مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

ما لمن عزّى الثكلى؟ قال : أظلّه في ظلّي يوم لا ظلّ إلّا ظلّي» (١).

(وهي جائزة) أى مستحبّة (قبل الدفن وبعده) بإجماع منّا ، كما ادّعي نقله مستفيضا بل متواترا ، بل ومن غيرنا أيضا ، عدا ما حكي عن الثوري ، فكرهها بعد الدفن ، لأنّه خاتمة أمر الميّت (٢).

وفيه ما لا يخفى.

وعن ابن البرّاج (٣) منّا أيضا ما يقرب من المحكيّ عن الثوري.

ولا شبهة في فساده بعد مخالفته للإجماع وما تقتضيه إطلاقات الأخبار المعتضدة بشهادة العقل.

مضافا إلى خصوص ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن» (٤).

ومرسلة محمّد بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «التعزية الواجبة بعد الدفن» (٥).

ورواه الصدوق مرسلا عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : «التعزية الواجبة بعد الدفن» وقال : «كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة» (٦).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٢٦ / ١ ، ثواب الأعمال : ٢٣١ (باب ثواب عيادة المريض ..) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الدفن ، الحديث ٣.

(٢) المجموع ٥ : ٣٠٧ ، المغني ٢ : ٤٠٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٥٢.

(٣) الحاكي عنه هو الشهيد في الذكرى ٢ : ٤٣ ، وانظر : المهذّب ١ : ٦٤.

(٤) الكافي ٣ : ٢٠٤ / ٢ ، التهذيب ١ : ٤٦٣ / ١٥١٢ ، الإستبصار ١ : ٢١٧ / ٧٧٠ ، الوسائل ، الباب ٤٨ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

(٥) الكافي ٣ : ٢٠٤ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٤٨ من أبواب الدفن ، الحديث ٣.

(٦) الفقيه ١ : ١١٠ / ٥٠٤ و ٥٠٥ ، الوسائل ، الباب ٤٨ من أبواب الدفن ، الحديث ٤.

٤٢١

ومقتضاها كونها بعد الدفن أفضل ، ولذا صرّح غير واحد بأنّه يتأكّد استحبابها بعد الدفن.

(و) ليس للتعزية كيفيّة موظّفة ، بل تتأدّى السنّة بمطلق ما يتعزّى به أهل المصيبة بل قد سمعت التصريح في مرسلة الصدوق بأنّه (يكفي) من التعزية (أن يراه صاحبها).

لكنّ الأولى والأفضل أن يعزّيه بكونه من قضاء الله ، وأنّ ما أعدّه من الأجر خير له ممّا أخذ منه ، وأنّ الله تعالى إنّما يأخذ من الوالد وغيره أزكى ما عند أهله ليعظّم به أجر المصاب ، كما يدلّ عليه بعض (١) الروايات ، وأن يدعو له بأن يعظّم الله أجره ، وأن يعجّل الله عليه بالخلف الصالح ، وأن يترحّم على موتاه ، إلى غير ذلك من الفقرات المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام في تعزية أصحابهم وأشباهها ممّا يوجب الرضا بالمصيبة والصبر عليها.

وليس لاستحباب التعزية مدّة محدودة ، بل تستحبّ مطلقا ما دام بقاء الصدق عرفا.

اللهمّ إلّا أن يعرضها الكراهة لأجل الجهات الطارئة ، كما لو كانت التعزية موجبة لتذكّر المصيبة وزيادة حزن أهلها ونحو ذلك.

وأمّا رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس التعزية إلّا عند القبر ثمّ ينصرفون لا يحدث في الميّت حدث فيسمعون الصوت» (٢) فلا يبعد أن

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٠٥ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ٤٩ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٠٣ / ١ ، التهذيب ١ : ٤٦٣ / ١٥١١ ، الوسائل ، الباب ٤٨ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

٤٢٢

يكون المراد بها نفي استحباب البقاء عند القبر بعد الدفن ، لا نفي استحباب التعزية بعده مطلقا.

وكيف كان فلا بدّ من حمل هذه الرواية على ما لا ينافي ما تقدّم ، أو ردّ علمها إلى أهله ، والله العالم.

ثمّ إنّه قد تعارف في هذه الأعصار جلوس أهل المصيبة واجتماعهم أيّاما ثلاثة أو أقلّ أو أكثر لإقامة العزاء وورود المعزّين عليهم.

وقد يستشعر من بعض الروايات كون الأمر كذلك من الصدر الأوّل.

مثل : ما رواه زرارة وغيره ، قال : أوصى أبو جعفر عليه‌السلام بثمانمائة درهم لمأتمه ، وكان يرى ذلك من السنّة ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «اتّخذوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا» (١) إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بذلك.

لكنّه مع ذلك لم يثبت استحباب الكيفيّة المتعارفة بعنوانه المخصوص به وإن استحبّ للواردين الورود عليهم بقصد التعزية وغيرها من العناوين الراجحة ، كما أنّه استحبّ لهم ذلك أيضا لأجل سائر العناوين الراجحة ، كتعظيم الميّت وتحصيل الأجر له بدعاء المؤمنين وقراءة القرآن والاستغفار له وترحّمهم عليه إلى غير ذلك من العناوين المرجّحة للفعل ، الموجبة لاستحبابه ، والله العالم.

