مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

ما دلّ على أنّ كفنها على زوجها لا يقتضي إلّا تقييده بالنسبة إليها بما إذا لم ينفق زوجها ، كما أنّه في حقّ غيرها أيضا مقيّد بعدم بذل الغير ، ضرورة أنّه لو اتّجر بكفنه بعض إخوانه ، لا يبدأ به من المال ، فهذا القيد مأخوذ في موضوع الحكم لا محالة ، ولا يلزم من شموله للزوجة تصرّف آخر ، كما لا يخفى.

وبما ذكرناه ظهر لك أنّه لا مجال للتشكيك في عدم جواز دفنها عارية حتّى في صورة يسار الزوج وامتناعه عصيانا.

نعم ، للورثة استيفاء هذا الحقّ ، والرجوع عليه بمقدار الواجب ما لم يقصدوا التبرّع بذلك.

وهل لهم ذلك في صورة الإعسار أيضا إذا تجدّد له اليسار بعد الدفن؟ فيه وجهان ، أظهر هما : ذلك بناء على كونه من النفقة الواجبة ، كما ليس بالبعيد.

ولا يقاس ذلك بما لو دفنت عارية حيث أنكرنا فيه استحقاقهم لذلك ، كما لا يخفى.

وكيف كان فيتفرّع على ما عرفت أنّه لو مات الزوج بعدها ولم يخلّف شيئا وخلّفت المرأة كفنا ، فهي أحقّ به ، ولا ينتقل إلى الزوج ولا إلى غيره من الورثة كي يتمشّى احتمال اختصاص الزوج به بعد انتقاله إليه ، لكون كفنه مقدّما على حقوق الغير ، التي منها كفن زوجته ، كما ستعرفه.

نعم ، لو خلّفت تركة يفي نصيب الزوج منها بكفنه وكفنها ، ولم يكن على الزوج دين يزاحم كفن زوجته على تقدير انتقال نصيبه إليه من التركة ، لكان المتّجه احتساب كفنها من نصيبه ، كما أنّ المتّجه ذلك لو انتقل إليه نصيبه حال حياته ، وصار سببا ليساره وإن قلنا بأنّه لا يثبت لها حقّ على الزوج المعسر.

٣٤١

وتوهم أنّ إعساره حال موتها مانع من ثبوت حقّ لها عليه على هذا القول ، فلا يتجدّد لها ذلك بموته أو يساره ، مدفوع : بأنّ ما دلّ على مانعيّة الإعسار من حقّها لا يدلّ إلّا على منعه من لزوم كفنها عليه ما دام معسرا ومحتاجا إلى الأموال المستثناة له ، فليس كفن الزوجة من هذه الجهة إلّا كسائر الحقوق الماليّة المتعلّقة بذمّته ، المستتبعة ليساره أو ما هو بمنزلته من موته ، فيكفي فيه يساره في الجملة قبل تعذّر التكفين ، كما لا يخفى على من لاحظ دليله.

ثمّ إنّه لو مات الزوج بعدها ولم يخلّف إلّا كفنا واحدا ، اختصّ به دونها ، لما ستعرف من أنّ الميّت أحقّ بتركته بمقدار كفنه من غيره ، ولا يزاحمه حقوق الغير التي منها كفن زوجته ، وسبق حقّها لا يجدي في استحقاقها له كسائر الحقوق السابقة ، بل قد يقال : إنّ الأقوى ذلك أيضا لو فرض موته بعد وضع الكفن عليها بل بعد دفنها أيضا لو أمكن نزعه منها على وجه مشروع لا يستلزم هتكها ، إذ الظاهر ـ المعتضد بالأصل ـ عدم خروجه بمجرّد وضعه عليها من ملكه بحيث لو فقد الميّت أو أكله السبع ، انتقل إلى وارثه ، أو صار مجهول المالك ، إذ لا يجب على الزوج ـ على الظاهر ـ إلّا كسوتها بالكفن وإمتاعها إيّاه لا تمليكها ، لكنّه لا يخلو عن تأمّل.

وأمّا كفن سائر واجبي النفقة ما عدا الزوجة فقد عرفت آنفا أنّ وجوبه عليه ما لم يخلّف الميّت شيئا لا يخلو عن وجه وإن صرّح غير واحد بخلافه ، بل استظهر بعضهم عدم الخلاف فيه.

وكيف كان فهذا فيما عدا المملوك ، وأمّا المملوك فلا خلاف ظاهرا في أنّ كفنه على مولاه ، بل عن غير واحد من الأصحاب دعوى الإجماع عليه.

٣٤٢

ويؤيّده : الاعتبار ، بل ينبغي القطع بذلك ولو مع قطع النظر عن الإجماع واستصحاب وجوب الإنفاق ، إذ لا يكاد يشكّ في أنّ الشارع لم يرض بدفنه بلا كفن ، ولم يكلّف بذلك من عدا سيّده الذي جميع فوائده كانت عائدة إليه حال حياته ، بل لا يبعد جزم العقل باستحالة أن يجعل الشارع جميع منافعه لمولاه ولم يجعل مصارفه عليه من دون فرق بين حيّه وميّته ، ولذا لا ينبغي الارتياب في أنّه يجب عليه ما في مؤن التجهيز ، كثمن السدر والكافور.

