المانعة ، لا يفهم عرفا من إطلاق ما دلّ على أنّ ملاقي العذرة يطهر بغسله بالماء أنّه يجوز تطهير الدم من النجاسة العارضة ، وليس هذا إلّا لعدم معهوديّة تطهير النجاسات عن النجاسات العارضة ، لا عدم معقوليّته عقلا.

وأمّا ما ادّعوه من دلالة الأدلّة عليه فله منع دلالتها على أزيد من اعتبار إزالة العين ، فإنّه إن كان الإجماع ، فلا وثوق بإرادة كلّ المجمعين أزيد من إزالة العين ، كيف! وظاهر الفاضلين ـ بمقتضى تعليلهم : بأنّ إزالة العينيّة أولى من الحكميّة ـ ليس إلّا إرادة إزالة العين ، بل لا يبعد إرادة جميعهم ذلك حتى المعبّرين بوجوب تطهير بدن الميّت فضلا عمّن عبّر بلفظ «الإزالة» فإنّ إرادة التطهير الحقيقي عن النجاسة الحكميّة على الإطلاق متعذّر ، وإرادة إزالة عين النجاسة العارضة وأثرها بالخصوص بإجزاء الماء على المحلّ بعد إزالة العين على الوجه المعتبر في التطهير وإن لم يفد طهارته على الإطلاق ـ مع ما عرفت من بعده عن الأذهان ـ ليست بأولى من إرادة التطهير الصوري الذي هو عبارة عن إزالة العين.

فالإنصاف عدم ظهور كلمات الأصحاب في إرادة أزيد من إزالة العين.

نعم ، لا يبعد دعوى انصرافها إلى كونها بالماء المطلق وإن كان فيه أيضا تأمّل.

هذا إذا كان الدليل هو الإجماع ، وإن كان الأخبار ، فلا يكاد يفهم منها أزيد من وجوب إزالة العين ، فإنّ ما ورد فيها من الأمر بغسل الفرج ثلاثا قبل كلّ غسل ـ كاليدين ـ إنّما أريد به التعبّد من دون توقّفه على وجود النجاسة العارضة ،

١٦٤

وستعرف أنّ الأمر به للاستحباب.

وأمّا الإنقاء المأمور به في بعض الروايات ـ كمرسلة يونس (١) ـ فيتحقّق بمطلق الإزالة ، ولا يتوقّف على استعمال الماء فضلا عن كونه بشرائط التطهير ، بل هذا هو الذي يظهر من موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، الواردة في كيفيّة غسل الميّت ، قال فيها ـ بعد بيان كيفيّة غسله بماء السدر والكافور ـ : «ثمّ تمرّ يدك على بطنه فتعصره شيئا حتى يخرج من مخرجه ما خرج ، ويكون على يديك خرقة تنقي بها دبره ثمّ تميل برأسه شيئا فتنفضه حتى يخرج من منخره (٢) ما خرج ثمّ تغسله بجرّة من ماء القراح» (٣) الحديث.

وأمّا الأخبار الدالّة على أنّ غسل الميّت عين غسل الجنابة أو مثله فهي غير مجدية في إثبات وجوب إجراء الماء على موضع النجاسة بعد إزالة عينها تعبّدا من دون أن يفيده التطهير.

نعم ، لو قلنا بطهارة بدن الميّت وكونه كالجنب ، لاتّجه الاستدلال بهذه الروايات.

وكيف كان فالالتزام بكفاية إزالة العين خصوصا إذا تحقّقت بالماء المطلق غير بعيد ، لكنّ الاحتياط لا ينبغي تركه ، بل الأحوط إزالة النجاسة عن جميع بدنه على الوجه المعتبر في التطهير قبل الشروع في الغسل (ثمّ يغسّل) بقصد حصول عنوانه ، أي الماهيّة المأمور بها في الشريعة ، التي هي غسل الميّت ، فلو أتى به

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤١ / ٥ ، التهذيب ١ : ٣٠١ / ٨٧٧ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٣.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «مخرجه» بدل «منخره». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) التهذيب ١ : ٣٠٥ / ٨٨٧ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٠.

١٦٥

لا بهذا القصد ، لم يصحّ ، ضرورة أنّ المتبادر من الأمر بالغسل في الشريعة في جميع موارده ليس إلّا الطبيعة المعهودة المعروفة لدى المتشرّعة على سبيل الإجمال ، لا مطلق غسل البدن الذي يتحقّق بحصوله مطلقا كيف اتّفق ، نظير الأمر بالوضوء والتيمّم من غير فرق بين أن يتعلّق الأمر بأن يتوضّأ بنفسه أو يوضّي الغير حيّا كان أو ميّتا ، فإنّه لا يتبادر منه إلّا إرادة الطبيعة المعهودة التي لا إحاطة لنا بحقيقتها تفصيلا ، ولا يمكننا قصدها ولا الاطّلاع على تحقّقها في الخارج إلّا بإيجادها بقصد حصول عنوانها على سبيل الإجمال ، فلا يفهم من الأمر بغسل الميّت وتوضئته ـ مثلا ـ إلّا عدم اعتبار مباشرة الغاسل والمتوضّي في تحقّق تلك الطبيعة في خصوص المورد ، لا حصولها مطلقا من دون قصد كيف اتّفق.