(ويكره فرش القبر بالساج إلّا عند الضرورة) كما صرّح به في المتن وغيره ، بل عن الذكرى ومجمع البرهان وجامع المقاصد وروض الجنان نسبته إلى

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢١٧ / ٤ ، وفيه : عن حريز أو غيره ، الوسائل ، الباب ٦٨ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

٤٢٣

الأصحاب (١) ، مشعرة بدعوى الإجماع عليه ، وكفى به دليلا في مثل المقام مسامحة.

ولا ينافيها مرسلة الصدوق قال : وقد روي عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام إطلاق في أن يفرش القبر بالساج ، ويطبق على الميّت الساج (٢) ، حيث لم يعلم دلالة ذاك المطلق المرويّ على سبيل الإجمال إلّا على الجواز في الجملة ، فلا ينافي الكراهة.

وربما علّلها بعض بكونه إتلاف مال غير مأذون فيه (٣).

وفيه ما لا يخفى ، مع أنّه لو صحّ دليلا ، لاقتضى الحرمة دون الكراهة.

هذا في غير مقام الضرورة ، بأن تكون الأرض نديّة أو نحو ذلك ، وأمّا عند الضرورة فيجوز من دون كراهة ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى الأصل ـ رواية عليّ بن محمّد القاساني ، قال : كتب عليّ بن بلال إلى أبي الحسن عليه‌السلام أنّه ربما مات الميّت عندنا وتكون الأرض نديّة فيفرش القبر بالساج أو يطبق عليه ، فهل يجوز ذلك؟ فكتب «ذلك جائز» (٤).

(و) يكره (أن يهيل ذو الرحم على رحمه) التراب ، كما يدلّ عليه موثّقة عبيد بن زرارة ، قال : مات لبعض أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ولد ، فحضر أبو عبد الله عليه‌السلام ، فلمّا الحد تقدّم أبوه فطرح عليه التراب ، فأخذ أبو عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الحاكي عنها هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٥٠٤ ، وانظر : الذكرى ٢ : ٢٣ ، ومجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٤٩٥ ، وجامع المقاصد ١ : ٤٤٨ ، وروض الجنان : ٣١٨.

(٢) الفقيه ١ : ١٠٨ / ٤٩٩ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الدفن ، الحديث ٣.

(٣) كما في جواهر الكلام ٤ : ٢٣٣.

(٤) الكافي ٣ : ١٩٧ / ١ ، التهذيب ١ : ٤٥٦ / ١٤٨٨ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

٤٢٤

بكفّيه وقال : «لا تطرح عليه التراب ومن كأنه منه ذا رحم فلا يطرح عليه التراب ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يطرح الوالد أو ذو رحم على ميّته التراب» فقلنا : يا ابن رسول الله أتنهانا عن هذا وحده؟ فقال : «أنهاكم أن تطرحوا التراب على ذوي أرحامكم ، فإنّ ذلك يورث القسوة في القلب ، ومن قسا قلبه بعد من ربّه» (١).

(و) يكره (تجصيص القبور) والبناء عليها وتطيينها ، كما يدلّ عليه رواية عليّ بن جعفر ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال : «لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه» (٢).

ولا يبعد أن يكون المراد بتطيينه تطيينه من غير طينه ، كما يدلّ عليه رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تطيّنوا القبر من غير طينه» (٣).

وروايته الأخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يزاد على القبر تراب لم يخرج منه» (٤).

ويدلّ على كراهة التجصيص أيضا خبر الحسين بن زيد عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث المناهي أنّه «نهى أن تجصّص

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٩٩ / ٥ ، التهذيب ١ : ٣١٩ / ٩٢٨ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ٤٦١ / ١٠٥٣ ، الإستبصار ١ : ٢١٧ / ٧٦٧ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٢٠١ / ١ ، التهذيب ١ : ٤٦٠ / ١٤٩٩ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

(٤) الكافي ٣ : ٢٠٢ / ٤ ، التهذيب ١ : ٤٦٠ ـ ٤٦١ / ١٥٠٠ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

٤٢٥

المقابر» (١).

ومرفوعة القاسم بن عبيد ـ المرويّة عن معاني الأخبار ـ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه «نهى عن تقصيص القبور» قال : وهو التجصيص (٢).

لكن قد ينافيها رواية يونس بن يعقوب ، قال : لمّا رجع أبو الحسن موسى عليه‌السلام من بغداد ومضى إلى المدينة ماتت له ابنة ب «فيد» (٣) ، فدفنها وأمر بعض مواليه أن يجصّص قبرها ، ويكتب على لوح اسمها ويجعله في القبر (٤).

فيحتمل قويّا اختصاص الكراهة بما عدا قبور أرباب الشرف والفضيلة في الدين ممّن أحبّ الله تعالى بقاء رسمه كي يفوز المسلمون بزيارته والتبرّك بقبره ، والله العالم.

