مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

فقرة فقرة مفصّلا ، لكن اعتضاده بفهمهم أغنانا عن ذلك.

فما حكي (١) عن سلّار ـ من الاكتفاء بغسل واحد محتجّا بالأصل وبما يفهم من المعتبرة المستفيضة (٢) الواردة في الميّت الجنب من أنّه يكفيه غسل واحد ـ ضعيف ، فإنّ الأصل منقطع بالدليل.

والمراد بالوحدة في هذه الأخبار في مقابل التعدّد الناشئ من انضمام غسل الجنابة ، لا في مقابل تعدّد الأغسال المعتبرة في غسل الميّت ، التي هي بأسرها بمنزلة غسل واحد ، كما لا يخفى.

وأضعف منه ما عن ظاهر ابن حمزة من عدم وجوب الترتيب بين الأغسال الثلاثة (٣) ، فإنّه كما ترى.

وربما استظهر منه القول باستحباب الخليطين ـ لا عدم الترتيب ـ على تقدير وجودهما. وعن ابن سعيد (٤) أيضا موافقته في الاستحباب. ولا يخفى ما فيه.

ويتلوه في الضعف ما حكاه المصنّف عن بعض في تحديد أقلّ ما يلقى في الماء من السدر بسبع ورقات (٥).

__________________

(١) الحاكي عنه هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، المسألة ١٦٢ ، وانظر :المراسم : ٤٧.

(٢) منها : ما في التهذيب ١ : ٤٣٢ / ١٣٨٣ ، والاستبصار ١ : ١٩٤ / ٦٧٩ ، والوسائل ، الباب ٣١ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٣.

(٣) الحاكي عنه هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٢٢٥ ، المسألة ١٦٤ ، وانظر :الوسيلة : ٦٤.

(٤) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٢٣ ، وانظر : الجامع للشرائع : ٥١.

(٥) شرائع الإسلام ١ : ٣٨.

١٨١

واستدلّ له برواية معاوية بن عمّار ، قال : أمرني أبو عبد الله عليه‌السلام أن أعصر بطنه ثمّ أوضّيه بالأشنان ثمّ اغسل رأسه بالسدر ولحيته ثمّ أفيض على جسده منه ثمّ أدلك به جسده ثمّ أفيض عليه ثلاثا ثمّ أغسله بالماء القراح ثمّ أفيض عليه الماء بالكافور وبالماء القراح واطرح فيه سبع ورقات سدر (١).

وفيه ما لا يخفى ، مع ما في مستنده من التشويش وقصور الدلالة حيث إنّ المأمور به إنّما هو طرح سبع ورقات من السدر في الماء القراح الذي يغسل به أخيرا ، كما يدلّ عليه أيضا خبر عبد الله بن عبيد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الميّت ، قال : «يطرح عليه خرقة ثمّ يغسل فرجه ثمّ يوضّأ وضوء الصلاة ثمّ يغسل رأسه بالسدر والأشنان ثمّ بالماء والكافور ثمّ بالماء القراح يطرح فيه سبع ورقات صحاح من ورق السدر» (٢) وهو ـ كما ترى ـ أجنبيّ عن المدّعى.

وأضعف من ذلك ما عن المفيد من تحديد السدر برطل (٣) ، وعن ابن البرّاج برطل ونصف (٤) ، إذا لم يصل إلينا من الروايات ما يشعر برجحان شي‌ء من الحدّين فضلا عن وجوبه ، كما يقتضيه ظاهر التحديد.

وحكي عن المفيد أيضا تحديد الكافور وبنصف مثقال ، وكذا ابن سعيد (٥).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٠٣ / ٨٨٢ ، الإستبصار ١ : ٢٠٧ / ٧٢٩ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٨.

(٢) التهذيب ١ : ٣٠٢ / ٨٧٨ ، الإستبصار ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ / ٧٢٦ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

(٣) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٢٦ ، وانظر : المقنعة : ٧٤ ، والمهذّب ١ : ٥٦.

(٤) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٢٦ ، وانظر : المقنعة : ٧٤ ، والمهذّب ١ : ٥٦.

(٥) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣٠ ، وانظر : المقنعة : ٧٥ ، والجامع للشرائع : ٥١.

١٨٢

لكنّك عرفت أنّ ابن سعيد ـ على ما حكي (١) عنه ـ لا يقول بالوجوب.

وكيف كان فهو ضعيف إن أريد به الوجوب ، لإطلاق أغلب النصوص والفتاوى ، المقتضي لكفاية المسمّى.

نعم ، في موثّقة عمّار ، المتقدّمة (٢) «وتجعل في الجرّة من الكافور نصف حبّة» لكن لم يعلم أنّ المراد من الحبّة المثقال كي تصلح مستندة لهذا القول. وفي رواية يونس ، المتقدّمة (٣) «وألق فيه حبّات كافور» وفي خبر مغيرة «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام غسّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسدر ثمّ بثلاثة مثاقيل من الكافور» (٤) فلا يبعد أن يكون ما في الرواية الأولى ـ أي نصف حبّة ـ أقلّ ما يتحقّق به المسمّى ، وما زاد عليه فهو من الفضل.

وكيف كان فالمدار على ما عرفت من عدم كونه من القلّة بحيث يستهلك ولا من الكثرة بحيث يخرج الماء من صفة الإطلاق.