ويدلّ عليه أيضا ما ورد من الأخبار من أنّ غسل الميّت بعينه غسل الجنابة أو مثله (١) ، وقد ثبت اعتبار النيّة في غسل الجنابة بالإجماع ، فتعتبر في هذا الغسل أيضا ، قضيّة للعينيّة أو المماثلة.

فما عن السيّد في مصريّاته ، والعلّامة في منتهاه (٢) ، وعن بعض (٣) متأخّري المتأخّرين الميل إليه ـ من عدم اعتبارها ، معلّلا ـ كما قيل (٤) ـ بأنّه إزالة خبث ـ ضعيف ، إذ لو سلّم أنّ الوجه فيه ليس إلّا إزالة الخبث دون الحدث ـ كما هو ظاهر الأخبار المصرّحة بأنّه غسل الجنابة ـ يتوجّه عليه : أنّ هذا الخبث ليس كسائر

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ١٦٠ ، الهامش (٢ و ٣).

(٢) كما في كشف اللثام ٢ : ٢٣٧ ، وكتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٨٨ ، وانظر منتهى المطلب ١ : ٤٣٥.

(٣) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١١٩ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٨٢.

(٤) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٨٨.

١٦٦

الأخباث بحيث يزيله كلّ مزيل ، بل لا يزيله ـ نصّا وإجماعا ـ إلّا الغسل ، والمتبادر منه ليس إلّا ما عرفت.

وبهذا ظهر لك ضعف الاستدلال له : بالأصل الذي تقدّم تحقيقه في نيّة الوضوء ، القاضي بعدم اعتبار النيّة فيما يشكّ في كونه تعبّديّا.

وقد عرفت في ذلك المبحث ضعف الاستدلال لإثبات اعتبار النيّة في مثل ما نحن فيه : بقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) وبقوله عليه‌السلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) و «لا عمل إلّا بنيّة» (٣) وبقاعدة الاشتغال ، وبظهور الأوامر في إرادة الإطاعة ، إلى غير ذلك من الأدلّة التي يستدلّ بها لإثبات وجوب النيّة في مثل المقام ، كما عرفت تفصيل الكلام فيها مع ما فيها من الضعف بما لا مزيد عليه ، فلا نطيل بالإعادة.

فعمدة الدليل في المقام إنّما هو توقّف تحقّق الماهيّة المأمور بها أو العلم بتحقّقها على قصد عنوانها كي تمتاز عن مطلق الغسل وكذا عن سائر أنواع الغسل لو قلنا باختلاف طبائعها ، كما لا يخلو عن قوّة ، فاشتراط قصد عنوان المأمور به ـ أي غسل الميّت ـ ممّا لا إشكال بل ولعلّه ممّا لا خلاف فيه ، إذ لا يظنّ بالسيّد وغيره ـ ممّن نسب إليهم الخلاف في اعتبار النيّة ـ إرادتهم ذلك وإن اقتضاه ظاهر ما نسب إليهم من التعليل ، لكن من المستبعد جدّا التزامهم بكونه كإزالة النجاسات توصّليّا محضا بحيث يسقط التكليف بمجرّد حصول الفعل في

__________________

(١) البيّنة ٩٨ : ٥.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٦٢ / ٢٢٠١ ، سنن البيهقي ١ : ٤١ و ٢١٥ و ٢٩٨ ، التهذيب ١ : ٨٣ / ٢١٨ و ٤ : ١٨٦ / ٥١٩.

(٣) أمالي الطوسي : ٣٣٧ / ٦٥٨ ـ ٢٥.

١٦٧

الخارج كيف اتّفق ولو من دون مباشرة أحد أو مباشرة غير مميّز أو مجنون.

وكيف كان فهذا ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، وإنّما الإشكال في اعتبار أزيد من ذلك ممّا يعتبر في العبادات المحضة من قصد التقرّب والإخلاص في العمل بحيث يكون القرب غاية لحصول الفعل ، فلو أوجد تلك الطبيعة الواجبة قاصدا لحصول عنوانها لكن لا لوجوبها بل لغيرها من الأغراض المباحة كأخذ الأجرة لو جوّزناه في الواجبات الكفائيّة ، لم تصح ، أو لا يشترط ذلك ، فيكفي في صحّته قصد إيجاد تلك الطبيعة المأمور بها مطلقا ولو لشي‌ء من الأغراض الدنيويّة المباحة.