ويدلّ على كراهة البناء على القبر ـ مضافا إلى ما عرفت ـ خبر يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصلّى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه» (٥).

ورواية جرّاح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تبنوا على القبور ولا تصوّروا سقوف البيوت فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كره ذلك» (٦).

ورواية ابن القدّاح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢ / ١ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الدفن ، الحديث ٤.

(٢) معاني الأخبار : ٢٧٩ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الدفن ، الحديث ٥.

(٣) الفيد : منزل بطريق مكة. معجم البلدان ٤ : ٢٨٢.

(٤) الكافي ٣ : ٢٠٢ / ٣ ، التهذيب ١ : ٤٦١ / ١٥٠١ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

(٥) التهذيب ١ : ٤٦١ / ١٥٠٤ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

(٦) التهذيب ١ : ٤٦١ / ١٥٠٥ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الدفن ، الحديث ٣.

٤٢٦

بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هدم القبور وكسر الصور» (١).

وخبر السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة فقال : لا تدع صورة إلّا محوتها ولا قبرا إلّا سوّيته ولا كلبا إلّا قتلته» (٢).

(و) يكره أيضا (تجديدها) بعد اندراسها ، كما صرّح به جملة من الأصحاب ، وكفى به دليلا من باب المسامحة.

وربما يؤيّدها النهي عن تجصيص القبور والبناء عليها.

ويؤيّدها أيضا بل يدلّ عليها خبر الأصبغ بن نباتة ، قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام» (٣) بناء على كون «جدّد» بالجيم ودالين مهملتين ، لكنّ الرواية مجملة لفظا ، محتملة لأمور حيث نقلها الشيخ وغيره ـ على ما في الوسائل (٤) ـ عن الصفّار أنّه رواها «جدّد» بالجيم والدال ، وأنّه قال : «لا يجوز تجديد القبر ولا تطيين جميعه بعد مرور الأيّام» وعن سعد بن عبد الله أنّه رواها «حدّد» بالحاء الغير المعجمة ، يعني به «من سنّم قبرا» وعن البرقي أنّه رواها «من جدّث قبرا» بالجيم والثاء. وعن المفيد أنّه «خدّد» بالخاء المعجمة والدالين.

ومع هذه الاحتمالات لا تنهض لإثبات شي‌ء ، لكنّها لا تخلو عن التأييد خصوصا مع احتمال كون ما نقله الشيخ عن الصفّار رواية أخرى.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٥٢٨ / ١١ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب الدفن ، الحديث ٦.

(٢) الكافي ٦ : ٥٢٨ / ١٤ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٤٥٩ / ١٤٩٧ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

(٤) الوسائل ، ذيل الحديث ١ من الباب ٤٣ من أبواب الدفن ، وانظر : التهذيب ١ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠.

٤٢٧

وكيف كان فينبغي استثناء قبور الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام من القبور التي يكره البناء عليها وتجديدها ، فإنّ ضرورة المذهب قاضية برجحان تعمير مشاهدهم وحفظها عن الاندراس ، وتجديد عمارتها ، وكونها من أعظم الشعائر التي يجب تعظيمها فضلا عن شهادة الأخبار بذلك ، بل الظاهر أنّ قبور العلماء والصلحاء ونحوهم ـ ممّن رجّح شرعا بقاء رسمه والتقرّب بزيارته ـ أيضا كذلك ، بل ينبغي القطع بذلك بالنسبة إلى قبر مثل أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام وغيره من صالحي أولاد الأئمّة عليهم‌السلام ، بل وكذا بعض خواصّ أصحابهم ، كسلمان وأبي ذرّ وحبيب بن مظاهر ونظرائهم ، فإنّه لا مجال للتشكيك في رجحان تعمير مشاهدهم ، بل كونه من أعظم الأسباب التي يتقرّب بها إلى الله تعالى ، كما يشهد به السيرة المستمرّة ، مع ما فيها من المصالح الأخرويّة ، بل يمكن استفادته من الأخبار الواردة بالنسبة إلى بعضهم ، الدالّة على فضل زيارتهم حيث تستفاد منها محبوبيّة كون قبورهم ـ كمشاهد الأئمّة ـ معظّمة معمورة لدى الشارع ، والله العالم.

(و) يكره (دفن ميّتين في قبر واحد) لقولهم عليهم‌السلام : «لا يدفن في قبر اثنان» نقله الشيخ في محكيّ المبسوط مرسلا (١).

ومع الضرورة العرفيّة تزول الكراهة ، وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال للأنصار يوم احد : «احفروا ووسّعوا وعمّقوا واجعلوا الاثنين والثلاثة في القبر الواحد» (٢).

__________________

(١) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٥١ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٥٥.

(٢) سنن النسائي ٤ : ٨٣ ، سنن البيهقي ٣ : ٤١٣ و ٤ : ٣٤ ، مسند أحمد ٤ : ١٩ و ٢٠ ، كنز العمّال ١٥ : ٥٩٩ / ٤٢٣٧٢ ، و ٧٣٣ ـ ٧٣٤ / ٤٢٩١٧.