ثمّ إنّه حكي (٥) عن جماعة من القدماء أنّه يؤخذ من جلال الكافور ، بل ربما حكي عن أكثر القدماء (٦) ذلك.

والمراد به ـ كما قيل (٧) ـ الخام الذي لم يطبخ.

وأرسل عن أبي علي ولد الشيخ أنّ الكافور صمغ يقع من شجر ، وكلّما كان جلالا ـ وهو الكبار من قطعه ـ لا حاجة له إلى النار ، ويقال له : الخام ، وما يقع من

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣٠.

(٢) في ص ١٧٧.

(٣) في ص ١٧٤.

(٤) التهذيب ١ : ٤٥٠ ـ ٤٥١ / ١٤٦٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١١.

(٥) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣١.

(٦) كما في جواهر الكلام ٤ : ١٣١.

(٧) كما في جواهر الكلام ٤ : ١٣١.

١٨٣

صغاره في التراب فيؤخذ فيطرح في قدر ويغلى فذلك لا يجزئ في الحنوط (١). انتهى.

قيل : ولعلّ منشأ ذلك ما يقال : إنّ مطبوخه يطبخ بلبن الخنزير ليشتدّ بياضه به أو بالطبخ ، وربما يحصل له العلم العاديّ بالنجاسة من حيث إنّ الطابخ من الكفّار (٢).

لكن ظاهر الأخبار إجزاء المطبوخ ، ووجهه : عدم حصول اليقين بالنجاسة ، ولذا ما فصّل المتأخّرون.

وربما حكم باستحباب الخام. ولعلّ وجهه : الخروج من الخلاف وشبهة النجاسة (٣). انتهى.

ثمّ إنّ الماء القراح هو الخالص الغير المشوب ، ومن هنا ربما ظنّ عدم جواز التغسيل بماء السيل ونحوه ممّا مازجه شي‌ء من الطين ونحوه.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ المتبادر منه في المقام ـ بقرينة المقابلة بماء السدر والكافور ، وغيرها من القرائن ـ ليس إلّا إرادة الخالص عن الخليطين ، كما يؤيّده ما في بعض (٤) الأخبار من الأمر بغسله الثالث بالماء مطلقا من دون توصيفه بالقراح ، والله العالم.

وهل خلوصه عن الخليطين رخصة أم عزيمة؟ فيه وجهان بل قولان أحوطهما : الثاني ، بل قد يؤيّده الأمر بغسل الإجّانة واليدين من ماء السدر و

__________________

(١) كما في مفتاح الكرامة ١ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٢) كما في جواهر الكلام ٤ : ١٣١.

(٣) قوله : «لكن ظاهر الأخبار .. النجاسة» من كلام صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣١.

(٤) التهذيب ١ : ٤٤٦ / ١٤٤٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٦.

١٨٤

الكافور.

لكن في رواية معاوية بن عمّار وعبد الله بن عبيد ـ المتقدّمتين (١) ـ الأمر بطرح سبع ورقات صحاح من ورق السدر فيه.

ولعلّه لا ينافي ذلك ، فلا يبعد استحبابه ، والله العالم.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ ظاهر الأخبار وجوب الترتيب فيما بين أجزاء كلّ غسل كالأغسال ، وقضيّته الاشتراط مطلقا ولو في حال السهو والنسيان ، فلو أخلّ به ولو سهوا ، رجع إلى ما يحصل معه الترتيب.

فما عن التذكرة والنهاية ـ من احتمال الإجزاء لو أخلّ بالترتيب (٢) ـ ضعيف خصوصا لو أراد الأعمّ من الإخلال عمدا.

والأظهر عدم الاجتزاء بغسله ارتماسا ، لإطلاق الأخبار الآمرة بالترتيب ، السالمة عن دليل حاكم عليه.

وعن جملة من المتأخّرين القول بجواز الارتماس (٣) ، لقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن مسلم : «إنّه مثل غسل الجنب» (٤) وفي جملة من الأخبار (٥) أنّه عينه.

ونوقش فيه : بعدم ظهور التشبيه في العموم على وجه يشمل ذلك ، فيبقى

__________________

(١) في ص ١٨٢.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٨٩ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤ ، الفرع «ح» ونهاية الإحكام ٢ : ٢٢٤.

(٣) الحاكي عنهم هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣٤ ، وانظر : قواعد الأحكام ١ : ١٨ ، والذكرى ١ : ٣٤٥ ، وجامع المقاصد ١ : ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، ورياض المسائل ١ : ٣٦٣.

(٤) التهذيب ١ : ٤٤٧ / ١٤٤٧ ، الإستبصار ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ / ٧٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٥) منها : ما في الكافي ٣ : ١٦١ ـ ١٦٣ / ١ ، وعلل الشرائع : ٣٠٠ (الباب ٢٣٨) الحديث ٥ ، والوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢ و ٨.

١٨٥

الأصل ـ يعني قاعدة الاشتغال ـ سليما ، ومعتضدا بظاهر الأخبار المفصّلة لكيفيّته.

