مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

وفيه : أنّ فرض احتمال وجوبها على بعض واستحبابها على آخرين وسقوط الواجب بفعلهم ينافي العلم بأنّ مقصود الشارع وجود الفعل لا عن مباشر معيّن ، كما ادّعاه المستدلّ ، ضرورة استقلال العقل بوجوب إيجاد ما أدرك محبوبيّة حصوله في الخارج شرعا ، وعدم رضا الشارع بعدمه من دون أن يكون لآحاد المكلّفين بخصوصيّاتها الشخصيّة مدخليّة في حسنه ومطلوبيّته.

ألا ترى استقلال العقل بوجوب حفظ النبي أو الوصي أو غيره ممّا علم مطلوبيّة حصوله في الخارج من حيث هو على كلّ مكلّف ، ولا ينافيه سقوط التكليف بحصول المقصود بفعل غير المكلّف ، بل هذا هو الشأن في سائر الواجبات عينيّة كانت أم كفائيّة ، لاستحالة بقاء الطلب بعد حصول متعلّقه في الخارج ، كما عرفت تحقيقه في مبحث النيّة في الوضوء ، ولا يمنع هذا استقلال العقل بوجوب مثل الفرض كفاية على كلّ أحد.

لا يقال : إنّا نرى بالوجدان أنّه ربما يريد المولى شيئا ولا يتعلّق غرضه إلّا بحصوله في الخارج من حيث هو ومع ذلك لا يكلّف بإيجاده إلّا بعض عبيده إمّا لكونه أحد الأفراد أو لخصوصيّة فيه مقتضية لطلب الفعل منه دون غيره ، كانحطاط الرتبة ونحوه من الخصوصيّات الموجبة لتوجيه الطلب إليه بالخصوص.

لأنّا نقول : أمّا الفرض الأوّل فلا يخرجه من كونه واجبا كفائيّا ، بل يجب على سائر العبيد أيضا إيجاده كفاية إذا علموا قصد المولى وأنّ توجيه طلبه إلى بعض لكونه أحد الأفراد ، لا لخصوصيّة فيه ، فلو عصى هذا البعض أو تركه نسيانا مثلا ، ليس لغيره تركه معتذرا بعدم توجّه الخطاب إليه بعد علمه بالواقع ، إذ لا يدور حسن العقاب مدار توجيه الخطاب اللفظي كما تقرّر في محلّه.

٤١

وأمّا الفرض الثاني فهو خلاف ما فرضه المستدلّ من أنّا نعلم أنّ مقصود الشارع وجود الفعل لا عن مباشر معيّن ، فإنّ محبوبيّة الفعل بضميمة الخصوصيّة المفروضة اقتضت تعلّق غرضه بإيجاد البعض بالخصوص ، فالإنصاف أنّه لا وجه للخدشة في الاستدلال من هذه الجهة.

نعم ، على المستدلّ في مقام الاستدلال وإلزام الخصم إقامة البيّنة على ما ادّعاه من العلم.

وكفى له دليلا ما استدلّ به شيخنا قدس‌سره للوجوب الكفائي من ظهور جملة من الأخبار ـ الواردة في جملة من أحكام الميّت ـ في ذلك ، فإنّ دلالتها على الوجوب الكفائي ليس إلّا من حيث ظهورها في وجوب الفعل وعدم تعيّنه على شخص خاصّ ، فإنّ مقتضاه وجوب خروج جميع المكلّفين من عهدته ما لم يوجد في الخارج ، فإذا وجد بفعل بعض المكلّفين بل ولو بفعل غير المكلّف ، ارتفع التكليف عن الكلّ ، وهذا هو معنى الواجب الكفائي مطلقا ، فيفهم من هذه الأخبار ـ ولو بضميمة فتوى الأصحاب وإجماعهم ـ كون سائر أحكام الميّت من هذا القبيل ، بل لا مجال للتشكيك في ذلك بعد التتبّع في الأخبار ، بل من نظر إليها بعين التدبّر لرأي جلّ ما ورد في هذا الباب من الآداب واجباتها ومسنوناتها ليس المقصود بالأمر فيها إلّا حصول متعلّقاتها وعدم حرمان الميّت عن فائدتها من أيّ شخص يكون ، بل لا يفهم من الأوامر الواردة في هذا الباب ، الموجّهة إلى شخص خاصّ ولو وليّ الميت إلّا إرادة ذلك.

ألا ترى هل يتوهّم متوهّم من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرواية المتقدّمة (١) في

__________________

(١) في ص ١٥.

٤٢

آداب المحتضر : «وجّهوه إلى القبلة فإنّكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة» الحديث ، إلّا إرادة هذا المعنى؟ وعدم توقّف حصول الفائدة المعلّل بها على صدور الفعل منهم بالخصوص لخصوصيّتهم من كونهم أقارب أو أهلا للميّت ، المقتضي لاختصاص التكليف بهم وعدم محبوبيّة صدور الفعل من غير هم.

وكيف كان فوجوب غسل الميّت وسائر أحكامه ـ التي تقدّمت الإشارة إليها ـ كفاية على عامّة المكلّفين ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، بل الظاهر ـ كما هو المصرّح به في كلام جمع ـ الإجماع عليه ، وخلاف صاحب الحدائق ـ كما ستعرفه إن شاء الله ـ ممّا لا يلتفت إليه بعد ما عرفت.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ هذا ـ أعني وجوب شي‌ء كفاية على عامّة المكلّفين ـ لا ينافي أحقّيّة بعضهم من بعض في إيجاد هذا الواجب بأن يكون له الولاية عليه من قبل الشارع.