٤٢٨

هذا إذا دفنا ابتداء ، وأمّا إذا دفن أحدهما ثمّ أريد نبشه ودفن آخر فيه ، فعن المبسوط (١) القول بكراهته أيضا.

وعن بعض القول بالمنع ، لتحريم النبش ، ولأنّ القبر صار حقّا للأوّل بدفنه فيه ، فلم يجز مزاحمة الثاني (٢).

واعترض عليه بأنّ الكلام إنّما هو في إباحة الدفن نفسه ، وكون النبش محرّما لا يستلزم تحريمه ، فلا امتناع في أن يكون جائزا بعد تحقّق النبش.

وأمّا دعوى صيرورته حقّا له بحيث يمنع من جواز دفن الغير عنده ، ففيها منع ظاهر ، فالأظهر فيه الكراهة أيضا.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الدفن المستعقب للنبش ـ كنفس النبش ـ استخفاف بالميّت وهتك لحرمته ، كما ليس بالبعيد.

ويشهد له عدم رضا أهله بذلك ولو بعد حصول النبش ، فالقول بالمنع مع أنّه أحوط لا يخلو عن وجه ، والله العالم.

(و) يكره (أن ينقل الميّت من بلد) مات فيه (إلى بلد آخر إلّا إلى أحد المشاهد) المشرّفة.

أمّا كراهة نقل الميّت إلى غير بلد موته في غير المشاهد المشرّفة فعن المعتبر والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وغيرها دعوى الإجماع عليها (٣) ، و

__________________

(١) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٥١ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٨٧.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ١٥١ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، المسألة ٢٤٧ ، وجامع المقاصد ١ : ٤٥٠.

(٣) الحاكي عنها هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣٤٣ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٠٧ ، وتذكرة الفقهاء ٢ : ١٠٢ ، المسألة ٢٤٥ ، والذكرى ٢ : ١٠ ، وجامع المقاصد ١ : ٤٥٠.

٤٢٩

كفى بذلك حجّة عليها.

وقد يشهد لها المرويّ عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه‌السلام أنّه رفع إليه أنّ رجلا مات بالرستاق فحملوه إلى الكوفة فأنهكهم عقوبة ، وقال : «ادفنوا الأجساد في مصارعها ، ولا تفعلوا فعل اليهود نقل موتاهم إلى بيت المقدّس» وقال : «إنّه لمّا كان يوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاهم إلى دورها ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مناديا ينادي فنادى ادفنوا الأجساد في مصارعها» (١).

ولأجل مخالفة ظاهر الأمر والنهي المذكورين في الرواية لفتاوى الأصحاب مع ضعف سندها وإشعار ما فيها ـ من التشبيه بفعل اليهود ـ بالكراهة لا تصلح مستندة إلّا لإثباتها من باب المسامحة خصوصا مع ظهورها في مرجوحيّة النقل ولو إلى المشاهد المشرّفة التي ستعرف أنّ الأقوى خلافه.

وربما يستدلّ للكراهة أيضا : بمنافاتها للتعجيل المأمور به في الأخبار المتقدّمة في محلّها.

واعترض عليه : بعدم الملازمة بين استحباب التعجيل وكراهة النقل.

اللهمّ إلّا أن يتشبّث لذلك بما في بعض (٢) تلك الأخبار من النهي عن الانتظار بالميّت ونحوه.

وثانيا بعدم اقتضائه كراهة النقل من حيث كونه نقلا ، فلو أمكن نقله إلى بلد آخر في زمان قصير ، كما أنّه يتّفق كثيرا ما في هذه الأعصار بالأسباب المستحدثة

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ٢٣٨ ، وعنه في رياض المسائل ١ : ٤٥١.

(٢) الكافي ٣ : ١٣٧ / ١ ، الفقيه ١ : ٨٥ / ٣٨٩ ، التهذيب ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨ / ١٣٥٩ ، الوسائل ، الباب ٤٧. من أبواب الاحتضار ، الحديث ١.

٤٣٠

التي لم تكن متعارفة في الأزمنة السابقة ، للزم أن لا يكون مكروها ، وهو خلاف ظاهر الفتاوى.

هذا في النقل إلى غير المشاهد المشرّفة ، وأمّا النقل إليها بعنوان التوسّل والاستشفاع والتوصّل إلى ما فيها من الفوائد الأخرويّة : فلا يكره ، بل يستحبّ بلا نقل خلاف فيه ، بل عن المعتبر أنّه مذهب علمائنا خاصّة ، وعليه عمل الأصحاب من زمن الأئمّة عليهم‌السلام إلى الآن ، وهو مشهور بينهم لا يتناكرونه ، ولأنّه يقصد بذلك التمسّك بمن له أهليّة الشفاعة ، وهو حسن [بين] (١) الأحياء توصّلا إلى فوائد الدنيا ، فالتوصّل إلى فوائد الآخرة أولى (٢). انتهى.

