مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

بالنسبة إلى هذا البعض ، لكونه مأمورا به ، والأمر يقتضي الإجزاء.

وهل يجزئ عمّا عدا المنويّ أم لا؟ فيه تفصيل.

وتحقيقه : أنّا لو بنينا على أنّ متعلّق الأوامر هي نفس الأغسال بعناوينها الخاصّة ، كغسل الجنابة والحيض والجمعة وغيرها ، فلا يعقل الإجزاء إلّا بالقصد ، لا لدعوى أنّ أوامر الغسل تعبّديّة لا تسقط إلّا بالإطاعة ، والإطاعة لا تتحقّق إلّا بالقصد حتى يتوجّه عليها : منع كونها تعبّديّة على الإطلاق ، بل القدر المتيقّن توقّف صحّة الغسل على قصد القربة في الجملة ، وأمّا قصد امتثال أمره بالخصوص فلا ، والمرجع في مثله البراءة ، كما تقدّم تحقيقه في مقام تأسيس الأصل في نيّة الوضوء ، بل لأجل أنّ هذه العناوين بنفسها ممّا لا يتّصف الفعل بها إلّا بالقصد ، نظير عنوان الوكالة والتأديب ممّا لا يتّفق إلّا بالقصد.

وإن قلنا : إنّ الأمر بالأغسال إنّما هو لأجل كونها مؤثّرة في التطهير ، وأنّ المطلوب الواقعي إزالة أثر الجنابة وأثر الحيض والاستحاضة والنفاس ـ كما ليس بالبعيد ـ فعنوان الواجب على هذا التقدير في غسل الجنابة إزالة أثر الجنابة ، وفي الحيض إزالة أثره ، وهكذا.

فإن علمنا ببيان الشارع أنّ الغسل الصحيح مطلقا ، أو خصوص غسل الجنابة مثلا مزيل لهذه الآثار ولو لم يشعر بها المكلّف ، فلا إشكال في سقوط الأوامر ، لحصول ما هو المقصود منها وإن لم تتحقّق إطاعتها فيما عدا المنويّ ، لأنّ المدار في سقوط الأوامر حصول الغرض ، لا تحقّق الإطاعة.

وأمّا لو لم يعلم ذلك ببيان الشارع ، فلا سبيل لنا إلى إحرازها والعلم

٢٨١

بسقوط أوامرها إلّا بالاحتياط بتكرار الغسل ، أو إيجاد غسل واحد بقصد الجميع ، إذ ليس أثر هذه الأسباب أمرا حسّيّا حتى يدرك زواله بالحسّ ، ولا ممّا تناله عقولنا حتى يستكشف بالعقل ، فالطريق منحصر ببيان الشارع ، والمفروض انتفاؤه ، فيجب الاحتياط ، تحصيلا للفراغ اليقيني عن التكليف المتعلّق بمفهوم مبيّن ، وليس المورد ممّا يجري فيه البراءة على هذا التقدير ، كما لا يخفى.

نعم ، لا يخلو القول بكفاية خصوص غسل الجنابة عن غيره مطلقا عن قوّة ، بل في طهارة شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : والمشهور : الاجتزاء به عمّا عداه ، بل صريح السرائر وجامع المقاصد : الإجماع عليه. وفي شرح الجعفرية : عدم الخلاف فيه ، وكذا في شرح الموجز رادّا بذلك على من حكى قولا بعدم الاجتزاء به عن غسل الاستحاضة. ولعلّ في هذه الإجماعات كفاية (١). انتهى.

ويدلّ عليه : مرسلة الجميل ، المتقدّمة (٢) : «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر ، أجزأه غسله ذلك عن كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم».

وأمّا الاستدلال عليه : بإطلاق صحيحة زرارة ، المتقدّمة (٣) : فقد عرفت ضعفه. وكذا الاستدلال بما عداها من الأخبار المتقدّمة ، لظهورها في كفاية الغسل المأتي به بقصد المأتي به بقصد الجميع ، فلا تعمّ الفرض.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٠٢ ، وانظر : السرائر ١ : ١٢٣ ، وجامع المقاصد ١ : ٨٧ ، وكشف الالتباس ١ : ١٨١.

(٢) تقدّمت في ص ٢٧٦.

(٣) تقدّمت في ص ٢٧٠.

٢٨٢

وأمّا استدلال جامع المقاصد عليه ، مضافا إلى الإجماع والأخبار : بأنّ الحدث ـ الذي هو عبارة عن النجاسة الحكمية ـ متّحد وإن تعدّد أسبابه ، فإذا نوى ارتفاعه بالسبب الأقوى ، ارتفع بالإضافة إلى غيره (١) ، ففيه ما عرفت من منع الاتّحاد ، ولا أقلّ من الشكّ الموجب للاحتياط في مقام الامتثال ، فالعمدة فيه ما ذكرناه ، والأحوط بل الأولى : ترك تخصيص قصده بخصوص الجنابة ، وعلى تقدير تخصيصه ينبغي إعادة غسله احتياطا بقصد امتثال غيره من الأوامر ، إلّا أنّ الأحوط عند إرادة التكرار من أوّل الأمر تقديم ما عدا غسل الجنابة عليه. ووجهه ظاهر.

