مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

لهذا الأمر المقدّمي الذي نوى امتثاله ، فلا محيص عن الحكم بالفساد في جميع صور المسألة ، لأنّ الأمر في الجميع مردّد بين أن لا يكون أمر واقعي أو كان ولم يقصد إطاعته.

لا يقال : إنّ مقتضى بعض الأجوبة المتقدّمة في التفصّي عن إشكال الدور ـ وهو : كون قصد القربة وامتثال الأمر كاشفا عن وقوع المقدّمة على صفاتها المأخوذة في قوام ذاتها ، لا كونه بنفسه قيدا حتى يلزم الدور ـ هو أيضا صحّة الوضوء في جميع الصور ، بل لو لم يقصد امتثال الأمر المتوجّه إلى نفسه أصلا ، كما لو نوى بفعله إيجاد الماهيّة التي هي مقدّمة لطواف بيت الله الحرام ، أو إيجاد ما هو مقدّمة على تقدير وجوبها ، أو ما وجب على زيد مقدّمة لصلاته الواجبة ، إذ كما تتعيّن الماهيّة المأمور بها بملاحظة الأمر المنجّز في حقّه ، كذلك يمكن تشخيصها إجمالا بهذه الوجوه أيضا.

لأنّا نقول : بعد قيام الإجماع والضرورة على اعتبار قصد القربة في صحّة الوضوء ليس لمتكلّم أن يتفوّه بهذا الكلام ، لأنّ غاية ما ارتكبناه في المقام أنّا بعد أن علمنا باستحالة كون إطاعة الأمر المقدّمي من مقوّمات ماهيّة المقدّمة ، وفرضنا عدم تعلّق أمر آخر بها سوى هذا الأمر المقدّمي ، التزمنا بأنّ قصد القربة والإطاعة كاشف عن تحقّق الماهيّة على وجه اعتبرها الشارع مقدّمة ، فلا بدّ لنا حينئذ من أن نلتزم بأنّ القيود المعتبرة في الماهيّة عند الشارع على نحو لا يمكن إحرازها إلّا بمعرفتها تفصيلا ، وهو متعذّر في حقّنا أو بإيجادها بداعي امتثال أمر منجّز.

٢٠١

وأمّا ما توهّم من استلزام كون القربة طريقا حصول التعريف بغيرها من المذكورات ، فهو فاسد جدّا ، إذ لا استحالة في كون المكلّف مريدا لفعل الغاية حال مطلوبيّتها أو نظائره ممّا يعتذر حصوله ممّن لم يقصد بفعله التوصّل إلى غاية من غاياته من الوجوه المعتبرة في ماهيّة المقدّمة ، ولا يمكن دفع احتمال مثل هذه الأمور ممّا هو ملزوم لقصد القربة :بالأصل بعد الإجماع على اعتبار قصد القربة.

نعم ، لو احتمل اعتبار قيد آخر أخصّ من ذلك ، كقصد امتثال خصوص الأمر بالصلاة ، أو رفع الحدث مثلا ممّا لا يتوقّف قصد القربة على قصده بالخصوص ، يدفع بالأصل.

هذا ، مع أنّك عرفت إمكان التفصّي عن الإشكال بغير هذا الوجه أيضا ، فلا يتعيّن فيه حتى يثبت بذلك مقتضاه ، فليتأمّل.

الفرع الثاني : لو اشتغلت ذمّته بموجب الوضوء وتوضّأ بنيّة التوصّل إلى غيره من الغايات المندوبة ، هل يصحّ وضوؤه؟ فيه وجهان ، أصحّهما : الصحّة ، لأنّ عروض صفة الوجوب لأجل غاية إنّما يزاحم فعليّة استحبابه بلحاظ غاياته الأخر ، لا رجحانه الواقعي الذي هو منشؤ الطلب الاستحبابي ، ومناط حسن الفعل وحصول الانقياد ، كما عرفت تحقيقه في بعض المباحث السابقة.

نعم ، عروض صفة الوجوب للطبيعة ، الموجب لارتفاع الطلب الاستحبابي يمنع من إيجادها بقصد الندب ، لا القربة المطلقة ، فإن أراد تعيين وجهه ، يوصفه بالوجوب ، ولكنّه لا يجعل وجوبه غاية للفعل ، كما

٢٠٢

هو واضح.

هذا إذا قلنا باتّحاد طبيعة الوضوء الواجب والمستحبّ ، وامتناع اتّصافها في زمان واحد بالوجوب والاستحباب ، وإلّا فإن بنينا على جواز الاجتماع ، أو قلنا باختلاف الطبيعتين ، فوجه الصحّة أوضح ، إلّا أنّك عرفت فيما سبق وهن البناءين.