وهو في غاية الحسن ، بل لا ينبغي الارتياب فيه خصوصا بعد ما عرفت من عدم دليل يعتدّ به على كراهة النقل إلى غير المشاهد أيضا لو لا الإجماع وقاعدة التسامح القاضيتان في المقام باستحبابه.

ويشهد له ـ مضافا إلى ما عرفت ـ خبر عليّ بن سليمان ، قال : كتبت أسأله عن الميّت يموت بعرفات يدفن بعرفات أو ينقل إلى الحرم فأيّهما أفضل؟ فكتب «يحمل إلى الحرم ويدفن فهو أفضل» (٣).

والمرويّ عن إرشاد الديلمي وفرحة الغريّ من قضيّة اليماني الحامل لجنازة أبيه ، فقال له عليّ عليه‌السلام :«لم لا دفنته في أرضكم؟» قال : أوصى بذلك ، فقال له : «ادفن» فقام فدفنه في الغريّ (٤) ، فإنّ فيه التقرير منه لفعله حيث لم يعبه بنقله.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في «ض ٧ ، ٨» والطبعة الحجريّة : «في». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ١٤٨ ـ ١٤٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٠٧.

(٣) الكافي ٤ : ٥٤٣ / ١٤ ، الوسائل ، الباب ٤٤ من أبواب مقدّمات الطواف ، الحديث ٢.

(٤) الحاكي عنهما هو البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ١٤٩ ، وانظر : إرشاد القلوب : ٤٤٠ ، ولم نجده في فرحة الغري.

٤٣١

ويشهد له أيضا فحوى الأخبار الآتية الدالّة على جوازه بعد الدفن إن عملنا بها.

وكيف كان فلا فرق في جواز النقل بين قرب البلد وبعده ما لم يؤدّ إلى فساد الميّت من تغيّر ريحه وتفرّق أعضائه ، بل ومعه أيضا على الأظهر إذا كان ذلك مسبّبا عن طول المدّة أو حرارة الهواء ونحوها ، لا إلى عمل عامل على وجه غير مشروع ، للأصل وغيره ممّا عرفت.

وقد بالغ في ذلك بعض (١) الأساطين من متأخّري المتأخّرين ، فجوّز النقل إلى المشاهد وإن توقّف على تقطيعه إربا.

قال فيما حكي عنه : ولا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان النفع له ودفع الضرر عنه ، كما يصنع بالأحياء.

وفيه : أنّ نفس تمثيل الميّت وتقطيعه بذاته محذور ممنوع منه شرعا ومناف لاحترام الميّت ، فلا يصحّ أن تبيحه غاية مستحبّة ، وتفرّع تلك الغاية على التقطيع لا يخرجه من كونه في حدّ ذاته هتكا لحرمته ، المعلوم حرمته.

ولو سلّم عدم كونه هتكا بنظر العرف إذا تحقّق بقصد تحصيل النفع ، فلا نسلّم جوازه شرعا ، بل هو على الظاهر محرّم مطلقا قد يترتّب عليه استحقاق الدية وإن كان حكمته في الواقع توهين الميّت ، إذ لا يجب في الحكم المقتضية للأحكام الشرعيّة اطّرادها ، كما هو ظاهر.

وأمّا إذا كان انفصال الأعضاء بعضها عن بعض كتغيّر ريحه مستندا إلى

__________________

(١) هو الأستاد المعتبر الشيخ جعفر تغمّده الله برحمته ، كما في جواهر الكلام ٤ : ٣٤٨.

٤٣٢

طول المدّة ونحوه لا إلى أمر آخر مسبّب عن فعل المكلّفين ، فلا محذور فيه ، عدا ما يتوهّم من أنّ إبقاءه بلا دفن في طول هذه المدّة ـ التي يظهر فيها ريحه وتتفرّق أعضاؤه ـ هتك لحرمته ، وأنّ الأصل في حكمة الدفن إنّما هو ستر مثل هذه الأمور ، وأنّ المتتبّع في كلمات الأصحاب لا يكاد يخفى عليه ظهور اتّفاقهم في تقييد إطلاقات أدلّة تجهيزات الميّت ـ من غسله بالسدر والكافور وغيره من الأحكام الواجبة ـ بما إذا لم يؤدّ إلى فساد الميّت بظهور رائحته ونحوها ممّا يوجب انتهاك حرمته ، بل لم يسوّغوا على الظاهر تعطيله والانتظار به إلى هذا الحدّ للكفن والغسل والكافور ونحوها ، فأوجبوا دفنه بدونها ، فكيف يجوز ذلك لأجل الدفن في المشاهد المشرّفة التي غايته الاستحباب!؟

وفي الجميع نظر.

أمّا دعوى كونه هتكا لحرمته ، ومنافاته لقوله عليه‌السلام : «حرمة المسلم ميّتا كحرمته حيّا» (١) ففيها : أنّ تعطيله لا بعنوان المهانة والتحقير ، بل لأجل التوصّل إلى دفنه في مكان مناسب بحاله فضلا عن دفنه في المشاهد المشرّفة لا يعدّ بنظر العرف هتكا لحرمته ، بل هو من أعظم أنحاء احترام الميّت ، خصوصا إذا منع ريحه من الانتشار بوضعه في صندوق ونحوه على وجه يكتم ريحه ، بل ربما يكون ترك النقل في مثل هذه الأزمنة ـ التي تعارف فيها النقل من البلاد النائية ـ توهينا بالميّت وتحقيرا له بنظر العرف.

