مصباح الفقيه - ج ٥

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٥

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧١

هذا ، مع أنّه لا وثوق بإرادة هذا الظاهر ، بل لا ظهور لها ـ عند التأمّل ـ في خلاف ما يفهم من غيرها ، فإنّ القميص المسؤول عنه هو القميص الذي يصلّي فيه الرجل ، وهذا هو القميص الذي أحبّ الإمام عليه‌السلام أن يكفّن به ، والقميص الذي نعتبره في الكفن ـ كما هو المعمول المتعارف ـ ليس بقميص حقيقة ، بل يصحّ سلب الاسم عنه ، وإنّما يطلق عليه القميص بأدنى مناسبة ، فنفي البأس عن إدراجه في ثلاثة أثواب لا يدلّ إلّا على عدم اعتبار تكفينه في القميص الحقيقي ، لا جواز درجة في ثلاثة أثواب شاملة ، وإلّا لكان مقتضى هذه الرواية جواز الإتيان بالثوب الشامل بدلا من المئزر أيضا ، فليتأمّل.

(وتجزئ عند الضرورة) عقلا أو شرعا (قطعة) من القطعات الثلاث ، ولا يجوز تركها بلا إشكال ، بل لا خلاف على الظاهر ، بل عن التذكرة (١) دعوى الإجماع عليه.

وما في الحدائق (٢) ـ من الإشكال في وجوب الإتيان بما تيسّر من القطعات الثلاث ، لعدم كونه الكفن الذي أوجبه الشارع حيث إنّ الواجب هو القطع الثلاث ، والكلّ ينتفي بانتفاء جزئه ـ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، ضرورة قضاء العرف والشرع في مثل المقام بأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، وأنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، بل لا يبعد جريان القاعدتين بنظر العرف فيما لو لم يتمكّن إلّا من بعض تلك القطع بحيث لم يدخل في مسمّيات شي‌ء منها لكن يمكن أن يستر به عورة الميّت ، فإنّه يجب على الظاهر في الفرض ستر عورته ، فإنّه وإن لم يصدق عليه شي‌ء منها

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٤ : ١٦٨ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ٩ ، ذيل المسألة ١٥٨.

(٢) الحدائق الناضرة ٤ : ١٤ ـ ١٥.

٢٤١

لكنّه بعد معلوميّة شدّة اعتناء الشرع والعرف بستر العورة لا ينبغي التأمّل في كون المأتيّ به ميسور المئزر الذي لا يسقط بمعسوره.

نعم ، في كون ستر بعض البدن ميسور الإزار أو ميسور القميص بنظر العرف تأمّل.

وكيف كان تجب مراعاة القاعدتين في مثل المقام جزما.

ولا يخفى عليك أنّ قضيّة قاعدة الميسور مراعاة الأشمل ، فالأشمل عند الدوران ، فالإزار مقدّم على القميص ، والقميص على المئزر ، كما عن المحقّق الثاني (١) التصريح بذلك ، والله العالم.

ثمّ إنّه حكي (٢) عن غير واحد من متأخّري المتأخّرين تبعا للمحقّق الثاني (٣) التصريح بأنّه يراعى في جنس هذه الأثواب التوسّط باعتبار اللائق بحال الميّت عرفا ، فلا يجب الاقتصار على أدون المراتب وإن ماكس الوارث أو كانوا صغارا.

وهو حسن ، لانصراف إطلاق الأمر بالتكفين إلى المتعارف.

وكون الوارث قاصرا أو مانعا لا يجدي في المنع من الوسط اللائق بحاله بعد أن علم من الأدلّة استحقاق الميّت من ماله الكفن الذي لا يتبادر منه إلّا استحقاقه ما هو اللائق بحاله الذي لا يوجب مهانته في الأنظار ، كما يستحقّ المفلّس من ماله اللباس اللائق بحاله.

ويؤيّده ما يستفاد من الأخبار من رجحان إجادة الكفن وكونه زينة للميّت

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٦٩ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٣٨٢.

(٢) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٩٨.

(٣) جامع المقاصد ١ : ٣٨٥.

٢٤٢

وأنّ الموتى يتباهون بأكفانهم.

فما عن الأردبيلي ـ من المناقشة في الحكم مع نزاع الورثة أو كونهم صغارا (١) ـ ضعيف ، إذ ليس للوارث مزاحمة الوليّ في تعيين الكفن الذي جعله الله تعالى للميّت ، وجعله أحقّ به من ورثته ، فيكون للوليّ ـ الذي هو بمنزلة الميّت ـ تشخيص الكفن في ضمن أيّ فرد أحبّ ما لم يكن خلاف المتعارف الذي ينصرف عنه الأدلّة.

نعم ، لو اختار الوليّ الأدون ، فلا بحث عليه ، لجواز الاقتصار في امتثال المطلق على ما يتحقّق به المسمّى ، فالاقتصار عليه مع قصور الورثة أو مزاحمتهم ما لم يوجب استحقاق الميّت ومهانته أحوط.