وأولى بمراعاة الاحتياط : عدم الاجتزاء به عن الأغسال المستحبّة ، لإمكان الخدشة في الدليل المذكور بالنسبة إليها : بعدم الجدوى في الإجماعات المنقولة بعد معروفيّة الخلاف وظهور المرسلة في الأغسال الواجبة ، لأنّها هي التي تلزمه دون المستحبّة ، إلّا أنّ دعوى ظهور المرسلة فيما ذكر ممنوعة ، لأنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «عن كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم» ـ على ما يشهد به الطبع السليم ـ هو الأغسال التي طلب منه الشارع فعلها في ذلك اليوم واجبا كان أم مستحبّا ، بل لا يبعد دعوى كون الأغسال المستحبّة مرادة أظهر من غيرها ، بل في الحدائق : دعوى اختصاصها بها (٢) ، لما عرفت من وجوب تقييد الإجزاء في الرواية ـ بحكم العقل ـ بصورة الإمكان ، وهي في المستحبّات أكثر ، إذ لا شبهة في أنّ

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ٨٧.

(٢) الحدائق الناضرة ٢ : ٢٠٢.

٢٨٣

أغلب الأغسال المستحبّة ممّا يمكن الالتزام فيها بالكفاية ولو على تقدير تأخّر سببها ، بدعوى : حصول ما هو المقصود منها بغسل الجنابة ، فيمنع ذلك من تنجّز الخطاب على المكلّف ، كالأغسال الزمانيّة والمكانيّة ، وما هي مقدّمة لبعض الأفعال ، كالزيارة وغيرها ، فتكون هذه الرواية حاكمة على أدلّتها ، كما أنّها حاكمة على سائر الأدلّة على وجوب الأغسال بعناوينها الخاصّة ، لأنّ مفاد هذه الرواية حصول ما هو المقصود من تلك الأوامر بغسل الجنابة ، فهي قرينة على التصرّف في الجميع ، إلّا أنّك عرفت أنّها بنفسها مقيّدة ـ بحكم العقل ـ بصورة إمكان حصول المقصود من غيره به ، وهو في غير ما لو تأخّر سبب مطلوبيّة نفس الغسل من غسل الجنابة ، فلا تعارض العمومات المقتضية لسببيّة مس الميّت أو قتل الوزغة مثلا للغسل ، بل العمومات واردة عليها من هذه الجهة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وقد يتمسّك لكفايته عن المستحبّ : بفحوى ما عن الفقيه أنّه روي في أبواب الصوم «من جامع في أوّل شهر رمضان ثم نسي حتى خرج شهر رمضان أنّ عليه أن يغتسل ويقضي صلاته وصومه إلّا أن يكون قد اغتسل للجمعة ، فإنّه يقضي صلاته وصومه إلى ذلك اليوم ولا يقضي ما بعد ذلك» (١).

ولكنّك خبير بما في الفحوى ، لإمكان منع المساواة ، فضلا عن الأولويّة ، خصوصا مع اختصاصها بالناسي.

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٧٤ ـ ٣٢١ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب من يصح منه الصوم ، الحديث ٢.

٢٨٤

نعم ، لو أمكن العمل بأصلها ، لتمّ القول بكفاية كلّ غسل عن غيره مطلقا ، لعدم القول بالتفصيل ظاهرا ، إلّا أنّ العمل به في غاية الإشكال بعد قصوره سندا ، ومخالفته لظواهر الأوامر الكثيرة المتعلّقة بالأغسال ، بل وغيرها ممّا دلّ على أنّه «لا عمل إلّا بنيّة وإنّما لإعمال بالنيّات» (١) وكذا مخالفته لقاعدة الاشتغال ، وهذه الأمور المذكورة وإن لم يكن شي‌ء منها ممّا يقاوم دليلا معتبر بحيث يعارضه ، إلّا أنّ رفع اليد عنها بمثل هذه المرسلة ـ التي نحتاج في جواز العمل بها في حدّ ذاتها إلى الجابر ـ مشكل.

هذا ، مع معارضتها برواية سماعة ، المتقدّمة (٢) التي عرفت أنّ ظاهرها وجوب غسل الجنابة على الحائض بعنوان الجنابة المعلوم عدم تحقّقه بهذا العنوان إلّا بالقصد.

وقد ظهر بما حرّرناه أنّ غاية ما يمكن استفادته من الأدلّة على تقدير قصد البعض إنّما هي كفاية غسل الجنابة عن غيره من الأغسال لا غير ، فيستكشف من ذلك كونه محصّلا لما هو المقصود من الأمر بالاغتسال في غيره من الأغسال ، (و) وأمّا كون ما عداه أيضا كذلك فلا.