وهل يجب ذلك على الزوج أيضا كما عن تصريح جماعة ، بل في الجواهر : لا أجد فيه خلافا (١)؟ الظاهر ذلك ، لا لأجل التعليل باستصحاب وجوب الإنفاق ، الذي ـ على تقدير تماميّته ـ أخصّ من المدّعى ، بل لأجل أنّ كون المورد كذلك ولو في الجملة يوجب انس الذهن واستفادته من حكم الشارع بأنّ كفن المرأة على زوجها حيث يتبادر إلى الذهن إرادة ما يعمّ مئونة التجهيز ، كما يشهد بذلك فهم الأصحاب ، فلو لم يكن ما عدا الكفن واجبا عليه ، لكان التنبيه عليه في مثل المقام لازما ، كي لا يقع المخاطب في الشبهة ، فليتأمّل.

ولا فرق في المملوك بين أقسامه.

نعم ، لو تحرّر من المكاتب ، كان على المولى ومن تركته بالنسبة.

ولو لم يخلّف تركة وقصر ما ثبت على المولى بالنسبة عن الوفاء بستر عورته ولم يتبرّع متبرّع بتكميله مثلا ، فالظاهر سقوطه عن المولى ، لعدم الفائدة فيما ثبت عليه ، والأصل براءة ذمّته عمّا زاد (٢) ، والله العالم.

__________________

(١) جواهر الكلام ٤ : ٢٥٥.

(٢) في «ض ٧ ، ٨» : «زاد عليه».

٣٤٣

ولو كانت الأمة مزوّجة ، فالظاهر أنّ كفنها على زوجها دون سيّدها ، كما نبّهنا عليه في صدر المبحث ، لظهور قوله عليه‌السلام : «كفن المرأة على زوجها» (١) في الإطلاق ، وقصور ما دلّ على أنّ كفنها على سيّدها عن شمول مثل الفرض ، كما لا يخفى.

(ويؤخذ كفن الرجل) بل مطلق الميّت عدا من عرفت (من أصل تركته) كما يدلّ عليه صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ثمن الكفن من جميع المال» (٢) (مقدّما على الديون والوصايا) والإرث إجماعا ، كما عن جماعة نقله (٣) ، بل في طهارة شيخنا المرتضى قدس‌سره ـ كما عن المعتبر والتذكرة (٤) ـ : بلا خلاف فيه بين المسلمين إلّا من شذّ من الجمهور ، لكن مع وصف الكفن بالواجب (٥).

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «أوّل شي‌ء يبدأ به من المال الكفن ثمّ الدّين ثمّ الوصيّة ثمّ الميراث» (٦) وروي نحوها عن الدعائم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٧).

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٤٣ / ٤٩١ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ٤٣٧ / ١٤٠٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

(٣) حكاه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٥٩ عن روض الجنان : ١٠٩ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٠٦ ، وغير هما.

(٤) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٥٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٣٠٨ ، وتذكرة الفقهاء ٢ : ١٣ ، المسألة ١٦٣.

(٥) كتاب الطهارة : ٣١٠.

(٦) الكافي ٧ : ٢٣ / ٣ ، الفقيه ٤ : ١٤٣ / ٤٨٨ ، التهذيب ٩ : ١٧١ / ٦٩٨ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب كتاب الوصايا ، الحديث ١.

(٧) دعائم الإسلام ١ : ٢٣٢ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الكفن ، الحديث ٢.

٣٤٤

وصحيحة زرارة ، قال : سألته عن رجل مات وعليه دين وخلّف قدر ثمن كفنه ، قال : «يجعل ما ترك في ثمن كفنه إلّا أن يتّجر عليه بعض الناس فيكفّنونه ، ويقضى ما عليه ممّا ترك» (١).

وقضيّة تقديم الكفن على الدّين مطلقا ـ كما يقتضيه إطلاق الأخبار وكلام الأصحاب في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة ـ عدم مزاحمة حقّ المرتهن وغرماء المفلّس له وإن تعلّق حقّهم بالعين ، فإنّ حكم الشارع بتقدّم الكفن على الدّين ينفي استحقاقهم استيفاء ديونهم ما لم يخلّف الميّت ما يزيد عن كفنه ، فلا يبقى لهم حقّ في مورد المزاحمة كي ينافي استحقاقه للكفن.

فما عن الذكرى ـ من تقديم حقّ المرتهن بخلاف غرماء المفلّس (٢) ـ ضعيف.

وعن المحقّق والشهيد الثانيين التردّد في تقدّمه على حقّ المرتهن والمجني عليه من إطلاق النصّ والفتوى ، ومن اقتضاء الرهن والجناية الاختصاص.

ثمّ احتملا الفرق بين الجناية والرهن : بأنّ الدّين في الرهن يتعلّق بالقيمة ، ولا يستقلّ الآخذ بالأخذ ، بخلاف الجنابة.