الفرع الثالث : متى وقع ـ مثلا ـ الوضوء الواجب الرافع للحدث المبيح للصلاة ، يترتّب عليه أثره ، وهو ارتفاع الحدث منجّزا من غير تعلّق على تحقّق الصلاة بعده ، فإنّ المقدّمة إذا تحقّقت في الخارج بصفة الوجوب ، ووقعت طاعة لامتثال الأمر المتعلّق بها ، يرتفع الطلب عنها عقلا ، فتكون صحيحة ، ويترتّب عليها أحكامها من جواز التوصّل بفعلها إلى جميع ما يتوقّف عليها فعله وإن لم يتوصّل بها إلى الفعل الذي أتى بها لأجله ، إذ لا مدخليّة لفعل الغير في صحّة المقدّمة ، بل لا يعقل مدخليّته فيها ، لأنّه إنّما يمكن التوصّل بها إلى الغير على تقدير صحّتها ، فلو توقّف صحّتها على التوصّل ـ الذي هو عبارة عن فعل الغير عقيبها ـ لدار.

وقد نسب (١) ما ذكرناه من صحّة الوضوء ـ بمعنى ترتّب أثره عليه منجّزا بمجرّد وقوعه امتثالا للأمر الوجوبي المتعلّق به ـ إلى ظاهر المشهور.

نعم ، حكى في الحدائق عن بعض من تقدّم عليه : أنّه لا يجوز فعل الوضوء لمن لم يكن من نيّته فعل الصلاة ، وأنّه لو كان من نيّته فعل

__________________

(١) الناسب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٠.

٢٠٣

الصلاة ولم يفعلها ، تبيّن بطلانه (١). انتهى.

ولعلّه استند هذا القائل في فتواه إلى ما ذهب إليه بعض من قارب عصرنا (٢) في المسألة الأصوليّة من أنّ المقدّمة إنّما تتّصف بالوجوب إذا تعقّبها ذو المقدّمة ، وتوصّل بها إليه ، فإذا لم يحصل ذو المقدّمة ، لم تكن المقدّمة موجودة على صفة الوجوب ، فعدم تحقّق ذيها كاشف عن عدم اتّصافها بالمطلوبيّة حال وجودها ، وقد تبيّن ضعف هذه المقالة في الأصول بما لا مزيد عليه ، ولنشر في المقام إلى بعض ما فيه.

فنقول : إنّه لو تعلّق الأمر بالصعود على السطح ، ولم يكن الصعود متوقّفا إلّا على نصب السلّم ، المفروض كونه مقدورا بالذات ، فلا شبهة أنّ التكليف في مثل الفرض بناء على القول بوجوب المقدّمة يتعلّق بفعلين : أحدهما : فعل الصعود ، وهو أمر اختياري مقدور بالواسطة ، وهو مطلوب بالطلب النفسي ، والآخر : نصب السلّم الذي هو مقدور بالذات على ما هو المفروض ، فيجب مقدّمة لصيرورة المطلوب النفسي مقدورا.

وحينئذ نقول : فإن كان معروض الوجوب الغيري كالمطلوب النفسي مطلق فعل المقدّمة ، فهو المطلوب ، وإن كان فعلها المقيّد بكونه موصلا إلى الغير ، فلا شبهة أنّ إيجادها بهذه الصفة ليس مقدورا للمكلّف إلّا بلحاظ منشأ انتزاعها ، وهو فعل الغير عقيبه ، إذ ليست هذه الصفة من الأوصاف المتأصّلة التي يتشخّص بها الماهيّة ، وتتعلّق بإيجادها القدرة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ : ٢١٨.

(٢) انظر : كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٩٠ ، وهداية المسترشدين : ٢١٩.

٢٠٤

حتى يصحّ التكليف بإيجادها موصوفة بها ، فمرجع إيجاب إيجادها مقيّدة بهذه الصفة إلى إيجاب إيجاد الفعلين مترتّبين في الوجود بحيث تنتزع من ثانيهما هذه الصفة للفعل الأوّل ، فالتقييد إنّما هو بالفعل الثاني لا بالصفة المنتزعة ، وأنت خبير بعدم إمكان تقييد الفعل الأوّل بالثاني ، إذ ليسا في مرتبة واحدة من حيث المطلوبية ، فكما أنّهما مترتّبان وجودا ، كذلك مترتّبان وجوبا ، لأنّ وجوب الفعل الثاني ـ وهو الصعود ـ علّة لوجوب نصب السلّم ، عكس وجودهما ، وليس الفعلان بوصف الاجتماع مقدّمة للفعل الثاني حتى يعرضهما الوجوب الغيري ، وإنّما المقدّمة نصب السلّم المجرّد عن ضمّ الصعود إليه ، فهو معروض للوجوب لأجل تحصيل الصعود.

والحاصل : أنّا ندّعي أنّ موضوع الوجوب الغيري ما كان له قابلية الإيصال ، لا فعليّته ، بمعنى أنّ ما كان موصلا بالقوّة ـ وهي ذات المقدّمة ـ هو الواجب ، لا ما كان موصلا بالفعل ، والخصم لا بدّ من أن يعتبر الفعليّة ، إذ ليس له أن يدّعي أنّ متعلّق الوجوب هي المصاديق الواقعيّة التي جرى في علم الله تعالى أنّها ستخرج من القوّة إلى الفعل ، إذ ليس لتلك المصاديق من حيث هي خصوصيّة زائدة تتعلّق بإيجادها القدرة ، وإنّما الفعل المقدور الذي يصحّ تعلّق التكليف به إمّا إيجاد ذات المقدّمة من حيث هي ، أو هي بوصف كونها موصلة بالفعل.