فما (قيل) كما عن الشيخ وابن إدريس (٣) من أنّه (إذا نوى غسل الجنابة ، أجزأ عن غيره) من الأغسال (ولو نوى غيره) كغسل المسّ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٤ ـ ١ ، أمالي الطوسي ٢ : ٢٣١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ و ١٠.

(٢) تقدّمت في ص ٢٧٩.

(٣) كما في جواهر الكلام ٢ : ١١٤ ، وانظر : المبسوط ١ : ٤٠ ، والسرائر ١ : ١٢٣.

٢٨٥

أو غيره (لم يجزئ عنه) لا يخلو عن وجه.

وأمّا القول بكفاية كلّ غسل عن غيره ـ كما في المتن ـ ففي غاية الإشكال ، إذ غاية ما يمكن أن يستدلّ به لهذا القول هي المرسلة المتقدّمة (١) بالتقريب المتقدّم ، وبعض الأخبار المتقدّمة الموهمة للإطلاق (و) قد عرفت أنّ شيئا منها (ليس بشي‌ء) يلتفت إليه في إثبات مثل هذا الحكم المخالف للأصول والقواعد.

وقد يستدلّ لهذا القول أيضا : بوجوه ضعيفة مرجعها إلى دعوى اتّحاد الماهيّات ، أو إلى تحقّق الإطاعة بحصول ذات الفعل في الخارج لا بقصد الامتثال.

ويظهر ضعف الجميع من جميع ما تقدّم ، فلا يهمّنا الإطاعة بنقلها والتعرّض لما يرد عليها بالتفصيل.

بقي الكلام في الشبهة التي مرّت الإشارة إليها في مطاوي الكلمات ، وهي : أنّه كيف يعقل كفاية غسل واحد عن الواجب والمستحبّ!؟ وهل هذا إلّا اجتماع الوجوب والاستحباب في موضوع واحد شخصي؟ وأنت خبير بعدم اختصاص الإشكال بهذه الصورة ، بل هو سار في كلّ مورد نلتزم بكفاية غسل واحد عن المتعدّد ، لاستحالة اجتماع المثلين أيضا كالضدّين.

ويدفع الإشكال عن أصله ما تقدّم في مسألة ما لو توضّأ بعد اشتغال

__________________

(١) وهي مرسلة جميل بن درّاج ، المتقدّمة في ص ٢٧٦.

٢٨٦

ذمّته بواجب لغاية مستحبّة.

وملخّصه : أنّ المجتمع إنّما هو جهات الطلبات لا نفسها ، لأنّ عروض الجهة الملزمة للفرد المستحبّ ينافي الرخصة في تركه ، التي هي من مقوّمات الطلب الاستحبابي ، فينتفي الطلب فعلا ، إلّا أنّ محبوبيّته من حيث كونه محصّلا لهذا العنوان الراجح الذي تعلّق به أمر استحبابي ، التي هي ملاك الطلب وحسن الانقياد باقية بحالها ، فهذه العناوين الراجحة المتصادقة على الفرد كلّ واحد منها ممّا يزيده حسنا ، فيتأكّد به طلبه بحكم العقل ، فيتولّد من جميع الطلبات المتعلّقة بالعناوين المتصادقة على الفرد طلب عقلي متأكّد متعلّق بهذا الفرد ، فإن كان فيه جهة ملزمة يتبعها هذا الطلب العقلي ، فيكون هذا الفرد لأجل اشتماله على جهات أخر راجحة أفضل أفراد الواجب ، وإن لم يكن فيه جهة ملزمة ، يكون الإتيان بهذا الفرد مستحبّا مؤكّدا.

ألا ترى أنّ البديهة تشهد بأنّ اختيار التصدّق على الفقير المؤمن العالم من ذوي الأرحام بقصد سرور المؤمن وإكرام العالم ومواصلة ذي الرحم أرجح من التصدّق على الفقير الفاقد لهذه الأوصاف ولو في مقام إبراء الذمّة عن النذر ، وليس هذا إلّا لكون هذا الفعل الخاصّ محصّلا لما هو المقصود من جميع الأوامر وإن ارتفع عنه الطلب الاستحبابي فعلا لأجل صيرورته مصداقا للواجب ، فسرور المؤمن وإكرام العالم ومواصلة ذي الرحم محبوب لله تعالى دائما ، سواء حصل بها امتثال واجب ، كالوفاء بنذر التصدّق على الفقير ، أم لا.

٢٨٧

(الفرض الثاني) من فروض الوضوء : (غسل الوجه ، وهو) العضو المعروف ، وقد حدّه الشارع ـ صونا عن اختفاء حدوده على المكلّفين ـ بـ (ما بين منابت الشعر في مقدّم الرأس إلى طرف الذقن طولا).