قال شيخنا المرتضى رحمه‌الله ـ بعد نقل المناقشة المذكورة ـ : وفيه : أنّ هذا إنّما يتطرّق في صحيحة ابن مسلم ، الدالّة على التشبيه دون المستفيضة الدالّة على أنّ الميّت جنب يغسّل غسل الجنابة ، وكذا الأخبار الدالّة على أنّ المقصود تنظيف الميّت ، فالقول باجتزاء الارتماس لا يخلو عن قوّة وإن كان الأحوط خلافه (١). انتهى.

وفيه : أنّ هذه الأخبار قاصرة عن إثبات المدّعى.

أمّا ما دلّ على أنّ المقصود تنظيف الميّت : فواضح ، للعلم بعدم كفاية مطلقة.

وأمّا ما دلّ على أنّ الميّت جنب فغسله غسل الجنابة : ففيه أنّه لم يدلّ دليل على جواز الارتماس في غسل الجنابة على وجه يعمّ مثل الفرض ، لجواز أن يكون لخصوص الجنب الميّت خصوصيّة تقتضي إيجاد غسله بكيفيّة خاصّة ، ألا ترى أنّه يجب فيه الغسل بالسدر والكافور ، ولا يجب ذلك في الجنب الحيّ ، فلا امتناع في أن يجب غسله مترتّبا دون غيره ولو لأجل احترام الميّت ، فالقول بجواز الارتماس موقوف على القطع بإلغاء الخصوصيّة أو عموم دليل يقتضي جواز الارتماس ولو في هذا الفرد ، وأنت خبير بعدم القطع بذلك وعدم عموم كذلك ، فالأظهر عدم الجواز ، والله العالم.

(وفي) وجوب (وضوء الميّت) قبل الغسل (تردّد) كما نسب (٢) إلى

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٢٩٠.

(٢) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٤٤٤ ، وانظر : الكافي في الفقه : ١٣٤ ، والمقنعة : ٧٦ ، والمهذّب ١ : ٥٨.

١٨٦

أبي الصلاح وظاهر المفيد وابن البرّاج ، للأمر به في جملة من الأخبار :

منها : رواية عبد الله بن عبيد ، المتقدّمة (١).

ومنها : خبر حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «الميّت يبدأ بفرجه ثمّ يوضّأ وضوء الصلاة» (٢) الحديث.

ومرسلة أبي خيثمة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ أبي أمرني أن أغسّله إذا توفّي ، وقال لي : اكتب يا بنيّ ، ثمّ قال : إنّهم يأمرونك بخلاف ما تصنع ، فقل لهم :هذا كتاب أبي ولست أعدو قوله» ثمّ قال : «تبدأ فتغسل يديه ثمّ توضّئه وضوء الصلاة ثمّ تأخذ ماء وسدرا» (٣) الحديث.

وقد يستدلّ له أيضا : بعموم قوله عليه‌السلام : «كلّ غسل معه وضوء إلّا غسل الجنابة» (٤).

وفيه : أنّ المقصود بهذه الرواية إمّا بيان عدم الاجتزاء بما عدا غسل الجنابة من الأغسال عن الوضوء الواجب للصلاة ونحوها ، فهو أجنبيّ عن المقام ، أو المقصود بها بيان استحباب الوضوء تعبّدا قبل كلّ غسل ، كما تقدّم الكلام فيه في غسل الحيض ، فلا يكون دليلا للوجوب ، بل هو ممّا يؤيّد حمل الأخبار المتقدّمة

__________________

(١) في ص ١٨٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٠٢ / ٨٧٩ ، الإستبصار ١ : ٢٠٧ / ٧٢٧ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ٣٠٣ / ٨٨٣ ، الإستبصار ١ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ / ٧٣٠ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

(٤) التهذيب ١ : ١٤٣ / ٤٠٣ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

١٨٧

على الاستحباب ، كما حكي القول به عن بعض القدماء وجملة من المتأخّرين (١) ، بل في الحدائق : والظاهر أنّ المشهور بين المتأخّرين هو الاستحباب (٢).

ويؤيّده بل يدلّ عليه خلوّ جلّ الأخبار البيانيّة عن ذكر الوضوء مع اشتمالها على جملة من المستحبّات على ما عرفت تقريبه من أنّ خلوّ مثل هذه الأخبار يدلّ على عدم كونه من الأركان خصوصا صحيحة يعقوب بن يقطين ، المتقدّمة (٣) ، فإنّ ترك تعرّض الإمام عليه‌السلام لذكر الوضوء وبيان أنّ «غسل الميّت تبدأ بمرافقه» الحديث ، كالتصريح بعدم وجوبه ، بل ربما يستشعر من ذلك عدم استحبابه أيضا حيث تعرّض لغسل المرفقين مع كونه مستحبّا ، وأعرض عن ذكر الوضوء.

لكن لا ينبغي الالتفات ـ في مقابل الأخبار المتقدّمة ، بل ربما يتأمّل في إشعاره بذلك ـ بورودها في مقام توهّم الوجوب واعتباره في صحّة الغسل ، كما هو الظاهر ممّا حكي (٤) عن عامّة العامّة من موافقتهم لما في الأخبار المتقدّمة ، فلا يفهم إلّا عدم اعتباره في الغسل.

وغاية ما يمكن ادّعاء استشعاره منه عدم كونه جزءا مستحبّا للغسل ، لا عدم كونه مستحبّا نفسيّا أمامه.

نعم ، يفهم من السكوت في مثل المقام عدم كونه واجبا مطلقا ولو نفسيّا ، كما لا يخفى.