واحتمل أوّلهما الفرق بين الجناية عمدا وخطأ ، ثمّ قال : والمسألة موضع تردّد وإن كنت لا أستبعد تقديم الكفن في المرتهن (٣). انتهى.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٣ / ٢ ، الفقيه ٤ : ١٤٣ / ٤٩٢ ، التهذيب ٩ : ١٧١ / ٦٩٧ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب كتاب الوصايا ، الحديث ٢.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣١٠ ، وانظر : الذكرى ١ : ٣٧٩.

(٣) الحاكي عنهما هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣١٠ ـ ٣١١ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٤٠١ ، وروض الجنان : ١٠٩.

٣٤٥

أقول : أمّا تردّدهما في تقدّمه على حقّ المرتهن فقد عرفت أنّه في غير محلّه حيث إنّ ما دلّ على تقدّم الكفن على الدّين وارد على ما يقتضيه الرهن من الاختصاص.

وأمّا تردّدهما في تقدّمه على حقّ المجنيّ عليه ففي محلّه خصوصا في الجناية العمديّة التي يكون الخيار للمجنيّ عليه ، فإنّ ما يستحقّه المجنيّ عليه في الحقيقة ليس دينا على المولى كي يندرج في موضوع النصوص والفتاوى المتقدّمة ، بل هو حقّ متعلّق برقبة العبد ، له استرقاقه في العمد ، وللمولى فكّه في الخطأ ، فما أشبهه بالمبيع بالبيع الخياري ، فإنّه وإن لم نقل بخروجه من الملك بالجناية إلّا أنّه قريب من ذلك لأجل صيرورته ، متعلّقا لحقّ الغير.

لكنّه مع ذلك قد يقوى في النظر تقدّمه على هذا الحقّ أيضا وإن كانت الجناية عمديّة فضلا عن غيرها ، نظرا إلى بقائه في ملك المولى ما لم يسترقّه المجنيّ عليه ، فيندرج في موضوع ما تركه الميّت. ولا يبعد دعوى ظهور قوله عليه‌السلام في رواية السكوني : «أوّل شي‌ء يبدأ به من المال الكفن ثمّ الدّين» (١) في أحقّيّة الميّت بما تركه بمقدار كفنه من سائر الناس ، ولا يزاحمه شي‌ء من حقوق غيره. وتخصيص الدّين بالذكر ، لكونه أظهر أفراد الحقوق ، فتأمّل.

هذا كلّه فيما لو كانت الجناية قبل موت المولى ، ولو حدثت بعده ، فقد حكي عن الروض : القطع بتقديم الكفن عليه تبعا لجامع المقاصد (٢).

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في ص ٣٤٤ ، الهامش (٦).

(٢) الحاكي عنهما هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣١١ ، وانظر : روض الجنان : ١٠٩ ، وجامع المقاصد ١ : ٤٠١.

٣٤٦

ولعلّه لسبق استحقاق الميّت له ، وهذا أيضا لا يخلو عن تأمّل ، والله العالم.

ثمّ إنّ صريح بعضهم في فتاويهم بل في بعض معاقد إجماعاتهم المحكيّة : تخصيص الحكم بالكفن الواجب دون المندوب ، وبه صرّح المصنّف في محكيّ المعتبر ، قال : لو كان هناك دين مستوعب ، منع من المندوب وإن كنّا لا نبيع ثياب التجمّل للمفلّس ، لحاجته إلى التجمّل ، بخلاف الميّت ، فإنّه أحوج إلى براءة ذمّته ، ولو أوصى بالندب فهو من الثلث إلّا مع الإجازة (١). انتهى.

وفي طهارة شيخنا المرتضى رحمه‌الله بعد اختياره ذلك ، قال : ولا فرق بين تعلّق الندبيّة بموجود مستقلّ كالقطع المندوبة ، أم تعلّقت بخصوصيّة من خصوصيّات الكفن الواجب ، كإجادة الكفن ، وكون الإزار الواجب بردا ، ونحوهما. والتأمّل في القسم الثاني ـ بناء على أنّ المندوب أحد أفراد القدر المشترك الواجب ، فللوليّ المخاطب بالمباشرة اختياره ـ مدفوع : بأنّ الكلام ليس في اختيار الوليّ ، بل الكلام في المتعلّق بالتركة ، فإذا فرض أنّ المتعلّق بها هو القدر المشترك ، فلا تسلّط للوليّ على مزاحمة الوارث بعد بذل الوارث القدر المشترك (٢). انتهى.

وفيه : أنّ تقدّم حقّ الميّت وأحقّيّته بكفنه من سائر الناس يمنعهم من مزاحمة الوليّ فيما يختاره ما لم يكن خارجا من المتعارف اللائق بحال الميّت ، كما تقدّم الكلام فيه مفصّلا ، فإنّ إطلاقات أدلّة التكفين ـ مع ما فيها من الأجزاء المستحبّة فضلا عن واجباتها على الإطلاق ـ حاكمة بل واردة على ما دلّ على

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٠ ، ولم نعثر عليه في المعتبر. والعبارة المحكيّة عنه نصّ كلام الشهيد في الذكرى ١ : ٣٨٠.

(٢) كتاب الطهارة : ٣١٠.

٣٤٧

استحقاق الورثة وغيرهم أنصباءهم ، فكما أنّه ليس لهم مزاحمة الوليّ في أصل التكفين ، ليس لهم مزاحمته فيما يقتضيه إطلاق أدلّة الكفن.