وهل يعتبر في كلّ ثوب من الأثواب الثلاثة أن لا يكون حاكيا ـ كما عن الروض (٢) تبعا لجامع المقاصد (٣) ـ لأنّه المتبادر من إطلاق الثوب ، مع اعتضاده بما ادّعي عليه الإجماع من اشتراط كون ما يكفّن به ممّا يصلّى فيه ، أو يكفي ستره بالمجموع ، لحصول غرض التكفين به ، أم لا يعتبر ذلك أيضا ، للأصل ، وإطلاق الأدلّة؟ وجوه ، بل أقوال ، أحسنها : أوسطها ، لعدم الدليل على الأوّل. والتبادر غير مسلّم بحيث يعتنى به في رفع اليد عن الإطلاق. والإجماع المدّعى ـ على تقدير تسليمه ـ إنّما هو باعتبار جنس الكفن لا وصفه.

نعم ، لا ينبغي الارتياب في كون ستر البدن ومواراة جسد الميّت كلّه

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٩٨ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) الحاكي عنه هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٩٩ ، وانظر : روض الجنان : ١٠٣.

(٣) جامع المقاصد ١ : ٣٨٢.

٢٤٣

مقصودا للشارع ، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة (١) وغيرها ، ويؤيّدها الاعتبار.

فبهذا يظهر لك ضعف القول الثالث ، مضافا إلى شذوذه حيث لم ينقل إلّا من بعض (٢) متأخّري المتأخّرين ، والله العالم.

(ولا يجوز التكفين) بالمغصوب قطعا ، لحرمة التصرّف فيه ، بل لو كفّن به ، للمالك انتزاعه ولو بعد دفنه ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

ولا يعارضه حرمة نبش القبور ، لتقدّم قاعدة السلطنة على مثل هذه العمومات.

مضافا إلى قصور ما دلّ على الحرمة عن شمول مثل الفرض ، كما لا يخفى على المتأمّل خصوصا لو كان الغصب بفعل الميّت بأن كان الكفن من مخلّفاته التي استولى عليها عدوانا ، فإنّ تخليصه عن مثل هذا الكفن ـ الذي هو نار محيطة عليه في القبور ويوم النشور ـ أولى من مراعاة احترامه الصوري الذي هو عمدة الحكمة في تشريع حرمة النبش.

وكذا لا يجوز التكفين بالنجس بلا خلاف فيه ظاهرا ، بل عن المعتبر والذكرى دعوى الإجماع على اشتراط طهارة الأكفان (٣).

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ فحوى ما دلّ على وجوب إزالة النجاسة ـ الخارجة من الميّت ـ عن ثوبه وكفنه ، كما ستعرفه ، وقضيّة إطلاقه ـ كإطلاق معقد إجماعي المعتبر والذكرى ـ عدم الفرق بين ما عفي عنه في الصلاة وعدمه.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤٤ / ٥ ، التهذيب ١ : ٢٩٢ / ٨٥٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٩٩.

(٣) حكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٦٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٨١ ، والذكرى ١ : ٣٥٥.

٢٤٤

وكذا لا يجوز التكفين (بالحرير) المحض إجماعا على الظاهر المحكي عن جملة من العبائر كالمعتبر والتذكرة والذكرى (١) ، وظاهرهم بل صريح المحكيّ عن الذكرى عدم الفرق في معقد إجماعهم بين الرجل والمرأة.

واستدلّ له : بمضمرة حسن (٢) بن راشد في الكافي ، وعن أبي الحسن الثالث مرسلا في الفقيه ، قال : سألته عن ثياب تعمل بالبصرة على عمل العصب اليماني من قزّ وقطن هل يصلح أن يكفّن فيها الموتى؟ قال : «إذا كان القطن أكثر من القزّ فلا بأس» (٣).

وفيه : أنّ مفهومه ثبوت البأس في الثوب الغير الخالص الذي لم يكن قطنه أكثر ، وهذا ممّا لا يظنّ بأحد الالتزام به على إطلاقه ، بل يظهر منهم عدم الخلاف في جواز التكفين بغير الخالص الذي يجوز للرجل أن يصلّي فيه ، وأمّا الحرير الخالص الذي لا يجوز للرجل أن يصلّي فيه فهو خارج من الموضوع المفروض في القضيّة حتى يفهم ثبوت البأس بالنسبة إليه إلّا بفحوى الخطاب. ويشكل الاعتماد عليها بعد طرح الشرطيّة من حيث المفهوم.

لكنّ الإنصاف أنّ الرواية مع ذلك لا تخلو عن نحو ظهور في المدّعى ، ولعلّ منشأه إشعارها بكون المنع من الحرير المحض مفروغا منه.

وقد يستدلّ له أيضا : بما في الأخبار المستفيضة من النهي عن التكفين

__________________

(١) الحاكي عنها هو صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٦٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٢٨٠ ، وتذكرة الفقهاء ٢ : ٥ ، المسألة ١٥٤ ، والذكرى ١ : ٣٥٥.