ولكنّك عرفت أنّ هذه الصفة ليست من الأوصاف المتأصّلة في الخارج ، بل هي من الإضافات ، كالأبوّة والبنوّة ، فلا تحقّق لها إلّا باعتبار

٢٠٥

منشأ انتزاعها ، فالأمر بإيجاد الأوصاف النسبية أمر بإيجاد طرفي النسبة في الخارج ، فالقول بأنّ معروض الوجوب الغيري هو المقدّمة الموصلة مرجعه إلى القول بأنّ موضوع الوجوب الغيري هو مجموع الفعلين.

وفيه : ما لا يخفى.

سلّمنا إمكان ذلك ، إلّا أنّك قد عرفت أنّ الأمر بالمقدّمة الموصلة ينحلّ إلى الأمر بإيجاد ذات المقدّمة وإيجاد ما ينتزع منه هذه الصفة ، فمطلق المقدّمة مقدّمة لمقيّدها ، ومقدّمة المقدّمة كنفس المقدّمة واجبة ، فلو تحقّقت في الخارج بداعي أمرها الغيري ، تقع بصفة المطلوبيّة والوجوب لا محالة.

وتوهّم : اختصاص وجوبها أيضا بموصلتها ، مدفوع : بلزوم التسلسل ، فأين المفرّ من القول بوجوب مطلق المقدّمة بناء على القول بالوجوب ، كما هو المفروض؟ هذا كلّه لو بني على أنّ وصف الإيصال من قيود المطلوب ، كما هو الظاهر من مراده ، وأمّا لو قيل بأنّه شرط للطلب ، ففساده أوضح ، لأنّ وجود الفعل الثاني علّة لسقوط الطلب عن نفسه فضلا عن مقدّمته ، فكما لا يجوز أن يكون وجود شي‌ء شرطا لوجوب نفسه ، كذلك لا يمكن أن يكون شرطا لوجوب مقدّمته.

وبعد الإغماض عن ذلك كلّه نقول : إنّ صريح الوجدان يغني المصنف عن مطالبة البرهان ، لأنّك إذا راجعت وجدانك بعد علمك باشتغال ذمّتك بالصلاة المشروطة بالوضوء ، لا تكاد ترتاب في أنّ

٢٠٦

الواجب عليك قبل تحصيل الشرط أمران : أحدهما : فعل الوضوء ، والآخر : فعل الصلاة بعده ، فإذا توضّأت لأجل امتثال أمره هل تجد من نفسك احتمال بقاء الأمر بالوضوء وتنجّزه في حقّك بعد فعله كقبلة ، أم لا ترى إلّا توجّه الأمر بالصلاة في حقّك لا غير؟ وليس هذا إلّا لكون فعل الوضوء مسقطا لأمره المتعلّق به ، وهذا معنى صحّته ووقوعه بصفة المطلوبيّة ، وإذا وقع بهذه الصفة ، يمتنع انقلابه عمّا وقع عليه ، سواء لحقه فعل الغير أم لا.

وأمّا وجوب إعادته لو انتقض قبل فعل الصلاة ، فليس منافيا لذلك ، لأنّ العقل كما حكم بوجوب إيجاده أوّلا ، كذلك يحكم بوجوب إعادته بعد انتقاضه ما دامت الصلاة باقية على صفة المطلوبيّة.

ثمّ إنّ في المقام توهّما آخر ـ نظير التوهّم السابق ـ صدر من بعض الأعلام ، النافي وجوب مقدّمة الواجب مطلقا ، وهو : اختصاص وجوبها ـ على تقدير القول به ـ بما إذا كان المكلّف عازما على امتثال الواجب ، وإلّا فلا معنى لوجوب المقدّمة حال كونه بانيا على عصيان ذيها.

وكأنّ هذا البعض قاس الوجوب الشرعي بالإلزام العقلي الناشئ عن اللّابدّية والتوقّف الذي لا اختصاص له بمقدّمة الواجب ، ضرورة حصوله في مقدّمة الحرام أيضا ، فضلا عن غيره ، لأنّ كلّ من ينوي ارتكاب فعل من الأفعال ولو كان محرّما ، يلزمه عقله بتحصيل مقدّماته ، وأمّا الإيجاب الشرعي المولوي الذي يلتزم به القائل بوجوب المقدّمة ، فلا يعقل تعليقه على مشيئة المكلّف وعزمه على عدم عصيانه ، لاستلزامه إباحة

٢٠٧

الواجب (١) ، وفساده ظاهر.