ولعلّ من أنكر اعتبار القصد ـ مثل السيّد وأتباعه ـ أراد قصد القربة بجعلها غاية للعمل ، لا مطلق القصد ، كما أنّه لا يبعد أن لا يكون مراد من يعتبر القصد اعتبار أزيد من قصد حصول الطبيعة المعهودة الواجبة في الشرع ، فبهذا تجتمع الكلمة ويرتفع الخلاف لو لم نقل بأنّ ظاهرهم أو صريحهم وجوب جعل القربة والوجوب غاية للفعل.

وكيف كان فالإشكال إنّما هو في ذلك.

والذي يمكن الاستدلال به لذلك ظهور جملة من الأخبار في كون غسل الميّت بعينه غسل الجنابة ، ولا كلام في اعتبار قصد القربة فيه.

مضافا إلى ما عرفت من أنّ المتبادر من الأمر بالغسل في خصوص المقام ليس إلّا ما هو المتبادر منه في سائر المقامات كالأمر بغسل الجمعة والغسل عند رؤية المصلوب ونحوها.

وقد أشرنا عند التكلّم في كيفيّة غسل الحيض إلى أنّا لا نحتاج في كلّ مورد

١٦٨

بالخصوص إلى أدلّة خاصّة يثبت بها كيفيّة الغسل المأمور به ، بل معهوديّته في الجملة مغنية عن بيان كيفيّته في سائر الموارد ، كيف! ولم يصل إلينا بيان كيفيّة الغسل في جلّ موارده ، مع أنّا لا نشكّ في أجزائه وشرائطه ، وليس إلّا لمعهوديّته في الجملة.

وحيث ثبت اشتراط قصد القربة في الطهارات الثلاث في الجملة ثبت في المقام أيضا حيث لا ينسبق إلى الذهن إلّا إرادة تلك الطبيعة المعهودة.

ولا ينافيها اعتبار بعض الخصوصيّات في خصوص المقام لخصوصيّته ، كما أنّه لا ينافيه اختلاف متعلّق التكليف ، إذ لا فرق عرفا فيما يفهم من لفظ «الغسل» بين أن يكلّفه بغسل الجمعة أو بتغسيل غيره غسل الجمعة ، فهذا ظاهر لا سترة فيه.

لكن يتوجّه عليه أوّلا : إمكان منع الصغرى بأن يقال : المعتبر في سائر الأغسال أيضا بل مطلق الطهارات ليس إلّا قصد إيجادها بعناوينها الراجحة التي يتقرّب بها إلى الله تعالى ، سواء كان الباعث على إيجادها إرادة تحصيل القرب بفعلها أو حصول غاية مباحة مترتّبة على وجودها ، كما لو كان كسبه كتابة القرآن فتوضّأ أو اغتسل مقدّمة للاشتغال بكسبه من دون التفات إلى رجحانه أو مرجوحيّته.

وثانيا : إن سلّمنا أنّه يعتبر في الطهارات مطلقا حصولها قربة إلى الله تعالى بأن يكون القرب علّة غائيّة للفعل ، فنقول : القربة التي تتوقّف صحّة الطهارات على قصدها هي القربة الحاصلة بفعلها للمتطهّر لا المباشر للتطهير ، فلو اعتبرنا القصد في من غسّل جنبا عاجزا مثلا ، فإنّما نعتبر قصده رفع حدث الجنب قربة إلى الله ، يعني قرب الجنب ـ برفع حدثه ـ إلى الله تعالى ، لا قرب المباشر للتغسيل ، فإنّ

١٦٩

تقرّبه إلى الله تعالى من حيث كونه أجيرا على العمل أو معينا أو غير ذلك أجنبيّ عمّا يتوقّف عليه غسل الجنب ، فالمتطهّر في المقام هو الميّت الذي لا قصد له ، والذي يجب على المباشر قصده إنّما هو إيجاد تلك الطبيعة المقربة للميّت إلى رحمة الله ورضوانه ، وأمّا كونه قاصدا بفعله التقرّب لنفسه بحيث ينافيه قصد الأجرة ـ مثلا ـ فيحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على اشتراط قصد القربة في الطهارات ، وهو مفقود ، والأصل ينفيه.

ولو أحطت خبرا بما أسلفناه في نيّة الوضوء ، لا نكشف لك الحال في جميع ما يتعلّق بالمقام ، فراجع.