(٢) في الكافي : «الحسين».

(٣) الكافي ٣ : ١٤٩ ـ ١٥٠ / ١٢ ، الفقيه ١ : ٩٠ / ٤١٥ ، وعنهما في الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

٢٤٥

بكسوة الكعبة مع الإذن في البيع وسائر أنحاء التصرّف فيها.

ففي رواية عبد الملك ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل اشترى من كسوة الكعبة فقضى ببعضه حاجته وبقي بعضه في يده هل يصلح بيعه؟ قال :«يبيع ما أراد ويهب ما لم يرده ، ويستنفع به ويطلب ببركته» قلت : أيكفّن به الميّت؟ قال : «لا» (١) بناء على أنّ علّة النهي ليست إلّا كونها حريرا ، إذ لولاه ، لكان التكفين به راجحا لأجل التبرّك.

وفيه ما لا يخفى ، لعدم العلم بانحصار الوجه فيه ، إذ من الجائز أن يكون النهي عنه لاقتضاء التكفين به نجاسته بعد الدفن ، المنافية لاحترامه.

وأضعف منهما الاستدلال له : بقاعدة الاحتياط ، فإنّ المرجع في مثل المقام ـ بعد الغضّ عن إطلاق الأدلّة اللفظيّة ـ هو البراءة ولو على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة في الكفن وإجمال معناه الشرعي ، لما تقرّر في محلّه من أنّ المرجع عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة البراءة لا الاحتياط.

ويتلوه في الضعف الاستدلال للمنع في حقّ الرجال : بالاستصحاب ، إذ ـ بعد تسليم بقاء الموضوع والغضّ عن إمكان دعوى ظهور الأدلّة في حرمة الحرير عليهم باتّخاذهم إيّاه زينة لهم ما دام الحياة لا بعد الموت ـ يتوجّه عليه : أنّه لا مجال للاستصحاب مع إطلاق الأخبار الآمرة بثلاثة أثواب ونحوها.

اللهمّ إلّا أن يدّعى عدم كون المطلقات مسوقة لبيان جنس الكفن ، فليتأمّل.

نعم ، يؤيّده ما عن الفقه الرضوي «لا تكفّنه في كتّان ولا ثوب إبريسم ، وإذا

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤٨ / ٥ ، التهذيب ١ : ٤٣٤ / ١٣٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

٢٤٦

كان ثوب معلّم فاقطع علمه ، ولكن كفّنه في ثوب قطن ، ولا بأس في ثوب صوف» (١) انتهى.

وكذا يؤيّده في حقّ الرجال بل يدلّ عليه ـ لولا ضعف السند ، كالرضوي ـ ما عن بعض الكتب مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يكفّن الرجال في ثياب الحرير» (٢).

وهذه المرسلة مشعرة بل ظاهرة في جوازه للنساء ، كما أنّ قضيّة الأصل والإطلاقات أيضا ذلك ، بل قضيّة عموم التشبيه ـ الذي قد يدّعى استفادته من رواية (٣) محمد بن مسلم ، الدالّة على أنّ الميّت بمنزلة المحرم ـ ليس إلّا ذلك ، كما أنّ مقتضاه المنع في حقّ الرجال ، فلا ينبغي الاستشكال فيه بالنسبة إلى الرجال ، لإمكان دعوى انجبار ضعف الروايتين بل وكذا عموم التشبيه بالفتاوى والإجماعات المحكيّة ، مضافا إلى عدم الخلاف فيه ظاهرا.

وأمّا ما في خبر إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم الكفن الحلّة ، ونعم الأضحية الكبش الأقرن» (٤) فهو ـ بعد إعراض الأصحاب عنه وموافقته للعامّة على ما قيل (٥) ـ لا ينهض دليلا

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٤ : ١٨ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٩.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ٢٣٢ ، وعنه في مستدرك الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الكفن ، الحديث ٢.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في ص ٢٢٢ ، الهامش (١).

(٤) التهذيب ١ : ٤٣٧ / ١٤٠٦ ، الإستبصار ١ : ٢١١ / ٧٤٣ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب التكفين ، الحديث ٢.

(٥) القائل هو الشيخ الطوسي في التهذيب ١ : ٤٣٧ ، ذيل الحديث ١٤٠٦ ، والاستبصار ١ : ٢١١ ، ذيل الحديث ٧٤٣.

٢٤٧

لإثبات الجواز مع عدم تعيّن إرادة الحرير المحض من الحلّة.

وأمّا في حقّ النساء فلو لا ظهور كلماتهم ـ في الفتاوى ومعاقد إجماعاتهم ـ في المنع بل تصريح بعضهم ـ في معقد إجماعه ـ بذلك ، لكان الوجه جوازه ولو على تقدير تسليم ظهور المضمرة (١) في المدّعى ، لإمكان دعوى انصرافها إلى الرجال.