وفي طهارة شيخنا المرتضى قدس‌سره : بلا خلاف ولا إشكال ، بل نسبه في المعتبر والمنتهى إلى مذهب أهل البيت عليه‌السلام (١). (وما اشتملت عليه الإبهام والوسطى عرضا).

وهذا التحديد هو المعروف ، بل الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم : عدم الخلاف في ذلك.

وفي المدارك : هذا التحديد مجمع عليه بين الأصحاب (٢).

والمستند فيه : ما رواه زرارة ـ في الصحيح ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنّه قال له : أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي أن يتوضّأ الذي قال الله عزوجل ، فقال : «الوجه الذي قال الله وأمر الله عزوجل بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر ، وإن نقص منه أثم : ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه» فقال له : الصدغ من الوجه؟ فقال : «لا» (٣).

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٠٨ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٤١ ومنتهى المطلب ١ : ٥٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٩٧.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨ ـ ٨٨ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٢٨٨

وفي رواية الكليني : «وما دارت عليه السبّابة والوسطى والإبهام» (١).

والروايتان متّحدتان بحسب المفاد ، إذ لا أثر للسبّابة بعد اعتبار الوسطى التي هي أطول منها عادة ، فلا يورث اعتبارها في الحدّ اختلافا في المحدود ، فذكرها إنّما هو لورود الرواية مورد الغالب ، نظير قوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) (٢).

وحاصل ما يظهر من الرواية مؤيّدا بفهم الأصحاب : أنّ الوجه الذي أمر الله تعالى بغسله ما يحيط به الأصابع حال الغسل من دون أن يقلب الكفّ إلى إحدى الصفحتين من قصاص شعر الناصية إلى الذقن.

والتعبير عن هذا المعنى بدوران الأصابع إمّا بلحاظ أنّ غسل الوجه ، أي إيصال الماء إلى جميع أجزائه بعد صبّ الماء عليه لا يكون غالبا إلّا بدوران الأصابع وجريها على حدود الوجه : الإبهام من طرف ، والسبّابة والوسطى من طرف آخر من قصاص الشعر إلى آخر الوجه ، أو بلحاظ أنّ إدارة الإصبعين من القصاص بحيث تنتهي الدورة إلى الذقن ـ كما هو ظاهر كلمة «من» و «إلى» ـ معرّف للوجه ، فعلى هذا التفسير لا تكون الرواية ناظرة إلى الكيفيّة الحاصلة في الغسل المتعارف ، فيكون المقصود من دوران الإصبعين من قصاص الشعر إلى الذقن وضعهما على القصاص وفتحهما بحيث تمتلئ الفرجة بينهما ثم إدارتهما بحيث تنتهي الدورة إلى الذقن ، فيحدث من ذلك شكل يشبه الوجه حقيقة والدائرة عرفا.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الوضوء ذيل الحديث ١.

(٢) سورة النساء ٤ : ٢٣.

٢٨٩

وهذا ممّا يقرّب إرادة هذا المعنى من الرواية ، مضافا إلى كونه أنسب بالنظر إلى ظاهر ألفاظها وإن كان المعنى الأوّل آنس بالذهن.

وكيف كان ، فالمراد بالاستدارة في الرواية ـ بحسب الظاهر ، ـ ليس إلّا ذلك ، لا الاستدارة الحقيقيّة ، ضرورة أنّ الوجه ليس مستديرا حقيقيّا بحيث تكون نسبة محيطة من كلّ نقطة تفرض فيه إلى قطبه متساوية.

ودعوى : أنّ الوجه له معنى شرعي فاسدة جدّا.

ويدلّ على فسادها ـ مضافا إلى وضوحه ـ : موثّقة سماعة ، قال :كتبت إلى الرضا عليه‌السلام : أسأله عن حدّ الوجه ، فكتب «من أوّل الشعر إلى آخر الوجه ، وكذلك الجبينين» (١).

وظاهر قوله عليه‌السلام : «وكذلك الجبينين» أي كذلك من أوّل الجبينين إلى آخر الوجه ، ومن المعلوم أنّ ما في هذه الرواية مطابق للوجه المعروف عند العرف ، إذ ليس الخطّ المحيط على الجبهة والجبينين قوسا من الدائرة المنطبقة على الوجه ، لأنّ الخطّ الواقع طرف الجبهة والجبينين إمّا مستو أو قريب من الاستواء ، فلا يكون قوسا من الدائرة المارّة على الذقن ، كما لا يخفى.