مثلا : لو وجب كفاية حفظ الثغور وإمامة الجماعة لصلاة الجمعة ولم يرد الشارع من الأمر بهما إلّا حصولهما في الخارج ، فلا مانع عقلا ولا عرفا في أن يجعل الشارع لمن كان في الأزمنة السابقة ـ مثلا ـ مشغولا بشي‌ء منهما أو كان ذلك شغلا لآبائه أو غير ذلك من الخصوصيّات المقتضية للأولويّة حقّا بالنسبة إليه بأن يكون له أن يتقدّم في إيجاد الفعل أو يقدّم من أحبّ من دون أن يتعيّن عليه الفعل مباشرة أو تسبيبا ، ضرورة أنّ إلزامه بالفعل يناقض كون اختياره وتقدّمه لإيجاد الفعل حقّا له ، وهذا لا ينافي وجوبه الكفائي ، وإنّما يظهر أثره عند ترك الجميع للفعل ، فإنّهم يستحقّون العقاب بذلك ، فيجب على الجميع بحكم العقل تحصيل الوثوق بحصول الواجب في الخارج ، لكن لا يجوز لأحد المبادرة إلى فعله قبل أن

٤٣

يرفع صاحب الحقّ يده عن حقّه ، وإلّا فيكون غاصبا (١) فيفسد عمله لو كان عبادة.

توضيح المقام : أنّه إذا علم تعلّق إرادة المولى إرادة حتميّة بحصول أمر مقدور لعبيدة من دون أن تكون خصوصيّات أشخاص العبيد ملحوظة فيما تعلّقت به إرادته ، يستقلّ العقل بوجوب إيجاده على الجميع ، وعدم معذوريّتهم في تركه ، وجواز مؤاخذة الكلّ بذلك بعد اطّلاعهم على مراده ، لكن لا يخفى أنّ تعلّق الوجوب بالفعل في مثل الفرض ليس إلّا على نحو تعلّقت به إرادة المولى ، فيصير الفعل واجبا على الجميع لا على كلّ واحد واحد بالخصوص ، ولذا نسمّيه واجبا كفائيّا لا عينيّا ، فيكون حال الأشخاص حينئذ حال الأزمنة في الواجب الموسّع ، فيجوز لكلّ واحد واحد لذاته الإتيان بالفعل والترك من دون أن يتعيّن عليه أحد هما ، لكن جواز الترك له ليس كجواز الفعل مطلقا ، بل هو مشروط بحصول الفعل من غيره ، إذ لولاه لم يجز له الترك ، لأنّ المفروض جواز مؤاخذة الكلّ عليه ، فيجب عليه عقلا إمّا إيجاد الفعل أو تحصيل الوثوق بحصوله من غيره ، إذا لولاه لاحتمل العقاب على الترك ، فلا يبيحه العقل.

هذا فيما إذا لم يكن الفعل مطلقا مزاحما لحقّ الغير ، وأمّا لو كان كذلك ـ كما لو توقّف حصوله على التصرّف في ملك الغير ، أو كان للغير ـ مثلا ـ حقّ الاستباق والتولية ، كما هو المفروض فيما نحن فيه ـ فليس له حينئذ إيجاد الفعل أيضا مطلقا ، بل له ذلك عند عدم مزاحمته لحقّ الغير بأن أذن له أو أسقط حقّه ، أو امتنع عن إيجاد الفعل وترخيص الغير على وجه لو روعي حقّه لفات الواجب ، فإنّ هذا أيضا ـ كإسقاط الحقّ ـ مسقط له ، وإلّا للزم أن لا يكون حصوله من حيث

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : «عاصيا».

٤٤

هو مطلوبا من الجميع مطلقا من دون مدخليّة الأشخاص بخصوصيّاتها ، كما هو المفروض حيث لم يرده المولى في مثل الفرض من غير الوليّ ، وإلّا للزم اجتماع الأمر والنهي ، وهو باطل بديهة ، فله حينئذ إمّا اختيار الترك بعد إحراز كفاية الغير عن فعله ، أو إيجاد الفعل بعد العلم بعدم مزاحمته لحقّ الغير إمّا لسقوطه بالتفريط والامتناع عن الفعل أو بإسقاطه أو الرخصة في الفعل ، وليس إحراز هذا الشرط أمرا غير مقدور للمكلّف حتى يكون اشتراط جواز الفعل به عند عدم الأمن من تبعة العقاب بالترك موجبا للتكليف بما لا يطاق ، فإنّه يحرز ذلك بمراجعة صاحب الحقّ ، فإن تقدّم بنفسه أو قدّم من أحبّ ممّن يصدر منه الفعل ، فهو ، وإن امتنع عن الفعل وتقديم الغير بحيث استكشف من حاله ـ ولو بسبب ضيق الوقت ـ أنّه لو أو كل الأمر إليه لفات الواجب ، فقد سقط حقّه ، ويكفي في ذلك الظنّ بالإهمال والتفويت عند تعذّر العلم ، بل يكفي الاحتمال عند تعذّر الظنّ بعد العلم بأهمّيّة الواجب وعدم معذوريّة أحد في تركه.