ولعلّه لبعض ما أشرنا إليه أو كلّه احتمل العلّامة في محكيّ النهاية والمنتهى جواز تكفين المرأة به (٢).

لكن لا ريب في أنّ المنع هو الأحوط ، بل لا يخلو عن قوّة بالنظر إلى ما عرفت ، والله العالم.

ثمّ إنّ ظاهر المصنّف ـ كالعلّامة (٣) وجماعة (٤) حيث اقتصروا على المنع من الحرير ـ عدم المنع من مطلق ما لا تجوز فيه الصلاة ، كأجزاء ما لا يؤكل لحمه ، وهذا هو الذي يقتضيه الأصل وإطلاقات الأدلّة.

لكن عن جملة منهم (٥) التصريح بعدم جواز التكفين بما لا تجوز الصلاة فيه ، بل ربما استظهر من غير واحد منهم كونه من المسلّمات ، ولذا قال المحقّق الأردبيلي ـ فيما حكي عنه ـ : وأمّا اشتراطهم كون الكفن من جنس ما يصلّى فيه و

__________________

(١) أي مضمرة الحسن بن راشد ، المتقدّمة في ص ٢٤٥.

(٢) الحاكي عنهما هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٤٣٧ ، وانظر : نهاية الإحكام ٢ : ٢٤٢ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٣٨.

(٣) راجع : تحرير الأحكام ١ : ١٨ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٣٨.

(٤) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٩٩.

(٥) راجع كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٩٩.

٢٤٨

كونه غير جلد فكأنّ دليله الإجماع (١). انتهى ، بل عن الغنية التصريح بكونه إجماعيّا (٢).

وربما يستدلّ له : بالاحتياط ، وقاعدة الاشتغال. وقد عرفت ضعفهما فيما سبق.

واستدلّ له شيخنا المرتضى قدس سرّه : برواية محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تجمّروا الأكفان ولا تمسّوا موتاكم بالطيب إلّا بالكافور ، فإنّ الميّت بمنزلة المحرم» (٣) فإذا انضمّ إليه ما ورد في الإحرام من وجوب كون ما يحرم فيه من جنس ما يصلّى فيه ـ كحسنة حريز «كلّ ثوب يصلّى فيه فلا بأس أن تحرم فيه» (٤) ـ دلّ على وجوب كون الكفن ممّا تجوز الصلاة فيه (٥).

أقول : إثبات عموم المنزلة بمثل هذه الرواية مع عدم فهم الأصحاب منها ذلك وعدم اعتمادهم في الحكم عليها في غاية الإشكال ، كيف! ولم يتوهّم متوهّم تعميم تروك الإحرام وأفعاله بالنسبة إلى الميّت لأجل هذه الرواية خصوصا مع كون التنزيل الواقع في الرواية علّة لكراهة تجمير الأكفان وإمساس الطيب ، لا الحرمة.

والاعتذار عنه ـ بعدم كون ترك مسّ الطيب من الأركان ، بخلاف كسوته ـ

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٩٩ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٩١.

(٢) الحاكي عنه هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٩٩ ، وانظر : الغنية : ١٠٢.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في ص ٢٢٢ ، الهامش (١).

(٤) الكافي ٤ : ٣٣٩ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٢١٥ / ٩٧٦ ، التهذيب ٥ : ٦٦ / ٢١٢ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب الإحرام ، الحديث ١.

(٥) كتاب الطهارة : ٢٩٩.

٢٤٩

غير مسموع ، إذ لا يوجب ذلك ظهور الرواية في وجوب كون كفن الميّت كثياب المحرم شطرا وشرطا بعد عدم كون الحكم المنصوص عليه المعلّل له باقيا على ظاهره ، بل ربما يستشمّ من المعتبرة المستفيضة الواردة في حكم من مات محرما ـ كصحيحة محمد بن مسلم «يغطّى وجهه ، ويصنع به ما يصنع بالمحلّ غير أنّه لا يقربه طيبا» (١) وغيرها ـ عدم كون الميّت بمنزلة المحرم في الأحكام ، وأنّه إذا مات المحرم ، يرتفع أثر إحرامه ما خلا مسّ الطيب ، كما أنّه يفهم من هذه الأخبار كون النهي في الرواية السابقة محمولا على الكراهة ، فكونه منزّلا منزلة المحرم ليس إلّا على جهة الاستحباب لا اللزوم.

وكيف كان فاستفادة المطلوب من الرواية المتقدّمة في غاية الإشكال ، والعمدة فيه إنّما هو الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة ، ولا يبعد الاعتماد عليه وإن لا يخلو عن إشكال ، فالاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

وأمّا التكفين بالجلود فربما يستظهر من عبارة الأردبيلي ـ المتقدّمة (٢) ـ كون المنع منه مظنّة الإجماع.

ولعلّه لا يخلو عن وجه ، فإنّ المتبادر من الأدلّة إنّما هو وجوب التكفين بالثياب المتبادر منها ـ صرفا أو انصرافا ـ ما عدا الجلود ، ويؤيّده الأمر بنزعه من الشهيد ، كما ستعرفه إن شاء الله.