فيظهر من ذلك أنّ التحديد الوارد في غيرها من الأخبار أيضا إنّما أريد به بيان حدود الوجه المستعمل في معناه العرفي ، لا أنّه لبيان اصطلاح جديد من الشارع في معنى الوجه.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨ ـ ٤ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٢٩٠

فما ذكره المحقّق البهائي ـ قدس‌سره ـ في تفسير الرواية ـ حيث قال في محكيّ أربعينه : والذي يظهر لي من الرواية أنّ كلّا من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل عليه الإصبعان إذا ثبت وسطه وأدير على نفسه حتى يحصل شبه الدائرة (١) ، فذلك القدر هو الذي يجب غسله.

ثمّ ذكر أنّ قوله : «من قصاص الشعر» إمّا حال من الخبر ، وإمّا متعلّق بـ «دارت» يعني أنّ الدوران يبتدئ من قصاص الشعر منتهيا إلى الذقن ، ولا ريب إنّه إذا اعتبر الدوران على هذه الصفة للوسطى ، اعتبر للإبهام عكسه تتميما للدائرة المستفادة من قوله عليه‌السلام : «مستديرا» فاكتفى بذكر أحد هما عن الآخر ، وأوضحه بقوله عليه‌السلام : «وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه» فقوله عليه‌السلام : «مستديرا» حال من المبتدأ ، وهذا صريح في أنّ كلّا من طول الوجه وعرضه شي‌ء واحد هو ما اشتمل عليه الإصبعان عند دورانهما ، كما ذكر (٢). انتهى ـ ليس على ما ينبغي.

أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّ الوجه ليس مستديرا بالاستدارة الحقيقيّة لا لغة ولا عرفا ولا شرعا.

وثانيا : فلأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «ما دارت عليه الإبهام والوسطى كون

__________________

(١) قوله قدس‌سره : حتى يحصل شبه الدائرة.أقول : بعد فرض ثبوت وسط الإصبعين وإدارتهما على نفسهما كان مقتضى البرهان حصول الدائرة الحقيقية إلّا أن تحدّب الوجه يستلزم انقباض الإصبعين في الجملة حال مرورهما على الخدّين ، فيخرج به الدائرة من كونها حقيقية مصطلحة ، كما لا يخفى.(منه عفي عنه).

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٠٩ ، وانظر : الأربعون حديثا : ١٠٢.

٢٩١

كلّ من المتعاطفين مستقلّا بالحكم ، أعني دورانه من القصاص إلى الذقن وفرضهما كالخشبة الدائرة على نفسها خلاف ظاهر العطف.

وثالثا : فلأنّ اعتبار الدائرة بهذه الكيفيّة مستلزم لخروج بعض ما هو داخل في الوجه بالنصّ والإجماع ، لما أشرنا إليه من أنّ الجبهة والجبينين من الوجه بالنصّ والإجماع ، والخطّ الواقع في طرفهما ليس قوسا من الدائرة المنطبقة على الوجه ، فالإصبع الوسطى الموضوعة على الجبهة بحركتها الدوريّة تميل إلى السفل ، فيخرج بعض طرفي الجبهة وأغلب الجبينين من الدائرة المفروضة ، بل يخرج طرفا الذقن أيضا ، إذ ليس طرف الذقن كقوس هذه الدائرة في غالب الأشخاص.

ورابعا : فلأنّ المسافة بين الإصبعين في الغالب أزيد من الخطّ الواصل بين الذقن والقصاص ، وتسميته طول الوجه إنّما هي باعتبار قامة الإنسان أو باعتبار ظهور المسافة فيه لأجل كونه مسطّحا ، واختفائها بالنسبة إلى الجانبين ، فلا يتبيّن مقدار مسافتهما حتى يسمّى طولا ، بل قد يقال : إنّ الطول عبارة عن أوّل بعد يتراءى في الجسم ، فعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه.

ولو التزم بوجوب قبض الإصبعين وإمساكهما عمّا يزيد عن الحدّين ، لتوجّه عليه استلزامه خروج بعض أطراف الوجه ممّا انعقد الإجماع على وجوب غسله.

هذا كلّه ، مع بعد ما ذكره عن الفهم العرفي الذي هو المناط في معرفة الأخبار.

٢٩٢

والعجب ممّن (١) ارتضى هذا الكلام ، وطعن على علمائنا الأعلام ، وغفل عن أنّ تخطئة العلماء في مثل هذه الأمور خطأ ، إذ ليس ما ذكره معنى غامضا يختفي على العلماء تعقّله ، فعدم التفاتهم إلى هذا المعنى يكشف عن عدم ظهور الرواية فيه ، وأنّ من يري ظهورها فيه فإنّما هو لشبهة مغروسة في ذهنه ، كالأنس بالقواعد الهندسيّة أو غيره ، وعلى تقدير كونه معنى دقيقا لم تنله أذهان العلماء ينبغي الجزم بعدم إرادته من الرواية الواردة في تحديد الوجه ، الملحوظ فيها فهم العرف ، كما هو الأصل في أخبارهم عليهم‌السلام.