نعم ، لا يتمشّى ذلك فيما أثبتنا استحبابه بالمسامحة ، كما هو ظاهر.

لكنّك عرفت ـ فيما سبق ـ أنّ الأحوط اقتصار الوليّ في امتثال المطلق عند قصور الورثة أو مزاحمتهم على أقلّ ما به يتحقّق المسمّى ما لم يوجب استحقار الميّت ومهانته ، وأولى بمراعاة الاحتياط هو الاقتصار عليه عند مزاحمته حقّ الديّانين ، للوجه الاعتباري الذي تقدّم (١) نقله من المعتبر ، والله العالم.

(فإن لم يكن له كفن) أي تركة بقدر أن يؤخذ كفنه منها ولم يتبرّع بذلك متبرّع مثلا (دفن عريانا ، ولا يجب على المسلمين بذل الكفن) بلا خلاف فيه بين العلماء ، كما في المدارك (٢) ، ومحكيّ الذخيرة والنهاية (٣) ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ، للأصل السالم من دليل حاكم عليه.

وما يقال ـ من أنّ مقتضى إطلاقات وجوب التكفين وجوب مقدّماته التي من جملتها بذل الكفن ـ مدفوع أوّلا : بعدم العثور ـ فيما بأيدينا من الأدلّة ـ على دليل مطلق مسوق لبيان وجوبه على عامّة المكلّفين كي يقال : إنّ إيجابه مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلّا به ولو من المقدّمات الموقوفة على بذل المال ، بل غاية ما هو الموجود في المقام مثل قوله عليه‌السلام : «الكفن فريضة للرجال ثلاثة

__________________

(١) في ص ٣٤٧ ، والعبارة المتقدّمة من الذكرى لا المعتبر.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ١١٩.

(٣) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٠ ، والعاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٤٦٠ ، وانظر : ذخيرة المعاد : ٨٩ ، ونهاية الإحكام ٢ : ٢٤٧.

٣٤٨

أثواب» (١) المعلوم عدم وروده إلّا لبيان حكم آخر.

وثانيا : لو سلّم وجوده ، فلا يراد منه إلّا وجوب نفس العمل كفاية على عامّة المكلّفين ، أعني ستر الميّت في كفنه المأخوذ من ماله أو من الزوج وغيره ، لا وجوب بذل الكفن ، كما يدلّ عليه الأدلّة المتقدّمة الواردة لبيان مأخذ الكفن ، فإنّ وجوب اتّخاذه من ماله أو من الزوج عينا ينافي وجوب بذله كفاية على عامّة الناس كي يراد بالمطلقات.

وتوهّم أنّ قضيّة إطلاق الأمر بالتكفين وجوبه كفاية عند تعذّر اتّخاذه من ماله أو من الزوج ونحوه ، إذ لا منافاة بين إيجاب شي‌ء مطلقا على مكلّف وإيجاب بعض مقدّماته الوجوديّة على مكلّف آخر ، فإن وفي ذلك المكلّف الآخر بما هو تكليفه فهو ، وإلّا فعلى من وجب عليه مطلقا تحصيل المقدّمات بمقتضى إطلاق الطلب ، مدفوع : بأنّ تعيين مأخذ الكفن مع غلبة إمكان أخذه من ذلك المأخذ المعيّن يمنع المطلقات من الظهور في إرادة ما يعمّ صورة تعذّر الأخذ ، بل يصرفها إلى إرادة ستره في كفنه الذي عيّنه الشارع ، بل وكذا أدلّة نفي الضرر أيضا حاكمة على تلك المطلقات ، ومقيّدة لها بما إذا كان له ـ من ماله أو ممّا هو بحكمه ـ كفن.

وكذلك الكلام في سائر مؤن تجهيز الميّت ، فلا يجب شي‌ء منها كفاية على المسلمين ، لعين ما عرفت (بل يستحبّ) بذل الكفن وغيره ، كما يدلّ عليه ما في الرواية الآتية (٢) من أنّ «حرمة المؤمن ميّتا كحرمته حيّا».

وفي صحيحة سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من كفّن مؤمنا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٩١ / ٨٥١ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب التكفين ، الحديث ٧.

(٢) في ص ٣٥٠.

٣٤٩

[كان] (١) كمن ضمن كسوته إلى يوم القيامة (٢).

وظهورها في الاستحباب يؤيّد الحكم الأوّل ، أعني عدم وجوبه كفاية على المسلمين.

كما أنّه يؤيّده أيضا بل يدلّ عليه ما رواه ابن محبوب عن الفضل (٣) بن يونس الكاتب ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام ، فقلت له : ما ترى في رجل من أصحابنا يموت ولم يترك ما يكفّن به ، أشتري له كفنه من الزكاة؟ فقال : «أعط عياله من الزكاة قدر ما يجهّزونه فيكونون هم الذين يجهّزونه» قلت : فإن لم يكن له ولد ولا أحد يقوم بأمره فأجهّزه أنا من الزكاة؟ قال : «كان أبي يقول : إنّ حرمة بدن المؤمن ميّتا كحرمته حيّا ، فوار بدنه وعورته وجهّزه وكفّنه وحنّطه واحتسب بذلك من الزكاة ، وشيّع جنازته» قلت : فإن اتّجر عليه بعض إخوانه بكفن آخر وكان عليه دين أيكفّن بواحد ويقضى دينه بالآخر؟ قال : «لا ، ليس هذا ميراثا تركه ، إنّما هو شي‌ء صار إليه بعد وفاته ، فليكفّنوه بالذي اتّجر عليه ، ويكون الآخر لهم يصلحون به شأنهم» (٤).