وأمّا التكفين بالصوف ووبر ما يؤكل لحمه فالظاهر جوازه ، كما عن

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٣٠ / ٩٦٥ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

(٢) في ص ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٢٥٠

المشهور (١) ، للأصل ، وإطلاق الأدلّة.

خلافا للمحكيّ عن الإسكافي ، فمنعه في الوبر (٢) ، وربما يحكى عنه المنع في الشعر (٣) أيضا.

ولعلّه لرواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكتّان كان لبني إسرائيل يكفّنون به ، والقطن لامّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٤).

وفيه : أنّها لا تنهض دليلا لإثبات أزيد من استحباب القطن ، ولذا لم يفهم منها الأصحاب إلّا ذلك ، كما ستعرفه.

وأمّا الملبود فالأظهر أيضا جواز التكفين به.

ودعوى انسباق المنسوج إلى الذهن من الثوب المأمور به في الأخبار غير مسموعة ، فإنّ الانسباق ـ على تقدير تسليمه ـ بدويّ غير مضرّ ، بل ربما يتأمّل لذلك في الجلود أيضا وإن كان الأظهر فيها ما عرفت ، والله العالم.

هذا كلّه في حال الاختيار ، وأمّا عند الضرورة فيجوز التكفين بما عدا المغصوب جزما.

وأمّا بالمغصوب فلا يجوز قطعا ، بل في الحدائق (٥) دعوى الوفاق عليه ، ضرورة أنّ التجنّب عن التصرّف في مال الغير أهمّ في نظر الشارع من تكفين الموتى.

__________________

(١) نسبه إلى المشهور صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٧٢.

(٢) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٢٨٠.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٧٢.

(٤) الكافي ٣ : ١٤٩ / ٧ ، التهذيب ١ : ٤٣٤ / ١٣٩٢ ، الإستبصار ١ : ٢١٠ / ٧٤١ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

(٥) الحدائق الناضرة ٤ : ١٩.

٢٥١

وأمّا الجواز في غيره : فلقاعدة الميسور ، بل ظهور الأدلّة في وجوب التكفين مطلقا ، وعدم ثبوت تقييدها بالشرائط المتقدّمة إلّا في حال الاختيار ، ضرورة أنّ عمدة مدركها ليست إلّا الإجماع الذي لا يعمّ حال الضرورة.

نعم ، لا يتمشّى ذلك في مثل الجلود التي ادّعينا انصراف الأدلّة عنه ، فيكون الوجه فيه القاعدة.

وكيف كان فلا إشكال في شي‌ء منها وإن قيل فيها بالمنع مطلقا ، لإطلاق النهي عنها.

وفيه ما عرفت من عدم إطلاق كذلك ، وعلى تقديره فقاعدة الميسور محكّمة عليه ، والله العالم.

هذا كلّه مع الانحصار في جنس واحد ، وأمّا مع وجود جنسين منها أو أزيد ففي الروضة : أنّه يقدّم الجلد على الحرير ، وهو على غير المأكول من وبر وشعر وجلد ثمّ النجس. ويحتمل تقديمه على الحرير وما بعده وعلى غير المأكول خاصّة ، والمنع من جلد غير المأكول مطلقا (١). انتهى.

قيل في وجه تقديم الجلد ـ يعني جلد المأكول ـ على غيره : إنّه تجوز الصلاة فيه اختيارا ، فيقدّم على ما لا يجوز فيه ذلك.

وفيه ما لا يخفى بعد أن عرفت أنّ المانع من التكفين بالجلد انصراف الأدلّة عنه ، وعدم إطلاق اسم الثوب عليه ، لا عدم جواز الصلاة فيه ، وإنّما صحّحنا التكفين به لدى الضرورة بقاعدة الميسور ونحوها ، فالمتّجه إنّما هو تقديم مطلق الثوب على الجلد ، لما عرفت من عدم دليل يعتدّ به يقتضي تقييده بعدم كونه من

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٤١٧.

٢٥٢

الأشياء المذكورة إلّا في حال الاختيار ، فعند الضرورة مطلق الثوب يجزئ بمقتضى الإطلاقات ، ومعها لا تتمشّى قاعدة الميسور ، القاضية بجواز الاجتزاء بالجلد.

اللهمّ إلّا أن يدّعى القطع بأنّه يستفاد من مذاق الشارع أنّ إطلاق اسم الثوب عليه ليس أمرا مهمّا بنظر الشارع ، وأنّ عدم كونه من الحرير أو غير المأكول أو النجس أهمّ لديه ، وعهدتها على مدّعيها.

وأمّا تقديم ما عدا الجلد بعضها على بعض فهو فرع ما سيأتي تحقيقه في لباس المصلّي بناء على عدم جواز التكفين إلّا بما تجوز الصلاة فيه ، كما نقل عليه الإجماع ، والله العالم.