وبما ذكرناه آنفا ظهر لك أنّا وإن لم نقل باشتراط حصول الغسل قربة إلى الله تعالى لكن يشترط فيه كونه بعينه هي الماهيّة المأمور بها ، التي يمتنع تحقّقها ، أو العلم بتحقّقها في الخارج إلّا بإتيانها بقصد كونها كذلك ، فإنّه ذاتا عبادة وإن التزمنا بكونه من حيث صدوره من المكلّف توصّليّا ، نظير صلاة الأجير على ما سيأتي تحقيقها في محلّه إن شاء الله.

فلو أتى به في ضمن فرد محرّم كما لو أوجده رياء أو بماء مغصوب أو نحوهما ممّا يخرج به المأتيّ به بعينه من كونه هو المأمور به ، بطل.

ولو أوجده لغاية محرّمة من دون أن تؤثّر في حرمة الفعل كما لو نوى به الأجرة وقلنا بحرمتها في الواجبات الكفائيّة ، فوجهان أظهر هما : الصحّة ، وأحوطهما : العدم ، والله العالم.

ثمّ إنّك قد عرفت في محلّه أنّه يكفي في صحّة العبادة وجود الداعي ، ولا تجب مقارنتها للصورة المخطرة ، فيجب في المقام وجود الداعي عند جميع

١٧٠

الأغسال الثلاثة ، لكون الجميع عبادة ، كما يظهر وجهه ممّا عرفت ، وستعرف ضعف احتمال كون الغسل الحقيقي هو الأخير ، وأنّ المقصود بالأوّلين التنظيف ونحوه ، فالأظهر كون المجموع بأسرها أغسالا حقيقيّة يعتبر فيها القصد ، فلو أوجد بعضها بقصد الغسل فارتدع عن قصده وأتى بما عداه لا بقصد الغسل ، لم يجزئ.

وإن تعدّد الغاسل بأن كان الصابّ للماء ـ مثلا ـ غير المقلّب ، فالمعتبر إنّما هو قصد من يباشر العمل ويستند إليه الفعل. ولو استند إلى كلّ منهما مستقلّا بأن صدر مجموع الفعل من كلّ منهما مستقلّا ، يجزئ قصد أحد هما. ولو صدر من المجموع من حيث المجموع ، اعتبر قصد هما.

ولو كان أحد هما غير مكلّف بأن كان مجنونا أو صبيّا ولم نقل بشرعيّة عبادته ، فلا عبرة بقصده وعمله ، وإنّما المعتبر قصد الآخر ومباشرته للفعل على وجه يستند إليه ويعدّ غير المكلّف آلة له. وإن قلنا بشرعيّة عبادة الصبي ، فالاجتزاء بغسله قويّ ، والله العالم.

الكلام في كيفيّة غسل الميّت ، وهي مشتملة على الواجب والمندوب والمكروه.

أمّا الواجب : فهو أن يغسّل أوّلا (بماء السدر يبدأ برأسه ثمّ بجانبه الأيمن ثمّ الأيسر ، وأقلّ ما يلقى في الماء من السدر ما يقع عليه الاسم) يعني بعد أن القي في الماء ، لا في حدّ ذاته ، إذ كلّ ما يفرض منه ولو في غاية القلّة يقع عليه الاسم لذاته ، ولا يكفي جزما ، بل يعتبر بقاء اسمه وعدم استهلاكه بحيث يقع على المجموع اسم ماء السدر.

ويحتمل أن يكون المراد من الاسم في العبارة اسم ماء السدر ، فلا يحتاج

١٧١

حينئذ إلى التكلّف.

(وقيل) : أقلّه (مقدار سبع ورقات).

في الجواهر وغيره : لم يعرف قائله (١). وكيف كان ستعرف ضعفه.

(و) إذا فرغ من ماء السدر ، غسّله (بعده بماء الكافور على الصفة السابقة ، و) إذا فرغ من ذلك فليغسّله (بالماء القراح أخيرا كما يغسل من الجنابة) إذا أتى بغسلها مرتّبا لا مطلقا ، فلو أخلّ بالترتيب بين الأغسال أو غسلاتها ، لم يجزئ.

ويدلّ على وجوب الأغسال الثلاثة على النحو الذي عرفته ـ مضافا إلى عدم خلاف يعتدّ به في شي‌ء منها ـ جملة من الأخبار :

منها : صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن غسل الميّت ، فقال : «اغسله بماء وسدر ثمّ اغسله على أثر ذلك غسله اخرى بماء وكافور وذريرة (٢) إن كانت ، واغسله الثالثة بماء قراح» قلت : ثلاث غسلات لجسده كلّه؟ قال : «نعم» قلت : يكون عليه ثوب إذا غسّل ، قال : «إن استطعت أن يكون عليه قميص تغسّله من تحته» وقال : «أحبّ لمن غسّل الميّت أن يلفّ على يده خرقة حين يغسّله» (٣).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا أردت غسل الميّت فاجعل

__________________

(١) جواهر الكلام ٤ : ١٢٦ ، كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٩٠.