والحاصل : أنّه لا يجوز رفع اليد عن عموم ما دلّ على حرمة التصرّف في ملك الغير بمجرّد توقّف إيجاد واجب كفائي ، كحفظ نفس محترمة عليه إذا أمكن حصوله من المالك أو مأذونه ، فإنّ تخصيص أحد الدليلين بالآخر في مثل الفرض إنّما هو بقرينة العقل ، فإذا أحرز العقل كون الواجب أهمّ في نظر الشارع ، حكم بجواز التصرّف في ملك الغير على تقدير عدم قيام المالك أو مأذونه بذلك لا مطلقا.

وقد يتوهّم في مثل الفرض أنّ مقتضى القاعدة تخصيص الواجب الكفائي بالمالك ومأذونه دون من عداهم ، إذا لا يزاحم الوجوب الكفائي الحرمة

٤٥

العينيّة ، فلا يجب على من عداهم إلّا مشروطا.

ويدفعه : أنّ كونه مالكا حقّ له لا عليه ، فلا يقتضي قصر الوجوب عليه ، فحاله بالنسبة إلى إيجاد الواجب ليس إلّا كحال غيره ، فلا مقتضي للتصرّف فيما دلّ على وجوب الشي‌ء كفاية على عامّة المكلّفين ، وإنّما يقتضي كونه مالكا أحقّيّته في إيجاد الفعل بمعنى سلطنته على منع الغير بشرط إيجاده للفعل ، وعلى تقدير تركه ليس له هذا المنع ، لأنّ المفروض كون الواجب أهمّ في نظر الشارع من ترك التصرّف في ملك الغير.

وبهذا ظهر لك أنّه لا يجب عليه الإذن أيضا بأن يكون أحد الأمرين واجبا تخييريّا شرعيّا عليه ، بل له أن يقول : أمّا حالي في إيجاد الواجب فليس إلّا كحال غيري ، وأمّا الإذن في التصرّف في مالي فلا أرضى إلّا بحكم الله تعالى.

لكن عرفت أنّ حكم الله تعالى في مثل الفرض لا يعقل أن يكون إلّا عدم سلطنته على منع الغير على تقدير عدم إيجاده للفعل ، فله عدم الإذن ، لكن لا يتوقّف جواز الفعل على إذنه حينئذ ، وإلّا فلا يكون واجبا كفائيّا على الكلّ ، وهو خلاف الفرض.

وقد ظهر لك ممّا ذكرنا ضعف ما قد يقال في أحكام الميّت من أنّه إذا امتنع الولي عن الفعل والإذن ، تنتقل ولايته إلى الحاكم ، لأنّه وليّ الممتنع ، وهذا بخلاف ما لو رفع اليد عن حقّه وأسقطه ، فيجوز حينئذ إيجاد الفعل لكلّ أحد من دون توقّفه على الإذن.

توضيح ضعفه ـ بعد الغضّ عن أنّ ولاية الوليّ من الحقوق المتقوّمة بشخص الوليّ ، الممتنع تحقّقها بفعل الغير من دون رضاه حتى يمكن استيفاؤها

٤٦

بفعل الحاكم ـ أنّ الحاكم إنّما يكون وليّا على من يمتنع عن حقّ الغير لا عن حقّ نفسه ، الذي جعله الله تعالى له من دون إلزام ، فإنّ امتناعه حينئذ بالحقّ لا عن الحقّ ، فلا يتولّاه الحاكم.

نعم ، لو تعيّن عليه أحد الأمرين من الفعل والإذن بأن كان أحد هما على سبيل البدل واجبا عليه عينا لا كفاية ، لاتّجه حينئذ القول بأنّ الحاكم يجبره على أحد هما ، لا أنّه يتولّى الإذن من دون رضاه ، لكن يخرج الفرض حينئذ ممّا هو المفروض من كونه واجبا كفائيّا وأنّ الولاية حقّ له لا عليه ، وعلى هذا التقدير فلا يقبل الإجبار ولا ولاية الحاكم كما عرفت ، فحينئذ إن توقّف صحّة فعل الغير على إذن صاحب الحقّ وعدم جواز إيجاده من دون رضاه ، للزم أن يكون وجوبه أيضا مشروطا بذلك ، وإلّا للزم توقّف الواجب المطلق على مقدّمة مقدورة لغير المكلّف منوطة باختياره من دون أن يتعيّن عليه ذلك ، وهو محال ، وإن لم يكن مشروطا به ، فمعناه سقوط حقّه ، وعلى أيّ التقديرين فلا مقتضي لإذن الحاكم.

هذا ، مع أنّه إذا لم يوجب الشارع عليه أحد الأمرين بل جعل له اختيار هما من دون إلزام ، كيف يتعيّن على الحاكم ـ الذي هو وليّه ـ أحد الأمرين!؟ فله أيضا أن لا يأذن للغير ، فليتأمّل.