(ويجب أن يمسح مساجده) السبعة (بما تيسّر من الكافور) على وجه يبقى شي‌ء منه في الممسوح بسبب المسح ، كما لعلّه هو المتبادر من المسح بالكافور.

وكيف كان فلا يكفي المسح المجرّد عن ذلك ، لما في جملة من الأخبار الآتية من التصريح بوضع الكافور أو جعله في مواضعه ، كما أنّه لا يكفي مجرّد الوضع من دون مسّ أو مسح ، لما في بعضها الآخر من الأمر بمسحها بالكافور ، كما وقع التعبير به في المتن وغيره وبعض معاقد إجماعاتهم المحكيّة ، وقضيّة الجمع بين الأخبار هو : تقييد بعضها ببعض ، والالتزام بكون الوضع على وجه المسح ، كما يؤيّده ما في بعض معاقد الإجماعات المحكيّة من التعبير بأنّ الواجب هو الوضع والإمساس.

ثمّ إنّ وجوب مسح المساجد بالكافور ممّا لا خلاف فيه على الظاهر ، بل

٢٥٣

نقل عليه الإجماع من جملة من الأصحاب.

ويدلّ عليه ظاهر جملة من الأخبار :

منها : موثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحنوط للميّت ، فقال : «اجعله في مساجده» (١).

ومنها : ما عن الدعائم «إذا فرغ من تغسيله نشفه بثوب وجعل الكافور في مواضع سجوده : جبهته وأنفه ويديه وركبتيه ورجليه» (٢).

وعن الفقه الرضوي (٣) نحوه.

وظاهر الخبر المرويّ عن الدعائم والرضوي إلحاق الأنف بالمساجد ، ويؤيّده استحباب إرغامها حال السجود ، فلا يبعد إرادتها من المساجد في الموثّقة ، كما عن العماني والمفيد والقاضي والحلبي والعلّامة في المنتهى اختياره (٤).

لكن الروايتان لضعفهما لا تصلحان لإثبات الوجوب. هذا ، مع عدم ظهور هما في إرادة الوضع على ظاهر الأنف كي يحتمل إرادته من الموثّقة ، فلا يبعد إرادة وضعه في أنفه ، فحينئذ يعارضها المعتبرة الآتية الناهية عنه ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

ويدلّ على المطلوب أيضا جملة من الأخبار الآمرة بوضعه على المساجد

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤٦ / ١٥ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ٢٣٠ ، مستدرك الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الكفن ، الحديث ٢.

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٨ ، مستدرك الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الكفن ، الحديث ١.

(٤) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٠١ ، وانظر : المقنعة : ٧٨ ، والمهذّب ١ : ٦١ ، والكافي في الفقه : ٢٣٧ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٣٩ ، ومختلف الشيعة ١ : ٢٢٨ ، المسألة ١٦٩ حيث فيه حكاية قول العماني.

٢٥٤

وغيرها.

منها : صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف أصنع بالحنوط؟ قال : «تضع في فمه ومسامعه وآثار السجود من وجهه ويديه وركبتيه» (١).

ورواية زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، قال : «إذا جفّفت الميّت عمدت إلى الكافور فمسحت به آثار السجود ومفاصله كلّها ، واجعل في فيه ومسامعه ورأسه ولحيته من الحنوط وعلى صدره وفرجه» وقال : «حنوط الرجل والمرأة سواء» (٢).

ويقرب منها ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا أردت أن تحنّط الميّت فاعمد إلى الكافور فامسح به آثار السجود منه ومفاصله كلّها ورأسه ولحيته وعلى صدره من الحنوط» وقال : «حنوط الرجل والمرأة سواء» وقال : «وأكره أن يتبع بمجمرة» (٣).

وفي موثّقة سماعة «وتجعل شيئا من الحنوط على مسامعه ومساجده ، وشيئا على ظهر الكفّين» (٤).

ورواية الحسين بن المختار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يوضع الكافور من

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٠٧ / ٨٩١ ، الإستبصار ١ : ٢١٢ / ٧٤٩ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٤٣٦ / ١٤٠٣ ، الإستبصار ١ : ٢١٣ / ٧٥٠ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، الحديث ٦.

(٣) الكافي ٣ : ١٤٣ / ٤ ، التهذيب ١ : ٣٠٧ / ٨٩٠ ، الإستبصار ١ : ٢١٢ / ٧٤٦ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التكفين ، الحديث ١.

(٤) التهذيب ١ : ٤٣٥ / ١٣٩٩ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب التكفين ، الحديث ٢.

٢٥٥

الميّت على موضع المساجد وعلى اللبّة (١) وباطن القدمين وموضع الشراك من القدمين وعلى الركبتين والراحتين والجبهة واللبّة» (٢).

وفي مرسلة يونس «ثمّ اعمد إلى كافور مسحوق فضعه على جبهته موضع سجوده وامسح بالكافور على جميع مفاصله من قرنه إلى قدمه وفي رأسه وفي عنقه ومنكبيه ومرافقه وفي كلّ مفصل من مفاصله من اليدين والرّجلين وفي وسط راحتيه ـ إلى أن قال ـ ولا تجعل في منخريه ولا في بصره ومسامعه ولا على وجهه قطنا ولا كافورا» (٣) الحديث.