(٢) ذريرة نحو من الطيب. في المجمع [٣ : ٣٠٨ «ذرر»] : فذرّ عليه‌السلام على كلّ ثوب شيئا من ذريرة وكافور. ولعلّ المراد مطلق الطيب المسحوق ، كما ذكره بعض الفضلاء. (منه عفي عنه).

(٣) الكافي ٣ : ١٣٩ / ٢ ، التهذيب ١ : ١٠٨ / ٢٨٢ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

١٧٢

بينك وبينه ثوبا يستر عنك عورته إمّا قميص وإمّا غيره ثمّ تبدأ بكفيه ورأسه ثلاث مرّات بالسدر ثمّ سائر جسده وابدأ بشقّه الأيمن ، فإذا أردت أن تغسل فرجه فخذ خرقة نظيفة فلفّها على يدك اليسرى ثمّ أدخل يدك من تحت الثوب الذي على فرج الميّت فاغسله من غير أن ترى عورته ، فإذا فرغت من غسله بالسدر فاغسله مرّة أخرى بماء وكافور وبشي‌ء من حنوطه ثمّ اغسله بماء بحت (١) غسلة اخرى حتى إذا فرغت من ثلاث غسلات جعلته في ثوب نظيف ثمّ جفّفته» (٢).

والمراد من غسله بالسدر غسله بماء فيه شي‌ء من السدر ، كما يشعر به قوله عليه‌السلام : «فاغسله مرّة أخرى بماء وكافور» إلى آخره.

ويدلّ عليه غيرها من الروايات ، مضافا إلى كونها منزّلة على ما هو المعهود عندهم.

ونظيرها ما روي أيضا عن الحلبي ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يغسّل الميّت ثلاث غسلات : مرّة بالسدر ، ومرّة بالماء يطرح فيه الكافور ، ومرّة أخرى بالماء القراح ثمّ يكفّن» (٣) الحديث.

ومنها : ما رواه يونس عنهم عليهم‌السلام قال : «إذا أردت غسل الميّت فضعه على المغتسل مستقبل القبلة ، فإن كان عليه قميص فأخرج يده من القميص واجمع

__________________

(١) أي : غير ممزوج. الصحاح ١ : ٢٤٣ «بحت».

(٢) الكافي ٣ : ١٣٨ ـ ١٣٩ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ٨٧٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٣ : ١٤٠ / ٣ ، التهذيب ١ : ٣٠٠ / ٨٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

١٧٣

قميصه على عورته وادفعه عن رجليه إلى فوق الركبة ، وإن لم يكن عليه قميص فألق على عورته خرقة واعمد إلى السدر فصيّره في طشت وصبّ عليه الماء واضربه بيديك حتى ترتفع رغوته واعزل الرغوة في شي‌ء وصبّ الآخر في الإجّانة التي فيها الماء ثمّ اغسل يديه ثلاث مرّات كما يغسل الإنسان من الجنابة إلى نصف الذراع ثمّ اغسل فرجه ونقّه ثمّ اغسل رأسه بالرغوة وبالغ في ذلك واجتهد أن لا يدخل الماء منخريه ومسامعه ثمّ أضجعه على جانبه الأيسر وصبّ الماء من نصف رأسه إلى قدميه ثلاث مرّات وادلك بدنه دلكا رفيقا وكذلك ظهره وبطنه ثمّ أضجعه على جانبه الأيمن وافعل به مثل ذلك ثمّ صبّ ذلك الماء من الإجانة واغسل الإجّانة بماء قراح واغسل يديك إلى المرفقين ثمّ صبّ الماء في الآنية وألق فيه حبّات كافور وافعل به كما فعلت في المرّة الأولى ، ابدأ بيديه ثمّ بفرجه وامسح بطنه مسحا رفيقا ، فإن خرج منه شي‌ء فأنقه ثمّ اغسل رأسه ثمّ أضجعه على جنبه الأيسر واغسل جنبه الأيمن وظهره وبطنه ثمّ أضجعه على جنبه الأيمن ، واغسل جنبه الأيسر كما فعلت أوّل مرّة ، ثمّ اغسل يديك إلى المرفقين ، والآنية وصبّ فيه ماء القراح واغسله بماء قراح كما غسّلته في المرّتين الأوّلتين ثمّ نشفه بثوب طاهر ، واعمد إلى قطن فذرّ عليه شيئا من حنوط فضعه على فرجه قبل ودبر ، واحش القطن في دبره لئلّا يخرج منه شي‌ء ، وخذ خرقة طويلة عرضها شبر فشدّها من حقويه وضمّ فخذيه ضمّا شديدا ، ولفّها في فخذيه ، ثمّ أخرج رأسها من تحت رجليه إلى الجانب [الأيمن] (١) وأغرزها (٢) في الموضع الذي لففت فيه

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) «وأغرز [ها]» بالغين المعجمة ثمّ الراء المهملة ثمّ الزاي المعجمة ، أي : أثبتها. (منه عفي عنه).