ثمّ إنّ هذا القائل لو لم يعتبر في وجوبها ووقوعها بصفة المطلوبيّة إلّا مجرّد إرادة فعل ذيها ، فلا يضرّ قوله بمقالتنا ، وهي صحّة وضوء من كان من نيّته فعل الصلاة ولم يفعلها ، وإن اعتبر مع ذلك حصول مراده في الخارج مترتّبا على فعل المقدّمة ، يكون قوله أخصّ من القول السابق ، ومفاسده أعمّ كما لا يخفى.

هذا ، والذي يقتضيه التحقيق هو : أنّ مقدّمة الواجب من حيث هي معروضة للوجوب الغيري التبعي وتتبع ذاها في الوجوب إطلاقا وتقييدا ، لأنّ وجوبها متولّد من وجوبه ، فيتبعه ، لا من وجوده ، فلا يدور مداره ، فمتى تحقّقت في الخارج بداعي امتثال أمرها الغيري ، تقع بصفة المطلوبيّة والوجوب ، ويمتنع انقلابها بعد عمّا وقعت عليه.

هذا كلّه ، مع أنّ قوله عليه‌السلام : «إذا توضّأت فإيّاك أن تحدث وضوءا حتى تستيقن أنّك قد أحدثت» (٢) بل وغيره ممّا دلّ على أنّ الوضوء لا ينقضه

__________________

(١) قوله : لاستلزامه إباحة الواجب. أقول : ويمكن الخدشة فيه بأنّ هذا فيما لو علّقه على إرادة هذا الفعل لا فعل آخر كما في المقام. فالأولى أن يقال في تقريب الاستدلال بأنّ إرادة ذي المقدّمة بنفسها سبب تامّ للبعث على اختيار مقدّماته ما دامت باقية في النفس ، فإيجابها مشروطا بحصول هذا السبب لغو ، بل إيجاب للواجب ، وهو ممتنع ، فليتأمّل (منه رحمه‌الله).

(٢) الكافي ٣ : ٣٣ ـ ١ ، التهذيب ١ : ١٠٢ ـ ٢٦٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٧.

٢٠٨

إلّا الحدث أغنانا في خصوص ما نحن فيه عن كلفة إبطال مقالة الخصم.

وتوهّم : أنّ احتمال مدخليّة حصول الغاية في صحّة الوضوء يمنع من التمسّك بالرواية على ما هو التحقيق من كون الألفاظ أسامي للصحيحة ، مدفوع : بأنّ هذا الاحتمال على تقدير تحققه لا يوجب الترديد في مفهوم الوضوء الذي هو شرط للصلاة ، لأنّ تأثير فعل الصلاة في وقوع الوضوء مؤثّرا على تقدير إمكانه إنّما هو من القيود اللاحقة للموضوع له ، وليس اعتباره في عرض سائر الشرائط المأخوذة في مفهوم الوضوء ، ضرورة صدق الوضوء عليه قبل تحقّق الغاية ، واستفادة حكمه عند الشكّ في انتقاضه بالحدث من مثل الخبر المتقدّم (١) ، سواء كان الشكّ قبل التوصّل به إلى فعل الغاية أم بعده ، فالوضوء على هذا التقدير اسم للماهيّة التي لو لحقها فعل الصلاة ، لوقعت مؤثّرة ، كسائر أسامي أجزاء الصلاة وشرائطها ، كالفاتحة ونظائرها.

الفرع الرابع : لو توضّأ بنيّة التجديد ، فانكشف سبق الحدث ، فالأقوى : صحّة وضوئه ، وفاقا للمحكي (٢) عن الشيخ والمحقّق وجماعة ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليها ، ولكنّها في غير محلّها.

ووجه الصحّة : ما عرفت في غير واحد من الأخبار من ظهورها في كون الوضوء التجديدي بعينه هو الماهيّة التي وقعت أوّلا ، فهو مثلها في

__________________

(١) تقدّم آنفا.

(٢) الحاكي عنهم هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٣ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢٥ ، والخلاف ١ : ٢٠٣ ، المسألة ١٦٦ ، والمعتبر ١ : ١٤٠.

٢٠٩

تأثير النظافة ، فلو صادف الحدث رفعه ، وإلّا أكدّ النظافة.

ويؤيّده : ما عن الذكرى (١) ناسبا إلى ظاهر الأخبار والأصحاب من أنّ الحكمة في تشريعه تدارك ما في الطهارة الأولى من الخلل ، ومقتضاه : تأثيره في رفع الحدث لو كانت الأولى فاسدة ، وتكميله لو كانت ناقصة.