ولا يشكل ظاهر الرواية بدخول النزعتين ـ وهما البياضان المكتنفان بالناصية ـ في المحدود مع خروجهما إجماعا ، لأنّ المراد بالقصاص في الرواية منتهى منبت الشعر من مقدّم الرّأس وهو الناصية ، فلا يعمّ النزعتين ، كما أنّه لا يتوجّه الإشكال بدخولهما على تفسير المشهور ، لأنّ الإصبعين إذا كان مبدأ فتحهما من الناصية لا تتعدّيان الجبهة والجبينين غالبا.

هذا ، مع أنّ شمول الحدّ لهما غير ضائر بعد العلم بخروجهما من الوجه عرفا ، لما أشرنا إليه من أنّ التحديد الوارد في الشرع إنّما الملحوظ فيه بيان الحدود المشتبهة ، ولا شبهة عند أهل العرف في أنّ النزعتين من الرأس لا من الوجه ، فلا ينصرف إليهما الحدّ.

وكذا لا يتوجّه الإشكال على التفسير الأوّل : باستلزامه دخول بعض

__________________

(١) انظر : الوافي ٦ : ٢٧٨ ذيل الحديث رقم ٤٢٨٧.

٢٩٣

العنق في المحدود حيث إنّ الإصبعين تحيطان به حال محاذاة الكفّ للذقن ، لما ذكرنا من أنّ وضوح حاله دليل على عدم كونه مرادا من الرواية.

ثمّ إنّ العلماء رضوان الله عليهم ـ بعد إطباقهم على وجوب غسل ما يحيط به الإصبعان وعدم وجوب غسل ما لا تحيطان به ـ اختلفوا في وجوب غسل بعض المواضع ، ومنشؤه إمّا الاختلاف في تشخيص موضوعه ، أو النزاع في أنّه هل يحيط به الإصبعان أم لا؟ ولا يهمّنا التعرّض لتحقيقه بعد أن كان المناط إحاطة الإصبعين.

فنقول : كلّ ما يحيط به الإصبعان يجب غسله ، وما لا يحيط به الإصبعان لا يجب غسله ، سواء سمّي بالعذار أم لا.

نعم ، يجب غسل مقدار يسير من الأطراف الخارجة من الحدود بحكم العقل ، مقدّمة لحصول الواجب ، وكذا للعلم بحصوله ، والله العالم.

ولا يخفى عليك ـ خصوصا بعد ما عرفت من أنّ الوجه الذي أمر الله تعالى بغسله هو : العضو المعروف ، وليس للشارع فيه اصطلاح جديد ـ أنّ التحديد الوارد في الأخبار وفي كلمات علمائنا الأخيار إنّما أريد به تعيين حدود وجوه المكلّفين الذين أمرهم الله تعالى بغسلها ، ولا ريب أنّ وجوه المكلّفين مختلفة بحسب المسافة ، فلا يعقل أن يكون مقدار خاصّ معرّفا لجميع الوجوه ، ولذا لا ينسبق إلى الذهن حال استماع هذه التحديدات إلّا كون وجه كلّ مكلّف موضوعا برأسه ملحوظا بالنسبة إليه إصبعاه ، ولا يلتفت الذهن إلى كون إصبعي غيره مميّزا لحدود وجهه ،

٢٩٤

وهذا بخلاف الأشبار في تحديد مقدار الكرّ ، فإنّها منصرفة إلى الأشبار المتعارفة لأوساط الناس ، وأمّا فيما نحن فيه فلا ينصرف الإطلاق إلّا إلى إصبعي نفس المكلّف ، إلّا أنّ الحدود لمّا كانت منزّلة على الخلقة المتعارفة يعتبر في كون قصاص الشعر والإصبعين طريقا لمعرفة الوجه كونهما على الخلقة المتعارفة بأن تكون أعضاؤه متناسبة بحسب العادة ، سواء كانت جثّته صغيرة أو كبيرة ، ولا ينبغي أن يراد من مستوي الخلقة في هذا الباب إلّا هذا المعنى ، أعني متناسب الأجزاء ، فلو لم يكن على الخلقة المتعارفة إمّا لكبر وجهه أو صغره أو لطول أصابعه أو قصرها أو لخروج قصاص شعره من الحدّ المتعارف بالنسبة إليه ، فليرجع إلى من تناسبت أعضاؤه بأن يقيس نفسه على من تناسبت أعضاؤه بعد مماثلته في صغر الوجه وكبره ، فيميّز حدود وجهه بالمقايسة إلى مماثله. (و) على هذا فـ (لا عبرة بقصاص الأنزع) وهو من انحسر شعره عن القصاص المتعارف (ولا بالأغم) وهو من على جبهته الشعر (و) كذا (لا) عبرة (ب) إصبعي (من تجاوزت أصابعه) عن المقدار الواجب غسله من (العذار أو قصرت عنه ، بل يرجع كلّ منهم إلى) من شاكله في الوجه بشرط تناسب أعضائه ، فيميّز مقدار ما يجب عليه غسله بما يجب عليهم ، أو يرجع إلى غيره مطلقا ، سواء ماثله في الوجه أم لا ، بشرط أن يكون الغير الذي يرجع إليه من (مستوي الخلقة) فيلاحظ ما ينتهي إليه غسله من العذار والعارض ومواضع التحذيف وغيرها ، فيعيّن بذلك حدود وجهه الواجب عليه غسله (فيغسل ما يغسله) المستوي ،