وفيها جهات من الدلالة على المدّعى غير خفيّة على المتأمّل ، كما أنّها تدلّ على جواز تجهيزه وتكفينه من الزكاة.

وعن جملة من الأصحاب القول بوجوبه ، نظرا إلى الأوامر الواردة في

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الكافي ٣ : ١٦٤ (باب ثواب من كفّن مؤمنا) الحديث ١ ، التهذيب ١ : ٤٥٠ / ١٤٦١ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الفضيل». وما أثبتناه من المصدر.

(٤) التهذيب ١ : ٤٤٥ / ١٤٤٠ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

٣٥٠

الرواية.

وفيه بعد الغضّ عن ورودها في مقام توهّم الحظر كادت تكون صريحة في الاستحباب ، لما فيها من القرائن التي منها التفريع على قول أبيه صلوات الله عليه ، المستشهد به للجواز ، المعلوم عدم اقتضائه تعيّن صرف الزكاة في المشبّه به عند عدم انحصار المصرف فيه ، فضلا عن المشبّه.

ثمّ إنّ ما تضمّنته الرواية ـ من إعطاء عياله ليجهّزوه ـ أيضا محمول على الاستحباب ، إذ لم يقل أحد بوجوبه ، كما اعترف به في محكيّ (١) الروض ، ويشهد له عدم تعيّن الفعل عليهم بعد انتقال الزكاة إليهم ، وعدم انحصار المصرف في إعطائهم ، فقوله : «فيكونون هم الذين يجهّزونه» جار مجرى العادة من إقدامهم على تجهيزه بعد صرف (٢) المال إليهم.

وربّما يستشعر من هذا الكلام أنّ المقصود بذلك جبر قلوبهم كي لا يدخل عليهم العار من تكفين الأجنبيّ ، كما أنّه يستشمّ من الاستشهاد للحكم في الفقرة الأخيرة بقول أبيه صلوات الله عليهما : أنّ حكمة الأمر بإعطاء أهله مع الإمكان أولويّة صرف الزكاة في مصرف الأحياء منه في مصرف الأموات ، والله العالم.

ثمّ حكي (٣) عن جماعة التصريح بوجوب تكفين من ليس له كفن من بيت مال المسلمين.

والمراد به ـ كما عن جامع المقاصد (٤) ـ الأموال التي تستفاد من خراج

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦١ ، وانظر : روض الجنان : ١١٠.

(٢) في الطبعة الحجريّة : «انصراف» بدل «صرف».

(٣) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦١.

(٤) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦١ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٤٠٢.

٣٥١

الأرضين المفتوحة عنوة ، وسهم سبيل الله من الزكاة ، فإنّها معدّة لمصالح المسلمين ، وتجهيز موتاهم من أهمّها.

وهو وجيه ما لم يزاحمه ما هو أهمّ منه ، والظاهر أنّ من صرّح بوجوبه أيضا لم يرد إلّا هذا الفرض.

(وكذا) أي بحكم الكفن في جميع ما عرفت جميع (ما يحتاج إليه الميّت) ممّا يتوقّف تحصيله على بذل المال (من كافور وسدر وغيره) فيجوز أخذها من الزكاة وبيت المال ما لم يكن له تركة ، ولا يجب على أحد بذله ، بل يستحبّ ، كما عرفت.

ولو كان له تركة ، يؤخذ الجميع من أصل التركة مقدّما على الدّين والوصيّة والميراث بلا خلاف فيه ظاهرا ، بل عن الخلاف الإجماع على أنّ الكفن ومئونة الميّت من أصل التركة (١).

وفي المدارك : أمّا الوجوب من أصل المال فظاهر ، لأنّ الوجوب متحقّق ، ولا محلّ له سوى التركة إجماعا (٢). انتهى.

وقضيّة تعليل المدارك ـ كإطلاق معقد إجماع الخلاف ـ : اطّراد الحكم في جميع ما يتوقّف عليه تجهيز الميّت ودفنه من دون فرق بين ما يصرف عوض الأعيان المصروفة في التجهيز كالماء والخليطين وعوض المدفن وبين أجرة الغاسل والحفّار والحمّال إذا لم يتحقّق إلّا بفعل من يأخذ الأجرة عصيانا أو استحقاقا.

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٢ ، وانظر : الخلاف ١ : ٧٠٨ ، المسألة ٥٠٨.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ١٢١.

٣٥٢

لكن في طهارة شيخنا المرتضى رحمه‌الله ـ بعد نقل الإجماع المتقدّم عن الخلاف ـ قال : ولو لا الإجماع ، لأمكن الخدشة في إخراج مقدّمات الأفعال ، كالحفر والحمل والغسل ونحوها ، فإنّ المتيقّن خروج الأعيان المصروفة في التجهيز ، كالماء والخليطين والكفن وأجرة المدفن.