ومن هذا القبيل : ما لو توضّأ عقيب المذي والتقبيل استحبابا بزعم كونه متطهّرا ، فانكشف خلافه ، وكذا الوضوء المأتي به استحبابا باعتقاد الحيض أو الجنابة ، فظهر عدمهما ، وثبوت الحدث الأصغر ، إلّا أنّ استفادة وحدة الطبيعة التي هي مناط الصحّة من الأخبار في هذه الموارد لا تخلو عن خفاء ، خصوصا في القسم الأخير منها ، وهو : وضوء المحدث بالأكبر ، ولذا ادّعى في الحدائق ـ في عبارته المتقدّمة (٢) ـ أنّ إطلاق الوضوء على المجامع للحدث الأكبر مجاز ، كإطلاق الصلاة على صلاة الميّت ، وإن كان القول بالصحّة في الجميع لا يخلو عن قوّة ، ولكنّ الاحتياط خصوصا في وضوء الجنب والحائض ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

وأمّا الوضوء الاحتياطي : فإنّه ليس من هذا القبيل ، فإنّه لا إشكال في صحّته ورافعيّته للحدث على تقدير المصادفة ولو قلنا بتغاير ماهيّة الوضوءات المستحبّة مع غيرها ، بل لو بنينا على عدم رافعيّة الوضوءات السابقة للحدث على تقدير مصادفتها للمحلّ القابل ، لأمكن القول بها فيه لو كانت جهة الاحتياط مرعيّة لدى عامله حال العمل خصوصا في

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٣ ، وانظر : الذكرى : ٨١.

(٢) تقدّمت في ص ١٩١.

٢١٠

التجديدي منه ، والله العالم.

(ولا يعتبر) القصد مطلقا ، بل ولا المباشرة فضلا عن (النيّة) المشتملة على القربة (في طهارة الثياب ولا غير ذلك ممّا يقصد به رفع الخبث) إجماعا وقولا واحدا.

وفي المدارك : هذا مذهب العلماء كافّة ، عدا ابن سريج من العامّة (١).

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماع ، بل ارتكازه في أذهان المتشرّعة الكاشف عن وصوله إليهم من الشارع ـ ما يستفاد من الأخبار الكثيرة من حصول المقصود من الأمر بالتطهير ، وهو : زوال النجاسة عن المتنجّس بمجرّد إصابة المطهّر للنجس ولو لم يقارنها قصد وشعور من أحد.

مثل : قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» (٢).

وقوله عليه‌السلام : مشيرا إلى غدير من الماء : «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا وطهّره» (٣).

وقوله عليه‌السلام : «كلّ ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر» (٤).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٩٠.

(٢) الكافي ٣ : ١٣ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥ ، والحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

(٣) أورده العلّامة في المختلف ١ : ١٥ ، المسألة ١ ، والنوري في المستدرك ١ : ١٩٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة :٩٤ ، وليس في غير الأخير ذكر للغدير ، والحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

(٤) التهذيب ١ : ٢٧٣ ـ ٨٠٤ ، و ٢ : ٣٧٧ ـ ١٥٧٢ ، الاستبصار ١ : ١٩٣ ـ ٦٧٧ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، الحديث ٥ و ٦ ، والحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

٢١١

واستدلّ له أيضا : بإطلاقات الأمر بالغسل عن النجاسات ، بدعوى :أنّ ظاهر الأمر سقوط التكليف بإتيان المأمور به بأيّ وجه كان.

وفيه : ما عرفت في صدر المبحث من أنّ التمسّك بالإطلاق فرع صلاحيّة المطلق للتقييد ، وهي منتفية في المقام.

وقد ظهر لك ممّا ذكرنا أنّه لا خفاء في عدم اعتبار النيّة في الطهارة الخبثيّة التي هي عبارة أخرى عن إزالة النجاسات ، كما أنّه لا ريب في اعتبارها في الطهارة الحدثيّة.

فما ذكره في المدارك ـ من أنّ الفرق بين ما يحتاج إلى النيّة من الطهارة ونحوها وما لا يحتاج من إزالة النجاسات وما شابهها ، ملتبس جدّا (١) ـ لا يخلو عن نظر.

هذا بالنسبة إلى الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الأدلّة الاجتهاديّة ، وأمّا بالنظر إلى ظاهر التكليف فلا التباس في شي‌ء من الموارد لا في أبواب الطهارات ولا في غيرها من التكاليف ، لأنّ المرجع في موارد الشكّ إلى الأصل المقرّر للشاكّ ، وقد عرفت في صدر المبحث ما هو المختار لدينا من أنّ المرجع في مثل المقام أصالة البراءة ، وأنّ الأصل في الواجب كونه توصّليّا ، فراجع.