إذا عرفت ما ذكرنا من إمكان كون بعض من وجب عليه الفعل كفاية أحقّ ممّن عداه في إيجاد الواجب ، فنقول : كلّ ما هو الواجب في هذا الباب ـ من تغسيل الميّت وتكفينه ودفنه والصلاة عليه ـ من هذا القبيل (و) أنّ (أولى الناس به) في جميع ذلك من هو (أولاهم بميراثه) بلا خلاف فيه ظاهرا ، بل عن جامع

٤٧

المقاصد أنّ الظاهر أنّه إجماعيّ (١) ، وعن الخلاف وظاهر المنتهى دعوى الإجماع عليه (٢).

واستدلّ له : بعموم قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (٣).

وعن المحقّق الأردبيلي قدس‌سره أنّ الآية لا دلالة فيها أصلا (٤).

وفيه : أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ، فلا قصور في دلالة الآية أصلا بعد إثبات كون مباشرة هذه الأفعال وولايتها من الحقوق ، وعدم كونها مجرّد الحكم التكليفي ، كما يشهد له جملة من الأخبار التي يتمّ الاستدلال بها بنفسها للمطلوب.

ويؤيّده : قضاء العرف بذلك حيث يذمّون من باشر هذه الأفعال من دون رضا أولياء الميّت ، بل لا يرتابون في أولويّة أولياء الميّت بالنسبة إلى هذه الأفعال بحيث لو أراد الوليّ المباشرة لحكموا بقبح مزاحمته.

فمن جملة الأخبار الدالة عليه : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر السكوني : «إذا حضر سلطان من سلطان الله جنازة فهو أحقّ بالصلاة عليها إن قدّمه وليّ الميّت ، وإلّا فهو غاصب» (٥).

وهذه الرواية ـ كما تراها ـ صريحة في كون الصلاة على الميّت من الحقوق التي يتعلّق بها الغصب ، كالأموال.

وخبر أبي بصير عن المرأة تموت من أحقّ أن يصلّي عليها؟ قال : «الزوج»

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣١ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٣٥٩.

(٢) الحاكي عنهما هو صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٣١٥ ، وانظر : الخلاف ١ : ٧٢٠ ، المسألة ٥٣٦ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٥٠.

(٣) سورة الأنفال ٨ : ٧٥.

(٤) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٨١ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٧٥.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٠٦ / ٤٩٠ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٤.

٤٨

قلت : الزوج أحقّ من الأب والولد؟ قال : «نعم» (١).

وخبر إسحاق بن عمّار «الزوج أحقّ بامرأته حتى يضعها في قبرها» (٢).

وفي خبر غياث بن إبراهيم الرزامي عن أبي عبد الله عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام قال : «يغسّل الميّت أولى الناس به» (٣).

وليس المراد تعيّن الفعل عليه ، بل إثبات حقّ له ، كما يشهد به ما في ذيل الرواية على ما أرسله في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «يغسّل الميّت أولى الناس به أو من يأمره الوليّ بذلك» (٤) فإنّ التعبير بلفظ الأمر من أقوى الشواهد على إرادة إثبات الحقّ له واعتبار إذنه في جواز فعل الغير ، إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في صلاته وغيرها من أحكامه ، الدالّة على اعتبار إذن الوليّ في جواز الإقدام على الفعل ، فيستفاد من مجموعها كون مباشرة الأفعال حقّا له.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ هذه المؤيّدات كلّها لا تكفي في جبر قصور الآية عن الدلالة ، لكن فيما عداها ممّا عرفت ـ بعد اعتضادها بفتوى الأصحاب ـ كفاية.

ثمّ إنّ المراد بالوليّ في هذا الباب على الظاهر ليس إلّا من هو أولى بميراثه ، كما يشهد له ـ مضافا إلى الإجماعات المستفيضة المعتضدة بعدم نقل الخلاف ـ ما أشرنا إليه من كونه حقّا له ، فيكون بمنزلة الميراث ، ولذا استدلّ الفحول له بالآية الشريفة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧٧ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ١٩٤ / ٦ ، التهذيب ١ : ٣٢٥ / ٩٤٩ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٣.

(٣) التهذيب ١ : ٤٣١ / ١٣٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٤) الفقيه ١ : ٨٦ / ٣٩٤ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

٤٩

هذا ، مع إمكان استفادته من الروايات الواردة في قضاء الوليّ عن الميّت ما فاته من صلاة أو صيام ، ففي بعضها «يقضي عنه أولى الناس به» (١) وليس المراد منه إلّا من هو أولى بميراثه ، كما نصّ عليه في صحيحة حفص حيث قال فيها :«يقضي عنه أولى الناس بميراثه» (٢) فيكشف ذلك عن أنّ المراد بأولى الناس بالميّت متى أطلق ـ كما في خبر غياث ، المتقدّم (٣) ـ هو هذا المعنى ، بل لعلّ هذا هو المتبادر منه عرفا في مثل المقام ، ولا ينافيه اختصاص الحكم في باب القضاء ببعضهم ، لاستفادته بقرينة منفصلة ، كما لا يخفى.

فما في المدارك ، من أنّه لا يبعد أن يكون المراد بالأولى به من هو أشدّ الناس به علاقة (٤) ـ في غاية الضعف إن أراد العلاقة العرفيّة ، كما هو الظاهر ، وإن أراد العلاقة المعتبرة شرعا ، فهي ليست إلّا ما كشف عنها الشارع في طبقات الإرث.