وأشكل من ذلك ما لو توقّف مباشرة الفعل على بذل مال لظالم يمنع من الغسل والدفن في الأرض المباحة ونحو ذلك (١). انتهى.

وفي الجواهر قوّى عدم أخذ مثل هذه المقدّمات من التركة بل ادّعى (٢) انصراف لفظ «المئونة» في معقد الإجماع إلى غيرها (٣).

وفيه ما لا يخفى بعد ما أشرنا إليه فيما تقدّم من أنّ مقتضى قاعدة نفي الضرر وغيرها : عدم وجوب بذل المال على أحد في مقدّمات التكفين ، بل قد سمعت من صاحب المدارك دعوى الإجماع عليه حيث قال : لا محلّ له سوى التركة إجماعا ، فلا يجب على المكلّفين كفاية إلّا مباشرة نفس الأعمال بشرط القدرة ، لا بذل المال ، خصوصا فيما يأخذه الظالم ، فإنّه ينبغي الجزم بعدم وجوب بذله على أحد ، فلو لم يجب أخذه من التركة ، للزم جواز إبقاء الميّت ـ الذي خلّف تركة بقدر حاجته ـ بلا دفن ، وهو معلوم الفساد ، للقطع بعدم رضا الشارع بذلك ، بل ينبغي القطع بأولوية الميّت بماله فيما يحتاج إليه لتجهيزه من وارثه الذي لا يستحقّه إلّا لكونه أولى الناس به ، فكيف يتقدّم على نفسه!؟ بل كيف يجعل

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣١١.

(٢) في الطبعة الحجريّة : «ودعوى» بدل «ادّعى».

(٣) جواهر الكلام ٤ : ٢٦٢.

٣٥٣

الشارع أمواله المتخلّفة لأقاربه ومئونة تجهيزه على الأجانب أو يرضى ببقائه بلا دفن!؟ مع أنّه لم يرض ببقائه بلا كفن ، وجعله مقدّما على الدّين فضلا عن الميراث ، وليس ذلك إلّا لأولويّته بماله من سائر الناس فيما يحتاج إليه من دون خصوصيّة للكفن ، بل الكفن بالنسبة إلى مقدّمات الدفن ليس إلّا كثياب التجمّل ، التي قدّمها الشارع على حقّ الغرماء ، بل المتبادر عرفا ـ بواسطة المناسبات المغروسة في الأذهان ـ من قوله عليه‌السلام : «أوّل شي‌ء يبدأ به من المال الكفن» وكذا من «ثمن الكفن» في صحيحتي ابن سنان و [السكوني] (١) ، المتقدّمتين (٢) ليس إلّا إرادة ما يعمّ مئونة التجهيز ، وتخصيص الكفن بالذكر ، لكونه أظهر المقدّمات المتوقّفة على بذل المال.

وكيف كان فلا مجال للتشكيك في الحكم بعد القطع بعدم جواز إبقائه بلا دفن ، وعدم وجوب البذل على سائر الناس ، كما استدلّ به في المدارك وادّعى عليه الإجماع خصوصا بعد ما سمعت من دعوى الإجماع من الخلاف على أنّ مئونة الميّت مطلقا من أصل التركة.

ودعوى انصرافها عمّا يأخذه الظالم ونحوه بعد توقّف دفنه عليه ولو في خصوص شخص ممنوعة جدّا ، فإنّ صدق المئونة على ما يتوقّف عليه الدفن ونحوه ليس مقولا بالتشكيك كي يتطرّق دعوى الانصراف في بعض مصاديقها ، والله العالم.

المسألة (الثالثة : إذا سقط من الميّت شي‌ء من شعره أو جسده ،

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في «ض ٧ ، ٨» والطبعة الحجريّة : «زرارة». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في ص ٣٤٤.

٣٥٤

وجب أن يطرح معه في كفنه) كما عن تصريح جماعة وظاهر آخرين (١) ، بل عن الذخيرة : لا أعلم فيه خلافا (٢) ، وفي محكيّ التذكرة : وإن سقط من الميّت شي‌ء غسّل وجعل معه في أكفانه بإجماع العلماء ، لأنّ جميع أجزاء الميّت في موضع واحد أولى (٣). انتهى.

وربما يستشعر من تعليله الاستحباب ، كما عن الجامع (٤) التصريح بذلك.

والأصل في المسألة مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :«لا يمسّ من الميّت شعر ولا ظفر ، وإن سقط منه شي‌ء فاجعله في كفنه» (٥).

ثمّ إنّ عبارة التذكرة المتقدّمة (٦) تقتضي التغسيل ثمّ الطرح في الأكفان ، وعن بعضهم التصريح بذلك (٧).

فإن أرادوا عدم إهماله حين تغسيل الميّت بجعله بمنزلة المتّصل نظرا إلى اهتمام الشارع به وعدم رفع اليد عنه حيث أوجب دفنه ، فله وجه وإن لا يخلو عن نظر. وإن أرادوا وجوب غسله مستقلّا ، ففيه منع ظاهر خصوصا بالنسبة إلى الشعر ونحوه ، لعدم الدليل لو لم ندّع الدليل على العدم ، والله العالم.