وهذه المرسلة تعارض بعض الأخبار المتقدّمة في فقرتها الأخيرة.

ونظيرها في المعارضة رواية عثمان النواء ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي اغسّل الموتى ، قال : «وتحسن؟» قلت : إنّي اغسّل ، فقال : «إذا غسّلت فارفق به ولا تغمزه ولا تمسّ مسامعه بكافور» (٤) الحديث.

وفي آخر رواية الكاهلي ، المتقدّمة (٥) في كيفيّة غسل الميّت «وإيّاك أن تحشو في مسامعه شيئا فإن خفت أن يظهر من المنخرين شي‌ء فلا عليك أن تصيّر ثمّ قطنا ، وإن لم تخف فلا تجعل فيه شيئا» (٦).

__________________

(١) اللبّة : المنحر. الصحاح ١ : ٢١٧ «لبب».

(٢) التهذيب ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ / ٨٩٢ ، الإستبصار ١ : ٢١٢ / ٧٤٧ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، الحديث ٥.

(٣) الكافي ٣ : ١٤٣ / ١ ، التهذيب ١ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ٨٨٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب التكفين ، الحديث ٣.

(٤) الكافي ٣ : ١٤٤ / ٨ ، التهذيب ١ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ / ٨٩٩ ، الإستبصار ١ : ٢٠٥ / ٧٢٢ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، الحديث ٢.

(٥) في ص ٢١٥ و ٢١٩.

(٦) الكافي ٣ : ١٤٠ ـ ١٤١ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩ / ٨٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٥.

٢٥٦

وربما يدفع المعارضة بحمل الأخبار الآمرة بجعل شي‌ء من الحنوط في مسامعه على إرادة تطييبها به ، لا الوضع فيها وحشوها ، كما يؤيّده ما في بعضها من التعبير بلفظة «على» (١).

وفي الوسائل حكى عن الشيخ أنّه حمل ما تضمّن وضع الكافور في مسامعه على أنّ «في» بمعنى «على» (٢).

وفيه مع بعده في حدّ ذاته لا يجدي في دفع المعارضة ، لما في بعض الأخبار الناهية من التصريح بأنّه «لا تمسّ مسامعه بكافور» (٣) ولذا قرّب غير واحد من الأصحاب حمل الأخبار الآمرة بالوضع على التقيّة ، لموافقتها للعامّة.

وفي الوسائل بعد أن قرّب هذا الحمل قال : ويمكن أن يراد به الكراهة ونفي التحريم (٤).

أقول : لا يمكن إرادة الكراهة منها ، فإنّها كادت تكون صريحة في رجحان الفعل.

نعم ، لا يبعد كون معهوديّته لدى العامّة مؤثّرة في حسن إيجاده ، لحكمة التقيّة في مظانّها ، فيكون الأمر به محمولا على إرادته في مثل الفرض ، وهذا لا ينافي مرجوحيّته ذاتا.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٣٥ / ١٣٩٩ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب التكفين ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، ذيل الحديث ٦ ، وانظر : التهذيب ١ : ٣٠٨ ، ذيل الحديث ٨٩٣ ، والاستبصار ١ : ٢١٢ ، ذيل الحديث ٧٤٩.

(٣) الكافي ٣ : ١٤٤ / ٨ ، التهذيب ١ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ / ٨٩٩ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، الحديث ٢.

(٤) الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب التكفين ، ذيل الحديث ٦.

٢٥٧

نعم ، إطلاق الأمر به ولو بالنسبة إلى من هو مبتلى بمعاشرة العامّة ينافي حرمته ، إذ الغالب إمكان التفصّي عن ارتكاب مثل هذا المحرّم ، فلا يحسن الأمر به على الإطلاق إلّا تقيّة بأن كانت التقيّة سببا لصدور الأمر لا لمطلوبيّة المأمور به ، وهو خلاف الفرض.

ولعلّ ما ذكرنا من التوجيه أقرب من حمل الأخبار على التقيّة من حيث الصدور ، وبه يتّجه جعلها قرينة لحمل الأخبار الناهية على الكراهة بالتقريب المتقدّم ، وإلّا فيشكل رفع اليد عن ظهورها في الحرمة.

اللهمّ إلّا أن يناقش فيها ـ لضعف السند أو وهنها ـ : بمخالفتها لظاهر الأصحاب أو صريحهم في عدم الحرمة.

لكن مع ذلك كلّه لا ريب في أنّ الترك أحوط ، لانتفاء احتمال الوجوب ، كما ستعرفه ، مضافا إلى عدم الخلاف فيه ظاهرا ، والله العالم.