١٧٤

الخرقة وتكون الخرقة طويلة تلفّ فخذيه من حقويه إلى ركبتيه لفّا شديدا» (١).

وقد يستظهر من هذه الرواية عدم اشتراط إطلاق الماء في الغسل بماء السدر ، وجواز إضافته ، كما هو الشأن في الرغوة التي يغسل بها رأسه.

وفيه أوّلا : أنّه لم يقصد من الأمر بغسل رأسه بالرغوة مجرّدة عن الماء ، بل هو جار مجرى العادة من استعمال الرغوة أوّلا وتنظيفها بالماء الذي في الإجّانة ، كما يشهد بإرادته ـ مضافا إلى قضاء العادة به ـ قوله عليه‌السلام : «واجتهد أن لا يدخل الماء في منخريه» فالاجتزاء به عن الغسل الواجب باعتبار اشتماله على الغسل بماء السدر ، ولا تتوقّف صحّة الغسل على العلم بكون غسل اليدين أو الرأس بالرغوة خارجة من ماهيّته الواجبة ، بل يكفي قصد حصول غسله بمجموع العمل.

وثانيا : أنّ ظاهر هذه الرواية مع قطع النظر عن غيرها من النصوص والفتاوى إنّما هو وجوب غسل نصف الرأس مع الجانب الأيمن ونصفه الآخر مع الأيسر ، وظاهره الوجوب الأصلي لا التبعي ، فليكن هذا هو الغسل الواجب ، غاية الأمر أنّه يلزم على هذا أن لا يكون الترتيب بين الرأس والبدن شرطا في صحّة الغسل ، وهذا وإن لم يمكن الالتزام به ، لمخالفته لظواهر جملة من النصوص وفتاوى الأصحاب لكنّه ليس أمرا معلوم الفساد كي يتعيّن حمل الرواية على المعنى الأوّل بحيث تصلح دليلا لإثبات الاجتزاء برغوة السدر ، خصوصا مع مخالفة هذا المعنى أيضا للنصّ والإجماع حيث لم ينقل عن أحد اعتبار كون غسل الرأس

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ / ٥ ، التهذيب ١ : ٣٠١ / ٨٧٧ ، الوسائل ، الباب ٢ ، من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٣.

١٧٥

برغوة السدر ، بل ولا القول بجواز الاجتزاء به عدا ما عن بعض (١) متأخّري المتأخّرين الذين لا يضرّ خلافهم في تحقّق الإجماع.

ومنها : رواية الكاهلي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الميّت ، فقال : «استقبل ببطن قدميه القبلة حتى يكون وجهه مستقبل القبلة ثمّ تليّن مفاصله ، فإن امتنعت عليك فدعها ثمّ ابدأ بفرجه بماء السدر والحرض ، فاغسله ثلاث غسلات وأكثر من الماء فامسح بطنه مسحا رفيقا ثمّ تحوّل إلى رأسه وابدأ بشقّه الأيمن من لحيته ورأسه ثمّ ثنّ بشقّه الأيسر من رأسه ولحيته ووجهه فاغسله برفق ، وإيّاك والعنف ، واغسله غسلا ناعما ثمّ أضجعه على شقّه الأيسر ليبدو لك الأيمن ثمّ اغسله من قرنه إلى قدميه وامسح يدك على ظهره وبطنه ثلاث غسلات ثمّ ردّه على جانبه الأيمن ليبدو لك الأيسر فاغسله بماء من قرنه إلى قدمه وامسح يدك على ظهره وبطنه ثلاث غسلات ثمّ ردّه على قفاه فابدأ بفرجه بماء الكافور والحرض وامسح يدك على بطنه مسحا رفيقا ثمّ تحوّل إلى رأسه فاصنع كما صنعت أوّلا بلحيته من جانبيه كليهما ورأسه ووجهه بماء الكافور ثلاث غسلات ثمّ ردّه إلى جانبه الأيسر حتى يبدو لك الأيمن ثمّ اغسله من قرنه إلى قدمه ثلاث غسلات ثمّ ردّه إلى جانبه الأيمن حتى يبدو لك الأيسر فاغسله من قرنه إلى قدمه ثلاث غسلات ، وأدخل يدك تحت منكبيه وذراعيه ويكون الذراع والكفّ مع جنبه ظاهرة (٢) ، كلّما غسلت شيئا منه أدخلت يدك تحت منكبيه وفي باطن ذراعيه ثمّ

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٢٩ ، وانظر : مدارك الأحكام ٢ : ٨٢ ، والحدائق الناضرة ٣ : ٤٥٤.