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٣.

(٢) الحاكي عنها هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٣ ، وانظر : ذخيرة المعاد : ٩٠.

(٣) الحاكي عنها هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٣ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ٢٢ ، المسألة ١٧٥.

(٤) الحاكي عنه هو صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٣٠٧ ، وانظر : الجامع للشرائع : ٥١.

(٥) الكافي ٣ : ١٥٥ (باب كراهية أن يمسّ ..) الحديث ١ ، التهذيب ١ : ٣٢٣ / ٩٤٠ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٦) آنفا.

(٧) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٣ ، وانظر : مسالك الأفهام ١ : ٩٦.

٣٥٥

(الرابع) من الأحكام المتعلّقة بالأموات : (في مواراته في الأرض).

(وله مقدّمات) أي آداب متقدّمة عليه (مسنونة كلّها).

منها : تشييع جنازته ، وفيه ثواب جسيم وأجر عظيم.

فقد روى جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من شيّع ميّتا حتّى يصلّى عليه كان له قيراط من الأجر ، ومن بلغ معه إلى قبره حتّى يدفن كان له قيراطان ، والقيراط مثل جبل أحد» (١).

وروى أبو بصير عن أبي جعفر (٢) عليه‌السلام بمضمونه.

وعن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من تبع جنازة كتب الله له أربعة قراريط : قيراط باتّباعه ، وقيراط للصلاة عليها ، وقيراط بالانتظار حتّى يفرغ من دفنها ، وقيراط للتعزية» (٣).

وعن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كان فيما ناجى به موسى عليه‌السلام ربّه أن قال : يا ربّ ما لمن شيّع جنازة؟ قال : أوكّل به ملائكة من ملائكتي معهم رايات يشيّعونهم من قبورهم إلى محشرهم» (٤).

وعن ميسر قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «من تبع جنازة مسلم اعطي يوم القيامة أربع شفاعات ، ولم يقل شيئا إلّا وقال الملك : ولك مثل ذلك» (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧٣ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الدفن ، الحديث ٤.

(٢) الكافي ٣ : ١٧٣ / ٥ ، التهذيب ١ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦ / ١٤٨٥ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الدفن ، الحديث ٣.

(٣) الكافي ٣ : ١٧٣ / ٧ ، التهذيب ١ : ٤٥٥ / ١٤٨٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

(٤) الكافي ٣ : ١٧٣ / ٨ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

(٥) الكافي ٣ : ١٧٣ / ٦ ، التهذيب ١ : ٤٥٥ / ١٤٨٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

٣٥٦

وعن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا أدخل المؤمن قبره نودي ألا وإنّ أوّل حبائك الجنّة ، ألا وإنّ أوّل حباء من تبعك المغفرة» (١).

وعن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أوّل ما يتحف المؤمن به في قبره أن يغفر لمن تبع جنازته» (٢).

وفي عقاب الأعمال روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال : «من شيّع جنازة فله بكلّ خطوة حتّى يرجع مائة ألف حسنة ، ويمحا عنه مائة ألف سيّئة ، ويرفع له مائة ألف درجة ، فإن صلّى عليها شيّعه في جنازته مائة ألف ملك كلّهم يستغفرون له حتّى يبعث من قبره ، ومن صلّى على ميّت صلّى عليه جبرئيل وسبعون ألف ملك ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه ، وإن أقام عليه حتّى يدفنه وحثا عليه من التراب انقلب من الجنازة وله بكلّ قدم من حيث تبعها حتى يرجع إلى منزله قيراط من الأجر ، والقيراط مثل جبل أحد يلقى في ميزانه» (٣) إلى غير ذلك من الأخبار.

ولا يعتبر فيه تبعيّته حتى يدفن وإن كان ذلك أفضل ، ودونه إلى الصلاة عليه ، لظهور بعض الأخبار في استحباب مطلقه واستحقاق الأجر بقدر عمله.

ففي صحيحة زرارة أو حسنته ، قال : حضر أبو جعفر عليه‌السلام جنازة رجل من قريش وأنا معه وكان فيها عطاء ، فصرخت صارخة فقال عطاء : لتسكتنّ أو

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧٢ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الدفن ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٣ : ١٧٣ / ٣ ، التهذيب ١ : ٤٥٥ / ١٤٨٢ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الدفن ، الحديث ٤.

(٣) عقاب الأعمال : ٣٤٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الدفن ، الحديث ٦ بتفاوت.

٣٥٧

لنرجعنّ ، قال : فلم تسكت فرجع عطاء ، قال : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ عطاء قد رجع ، قال : «ولم؟» قلت : صرخت هذه الصارخة فقال لها : لتسكتنّ أو لنرجعنّ ، فلم تسكت فرجع ، فقال : «امض بنا فلو أنّا إذا رأينا شيئا من الباطل مع الحقّ تركنا له الحقّ لم نقض حقّ مسلم» قال : فلمّا صلّي على الجنازة قال وليّها لأبي جعفر عليه‌السلام : ارجع مأجورا رحمك الله ، فإنّك لا تقوى على المشي ، فأبى أن يرجع ، قال : فقلت له : قد أذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسألك عنها ، فقال : «امض فليس بإذنه جئنا ولا بإذنه نرجع ، إنّما هو فضل وأجر طلبناه ، فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك» (١).