وبذلك كلّه ظهر لك أنّ (الأشبه أنّه لا يجب) لكنّه مستحبّ ، للأخبار

__________________

(١) راجع : مفتاح الكرامة ١ : ٤٣٣.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٤٤٥.

(٣) في ص ١٧٨.

(٤) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣٥.

١٨٨

المتقدّمة.

ولا ينافيه ما قيل (١) من إعراض المشهور عن هذه الروايات ، فإنّ المقصود إعراضهم عن ظاهرها من الالتزام بالوجوب.

وعن السرائر نسبة الرواية الدالّة عليه إلى الشذوذ (٢).

وعن المبسوط : أنّ عمل الطائفة على ترك ذلك (٣) ، يعني أنّهم لم يعملوا بظاهرها من الوجوب ، لا أنّهم طرحوها رأسا ، كما يدلّ على ذلك ما حكي عن الشيخ في خلافه أنّه قال : وفي أصحابنا من قال : إنّه يستحبّ الوضوء قبله (٤) ، أي قبل الغسل.

وعن نهايته أنّه قال : وقد رويت أحاديث أنّه ينبغي أن يوضّأ الميّت قبل غسله ، فمن عمل بها كان أحوط (٥).

وكيف كان فدعوى شذوذ هذه الأخبار بعد اشتهار العمل بها بين المتأخّرين ممّا لا يصغى إليه خصوصا في إثبات الاستحباب الذي يكفيه المسامحة.

والعجب من صاحب الحدائق حيث نسب القول بالاستحباب إلى المشهور بين المتأخّرين ، وأنكر عليهم بأنّه لا وجه له ، لأنّ ظاهر تلك الأخبار الوجوب ، ولا معارض لها إلّا إطلاق غيرها من الأخبار ، ومقتضى القاعدة الجمع

__________________

(١) القائل هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣٥.

(٢) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣٥ ، وانظر : السرائر ١ : ١٥٩ ، والمبسوط ١ : ١٧٨.

(٣) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٣٥ ، وانظر : السرائر ١ : ١٥٩ ، والمبسوط ١ : ١٧٨.

(٤) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٤٤٥ ، وانظر : الخلاف ١ : ٦٩٣ ، المسألة ٤٧٢.

(٥) الحاكي عنها هو البحراني في الحدائق الناضرة ٣ : ٤٤٤ ، وانظر : النهاية : ٣٥.

١٨٩

بينها بالتقييد ، فالمتّجه إمّا القول بالوجوب أو طرح تلك الأخبار ، وحملها على التقيّة ، وقد قوّى الأخير في ذيل كلامه.

واعترض على نفسه في مطاوي كلماته بقوله : فإن قيل : الحمل على التقيّة إنّما يكون عند وجود المعارض لها. قلنا : قد تكاثرت الأخبار بعرض الخبر على مذهب العامّة والأخذ بخلافه وإن كان لا معارض له ثمّة حتى رووا أنّه إذا احتاج إلى معرفة حكم من الأحكام وليس في البلد من يفتيه من علماء الإماميّة ، يسأل فقهاء العامّة ويأخذ بخلافهم (١) ، وقد ورد أيضا : «إذا رأيت الناس مقبلين على شي‌ء فدعه» (٢) انتهى.

وفيه أوّلا : ما أشرنا إليه مرارا من أنّ مقتضى قاعدة الجمع في مثل هذه الموارد هو حمل مثل هذه الأوامر على الاستحباب ، فإنّه أهون من تنزيل مثل هذه الأخبار البيانيّة الكثيرة على الإهمال والإجمال كي لا ينافيها التقييد خصوصا مع ما في أغلب الأخبار من الشواهد على عدم كونها مسوقة لبيان خصوص الأجزاء الواجبة ، ولذا لم يجمع أحد من الأصحاب بين أخبار الباب بتقييد بعضها بما اشتمل عليه غيره ، بل لو بني على مراعاة قاعدة الإطلاق والتقييد في أخبار الباب ، لحدث في الإسلام قول لم يذهب إليه أحد من المسلمين.

وثانيا : أنّ ما التزم به من حمل الأخبار السالمة من المعارض ـ بعد تسليم سندها ـ على التقيّة لمجرّد الموافقة من حيث هي يوشك أن يكون مخالفا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٥ / ١٠ ، التهذيب ٦ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ / ٨٢٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣.

(٢) الحدائق الناضرة ٣ : ٤٤٧.

١٩٠

للضرورة فضلا عن الإجماع وغيره ، فهل سمع أحد أن يطرح أحد من الشيعة أقوال الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام لمجرّد موافقة العامّة؟ كيف! وكثير من أخبارنا التي نعمل بها غير مخالف لهم جزما ، بل لو كانت موافقة العامّة موجبة للطرح من دون معارض ، لما جاز العمل بشي‌ء من الروايات الواصلة إلينا إلّا بعد عرضه على مذهبهم وإحراز مخالفته لهم ، وهو بديهيّ الفساد.