ويتلوه في الضعف ما استظهر من بعض أنّه المحرم من الورثة ، وإذا تعدّد ، فالأشدّ علاقة به بحيث يكون هو المعزّى في وفاته ومرجعه في حياته (٥) ، بدعوى ظهور الأخبار في إرادته ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «يغسّله أولى الناس به» ظاهر في من له مباشرة التغسيل ولو في بعض التقادير من عدم وجود المماثل من المحارم دون مطلق الوارث.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث ٦ نقلا عن غياث سلطان الورى ، وهو مخطوط.

(٢) الكافي ٤ : ١٢٣ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٥.

(٣) في ص ٤٩.

(٤) مدارك الأحكام ٢ : ٦٠.

(٥) حكاه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٤٤ عن ظاهر بعض متأخّري علماء البحرين.

٥٠

وفيه : أنّه إن تمّ فهو فيما إذا لم يكن الوارث مماثلا للميّت ، وإلّا فيجوز له مباشرة الأفعال مطلقا.

مضافا إلى عدم انحصار الدليل في هذه الرواية حتى يدّعى ظهورها فيما ادّعي ، فالأظهر ما عليه المشهور ، والله العالم.

ثمّ إنّ قضيّة ظاهر الأخبار وكلمات الأصحاب كون الأولويّة في المقام كأولويّته في الإرث من الحقوق اللازمة ، ولذا يتحقّق بالنسبة إليها الغصب ، كما يدلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة.

فما عن ظاهر بعض القدماء وغير واحد من المتأخّرين (١) ـ من كونها على سبيل الفضل والاستحباب ـ ضعيف.

والعجب من صاحب الحدائق حيث فهم من عبارة المتن ذلك ، بل وكذا من عبارة المنتهى من قوله : ويستحبّ أن يتولّى تغسيله أولى الناس به. وادّعى صراحته في ذلك (٢).

وأنت خبير بأنّ عبارة المنتهى ليس مفادها إلّا استحباب مباشرة الغسل ، لا كون ولايته على سبيل الاستحباب والفضل ، كما أنّ عبارة المتن ليس ظاهرها إلّا إرادة الأولويّة بالمعنى الذي أريد منها في الميراث.

وأعجب من ذلك ما ادّعاه من ظهور الأخبار ـ الواردة في أحكام الأموات ـ في اختصاص هذه التكاليف كلّها بالوليّ ، وعدم الدليل على وجوبها على عامّة

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٨١ ، وانظر : الغنية : ١٠٥ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٢٨ ، ومجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦ ، وذخيرة المعاد : ٨١.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٦٠ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٢٨.

٥١

المكلّفين ، كما هو المشهور عدا ما يظهر منهم من الاتّفاق عليه ، وكون الحكم مسلّم الثبوت بينهم حيث أرسلوه إرسال المسلّمات ، ولم ينقل فيه خلاف ، ولم يناقش فيه مناقش.

وقال في مسألة توجيه المحتضر إلى القبلة : والذي يظهر لي من الأخبار أنّ توجّه الخطاب بجميع هذه الأحكام ونحوها من التلقين ونحوه من المستحبّات أيضا إنّما هو إلى الوليّ ، كأخبار الغسل وأخبار الصلاة والدفن والتلقين ونحوها كما ستقف عليها إن شاء الله في مواضعها ، وأخبار توجيه الميّت إلى القبلة وإن لم يصرّح فيها بالوليّ إلّا أنّ الخطاب فيها توجّه إلى أهل الميّت دون كافّة المسلمين ، فيمكن حمل إطلاقها على ما دلّت عليه تلك الأخبار ـ إلى أن قال ـ نعم ، لو أخلّ الوليّ بذلك ولم يكن ثمّة حاكم شرعيّ يجبره على القيام بذلك ، انتقل الحكم إلى المسلمين بالأدلّة العامّة ، كما يشير إليه أخبار العراة (١).

أقول : مراده من الأخبار ـ التي ادّعى ظهورها في خلاف ما عليه الأصحاب ـ بحسب الظاهر هي الأخبار التي تقدّمت الإشارة إلى جملة منها ، الدالّة على اعتبار إذن الوليّ وكونه أحقّ بالصلاة والغسل وسائر أحكامه من غيره ، وقد عرفت عدم دلالتها إلّا على ثبوت الحقّ له ، لا تعيّن الفعل عليه ، وقد سمعت التنصيص في مرسلة (٢) الفقيه على أنّه «يغسّل الميّت الوليّ أو من يأمره الوليّ بذلك» فكيف يجوز للحاكم إجباره على الغسل مع أنّه من أفراد «الغير» الذي إذا أمره الوليّ بالفعل يكون حاله كحال الوليّ في أولويّته به!؟ فلو قيل بأنّ الحاكم

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٢) تقدّمت في ص ٤٩.

٥٢

يجبره على الفعل أو الإذن لو امتنع منهما ، لكان سليمان عن هذه المناقشة وإن كان فيه أيضا ـ مع مخالفته لمطلبه ـ ما عرفته فيما سبق.