(و) هل ينافي القربة المعتبرة في صحّة العبادة إرادة حصول شي‌ء آخر بفعلها ، بمعنى أنّه يعتبر فيها وقوعها خالصة لله تعالى بحيث لا يشوبها

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

٢١٢

قصد شي‌ء آخر ، فـ (لو ضمّ) المتوضّئ (إلى نيّة التقرّب) بالوضوء (إرادة) شي‌ء آخر ، بطل وضوؤه من غير فرق بين أن يكون ذلك الشي‌ء مباحا كـ (التبرّد) أو التسخين ، أو التنظيف (أو غير ذلك) أو محرّما ، كالرياء ونحوه ، أو راجحا شرعا ، كضمّ قصد الحمية في الصوم ، أم لا يبطل إلّا في المحرّم دون المباح فضلا عن الراجح ، فلو توضّأ كذلك (كانت طهارته مجزية) أم لا يصحّ إلّا إذا كانت الضميمة تابعه في القصد بأن كان الباعث الأصلي على الفعل قصد امتثال الأمر بالوضوء بحيث استند الفعل إليه لا غير ، فإنّه يصحّ حينئذ مطلقا أو في غير المحرّم ، وأمّا فيه فلا يصحّ مطلقا ، أو يختصّ نفي الصحّة في غير فرض التبعيّة بما عدا الراجح شرعا ، وأمّا فيه فيصحّ مطلقا ، أو بشرط أن لا يكون امتثال الأمر بالوضوء تابعا؟ فيه وجوه ، بل أقوال ، أقوها : التفصيل في المباح بين ما إذا كانت الضميمة مقصودة ، بالأصالة ، أو بالتبع ، فيصحّ في الثاني دون الأوّل.

ومن المحتمل قريبا ـ كما عن كاشف اللثام (١) ـ تنزيل إطلاق القائلين بالصحّة مطلقا ، أو بالفساد مطلقا على هذا التفصيل.

وأمّا الضميمة المحرّمة : فلا تأمّل في إفسادها للعبادة وإن كان قد يتأمّل في بعض الموارد في حرمتها ، كما في الرياء التبعي الذي لا يكون باعثا على العمل ، وسيتّضح تفصيله إن شاء الله.

وأمّا الراجح شرعا : فلا إشكال في قصده مطلقا لو أريد من حيث

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٥ ، وانظر : كشف اللثام ١ : ٦٣.

٢١٣

كونه كذلك لا لذاته ، وإلّا فكالمباح.

نعم ، صحّة الوضوء في صورة تبعيّة قصده لا يخلو عن تأمّل.

فالكلام يقع في مقامات ثلاثة.

وليعلم أوّلا أنّ محلّ الكلام في المقام بالنسبة إلى الضميمة الغير المحرّمة إنّما هو فيما إذا كان إرادة حصول شي‌ء آخر منضمّة إلى إرادة أصل الفعل العبادي دون خصوصيّاته ، وأمّا إذا كان أصل الفعل مأتيّا به بداعي القربة وامتثال الأمر ولكن إرادة حصول أمر آخر صارت سببا لترجيح بعض الأفراد على بعض ، فإنّه لا إشكال في صحّته ، لأنّ قضيّة تعليق الأمر بالطبيعة تخيير المكلّف بإيجادها في ضمن أيّ فرد شاء من أفرادها الجائزة دون المحرّمة كما تقرّر في الأصول ، فله أن يتوضّأ بالماء المسخّن بالشمس مع كونه مرجوحا لبعض دواعيه النفسانيّة فضلا عن الإفراد المباحة أو الراجحة ، فلا وجه لاستشهاد بعض المجوّزين ببداهة جواز اختيار الماء الحارّ لأجل التسخّن بالوضوء في الشتاء والبارد في الصيف ، وكذا لو صلّى في مكان حارّ لأجل الاستسخان.

وكذا الاستشهاد لجواز قصد الراجح بإجهار الإمام صوته في التكبيرة لإعلام المأموم ، لما عرفت من أنّ المعتبر إنّما هو كون أصل الفعل بداعي أمره تعالى ، وأمّا كونه في مكان خاصّ أو زمان خاصّ أو بكيفية خاصّة وغيرها من العوارض المشخّصة الخارجة من ماهيّة المأمور به فأمرها موكول إلى مشيئة المكلّف ما لم تندرج تحت مفهوم محرّم ، فله إعلان صوته لتجويده فضلا عن الإعلام ، وهو أجنبي عن المقام.

٢١٤

المقام الأوّل : فيما لو قصد بفعله حصول أمر مباح ، فإن كان قصده تابعا لنيّة التقرّب ، فلا إشكال في الصحّة.

والمراد بتبعيّة قصده أن لا يكون الباعث على الفعل بحيث يستند إليه التأثير إلّا قصد امتثال الأمر ، فالتفاته إلى حصول هذا الشي‌ء على هذا التقدير لا يؤثّر إلّا في تأكّد عزمه وزيادة شوقه في تحصيل الفعل من دون أن يكون له مدخليّة في حصول الأثر.

نعم ، ثمرة تأكيده ربّما تظهر في الموارد التي طرأ على الباعث الأصلي ما يزاحمه في البعث لو لا تأكّده بهذه الضميمة ، ولكنّه في مثل هذا الفرض يخرج من فرض التبعيّة ، ويندرج في القسم الآتي.

ووجه صحّة الوضوء في هذا الفرض واضح ، لعدم منافاته للإخلاص المعتبر في صدق الإطاعة وصحّتها ، إذ لا يعتبر في صحّة العبادة عقلا وشرعا إلّا إيجادها بداعي الأمر من حيث هو لا غير ، ولا يراد من الإخلاص إلّا ذلك ، وهذا المعنى حاصل في الفرض.