وأمّا دعوى أنّ الأصل في حكمة الدفن ستر مثل هذه الأمور التي تظهر بالتعطيل ، وعدم تأذّي المسلمين بريحه ونحو ذلك ، فيدفعها : أنّ مثل هذه

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٤ ، و ٤٦٥ / ١٥٢٢ ، الوسائل ، الباب ٥١ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

٤٣٣

الحكم إنّما هو من أجزاء المقتضي لإيجاب الدفن ، وليست علّة تامّة بحيث يدور مدارها الحكم.

وأمّا دعوى ظهور اتّفاقهم في عدم وجوب الانتظار به إلى هذا الحدّ لتجهيزاته الواجبة ، بل عدم جوازه ، وهو ينافي الجواز لتحصيل أمر مستحبّ ، ففيها ـ بعد التسليم ـ : أنّه إن كان مستندهم في ذلك كون الانتظار به إلى هذا الحدّ هتكا لحرمته ، فلا اعتداد باجتماعهم على الحكم ، بل يدور الحكم مدار المستند الذي أجمعوا عليه ، وقد عرفت أنّ تحقّق عنوان الهتك في كثير من الموارد فضلا عن خصوص المقام ممنوع ، بل عدمه محقّق ، والشاهد عليه العرف.

وإن كان مستندهم أمرا وراء ذلك ، فليقتصر على مورد تحقّق الإجماع من عدم الانتظار به لسائر التجهيزات ، لا للدفن في أفضل الأمكنة.

ودعوى أنّ المستفاد من ذلك عدم جواز الانتظار به إلى هذا الحدّ مطلقا ولو لم يكن منافيا للاحترام ، غير مسموعة.

نعم ، لو ادّعى مدّع الإجماع على عدم الوجوب في مثل الفرض لتجهيزاته الواجبة لا عدم الجواز ، لم يكن بعيدا عن الصواب ، وهو لا ينافي المطلوب ، كما هو واضح.

ونظير هذه الدعاوي في الضعف ما قد يقال من أنّ المستفاد من أدلّة الدفن وجوب دفن الميّت مطلقا بمعنى كونه مستورا تحت الأرض إلّا في المدّة التي لا بدّ منها لتجهيزاته بحسب المتعارف ، وما نحن فيه خارج من ذلك.

وفيه : أنّه لو تمّ ذلك ، لاقتضى عدم جواز النقل الموجب لتأخير الدفن مطلقا ، سواء كان مؤدّيا إلى فساد الميّت أم لا ، وقد صرّح القائل بخلافه واعترف

٤٣٤

باقتضاء الأدلّة عدم الفرق بين البلد القريب والبعيد.

وكيف كان فلا ينبغي الاستشكال فيما هو المتعارف في هذه الأعصار من غير نكير من نقل الأموات من البلاد النائية إلى المشاهد المشرّفة ، المستلزم لتغيير الميّت وفساده ، كما يؤيّده ـ مضافا إلى فحوى الأخبار الآتية الدالّة على جواز نقل العظام بعد الدفن ـ خبر اليماني ، فإنّ النقل من اليمن إلى الغريّ يستلزم التغيير بحسب العادة ، والله العالم.

(و) يكره (أن يستند إلى القبر (١) أو يمشى عليه) أو يجلس إجماعا ، كما عن غير واحد نقله.

ويدلّ على كراهة الجلوس ـ مضافا إلى ذلك ـ قول الكاظم عليه‌السلام في رواية عليّ بن جعفر ، المتقدّمة (٢) : «لا يصلح البناء على القبر ولا الجلوس عليه».

والمرسل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله «لأن يجلس أحدكم على جمر فتحرق ثيابه فتصل النار إلى بدنه أحبّ إليّ من أن يجلس على قبر» (٣).

ويدلّ على كراهة المشي عليه ما أرسله في كشف اللثام عنه عليه‌السلام «لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحبّ إليّ من أن أمشي على قبر مسلم» (٤).

لكن ينافيها ما أرسله الصدوق عن الكاظم عليه‌السلام «إذا دخلت المقابر فطأ

__________________

(١) في الشرائع : «قبر».

(٢) في ص ٤٢٥.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٦٦٧ / ٩٧١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٩٩ / ١٥٦٦ ، سنن أبي داود ٣ : ٢١٧ / ٣٢٢٨ ، سنن النسائي ٤ : ٩٥ ، سنن البيهقي ٤ : ٧٩ ، مسند أحمد ٢ : ٣١١ ـ ٣١٢ ، وفيها : «خير له» بدل «أحبّ إليّ». وفي الحدائق الناضرة ٤ : ١٣٩ كما في المتن.