ثمّ إنّ ما ذكره من عدم دليل يعتمد عليه ولا حديث يرجع إليه لإثبات الوجوب الكفائي ، ففيه ـ مضافا إلى ما عرفته فيما سبق ـ أنّه إن كان الأمر كما زعم ، فعند امتناع الوليّ أو عدمه فأيّ عموم يكون مرجعا بعد دعوى ظهور كون الخطابات بأسرها متوجّهة إلى الوليّ؟ وما ليس فيها هذا الظهور محمول على ما عداه ، فكيف يمكن على هذا التقدير استفادة حكم من عدا الوليّ منها بعد انصرافها عنه!؟

فاتّضح لك من جميع ما تقدّم أنّ ورثة الميّت في الجملة أولى بتجهيزاته من سائر الناس إلّا أنّ هذه الأولويّة بحسب الظاهر ليست ممّا يستحقّها جميع الورثة ، كسائر ما تركه الميّت من الأموال والحقوق حتى يعتبر في جواز فعل الغير بل البعض منهم رضا الجميع ، ضرورة قصور الأدلّة عن إثبات هذا النحو من التعميم ، بل الظاهر عدم الخلاف فيه ، فلا يستحقّها إلّا البعض ، وإنّما الكلام في تشخيص هذا البعض.

فنقول : أمّا من ليس أهلا للولاية ـ كالصغير والمجنون ، وكالمملوك ـ فلا يستحقّها جزما ، لقصورهم عن الولاية على أنفسهم فكيف يجعلهم الشارع وليّا فيما يتعلّق بالغير!؟ مضافا إلى انصراف الأدلّة عنهم جزما ، وبمنزلتهم الغائب الذي يتعذّر صدور الفعل منه أو وقوعه بأمره.

وتوهّم ثبوت الحقّ لهم فيتولّاه وليّهم من الحاكم والوصيّ ونحو هما يدفعه ـ مضافا إلى عدم الدليل عليه بعد انصراف الأدلّة عن مثلهم ـ ما أشرنا فيما

٥٣

سبق من أنّ حقّ الولاية من الحقوق المتقوّمة بنفس صاحب الحقّ ، فيتعذّر استيفاؤه بولاية الغير ، وحينئذ فلو فرض انحصار الوارث الفعلي به ، فهل تسقط الولاية رأسا أو تنتقل إلى الطبقة المتأخّرة عنه؟ وجهان ، أظهر هما : ذلك ، فإنّ وجود الأقرب منه إلى الميّت بعد فرض عدم أهليّته للولاية لا يصلح مانعا من استحقاق القريب لهذا الحقّ ، فهو أولى بالتولية ممّن عداه من الأجانب ، فتعمّه الأدلّة ، غاية الأمر أنّه لو كان الوارث الفعلي أهلا ، لكان أحقّ منه ، وكان هو المرجع في أمر الميّت ، لكنّ المفروض عدمه.

ثمّ إنّه لو تعدّد الوارث الفعلي الصالح للولاية ، فقد صرّحوا ـ من غير خلاف يعرف فيه ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ـ بأنّ الأب أولى من سائر أولي الأرحام.

نعم ، عن الإسكافي القول بتقديم الجدّ عليه (١) ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه وفي تشخيص شخص الوليّ عند تعدّد الوارث في كلّ طبقة في كتاب الصلاة إن شاء الله.

(و) لكنّ الإشكال فيما نصّ عليه المصنّف في المقام ، وسيأتي التصريح به أيضا في باب الصلاة من أنّه (إذا كان الأولياء رجالا ونساء ، فالرجال أولى) بل عن المنتهى نفي الخلاف عنه في الصلاة (٢).

وقضيّة إطلاقهم عدم الفرق بين كون الميّت رجلا أو امرأة ، بل في المدارك :

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٣٧ ، المسألة ١٧٨.

(٢) كما في جواهر الكلام ٤ : ٤٥ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٥١.

٥٤

جزم بهذا التعميم المتأخّرون (١).

وربما علّلوه ببعض الاعتبارات التي لا تصلح دليلا لإثبات حكم شرعي ، ولذا صرّح في الحدائق بعدم وقوفه على ما يدلّ عليه (٢).

وعن المحقّق الثاني تقييد إطلاقهم بما إذا لم يكن الميّت امرأة ، وإلّا انعكس الحكم (٣).

وربما يوجّه ذلك بانصراف دليل الولاية عمّن ليس له مباشرة الفعل بنفسه خصوصا مثل قوله عليه‌السلام : «يغسّل الميّت أولى الناس به» (٤).

وفيه ـ مع أخصّيّته عن المدّعى ـ أنّه إن تمّ ، فمقتضاه نفي ولاية غير الممائل رأسا ، لا ترجيح المماثل عند التعدّد.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ ما عليه المشهور لا يخلو عن قوّة ، فإنّ المتبادر من الوليّ في هذا الباب ليس إلّا المتصرّف في أمر الميّت عن استحقاق ، بل قد يقال :إنّ المتبادر من إطلاق الوليّ ليس إلّا ذلك ، بل ربما يدّعى أنّ لفظة «أولى» لا يتبادر من إطلاقها إلّا هذا المعنى لا التفصيل وإن كان فيه تأمّل ، لكن لا تأمّل في أنّ المتبادر من الوليّ المطلق في هذا الباب هو المتصرّف عن استحقاق ، وقد عرفت نصّا وإجماعا أنّ أحقّهم بذلك من هو أولاهم بميراثه ، بل هو الذي يساعد عليه العرف في الجملة ، وإذا تعدّدت الورثة ، فلا ينصرف الذهن عند الأمر بالرجوع إلى وليّ الميّت والاستئذان منه إلّا إلى بعضهم ممّن كان له نحو تقدّم ورئاسة واعتبار

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٦٠.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٣٨١.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٤٦ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٣٥٩.