مضافا إلى اقتضائه امتناع تأخّر مرتبة الترجيح بمخالفة العامّة عند تعارض الخبرين عن سائر المرجّحات ، كما في جملة من الأخبار العلاجيّة ، ضرورة خروج الموافق على هذا التقدير من الحجّيّة في حدّ ذاته ، فكيف يقدّم على الخبر المخالف الجامع للشرائط (١) عند أشهريّته أو أعدليّته راويه!؟

وأمّا الأخبار الآمرة بعرض الخبر على مذهبهم فلا بدّ من توجيهها بما لا ينافي سائر الأدلّة ، كما هو واضح.

(ولا يجوز الاقتصار على أقلّ من الغسلات المذكورة) كما عرفته مفصّلا (إلّا عند الضرورة) كما لو لم يجد إلّا ماء غسلة واحدة أو غسلتين ، فيقتصر حينئذ على الأقلّ ، ولا يجوز ترك الغسل رأسا ، للاستصحاب ، وقاعدة الميسور ، و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه».

لكن ربما يخدش في جريان الاستصحاب ـ بناء على كون الأغسال الثلاثة مجموعها عملا واحدا ـ بأنّ وجوب البعض حال التمكّن كان غيريّا ، وهو فعلا معلوم الانتفاء ، والوجوب النفسي الذي نقصد بالاستصحاب إثباته مشكوك الحدوث.

__________________

(١) في «ض ٧ ، ٨» : «لشرائط الحجّيّة».

١٩١

ويدفعه ـ بعد الغضّ عن أصل البناء من كونه رجما بالغيب ـ عدم ابتناء أمر الاستحباب على هذا النحو من التدقيقات ، ودورانه مدار مساعدة العرف ، وهي في المقام متحقّقة ، كما يتّضح لك ذلك بمراجعة ما أسلفناه في وضوء العاجز.

كما أنّه يظهر بما ذكرناه في ذلك المبحث في تنقيح مجرى قاعدة الميسور و «ما لا يدرك» : أنّ المقام من أظهر مجاريها ، خصوصا بعد الاعتضاد بفتوى من تعرّض له ، فلا إشكال فيه في الجملة ، وإنّما الإشكال في مقامين :

أحدهما : أنّه إذا لم يتمكّن إلّا من غسل واحد ، فهل هو مخيّر بين الأغسال فيأتي بأيّها شاء ، أو يتعيّن عليه الأوّل ، أي بماء السدر ، أو الأخير؟ وكذا لو تمكّن من غسلين ، فهل هو مخيّر في ترك أحدها مطلقا ، أو يختصّ الأخير بالترك ، أو يتعيّن عليه فعل الأخير وأحد الأوّلين مخيّرا ، أو خصوص الأوّل فيختصّ الوسط بالسقوط؟ وجوه : من أنّها واجبات متعدّدة وقد تعذّر بعضها لا على التعيّن ، فله الخيار في تعيّن المتعذّر ، وكون بعضها مترتّبا على بعض في الوجود لا أثر له بعد كون المجموع في عرض واحد من حيث المطلوبيّة. ومن أنّ الأخير أهمّ في نظر الشارع على ما قيل (١) ، فيتعيّن فعله ، إذا لا يحكم العقل بالتخيير في مثل الفرض. ومن أنّ مقتضى القواعد : سقوط ما تعلّق به التعذّر أوّلا وبالذات ، وهو ما عدا الأوّل ولو بملاحظة كونه أسبق في الوجود من حيث الرتبة.

لكن يتوجّه على هذا الوجه الأخير ـ الذي به يتّجه أوسط الأقوال ـ أنّه لو تمّ ذلك ، لاقتضى سقوط الأخير مطلقا ولو على تقدير ثبوت أهمّيّته ، والالتزام به في غاية الإشكال ، بل لا ينبغي الارتياب في فساده.

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٤ : ١٣٦ ، والذكرى ١ : ٣٤٥.

١٩٢

وسرّه ما أشرنا إليه من أنّه لم يتعلّق التعذّر بشي‌ء منها بخصوصه ، وإنّما تعلّق ببعضها على سبيل البدل.

وكونها مترتّبة في الوجود الخارجي في مقام الامتثال لا يقتضي تعلّق العجز بخصوص الأخير ، وإنّما يتعلّق العجز به بالخصوص على تقدير فعل الأوّل ، فإلزامه بفعل الأوّل كي يتحقّق العجز عن خصوص الأخير مع كونه قبل الفعل أحد الأفراد الذي تعلّق به العجز على سبيل البدل أوّل الكلام.

نعم ، لو لم تثبت أهمّيّة بعضها ، فلا شبهة في أنّ الأحوط الإتيان بما هو الأوّل فالأوّل ولو على تقدير احتمال أهمّيّة الأخير ، فإنّ مجرّد الاحتمال لا يصلح دليلا لوجوب ترك الأوّل مقدّمة لتحصيله.

نعم ، يصلح وجها لأولويّة اختياره لو لا معارضته بمخالفة الاحتياط من جهة أخرى.

فالأحوط في مثل الفرض هو اختيار الأوّل فالأوّل حتى يتعلّق العجز بخصوص ما يتركه ، بل لا يخلو القول بوجوبه عن وجه خصوصا لو احتملنا كون السابق شرطا في صحّة اللاحق كما فيما نحن فيه ، فالأحوط ـ لو لم نقل بأنّه الأقوى ـ أنّه لو لم يتمكّن إلّا من غسل واحد ، أتى بذلك الغسل بماء السدر. وإن تمكّن من غسل آخر أيضا ، أتى به بماء الكافور.