ثمّ إنّ اختلاف الأخبار في تعيين مواضع الحنوط لا يوهن ظهورها في وجوب أصل الحنوط في الجملة ، بل جميعها ظاهرة في اعتبار أصل الحنوط ، وكونه كسائر التجهيزات من الغسل والكفن والدفن من الأمور المسلّمة المفروغ منها.

فما عن المحقّق الأردبيلي ـ من التأمّل في وجوبه (١) لذلك ، كما عن ظاهر المراسم القول باستحبابه (٢) ـ ضعيف ، إذ ليس اختلاف الأخبار في المقام إلّا كاختلافها في كيفيّة الغسل والتكفين ، وقد أشرنا في باب الغسل إلى أنّ أجمل

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٠١ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٩٣.

(٢) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، وانظر : المراسم : ٤٩.

٢٥٨

وجوه الجمع في مثل هذه الأخبار المختلفة الواردة في مقام البيان إنّما هو الأخذ بمجامع الكلّ والالتزام بوجوبه ، وحمل ما اختلف فيه الروايات ـ من حيث التعرّض والعدم ـ على الفضل والاستحباب ، فلا يراعى فيها ما تقتضيه قاعدة حمل المطلق على المقيّد ونحوها ، ولذا صحّ للمشهور ادّعاء أنّ الواجب إنّما هو أن يحنّط مساجده السبعة دون غيرها ، بل عن جملة منهم عدم الخلاف فيه وإن ألحق بعضهم طرف الأنف بالمساجد ، كما عرفته ، مع ما فيه من الضعف.

لكنّ الإنصاف أنّه لو لا اعتضاد ظاهر موثّقة عبد الرحمن في انحصار الواجب بتحنيط المساجد ، لم يكن رفع اليد عنه والالتزام بوجوب تحنيط مفاصله كلّها ـ كما في جملة من الأخبار المتقدّمة التصريح به من دون معارضتها بشي‌ء ـ بعيدا وإن كان لنا في أقربيّته من التصرّف في ظاهر الموثّقة الواردة في مقام البيان ـ ولو من دون اعتضاده بشي‌ء ـ تأمّل بل منع.

فالمتّجه إنّما هو وجوب تحنيط المساجد السبعة التي منها طرفا الإبهامين.

وخلوّ بعض الأخبار ـ المتعرّضة لتفصيلها ـ عن ذكر هما ـ بعد كونهما من المساجد نصّا وإجماعا ، وتصريح الأصحاب بكونهما منها في خصوص المقام ـ غير ضائر.

وأمّا تحنيط ما عداها ممّا تضمّنته الأخبار فهو مستحبّ ، عدا ما تعلّق به النهي في بعضها ، فإنّه مكروه ، بل ينبغي الاحتياط بتركه ، كما عرفته فيما تقدّم.

ثمّ إنّ ظاهر المتن بل صريحه كصريح غيره أنّه لا مقدّر للواجب من الكافور ، بل يجزئ مسمّاه ، بل عن المشهور بين المتأخّرين (١) ذلك ، للأصل.

__________________

(١) الناسب إلى المشهور صاحب الجواهر فيها ٤ : ١٨١.

٢٥٩

وربما يستدلّ له : بإطلاقات الأخبار.

وفيه : أنّ المتأمّل في الأخبار المطلقة يرى عدم كون شي‌ء منها مسوقا لبيان هذا الحكم ، فلا يحسن التمسّك بإطلاقها.

نعم ، ربما يستشعر ذلك من موثّقة سماعة ، المتقدّمة (١) الآمرة بجعل شي‌ء من الحنوط على مسامعه ومساجده وشي‌ء على ظهر الكفّين ، فإنّ إطلاقها بالنسبة إلى المواضع المذكورة يشعر بعدم اعتبار حدّ معيّن في أصل الحنوط.

لكن في مرسلة ابن أبي نجران عن الصادق عليه‌السلام قال : «أقلّ ما يجزئ من الكافور للميّت مثقال» (٢).

وعن ظاهر الصدوق في الفقيه العمل بمضمونها (٣).

وفي رواية أخرى لابن أبي نجران مرسلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال :«أقلّ ما يجزئ من الكافور للميّت مثقال ونصف» (٤).

والذي يغلب على الظنّ اتّحاد الروايتين ، لتوافق متنها واتّحاد الراوي والمرويّ عنه فيهما حيث رواهما ابن أبي نجران عن بعض أصحابه كما في الأولى ، وبعض رجاله ـ كما في الثانية ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، فيغلب على الظنّ سقوط لفظ «نصف» من الرواية الاولى.

وكيف كان فهما ـ مع ضعفهما وعدم القائل بمضمونهما أو ندرته ـ

__________________

(١) في ص ٢٥٥.

(٢) الكافي ٣ : ١٥١ / ٥ ، التهذيب ١ : ٢٩١ / ٨٤٦ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب التكفين ، الحديث ٢.

(٣) الحاكي عنه هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٠١ ، وانظر : الفقيه ١ : ٩١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٩١ / ٨٤٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب التكفين ، الحديث ٥.

٢٦٠