٢٩٥

أي المواضع التي يغسلها من وجهه لا المقدار الذي يغسله ، ضرورة أنّ ذلك المقدار ربما لا ينتهي إلى حدود وجهه ، لكبره ، وربما يتعدّى عنها ، لصغره ، مع أنّ عدم وجوب غسل الزائد عن الوجه المعلوم خروجه ، وكذا وجوب غسل ما هو المعلوم دخوله في الوجه ممّا لا شبهة فيه ، فمعنى الرجوع إلى المعتدلين في الخلقة ليس إلّا تعيين حدود وجهه بالمقايسة إلى وجوههم. (ويجب) بل ولا يصحّ الوضوء إلّا (أن يغسل من أعلى الوجه إلى الذقن ، فلو غسل منكوسا ، لم يجزئه على الأظهر) الأشهر ، بل عن بعض (١) نسبته إلى المشهور. وعن بعض (٢) حواشي الألفيّة : دعوى الاتّفاق عليه.

ويدلّ عليه رواية قرب الإسناد عن أبي جرير الرقاشي ، قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : كيف أتوضّأ للصلاة؟ فقال عليه‌السلام : «لا تعمق (٣) في الوضوء ولا تلطم وجهك بالماء لطما ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا ، وكذلك فامسح على ذراعيك ورأسك وقدميك» (٤).

وقد ناقش في دلالتها شيخنا المرتضى رحمه‌الله : بأنّ الأمر فيه محمول على الاستحباب قطعا ، لتقييده بكونه على وجه المسح في مقابل اللطم (٥).

__________________

(١) حكاه عن العاملي في مدارك الأحكام ١ : ١٩٩ صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٤٨.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٤٨.

(٣) في قرب الإسناد : لا تغمس.

(٤) قرب الإسناد : ٣١٢ ـ ١٢١٥ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢٢.

(٥) كتاب الطهارة : ١١٠.

٢٩٦

وفيه : أنّ رفع اليد عن ظاهر الطلب بالنسبة إلى بعض القيود الواقعة في حيّزه بدليل خارجي لا يوجب رفع اليد عن ظاهره بالنسبة إلى ما عداه ، كما لو أمر المولى عبده بضرب زيد أوّل الصبح في داره ، وعلم من الخارج أنّ بعض هذه الخصوصيّات غير لازمة المراعاة لديه ، فلا يرفع اليد عن ظاهر الأمر بالنسبة إلى ما عداه ، ولا يصلح ذلك أن يكون قرينة لكون أصل الطلب مستعملا في الندب ، كما لا يخفى على من راجع العرف في محاوراتهم ، ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في معنيين كما حقّقناه في محلّه (١).

هذا ، مع أنّ غسل الوجه واجب بالضرورة ، فلا يمكن حمل الأمر المتعلّق بمصاديقه المشتملة على مزيّة راجحة على الاستحباب ، وإلّا للزم اجتماع الوجوب والاستحباب في الواحد الشخصي ، فلا بدّ من حمل الأمر على الوجوب التخييري ، والالتزام بأنّ متعلّقه أفضل أفراد الواجب المخيّر ، فالخصوصيّة الموجبة لمزيّة هذا الفرد على سائر الأفراد توجب تأكّد طلبه ، لا صيرورته مستحبّا ، ولذا لا يجوز تركه لا إلى بدل ، ويؤتى به في مقام الامتثال بقصد الوجوب ، كما يؤتى بسائر الأفراد الفاقدة لهذه الخصوصيّة بهذا القصد ، فالأمر المتعلّق به ليس إلّا للوجوب لا يجوز رفع اليد عن ظاهره بالنسبة إلى شي‌ء من القيود الواقعة في حيّزه ، إلّا أن يدلّ

__________________

(١) أقول : وسيأتي توضيحه بما لا مزيد عليه في مبحث لباس المصلّي من كتاب الصلاة في توجيه موثّقة ابن بكير ، الواردة في المنع من الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، فراجع. (منه عفي عنه).

٢٩٧

دليل خارجي عليه ، فيقتصر حينئذ على مقدار دلالة الدليل.

نعم ، لو كان الكلام في حدّ ذاته مسوقا لبيان رجحان هذه الخصوصيّة ، بأن يكون المقصود بقوله : اغسل وجهك مسحا ، الأمر باختيار امتثال الأمر الوجوبي المتعلّق بالغسل في ضمن هذا الفرد ، لكان الأمر حينئذ استحبابيّا ، ولكنّه خلاف الظاهر.