ولعلّه لا خلاف في الصحّة في هذه الصورة ، لقوّة احتمال إرادة القائلين بالبطلان غيرها.

هذا ، إذا كان تابعا ، وأمّا لو كان له مدخليّة في حصول الأثر ، فالأقوى بطلانه ، سواء كان كلّ من القصدين جزء المؤثّر بحيث لو لا الآخر ، لما كان باعثا على الفعل ، أو كان كلّ منهما سببا مستقلّا لو لا الآخر لكن اجتماعهما أخرجهما عن الاستقلال.

٢١٥

وجه البطلان : منافاته للإخلاص الذي يدلّ على وجوبه ـ مضافا إلى إرسالهم له إرسال المسلّمات ، الكاشف عن كونه بديهيّا عندهم ، فضلا عن كونه إجماعيّا ، وتوقّف صدق الإطاعة عليه ، وعدم حصول قصد التقرّب إلّا به ـ ما يستظهر من غير واحد من الآيات والأخبار من أنّ الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلّا ما كان خالصا له وربّما يقرب الصحّة في القسم الثاني ، كما عن كاشف الغطاء (١).

قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في توجيهه : ولعلّه لدعوى صدق الامتثال حينئذ ، وجواز استناد الفعل إلى داعي الأمر ، لأنّ وجود الداعي المباح وعدمه حينئذ على السواء.

نعم ، يجوز استناده إلى الداعي المباح أيضا ، لكن القادح عدم جواز الاستناد إلى الأمر ، لا جواز الاستناد إلى غيره ، ألا ترى أنّه لو أمر المولى بشي‌ء وأمر الوالد بذلك الشي‌ء ، فأتى العبد مريدا لامتثالهما بحيث يكون كلّ منهما كافيا في بعثه لو انفرد ، وعدّ ممتثلا لهما.

وفيه : منع جواز استناد الفعل إلى كلّ منهما ، لامتناع وحدة الأثر وتعدّد المؤثّر ، ولا إلى أحدهما ، للزوم الترجيح بلا مرجّح ، بل هو مستند إلى المجموع ، والمفروض أنّ ظاهر أدلّة الإخلاص واعتبار القربة ينفي مدخليّة شي‌ء آخر في العمل.

وأمّا المثال المذكور فيمنع فيه صدق امتثال كلّ من المولى والأب.

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٥ ، وانظر : كشف الغطاء : ٩٠.

٢١٦

نعم ، لمّا اجتمع الأمران في فعل شخصي واحد لا يمكن التعدّد فيه ، لم يكن بدّ من الإتيان به مريدا لموافقة الأمرين ، وهذا غاية ما يمكن في هذا الفرض من موافقة الأمر ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه يمكن تخليص الداعي لموافقة الأمر ، وتحصيل التبرّد بغير الوضوء إن أمكن ، وإلّا فعليه تضعيف داعي التبرّد ، وتقوية داعي الإخلاص ، فإنّ الباعثين المستقلّين يمكن ملاحظة أحدهما دون الآخر ، كما لو أمر الشارع بإنقاذ ولده الغريق ، فإنّه قد ينقذه لمحض محبّة الولد من غير ملاحظة أمر الشارع وإن كان ينقذه لو كان غير ابنه لمحض الأمر ولو تكلّفا لا عن شوق.

وقد يكون الأمر بالعكس ، كجميع ما كان يصدر عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه من المشتهيات والملاذّ النفسانيّة حيث كانت تصدر منه عليه‌السلام لموافقة أوامر الله ، المتعلّقة بها باعتبار من الاعتبارات مع وجود الداعي المستقلّ الآخر بحيث لو فرضنا عدم رجحان ارتكابه شرعا من وجه من الوجوه ، كان يرتكبه بمقتضى الداعي النفساني فيه (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ولكنّك خبير بأنّ تضعيف الداعي النفساني قد لا يكون ميسورا حتى يصحّ تعلّق التكليف به ، أترى إمكان تكليف الأب ـ في المثال المذكور ـ بوجوب أن لا يكون إنقاذ الابن من حيث هو مقصودا له ، أو تكليف الجائع ـ الذي لا يصبر عن الطعام الواجب في حقّه الأكل حفظا لنفسه ـ بأن لا يكون الشبع من حيث هو مراده في الأكل.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٩٠.

٢١٧

وكذا من كان مقهورا بإرادته تنظيف وجهه لو لا الأمر بالوضوء ، فإنّه لا يمكنه تخصيص الأثر بالسبب الآخر.