(٢) في الكافي : «طاهرة».

١٧٦

ردّه على ظهره ثمّ اغسله بماء قراح كما صنعت أوّلا تبدأ بالفرج ثمّ تحوّل إلى الرأس واللحية والوجه حتى تصنع كما صنعت أوّلا بماء قراح ثمّ آزره بالخرقة ويكون تحته القطن تذفره به إذفارا قطنا كثيرا ثمّ تشدّ فخذيه على القطن شدّا شديدا حتى لا تخاف أن يظهر منه شي‌ء ، وإيّاك أن تقعده أو تغمز بطنه ، وإيّاك أن تحشو في مسامعه شيئا ، فإن خفت أن يظهر من المنخرين شي‌ء فلا عليك أن تصيّر ثمّة قطنا ، وإن لم تخف فلا تجعل فيه شيئا ، ولا تخلّل أظافيره ، وكذلك غسل المرأة» (١).

ومنها : موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن غسل الميّت ، فقال : «تبدأ فتطرح على سوأته خرقة ثمّ تنضح على صدره وركبتيه من الماء ثمّ تبدأ فتغسل الرأس واللحية بسدر حتى تنقيه ثمّ تبدأ بشقّه الأيمن ثمّ بشقّه الأيسر ، وإن غسلت رأسه ولحيته بالخطمي فلا بأس ، وتمرّ يدك على ظهره وبطنه بجرّة من ماء حتى تفرغ منها ثمّ بجرّة من كافور ، وتجعل في الجرّة من الكافور نصف حبّة ثمّ تغسل رأسه ولحيته ثمّ شقّه الأيمن ، ثمّ شقّه الأيسر ، وتمرّ يدك على جسده كلّه ، وتنصب رأسه ولحيته شيئا ، ثمّ تمرّ يدك على بطنه فتعصره شيئا حتى يخرج من مخرجه ما خرج ، ويكون على يديك خرقة تنقي بها دبره ثمّ ميّل برأسه شيئا فتنفضه حتى يخرج من منخره ما خرج ، ثمّ تغسله بجرّة من ماء القراح فذلك ثلاث جرار ، فإن زدت فلا بأس ، وتدخل في مقعدته من القطن ما دخل ، ثمّ تجفّفه بثوب نظيف ، ثمّ تغسل يديك إلى المرافق ورجليك إلى الركبتين ثمّ تكفّنه تبدأ و

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤٠ ـ ١٤١ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩ / ٨٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٥.

١٧٧

تجعل على مقعدته شيئا من القطن وذريرة ، وتضمّ فخذيه ضمّا شديدا ـ إلى أن قال ـ : الجرّة الأولى التي يغسل بها الميّت بماء السدر ، والجرّة الثانية بماء الكافور يفتّ فيها فتّا قدر نصف حبّة ، والجرّة الثالثة بماء القراح» (١).

ومنها : صحيحة سليمان بن خالد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الميّت كيف يغسّل؟ قال : «بماء وسدر ، واغسل جسده كلّه ، واغسله بماء وكافور ، ثمّ اغسله اخرى بماء» قلت : ثلاث مرّات ، قال : «نعم» قلت : فما يكون عليه حين يغسّله؟ قال : «إن استطعت أن يكون عليه قميص فيغسّل (٢) من تحت القميص» (٣).

ومنها : صحيحة يعقوب بن يقطين ، قال : سألت العبد الصالح عليه‌السلام عن غسل الميّت أفيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال : «غسل الميّت تبدأ بمرافقه فتغسل بالحرض ثمّ يغسل وجهه ورأسه بالسدر ثمّ يفاض عليه الماء ثلاث مرّات ، ولا يغسّل إلّا في قميص يدخل رجل يده ويصبّ عليه من فوقه ويجعل في الماء شيئا من السدر ، وشيئا من كافور» (٤).

والظاهر أنّ المراد بقوله عليه‌السلام : «ثمّ يفاض عليه الماء ثلاث مرّات» إلى آخره : الأغسال الثلاثة المعهودة ، وقوله عليه‌السلام : «ويجعل في الماء» إلى آخره ، لبيان وجوب مزج الخليطين على النحو المعهود بأن كان السدر فيما يفاض عليه أوّلا والكافور فيما يفاض عليه ثانيا ، وإنّما أجمل تفصيلها ، لعدم كون الرواية مسوقة إلّا لبيان

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦ / ٨٨٧ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٠.

(٢) في التهذيب : «فتغسل».