ودعوى كون الغسل بالماء القراح أهمّ ، عريّة عن الشاهد.

وما يقال من أنّ التطهير يحصل به ، ففيه : المنع إن أريد كونه السبب التامّ ، وإن أريد كونه الجزء الأخير الذي به يتمّ السبب ، فلا يثبت به الأهمّيّة خصوصا لو لم نشترط فيه خلوصه عن السدر والكافور وقلنا بكون الخلوص رخصة

١٩٣

لا عزيمة ، فلا ينبغي الارتياب في أهمّيّة كلّ من الأوّلين ، لإفادتهما فائدة الأخير مع زيادة.

لكنّ الأحوط أن لا ينوي بفعله إلّا امتثال ما هو الواجب عليه في الواقع ، كما أنّ الأحوط ـ على تقدير عدم تمكّنه إلّا من غسل واحد ـ هو الإتيان به مشتملا على السدر والكافور بقصد امتثال الواجب الواقعي ، بل لا يبعد القول بوجوبه ، لإمكان دعوى كون المجموع عملا واحدا ، وكون الغسل المشتمل على الخليطين ميسور الجميع ، الذي لا يسقط بمعسوره ، بل هذا هو الأحوط وإن قلنا بكون الخلوص عزيمة ، إذ غاية ما يمكن ادّعاؤه إنّما هو اشتراط خلوص الغسل بالماء القراح عن الخليطين ، وبماء الكافور عن السدر ، دون عكسه ، فله طرح شي‌ء من الكافور في ماء السدر الذي يغسّل به ، فلا ينبغي تركه في مثل المقام الذي يحتمل قويّا وجوبه ، والله العالم.

ثانيهما : أنّه إذا اقتصر على بعض الأغسال للضرورة ، فهل يترتّب عليه طهارة البدن وغيرها ممّا هو أثر للأغسال الثلاثة أم لا؟ فإن جعلنا الأغسال الثلاثة مجموعها عملا واحدا وقلنا بكون المأتيّ به ميسور ذلك العمل ، فالمتّجه ترتّب الآثار عليه ، لأنّ الناقص في مقام تعذّر التامّ تامّ بمقتضى قاعدة الميسور ، نظير وضوء صاحب الجبيرة وغيرها.

وإن جعلناها تكاليف عديدة ، وقلنا بأنّ كلّا منها تكليف مستقلّ وإن ترتّب عليها من حيث المجموع أيضا بعض الآثار كارتفاع النجاسة الحكميّة ونحوها ، فالأظهر عدم ترتّبها عليه ، فلا بدّ حينئذ من ضمّ التيمّم بدلا من الفائت.

ولو كان الفائت غسلين ، هل يكفي تيمّم واحد عنهما أم لا بدّ من التعدّد؟

١٩٤

وجهان متفرّعان على ما سيأتي في حكم ما إذا تعذّر أصل الغسل لتناثر جلد ونحوه.

(ولو عدم الكافور والسدر) قيل : (غسّل بالماء القراح) مرّة واحدة حيث سقط التكليف بالأوّلين لأجل التعذّر.

(وقيل : لا تسقط الغسلة بفوات ما يطرح فيها) فإنّ الغسل بماء السدر والكافور وإن تعذّر من حيث الخصوصيّة لكن لم يتعذّر مطلقه ، فيجب الإتيان به ، لقاعدة الميسور ، بل وقاعدة «ما لا يدرك كلّه» بناء على كون السدر والكافور من قبيل الأجزاء للماهيّة المأمور بها ، لا الشرائط ، بل الاستصحاب أيضا ببعض التوجيهات التي لا تخلو عن مناقشة.

وفي الرياض وجّهه بما لا يخلو عن نظر ، فإنّه ـ بعد أن علّل القول الأوّل بفقد المأمور به عند فقد جزئه ـ قال : وهو ـ بعد تسليمه ـ كذلك إذا دلّت الأخبار على الأمر بالمركّب ، وليس كذلك ، لدلالة أكثرها ـ وفيها الصحيح وغيره ـ على الأمر بتغسيله بماء وسدر ، فالمأمور به شيئان متمايزان وإن امتزجا في الخارج ، وليس الاعتماد في إيجاب الخليطين على ما دلّ على الأمر بتغسيله بماء السدر خاصّة حتى يرتفع الأمر بالمضاف بارتفاع المضاف إليه ، وبعد تسليمه لا نسلّم فوات الكلّ بفوات الجزء بعد قيام المعتبرة بإتيان الميسور ، وعدم سقوطه بالمعسور ، وضعفها بعمل الأصحاب طرّا مجبور (١). انتهى.

وفيه ـ بعد الغضّ عن بعض ما فيه ـ : أنّه إن أريد من كون المأمور به شيئين متمايزين كونهما واجبين مستقلّين من دون ارتباط لأحدهما بالآخر ، وإنّما يتحقّق امتزاجهما في الخارج من باب الاتّفاق لا اللزوم والاشتراط كي لا يكون

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ٣٦٥.