ووقوع الغسل مسحا في مقابل اللطم لا يصلح قرينة لإرادة ذلك ، فإنّ تقييد اللطم المنهي عنه في الرواية بقوله عليه‌السلام : «لطما» مشعر بل ظاهر في إرادة لطم مّا الذي لا يحصل به عادة غسل مجموع الوجه على الوجه المعتبر شرعا ، فيحتمل قويّا كون النهي المتعلّق به حقيقيّا لا تنزيهيّا ، كي يكون قرينة لحمل الأمر المتعلّق بمقابله على الاستحباب.

فعلى هذا يشكل استفادة كراهة كون الغسل بطريق اللطم من الرواية ، بل وكذا استحباب كونه بطريق المسح ، لقوّة احتمال جرى الأمر والنهي المتعلّقين بهما مجرى العادة بلحاظ حصول الغسل الشرعي وعدمه ، فالمراد بالرواية على هذا التقدير : ولا تعمق في الوضوء ، كما هو شأن الوسواسيّين ، ولا تلطم وجهك بالماء لطما مختصرا ، كما هو عادة المتسامحين الذين لا يبالون بامتثال الواجبات ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء بحيث ينغسل به جميع وجهك من أعلاه بالمسح.

وكونه بالمسح لا لأجل أنّ للمسح خصوصيّة اعتبرت ، بل لأجل أنّ غسل الوجه على الوجه المعتبر شرعا لا يتحقّق غالبا إلّا به ، فليتأمّل.

٢٩٨

وكيف كان ، فلا أرى في الرواية قصورا عن إفادة المطلوب.

وقد يستدلّ له أيضا : بالأخبار الكثيرة المستفيضة الحاكية لوضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :ففي بعضها : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ كفّا من ماء وصبّه على وجهه ثم مسح جانبيه حتى مسحه كلّه» (١).

وفي آخر : فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه (٢).

وفي الصحيح عن زرارة ، قال : حكى أبو جعفر عليه‌السلام وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدعا بقدح من ماء فأدخل يده اليمنى فأخذ كفّا من ماء فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه (٣) ، إلى آخره.

وفي رواية أخرى عنه ، أنّه غرف ملأها ماء ، فوضعها على جبينه (٤).

وعن تفسير العياشي أنّه غرف ملأها ماء ، فوضعها على جبينه (٥).

وعن العلّامة في المنتهى والشهيد في الذكرى أنّهما قالا بعد الصحيح الأوّل : روي عنه أنّه قال بعد ما توضّأ : «إنّ هذا وضوء لا يقبل

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤ ـ ٢٥ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) كذا ، وهذه الجملة عين ما ورد في الرواية التالية ، والمصادر لهما واحدة ، انظر :التهذيب ١ : ٥٥ ـ ١٥٧ ، والاستبصار ١ : ٥٨ ـ ١٧١ ، والوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٠.

(٣) نفس المصادر في الهامش أعلاه.

(٤) الكافي ٣ : ٢٥ ـ ٤ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٥) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٣٣ ، وانظر : تفسير العياشي ١ :٢٩٨ ـ ٥١.

٢٩٩

الله الصلاة إلّا به» (١).

وقد يناقش في دلالتها : بأنّ الغسل من الأعلى لا يدلّ على اعتباره ، وبطلان الوضوء بدونه ، لاحتمال أن يكون اختياره هذا الفرد لكونه أحد جزئيّات الكلّي المأمور به ، خصوصا بعد كونه هو الفرد المتعارف.

ووجوب التأسّي بمعنى الالتزام بهذه الخصوصيّة ممّا لا دليل عليه ولو بعد إحراز رجحانها في الجملة ، إذ ليس معنى التأسّي الواجب وجوب إيجاد المباحات أو المستحبّات.

وأمّا قوله عليه‌السلام ـ فيما أرسله العلّامة والشهيد ـ : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به» فهو مع إرساله مجمل لا يصلح لتقييد إطلاق الغسل ، إذ ليس المراد من المشار إليه هو الوضوء الشخصي ولا ما يماثله في خصوصيّاته الشخصية.

أمّا الأوّل : فواضح.

و [أمّا] الثاني : فلاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن ، كما لا يخفى.

فالمراد منه هو الوضوء المشتمل على أجزائه وشرائطه ، ولم يعلم من هذه الرواية إرادة شرط أو قيد زائد لا يفي ببيانه سائر الأدلّة ، فإطلاقات سائر الأدلّة وعموماتها حاكمة عليها ورافعة لإجمالها.

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٢ : ١٤٩ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٥٨ ، والذكرى : ٨٣ ، والفقيه ١ : ٢٥ ـ ٧٦ ، والوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١١.

٣٠٠