(٤) كشف اللثام ٢ : ٤١٥ ، وانظر : سنن ابن ماجة ١ : ٤٩٩ / ١٥٦٧.

٤٣٥

القبور ، فمن كان مؤمنا استروح إلى ذلك ، ومن كان منافقا وجد ألمه» (١).

ويمكن تنزيله ـ مع مخالفته لما عرفت ـ على مورد الحاجة إلى دخول المقابر للدفن أو لزيارة بعضهم ولم يتمكّن الوصول إلى المقصود إلّا بذلك.

وكيف كان فالأولى والأنسب بتعظيم الميّت ما عرفت ، والله العالم.

(الخامس) من الأحكام المتعلّقة بالأموات : (في اللواحق ، وهي مسائل أربع :)

(الأولى : لا يجوز نبش القبور) بلا خلاف فيه بل إجماعا ، كما عن جماعة نقله (٢) ، بل عن المعتبر وغيره دعوى إجماع المسلمين عليه (٣).

وكفى بالإجماعات المحكيّة المعتضدة بعدم نقل الخلاف ومعروفيّة الحكم لدى المتشرّعة ـ قديما وحديثا ـ دليلا للحكم.

واستدلّ له أيضا بأنّه مثلة بالميّت وهتك له ، ومقتضاه مسلّميّة حرمة المثلة وهتك حرمته.

ولعلّه كذلك ، كما يشهد له ما دلّ على أنّ «حرمته ميّتا كحرمته حيّا» (٤) فكما لا يجوز هتك حرمة الحيّ ، كذلك لا يجوز هتك حرمة الميّت ، فلا ينبغي الارتياب فيه في الجملة.

وقد استثني من ذلك مواضع :

منها : ما لو دفن في أرض مغصوبة ، فلمالكها إخراجه وتفريغ أرضه.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١١٥ / ٥٣٩ ، الوسائل ، الباب ٦٢ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

(٢) الحاكي عنهم هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣٥٣.

(٣) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣٥٣ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٠٨.

(٤) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ٤٣٣ ، الهامش (١).

٤٣٦

ومنها : ما لو كفّن بكفن مغصوب ، فلمالكه نبش الأرض وأخذ كفنه.

ومنها : ما لو وقع في القبر ما له قيمة ، فإنّه يجوز لمالكه نبشه لأخذه ، ولا يجب على المالك قبول القيمة في شي‌ء من الصور ، فإنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

وقد ناقش في هذه الفروع بعض متأخّري المتأخّرين لو لا أنّ ظاهرهم الاتّفاق عليها ، نظرا إلى معارضة حرمة الحيّ وحقّه بحرمة الميّت ، التي هي كحرمته ، فزعم أنّ المتّجه حينئذ ـ بعد مراعاة الميزان في الحرمتين وفرض التساوي فيهما ـ الجمع بين الحقّين ببذل القيمة ولو من تركة الميّت أو من ثلثه أو من بيت المال.

وفيه : أنّ قاعدة نفي الضرر ، وسلطنة الناس على أموالهم ، القاضيتين في المقام بما عرفت ممّا لا يزاحمهما شي‌ء من العمومات المثبتة للتكاليف ، فما ظنّك بمثل المقام الذي ليس لنا في الحقيقة دليل يعتدّ به إلّا الإجماع على حرمة هتك الميّت بنبش قبره ، المعلوم عدم انعقاده إلّا على حرمة النبش ما لم يكن في تركه مفسدة من تضييع حقّ الغير أو ماله ، أو فوت واجب ونحوه.

وأمّا ما دلّ على أنّ حرمته ميّتا كحرمته حيّا فلا يصلح دليلا لإثبات الحرمة في مثل الفرض ، إذ لا نسلّم ثبوتها في المشبّه به في مثل هذه الموارد ، فضلا عن المشبّه ، كما هو واضح.

ومن هنا استثنى غير واحد من الأصحاب جواز النبش للشهادة على عينه ليضمن المال المتلف أو لقسمة ميراثه واعتداد زوجته وغيرها من المواقع التي

٤٣٧

يكون تركه [فيها] (١) مفوّتا لحقّ الغير.

واستثنى في محكيّ المنتهى نبشه لتدارك غسله لو دفن بلا غسل (٢) ، محافظة على الواجب الذي يمكن تداركه.

ويمكن الخدشة في ذلك : بدعوى انصراف ما دلّ على وجوب الغسل والكفن ونحوه عمّا لو استلزم هتك حرمة الميّت بنبش قبره ، فليتأمّل.

فمقتضى التحقيق أنّ ما دلّ على حرمة نبش القبر بنفسه لا يصلح دليلا لصرف شي‌ء من العمومات أو الإطلاقات المثبتة للتكاليف الواجبة أو المحرّمة.

نعم ، ربما يكون نفس تلك العمومات والإطلاقات بنفسها أو بواسطة بعض المناسبات المغروسة في الذهن منصرفة في مثل الفرض ، والله العالم.