١٩٥

تعذّر بعض سببا لارتفاع التكليف عن الآخر ، ففيه ما لا يخفى ، ضرورة عدم كونهما كذلك ، وإنّما المأمور به هو الغسل بماء فيه شي‌ء من السدر ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يتأدّى المقصود بهذه العبارة أو بقوله : اغسله بماء السدر ، أو : اغسله بماء وسدر ، فإنّ المراد بجميع هذه العبائر ليس إلّا إيجاب إيجاد غسل واحد بماء وسدر ، فإذا فقد أحد الجزئين ، يمتنع حصول المأمور به في الخارج ، فالقول بوجوب الغسل بالماء القراح بدلا من ماء السدر والكافور يحتاج إلى دليل آخر غير هذه الأدلّة التي لا يفهم منها إلّا وجوب الغسل المقيّد بكونه بماء السدر.

وعمدة ما يصحّ الاستناد إليه إنّما هي قاعدة الميسور ، لكنّها أيضا غير سالمة من الخدشة ، إذ قد عرفت مرارا أنّه يشترط في إجراء القاعدة كون المأتيّ به من مراتب المأمور به بأن يكون عين تلك الماهيّة بنحو من المسامحة العرفيّة بأن لا يكون الفائت من الأركان التي يتقوّم بها الماهيّة عند العرف. ولا يبعد دعوى أنّ الخليطين بنظر العرف من الأركان ، بل لا يبعد دعوى قضائهم ـ ولو بواسطة المناسبات المغروسة في أذهانهم ـ كون استعمالهما متأصّلا بالطلب ، ولذا لم نستبعد شهادتهم بوجوب طرح الخليطين في الماء الذي لم يكف إلّا لغسل واحد.

فالإنصاف أنّ القول الأوّل أوفق بالقواعد (و) لكن مع ذلك (فيه تردّد) ولو لأجل ما ورد في حكم المحرم (١) من أنّه كالمحلّ في الغسل وغيره إلّا أنّه لا يقربه الكافور ، فإنّ مقتضاه وجوب تغسيل المحرم بالماء القراح بدلا من ماء الكافور ، فلا يبعد دعوى القطع بعدم الفرق بين التعذّر الشرعي والعقلي ، ولذا

__________________

(١) راجع : التهذيب ٥ : ٣٨٤ / ١٣٣٨ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

١٩٦

استدلّ بعضهم لوجوب الأغسال الثلاثة بذلك ، معلّلا بأنّ المتعذّر عقلا كالمتعذّر شرعا.

لكن ناقش فيه شيخنا المرتضى رحمه‌الله : بأنّ المتعذّر شرعا كالمتعذّر عقلا دون العكس ، مع أنّ الحكم الثابت في مورد خاصّ لتعذّر شرعي لا يسري إلى التعذّر العقلي (١). انتهى.

ويتوجّه على ما ذكره ـ من منع كون المتعذّر العقلي كالشرعي ـ أنّ حكمهم بأنّ التعذّر الشرعي كالعقلي ليس حكما تعبّديّا مأخوذا من آية أو رواية حتى يتكلّم في مقدار دلالة الدليل ، بل هو بيان قاعدة عقليّة ، وهي : أنّه إذا كان العذر علّة لثبوت حكم ، فلا فرق بين أن يكون العذر عذرا واقعيّا حقيقيّا أو عذرا ناشئا من أمر شرعي ، ومن المعلوم أنّه لو ثبت حكم للمتعذّر شرعا من حيث كونه متعذّرا ، لثبت ذلك الحكم للمتعذّر عقلا بالأولويّة القطعيّة العقليّة.

نعم ، يتوجّه على الاستدلال : ما ذكره أخيرا من احتمال مدخليّة خصوصيّة المورد في الحكم.

لكنّ الإنصاف ضعف هذا الاحتمال في الغاية ، فالقول بالأغسال الثلاثة لو لم نقل بأنّه أقوى فلا ريب في أنّه أحوط.

هذا كلّه من حيث الحكم التكليفي ، وأمّا الحكم بطهارة بدنه وسقوط الغسل بمسّه فهو مخالف للأصل ، بل قضيّة الاستصحاب بقاء ما كان على ما كان ما لم يعلم المزيل ، فقبل تحقّق الأغسال الثلاثة محكوم بنجاسة بدنه ، ووجوب الغسل بمسّه.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٢٩١.

١٩٧

وأمّا بعدها فهل يحكم بطهارة البدن وسقوط غسل المسّ؟ وجهان ، بل قولان ، أظهر هما : ذلك ، إذ لا شبهة نصّا وإجماعا في أنّ فقد الخليطين ليس رافعا للتكليف بغسل الميّت ، فالمأتيّ به هو ميسور مطلق غسله من غير فرق بين أن نقول بكفاية غسل واحد وعدمها ، إذ لا يوجب ذلك التشكيك في كون المأتيّ به ميسور المتعذّر ، وقد تقرّر في مسألة أولي الأعذار في باب الوضوء أنّه يترتّب على العمل الناقص الذي أوجب الاضطرار صحّته جميع آثار ذلك العمل على تقدير كونه تامّا.

نعم ، لو قلنا بأنّ كلّ غسل عمل مستقلّ له أثر خاصّ يحصل به مرتبة من الطهارة مطلوبة لذاتها وإن حصلت الطهارة المطلقة بتحقّق مجموع تلك المراتب لكن لا يرتبط بعضها ببعض بحيث يكون المأتيّ به ميسور الجميع ، بل المأتيّ به هو الغسل بالماء القراح الذي كان واجبا حال التمكّن لذاته ، وأمّا الغسلان الأخيران فأسقطهما التعذّر ، لاتّجه القول بعدم الرفع.