نعم ، لو كان القصد المؤثّر في الفعل مجرّد الملاحظة أو الإخطار الصوري ، لكان ذلك ميسورا لكلّ أحد مطلقا ، وإذ ليس فليس ، فحينئذ إمّا أن يلتزم بارتفاع وجوب الوضوء وانتقال فرضه إلى التيمّم ، أو يقال بكفاية إيجاد الفعل بداعي القربة مع انضمامها إلى إرادة حصول أمر مباح في سقوط الأمر وحصول الانقياد ، لكونه هو القدر الممكن في مقام الإطاعة في الفرض ، والأوّل ـ مع مخالفته لظواهر الأدلّة ـ فاسد بديهة لا يلتزم به أحد ، فتعيّن الثاني.

اللهم إلّا أن يقال بوجوب البناء ـ في مثل الفرض ـ على وقوعه امتثالا للأمر ، وكفاية هذا البناء في الاستناد إلى داعي الأمر دون السبب الآخر ، فتأمّل.

ولعلّ وضوح صحّة الوضوء في هذا الفرض هو الذي جرّأ كاشف الغطاء ومن تابعه على إطلاق بالصحّة في نظير الفرض حتى في حال التمكّن ، إلّا أنّه في غاية الإشكال ، إذ لا ملازمة بين الصورتين ، لإمكان اختلاف مراتب الإطاعة بالنسبة إلى حال التمكّن والتعذّر ، فصحّة الفعل مع تركّب الداعي حال التعذّر لا تقتضي صحّته مطلقا ، فتأمّل.

المقام الثاني : فيما لو ضمّ إلى نيّة التقرّب إرادة حصول شي‌ء محرّم ، فإن كان ذلك الشي‌ء المحرّم ممّا يتّحد وجودا مع الفعل المأتي به بنيّة التقرّب ، فلا ريب في فساده مطلقا ، سواء كان تابعا في القصد أو

٢١٨

مقصودا بالأصالة منضمّا إرادته إلى إرادة أصل الفعل أو خصوصيّاته ، لاستحالة كون المحرّم عبادة. واختلاف الجهات غير مجد في ذلك كما تحقّق في الأصول ، فإرادة حصول الحرام بفعله الذي يتقرّب به تستلتزم قصد التقرّب بالفعل الذي لا يكون مأمورا به.

هذا ، مع أنّا لو قلنا بإمكان اجتماع الأمر والنهي في الفرد الخارجي ، لكان قصد حصول الحرام منافيا للإخلاص المعتبر في الصحّة إذا انضمّ قصده إلى قصد أصل الفعل ، كما في المباح.

وإن كان ذلك الشي‌ء المحرّم من قبيل الغاية للفعل العبادي ، فحكمه حكم المباح في كون قصد حصوله منضمّا إلى نيّة التقرّب بنفس الفعل مفسدا ، لمنافاته للإخلاص ، وبدونه فلا.

هذا لو لم نقل بكون الفعل المأتي به لغاية محرّمة إمّا لفحوى حرمة إعانة الغير على الإثم أو غيرها من الأدلّة التعبّديّة ، أو لأجل الالتزام بحرمة مقدّمة الحرام إذا كان ترتّب الحرام عليها مقصودا للعامل ، كما هو المفروض فيما نحن فيه ، وإلّا فحكمه حكم القسم الأوّل في كونه مفسدا مطلقا.

بقي الكلام في هذا المقام في بعض الموارد التي وقع التكلّم فيها بالخصوص.

منها : الرياء ، ولا تأمّل في حرمته في الجملة فتوى ونصّا ، كتابا وسنّة وإنّما الإشكال في تعيين موضوع الحكم من حيث الإطلاق والتقييد ، وتشخيص المراد منه ، ومعرفة ما يتفرّع عليه من الأحكام ،

٢١٩

وطريق تعيين الموضوع هو الرجوع إلى الأخبار الواردة في الباب ، والاقتصار على مفادها ، فلا بدّ من ذكرها أوّلا.

منها : رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به ، فإذا صعد بحسناته يقول الله عزوجل : اجعلوها في سجّين ، فإنّه ليس إيّاي أراد بها» (١).

وهذه الرواية تدلّ على أنّ العبادة التي لم يرد بها الله تعالى ، تثبت في كتاب الفجّار ، فتكون حراما.

ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «يجاء بالعبد يوم القيامة قد صلّى ، فقال : يا ربّ قد صلّيت ابتغاء وجهك ، فيقال له : بل صلّيت ليقال : ما أحسن صلاة فلان ، اذهبوا به إلى النار» ثم ذكر مثل ذلك في القتال وقراءة القرآن والصدقة (٢).

وظاهر هذه الرواية سببيّة أعماله المذكورة في الرواية بنفسها لدخول النار ، فتكون حراما.

ومنها : رواية ابن محبوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أظهر للناس ما يحبّ الله عزوجل وبارز الله بما كرهه لقي الله وهو ماقت له» (٣).

ونظيرها ما عن علي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «من تزيّن للناس بما يحبّ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٩٤ ـ ٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣.

(٢) الزهد : ٦٢ ـ ١٦٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠.

(٣) الكافي ٢ : ٢٩٥ ـ ١٠ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣ ، وفيهما عن ابن محبوب عن داود عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٢٢٠