(٣) التهذيب ١ : ٤٤٦ / ١٤٤٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٦.

(٤) التهذيب ١ : ٤٤٦ / ١٤٤٤ ، الإستبصار ١ : ٢٠٨ / ٧٣١ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٧.

١٧٨

عدم وجوب الوضوء أو لغيره من دواعي الإجمال.

وكيف كان فظاهرها أنّ المراد بقوله عليه‌السلام : «ثمّ يغسل وجهه بالسدر» أمر آخر خارج من الأغسال الثلاثة ، كغسل المرفقين يأتي به أمام الغسل ، كما يدلّ عليه رواية (١) يونس بالتقريب المتقدّم ، وحيث يتعذّر حمله على الوجوب ـ حيث لم يتعرّض لبيانه في جملة من الأخبار البيانيّة مع مخالفته للإجماع ـ يتعيّن حمله على الاستحباب ، كغسل اليدين.

فبما ذكرنا ظهر لك ما في كلام صاحب الحدائق معترضا على ما نقله من جمع من الأصحاب ـ من أنّه يستحبّ أمام الغسلة الاولى أن يغسل رأسه برغوة السدر ـ بقوله : ولم أقف له على مستند في الأخبار. وغسل الرأس ـ المذكور فيها ـ برغوة السدر ـ كما تضمّنه خبر يونس وعبارة كتاب الفقه الرضوي ـ أو بماء السدر ـ كما في غيرها ـ إنّما هو الغسل الواجب (٢). انتهى ، فإنّك قد عرفت أنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة إنّما هو كون غسل الرأس قبل الأغسال الثلاثة.

وأمّا رواية يونس وكذا عبارة الفقه الرضوي ـ التي هي بمضمونها على ما حكاها في الحدائق (٣) ـ فهي مصرّحة بغسل الرأس بالرغوة أمام الغسل.

ودعوى أنّ المراد به هو الغسل الواجب قد عرفت ما فيها بما لا مزيد عليه ، فلا ينبغي الاستشكال في استحباب غسل وجهه ورأسه بالسدر أو برغوته أمام الغسل.

وكيف كان فالذي يفهم من مجموع الروايات على ما يقتضيه الجمع

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدرها في ص ١٧٥ ، الهامش (١).

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٤٥٩.

(٣) الحدائق الناضرة ٣ : ٤٥٩.

١٧٩

المقبول بينها ـ بعد ردّ متشابهها إلى محكمها وصرف ظاهرها إلى ما هو الأظهر ـ إنّما هو وجوب أغسال ثلاثة ـ على وجه يتحقّق في كلّ غسل مسمّاه من غسل جميع البدن مرّة واحدة مرتّبا بين الأعضاء بتقديم الرأس على الجانبين والأيمن على الأيسر ـ أوّلها بماء فيه شي‌ء من السدر على النحو المتعارف في استعمال السدر بأن يمتزج في الماء ، ويكون اسمه باقيا بعد المزج بحيث ينصرف إليه الذهن عند إطلاق ماء السدر بأن لا يكون سدرة مستهلكا ، لقلّته ، أو أجنبيّا عن الماء بأن كان أوراقا غير مطحونة ولا ممروسة متمايزة بعضها عن بعض ، كما أنّه يشترط أن لا تكون إضافته على وجه يخرج الماء به من صفة الإطلاق كي لا يطلق عليه أنّه ماء فيه شي‌ء من السدر أو ينصرف عنه على تقدير الصدق ، وثانيها بماء فيه شي‌ء من الكافور على وجه يطلق عليه عرفا اسم ماء الكافور ، وثالثها بالماء القراح.

وأمّا ما عدا ما عرفت من الأمور التي تضمّنها الأخبار ـ مثل غسل اليدين والفرج ، وتثليث الغسلات ، ونحوها ـ فهي من السنن والآداب بلا شكّ وارتياب ، فإنّك إذا تأمّلت في الأخبار على تظافرها وتكاثرها ، لوجدت ما وصفناه أوّلا بمنزلة القطب الذي يدور مداره الأخبار المتشتّتة على اختلافها ، فيفهم من ذلك عدم كون ما عداها ـ ممّا اختلف فيه الأخبار من حيث التعرّض والعدم ، مع كون الجميع واردا في مقام البيان ـ من الأركان بحيث يكون تركها مفسدا للغسل ، بل هو من السنن والآداب ، كما لا ينافيه سياق جلّ تلك الأخبار المشعرة بعدم إرادة بيان خصوص الأجزاء الواجبة ، ولو لا موافقة جميع ما استفدناه من الأخبار لما عليه جلّ الأصحاب بل كلّهم عدا من شذّ وندر ، لأطنبت الكلام في إثبات كلّ

١٨٠