لكن يتوجّه عليه : أنّه بعد فرض طهوريّة كلّ من الغسلين لا مجال للتشكيك في كون مطلق الغسل بالماء ميسور هما ، فلا يسقط بالمعسور ، لأنّ السبب الأعظم ـ الذي يستند إليه الطهوريّة بنظر المتشرّعة ويدلّ عليه أخبارهم ـ إنّما هو الماء الذي يتقوّم بمطلقه ماهيّة الغسل ، وخصوصيّاته المعتبرة ـ ككونه بماء السدر أو الكافور ـ بمنزلة الأوصاف الغير المقوّمة ، ولذا نقول في المسألة الآتية ـ وهي ما لو تعذّر تغسيل الميّت رأسا ـ : إنّ المتّجه على هذا التقدير هو التيمّم بدلا من كلّ غسل ، مع أنّ التيمّم لا يكون بدلا منه إلّا من حيث كونه غسلا ، لا من حيث كونه بماء السدر والكافور ، فلا يشرع إلّا عند تعذّر مطلق الغسل ،

١٩٨

فليتأمّل.

وكيف كان فالأظهر أنّ فوات الخليطين ليس موجبا لسقوط التكليف بغسل الميّت ، الذي هو طهور له ، فالمأتيّ به هو ميسور المكلّف به يترتّب عليه أثر التامّ.

وبذلك ظهر لك وجّه آخر للقول بعدم سقوط الغسل بفوات ما يطرح فيه ، فإنّه يجب تطهير الميّت عن النجاسة ، فإذا توقّف القطع بالطهارة على الأغسال ، وجبت مقدّمة لها وإن لم نقل بوجوبها لذاتها من حيث الحكم التكليفي ، والله العالم.

ولو تجدّدت القدرة على الخليطين بعد الفراغ من غسله ، هل تجب إعادة ما لم تتوقّف على محرّم كنبش القبر ونحوه إن قلنا بحرمته في مثل الفرض؟

وجهان مبنيّان على ما تقدّم في مسألة أولي الأعذار في باب الوضوء ، وقد عرفت أنّ الأقوى عدم الإعادة ، والله العالم.

(ولو خيف من تغسيله) ولو بأن يصبّ عليه الماء صبّا ، كما في بعض (١) الروايات (تناثر جلده كالمحترق والمجدور ، يتيمّم بالتراب) بلا خلاف فيه ظاهرا ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن عليّ عليه‌السلام قال : «إنّ قوما أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : يا رسول الله مات صاحب لنا وهو مجدور ، فإن غسّلناه انسلخ ، فقال : يمّموه» (٢).

والمناقشة في سندها بعد تعبير الأصحاب بمتنها في فتاويهم ، الظاهر في

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٣٣ / ٩٧٥ و ٩٧٦ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١ و ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٣٣ / ٩٧٧ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٣.

١٩٩

اعتمادهم عليها ، ضعيفة.

ويدلّ عليه أيضا : عموم بدليّة التراب من الماء ، وأنّه أحد الطهورين.

ولا مجال للخدشة فيها : بعدم شمولها للمقام ، لاشتراك غير الماء معه في الطهوريّة بعد ما ورد في جملة من الأخبار من أنّه إنّما يغسّل الميّت لصيرورته جنبا بالموت وأنّ غسله إنّما هو غسل الجنابة (١) ، لأنّه حينئذ بمنزلة ما لو بيّن الشارع للجنابة سببا آخر غير السببين المعهودين ، فلا يشكّ حينئذ في قيام التيمّم مقام غسلها حال الضرورة بمقتضى عموم ما دلّ على أنّه أحد الطهورين ، وحيث علم أنّ غسله ليس إلّا غسل الجنابة يعلم أنّ اعتبار التعدّد وتشريك غير الماء معه في طهوريّته إنّما هو لخصوصيّة المورد ، كما لو أمر من كان في بدنه وسخ مانع من وصول الماء بإزالته بالدلك بحجر ونحوه قبل الغسل ، وأنّه لا يصحّ غسله إلّا بذلك ، فإنّ اعتبار هذا الشرط في صحّة غسله لا يمنع من شمول عموم البدليّة له.

نعم ، لو أوجب الشارع تغسيل الميّت تعبّدا لا من حيث كونه رافعا لحدثه الذي بيّن أنّه حدث الجنابة ، لاتّجه ما ذكر ، لكنّه خلاف ما يدلّ عليه المعتبرة المستفيضة.

هذا ، مضافا إلى اعتضاد شمول البدليّة لمثل المقام بفتوى الأصحاب بل إجماعهم.

وبهذا ظهر لك أنّ المتّجه كفاية تيمّم واحد بدلا من غسل الميّت ، الذي هو طهور له ، فإنّ مجموع الأغسال مع ما فيها من الخصوصيّات بمقتضى تلك الأخبار

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٦١ ـ ١٦٣ / ١ ، علل الشرائع : ٢٩٩ ـ ٣٠١ (الباب ٢٣٨) الحديث ٢ و ٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب غسل الميّت ، الأحاديث ٢ و ٦ و ٨.

٢٠٠