(٤) التهذيب ١ : ٤٣١ / ١٣٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

٥٥

عرفا أو شرعا بالنسبة إلى أمور الميّت.

ألا ترى أنّه لو كان له أب ، لا يلتفت الذهن إلّا إليه ، ولا يفهم من مثل هذا الأمر إرادة من عداه ، ولعلّه لذا توهّم ابن الجنيد تقديم الجدّ على الأب زعما منه أنّه هو المرجع في أمر الميّت عرفا وإن كان فيه ـ بعد تسليم كونه كذلك عرفا ـ أنّ الشارع كشف بطلان ما يراه العرف بما بيّنه من أنّ أولى الناس به أولاهم بميراثه.

وكيف كان فمع تعدّد الوارث وكون بعضهم رجالا وبعضهم نساء لا ينسبق إلى الذهن إرادة النساء من الأمر بالرجوع إلى وليّ الميّت ، بل يمكن أن يقال : إنّ المتبادر في مثل الفرض ليس إلّا إرادة أكبر الذكور وأرشدهم ، كما سيأتي تحقيقه في باب الصلاة ، ونقل القول به من صاحب الحدائق (١). فعلى هذا يبقى ولاية من عدا القدر المتيقّن ـ الذي ينصرف إليه الذهن ـ عارية عن الدليل ، منفيّة بالأصل السالم من حكومة إطلاق عليه ، إذ لا إطلاق في البين ، كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما عدا الزوج والزوجة (و) أمّا (الزوج) فهو (أولى بالمرأة من كلّ أحد في أحكامها كلّها) بلا خلاف فيه ظاهرا ، كما يدلّ عليه رواية أبي بصير وموثّقة إسحاق بن عمّار ، المتقدّمتان (٢). وعن المعتبر والمنتهى حكاية الاتّفاق على مضمون موثّقة إسحاق (٣). وعن الأردبيلي نسبته إلى عمل الأصحاب (٤). فلا تعارضها صحيحة حفص عن الصادق عليه‌السلام في المرأة تموت و

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٠ : ٣٩٠.

(٢) في ص ٤٨ و ٤٩.

(٣) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٤٧ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٦٤ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٣٦.

(٤) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٤٧ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٧٦.

٥٦

معها أخوها وزوجها أيّهما يصلّي عليها؟ قال : «أخوها أحقّ بالصلاة عليها» (١) وخبر عبد الرحمن عن الصادق عليه‌السلام : سألته عن المرأة الزوج أحقّ بها أو الأخ؟ قال :«الأخ» (٢) لقصور هما عن المعارضة ، بل سقوطهما عن الحجّيّة بعد إعراض الأصحاب عنهما خصوصا مع موافقتهما للعامّة كما عن الشيخ حكايتها ، فلذا حملهما على التقيّة (٣).

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصّ وفتاوى الأصحاب : عدم الفرق في الزوجة بين الدائمة والمنقطعة ، بل ولا بين الحرّة والأمة وإن كان في الأخيرة تأمّل ، بل الأظهر انصراف النصوص والفتاوى عنها كانصرافها عمّا إذا كان الزوج عبدا ، فليس وليّ المملوك إلّا سيّده.

وهل للزوج الولاية على المطلقة رجعيّة إذا ماتت في العدّة؟ وجهان : من كونها زوجة ، كما في بعض (٤) الأخبار ، ويؤيّده ما في بعض الأخبار الآتية (٥) من تعليل جواز تغسيل الزوجة زوجها : بكونها في العدّة. ومن إمكان دعوى أنّ عموم تنزيل الرجعيّة منزلة الزوجة لا يشتمل مثل هذا الحكم ، ولعلّه لذا توقّف فيه في محكيّ المنتهى (٦). وفيه نظر ، والاحتياط لا ينبغي تركه.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٠٥ / ٤٨٦ ، الإستبصار ١ : ٤٨٦ / ١٨٨٥ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٤.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٠٥ / ٤٨٥ ، الإستبصار ١ : ٤٨٦ / ١٨٨٤ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ٥.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٤٧ ، وانظر : التهذيب ٣ : ٢٠٥ ذيل الحديث ٤٨٦ ، والاستبصار ١ : ٤٨٧.

(٤) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٨٣.

(٥) في ص ٦٠.

(٦) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٥ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٣٧.

٥٧

أمّا الزوجة : فعن بعض أنّها أيضا أحقّ بزوجها من كلّ أحد (١).

لكنّه ضعيف ، كما ستعرفه في باب الصلاة إن شاء الله.

ولو أوصى لشخص بتجهيزه ، فهل ينفذ على الوليّ ، أو له منعه من العمل؟ قولان حكي عن الإسكافي : الأوّل (٢) ، وعن جامع المقاصد الميل إليه (٣) في باب الصلاة ، لعموم حرمة تبديل الوصيّة (٤).

وعن المشهور : الثاني (٥) ، لكونه حقّا له ، فالوصيّة عليه تضييع لحقّ الغير فتكون جنفا.