وظاهرها ـ بل كاد يكون صريحها ـ استحباب مطلق التشييع من دون مدخليّة إذن الوليّ فيه ابتداء واستدامة ، فللمشيّع الرجوع في الأثناء وإن لم يأذن له الوليّ ، ولا يقدح رجوعه في استحقاقه الأجر بقدر ما تبعه ، بل كاد يكون صريحها ـ حيث لم يعترض الإمام عليه‌السلام على ما فعله عطاء إلّا بأنّه لا يترك الحقّ للباطل ـ جواز الرجوع في الأثناء بدون إذن الوليّ ، وعدم حرمته ، كما أنّ ظاهر جملة من الأخبار جواز الرجوع بعد الصلاة قبل الدفن من دون اشتراطه بإذن الوليّ.

فما في مرفوعة البرقي عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أميران وليسا بأميرين : ليس لمن تبع جنازة أن يرجع حتى يدفن أو يؤذن له ، ورجل يحجّ مع امرأة فليس له أن ينفر حتّى تقضي نسكها» (٢) يجب حمله على بعض

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧١ ـ ١٧٢ / ٣ ، التهذيب ١ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥ / ١٤٨١ ، الوسائل ، الباب ٤٠ من أبواب صلاة الجنازة ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ١٧١ / ٢ ، الخصال : ٤٩ / ٥٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الدفن ، الحديث ٦.

٣٥٨

المحامل ، أو ردّ علمه إلى أهله ، خصوصا بعد إعراض الأصحاب عنها.

نعم ، حكي (١) عن ابن الجنيد العمل بها ، فلم يجوّز الرجوع قبل الدفن ما لم يأذن أهله بالانصراف إلّا لضرورة ، مستشهدا بالرواية.

وهو لا يخرجها من الشذوذ ، فلا تصلح دليلا لإثبات مثل هذا الحكم المخالف للقواعد ، فضلا عن معارضة غيرها من الأخبار.

وعن المنتهى أنّ أدنى مراتب التشييع أن يتبعها إلى المصلّى فيصلّي عليها ثمّ ينصرف ، وأوسطه إلى القبر ، ثمّ يقف حتى يدفن ، وأكمله الوقوف بعد الدفن ليستغفر له ويسأل الله له (٢).

وظاهره عدم حصوله إذا لم يتبعها إلى المصلّى.

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا مرّ.

ومنها : أن يمشي المشيّع ولا يركب ، كما هو صريح بعض ، وظاهر آخرين ، بل عن ظاهر الغنية كالمنتهى ـ على ما تسمعه من عبارته ـ الإجماع عليه (٣).

وربما يستفاد من جملة من الأخبار كراهة الركوب ، كما صرّح بها غير واحد ، بل عن المعتبر والمنتهى دعوى الإجماع عليها (٤).

__________________

(١) الحاكي هو الشهيد في الذكري ١ : ٣٩٨.

(٢) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٤ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٤٥.

(٣) الحاكي عنها هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٥ ، وانظر : الغنية : ١٠٥.

(٤) حكى صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٥ عن المعتبر ١ : ٢٩٤ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٤٥ القول بكراهة الركوب مع نسبة الإجماع إلى المنتهى ، وليس في المعتبر دعوى الإجماع عليها ، فلاحظ.

٣٥٩

قال في محكيّ المنتهى : ويستحبّ المشي مع الجنازة ، ويكره الركوب ، وهو قول العلماء كافّة (١). انتهى.

ويدلّ عليه صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :«مات رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمشي ، فقال له بعض أصحابه : ألا تركب يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي لأكره أن أركب والملائكة يمشون» (٢).

وخبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام «أنّه كره أن يركب الرجل مع الجنازة في بداءة إلّا من عذر» وقال : «يركب إذا رجع» (٣).

ومرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما خلف جنازة ركبانا ، فقال : ما أستحيي هؤلاء أن يتبعوا صاحبهم ركبانا وقد أسلموه (٤) على هذه الحال» (٥).

ومنها : (أن يكون مشي المشيّع (٦) وراء الجنازة أو إلى أحد جانبيها) فإنّه أفضل من الإمام.

وعن المعتبر والتذكرة نسبته إلى فقهائنا (٧) ، وعن جامع المقاصد دعوى

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٥ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٤٤٥.

(٢) الكافي ٣ : ١٧٠ ـ ١٧١ / ٢ ، التهذيب ١ : ٣١٢ / ٩٠٦ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الدفن ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٦٤ / ١٥١٨ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الدفن ، الحديث ٢.

(٤) في الصحاح ٥ : ١٩٥٢ «سلم» : أسلمه ، أي خذله.

(٥) الكافي ٣ : ١٧٠ / ١ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الدفن ، الحديث ٣.

(٦) في الشرائع : «أن يمشي المشيّع».

(٧) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ٢٦٦ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٩٣ ، وتذكرة الفقهاء ٢ : ٥١ ، المسألة ٢٠٠.

٣٦٠