ولو دفن المالك ميّتا في أرضه بطيب نفسه أو دفن بإذنه ، ليس له نبشه ونقله ، لصيرورة الميّت بعد دفنه بحقّ ذا حقّ ، لكون نبشه ونقله توهينا له وهتكا لحرمته ، فيكون ضررا عليه ، نظير ما لو غرس شجرة في ملكه بإذنه ، فإنّه ليس للمالك قلعها ، بل لو لم نقل بصيرورة الميّت ذا حقّ أيضا لا يجوز بعد نهي الشارع عن نبش القبور ، لورود هذا النهي على قاعدة السلطنة بعد تحقّق الإذن ، فإنّ إذن المالك بدفن الميّت ، الذي يستعقبه حكم الشارع بحرمة نبشه إقدام منه عليه ، فلا ينافي سلطنته.

ودعوى أنّ عمدة مستند حرمة النبش هي الإجماع ، والقدر المتيقّن من معقده غير مثل الفرض ، غير مسموعة ، لما أشرنا إليه من أنّ القدر المتيقّن منه إنّما

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣٥٧ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٦٥.

٤٣٨

هو حرمة هتك الميّت بنبش قبره ما لم يكن تركه موجبا لتضييع حقّ الغير أو تفويت تكليف شرعي ، وقد عرفت أنّ حرمة النبش بعد تحقّق الإذن من المالك لا توجب تضييع حقّه ، وقد صرّح بعضهم بأنّه لو أذن بالصلاة في داره ، ليس له الرجوع في أثناء الصلاة ، نظرا إلى ما عرفت من أنّ الإذن بمثل هذه الأمور يستتبع القيام بموجبه.

وكيف كان فالأمر فيما نحن فيه أوضح ، بل لا ينبغي الاستشكال فيه.

ويتفرّع عليه أنّه لو انتقلت الأرض إلى شخص آخر بإرث أو شراء ، ليس لذلك الآخر أيضا نبشه ، إذ لا ينتقل من المالك إلّا ما كان له.

فما عن الشيخ في المبسوط ـ من جوازه للمشتري (١) ـ ضعيف.

ولو ألقى متاعه في قبر مسلم عمدا ، فقد يتخيّل جريان مثل ما ذكرناه في الفرع السابق بالنسبة إليه ، نظرا إلى أنّه بإلقائه في القبر ـ بعد حكم الشارع بحرمة نبشه وكونه هتكا لحرمة المسلم ـ أقدم على إتلاف ماله ، فيكون تضرّره مسبّبا عن إقدامه ، لا عن حكم الشارع بحرمة نبش القبر كي يرفعها قاعدة نفي الضرر ، وعلى تقدير جهله بالحكم الشرعي وإن لم يصدر منه الإقدام على الضرر لكن تضرّره مسبّب عن جهله لا عن الحكم الشرعي. لكن للنظر فيه مجال.

والمسألة في بعض فروضها لا تخلو عن إشكال وإن كان الأظهر ما هو ظاهر الأصحاب من جواز استنقاذه مطلقا خصوصا مع إمكان أن يقال : إنّ إحداث طريق إلى القبر من بعض نواحيه بمقدار الضرورة لإخراج ما القي في القبر لا يعدّ بنظر العرف هتكا لحرمة الميّت ، بل لا يعدّ نبشا للقبر وإن كان منافيا لاحترامه ،

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣٥٦ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٨٨.

٤٣٩

لكن لا تجب مراعاة الاحترام ما لم يكن تركه هتكا ، كما هو ظاهر.

وقد يستدلّ للجواز : بما روي مرسلا أنّ المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ طلبه ففتح موضعا منه فأخذه ، وكان يقول : أنا آخركم عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

لكن لا اعتداد بمثل هذه الرواية ، ولا يبعد كونها من الموضوعات ، والله العالم.

(و) كذا (لا) يجوز (نقل الموتى بعد دفنهم) مطلقا ولو إلى أحد المشاهد المشرّفة على الأشهر بل المشهور ، بل عن بعض (٢) دعوى الإجماع بالنسبة إلى غير المشاهد المشرّفة ، خلافا لظاهر المحكيّ عن الوسيلة حيث قال : يكره تحويله من قبر إلى قبر (٣).

ولعلّه أراد بذلك نقله بعد وضعه في القبر قبل أن يتحقّق دفنه.

وحكي عن ابن الجنيد أنّه أطلق نفي البأس عن التحويل لصلاح يراد بالميّت (٤).

وأمّا النقل إلى المشاهد فربما يظهر من غير واحد من قدماء الأصحاب وكثير من متأخّريهم جوازه.

__________________

(١) المهذّب ـ للشيرازي ١ : ١٤٥ ، المغني ٢ : ٤١٥ ، الذكرى ٢ : ٨٢ ، وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ : ٣٠٣ ، ودلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٧ : ٢٥٧.

(٢) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣٦٠ ، وانظر : مسالك الأفهام ١ : ١٠٣ ، ورياض المسائل ١ : ٤٥٦.

(٣) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٤ : ٣٦٠ ، وانظر : الوسيلة : ٦٩.

(٤) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٣٢٩ ، المسألة ٢٢٠.

٤٤٠