وهذا الوجه لعلّه أشبه بالقواعد. اللهمّ إلّا أن يستظهر من الأدلّة كون الوجه في ذلك مراعاة حقّ الميّت ، ومن المعلوم أحقّيّة نفس الميّت بذلك من أقاربه ، والله العالم.

وهل يجوز لكلّ من الزوجين تغسيل الآخر اختيارا؟ قولان ، أظهر هما بل أشهر هما ذلك ، بل عن المنتهى دعوى الوفاق على تغسيل المرأة زوجها اختيارا ، ونسبة العكس إلى أكثر أصحابنا (٦).

وعن الخلاف أنّه يجوز عندنا أن يغسّل الرجل امرأته والمرأة زوجها (٧).

__________________

(١) نقله الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣١١ عن بعض الأصحاب.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٣١٢ ، المسألة ١٩٨.

(٣) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٤٦٥ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٤٠٩.

(٤) البقرة : ١٨١.

(٥) نسبه إلى المشهور صاحب الرياض فيها ٤ : ٣٩.

(٦) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٨٣ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٣٦.

(٧) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٨٣ ، وانظر : الخلاف ١ : ٦٩٨ ، المسألة ٤٨٦.

٥٨

وفي الجواهر : أنّه هو المشهور نقلا وتحصيلا (١).

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ظهور إطلاق أحقّيّة الزوج بالزوجة حتى يضعها في قبرها في شمولها لما يعمّ مباشرة تغسيلها ـ صحيحة ابن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل أيصلح أن ينظر إلى امرأته حين تموت أو يغسّلها إن لم يكن عندها من يغسّلها؟ وعن المرأة هل تنظر إلى مثل ذلك من زوجها حين يموت؟ قال : «لا بأس إنّما يفعل ذلك أهل المرأة كراهة أن ينظر زوجها إلى شي‌ء يكرهونه» (٢).

والظاهر أنّ التقييد في السؤال جار مجرى الغالب من عدم مباشرة الرجل تغسيل المرأة مع وجود النساء.

وكيف كان فالعبرة بظهور الجواب في نفي البأس مطلقا ، كما يستشعر ذلك من تعليل عدم المباشرة عند وجود أهلها بكراهتهم ذلك ، مع أنّه قد يقال بأنّ حلّيّة النظر تكفي في الجواز بضميمة الأصل ، فليتأمّل.

وصحيحة محمد بن مسلم قال : سألته عن الرجل يغسّل امرأته ، قال : «نعم من وراء الثوب» (٣).

وحسنته قال : سألته عن الرجل يغسّل امرأته ، قال : «نعم إنّما يمنعها أهلها تعصّبا» (٤).

__________________

(١) جواهر الكلام ٤ : ٤٨.

(٢) الكافي ٣ : ١٥٧ / ٢ ، التهذيب ١ : ٤٣٩ / ١٤١٧ ، الإستبصار ١ : ١٩٨ / ٦٩٨ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ١٥٧ / ٣ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١١ ، الإستبصار ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧ / ٦٩٠ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

(٤) الكافي ٣ : ١٥٨ / ١١ ، التهذيب ١ : ٤٣٩ / ١٤١٩ ، الإستبصار ١ : ١٩٩ / ٧٠٠ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

٥٩

وموثّقة سماعة قال : سألته عن المرأة إذا ماتت ، قال : «يدخل زوجها يده تحت قميصها إلى المرافق فيغسّلها» (١).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الرجل يغسّل امرأته ، قال : «نعم ، من وراء الثوب لا ينظر إلى شعرها ولا إلى شي‌ء منها ، والمرأة تغسّل زوجها لأنّه إذا ماتت كانت في عدّة منه ، وإذا ماتت هي فقد انقضت عدّتها» (٢).

وصحيحة زرارة عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يموت وليس معه إلّا النساء ، قال : «تغسّله امرأته لأنّها منه في عدّة ، وإذا ماتت لم يغسّلها لأنّه ليس منها في عدّة» (٣) فإنّ مقتضى ظاهر التعليل جوازه للزوجة مطلقا ، كما أنّ مقتضاه عدم الجواز للزوج كذلك ، لكنّك ستعرف مجمل الحكم الأخير إن شاء الله.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة منصور ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج في السفر ومعه امرأته يغسّلها؟ قال : «نعم ، وامّه وأخته ونحو هما يلقي على عورتها خرقة» (٤).

لكن لو منعناه اختيارا في الأمّ والأخت ، لأشكل الاستدلال بهذه الصحيحة للمطلوب ، إذ المتعيّن حينئذ ـ بناء على ما هو الظاهر منها من كون «وامّه وأخته»

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥٨ / ٦ ، التهذيب ١ : ٤٣٨ / ١٤١٢ ، الإستبصار ١ : ١٩٧ / ٦٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٤. من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٥.

(٢) التهذيب ١ : ٤٤٠ ـ ٤٤١ / ١٤٢٣ ، الإستبصار ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ / ٧٠٦ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٣٧ / ١٤٠٩ ، الإستبصار ١ : ١٩٨ / ٦٩٧ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١٣.

(٤) الكافي ٣ : ١٥٨ / ٨ ، التهذيب ١ : ٤٣٩ / ١٤١٨ ، الإستبصار ١ : ١٩٩ / ٦٩٩ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

٦٠