مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

وبهذا ظهر ضعف ما قيل من أنّ إجمالها يوجب إجمال العمومات ، لأنّ إجمال المخصّص يسري إلى العامّ ، فيسقطه عن الحجّيّة.

توضيح ضعفه : أنّ كونها مخصّصة للعمومات غير معلوم ، فيرتفع الإجمال عنها بأصالة العموم.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّه يمكن دعوى القطع من تصريح الرواة الحاكين لفعل الإمام عليه‌السلام ، الذي صدر منه حكاية عن فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بهذه الخصوصيّة دون غيرها من الخصوصيّات ، وكذا تصريحهم في بعضها في حكاية غسل اليدين : بأنّه عليه‌السلام غسل يده اليمنى من المرفق إلى من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ لا يردّ الماء إلى المرفق كما صنع باليمنى (١) ، وكذا غيرها من القرائن بأنّ هذه الخصوصيّة كانت ملحوظة للسائلين ، وكان مقصودهم معرفة حكمها ، كما ينبئ عن ذلك معروفيّة الخلاف عن أهل الخلاف ، ولا شبهة أنّ الالتزام بالخاصّ إذا كان الفعل في مقام البيان بعد كون الخصوصيّة من مواقع الشبهة ، وعدم تعرّض الإمام عليه‌السلام لعدم وجوب الالتزام بها ، بل تصريحه بعد الفعل الشبهة ، وعدم تعرض الإمام عليه‌السلام لعدم وجوب الالتزام بها ، بل تصريحه بعد الفعل بأنّ «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به» دليل على وجوبها.

ولو ادّعى مدّع القطع بأنّ هذا النحو من الاهتمام ببيان وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن إلّا للتعريض على المخالفين ، وبيان أنّ عملهم مخالف

__________________

(١) التهذيب ١ : ٥٦ ـ ١٥٨ ، الإستبصار ١ : ٥٧ ـ ١٦٨ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ١١.

٣٠١

لسنّة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس كلّ البعيد.

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّه لا ينبغي الارتياب في أنّ الحكاية من الإمام عليه‌السلام لم تصدر لمجرّد الإخبار عن الأمور السالفة ، بل صدرت بيانا لكيفيّة الوضوء ، وما يصلح أن يكون الفعل بيانا له ليس إلّا هذه الخصوصيّة ، ووجوب المسح دون سائر الخصوصيّات ، لعدم اعتبارها جزما.

وأمّا وجوب أصل الغسلات فضروريّ لم يكن محتاجا إلى البيان ، وعدم جواز غسل اليدين قبل الوجه أيضا كذلك.

وعدم جواز المقارنة لا يستفاد من فعله عليه‌السلام ، كما لا يخفى.

وتعيين حدود المغسول لا يمكن تحصيله على سبيل التحقيق بالفعل ، مع أنّه لو كان مقصودا بالإفهام ، لكان على الناقلين نقل ما استفادوه.

واحتمال إرادة خصوص المسح يبعّده ارتكاب تكلّف الفعل.

فالإنصاف أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ هذا الفعل صدر منه صلوات الله عليه ، لبيان كيفيّة الوضوء من أوّله إلى آخره ، والخصوصيّة المحتمل إرادتها في سائر أجزاء العمل ليست إلّا هذه الخصوصيّة ، كما عرفت ، فتتعيّن إرادتها. وهذا هو السرّ في فهم العلماء من هذه الروايات لكيفيّة الغسل.

وكيف كان ، فلو نوقش في دلالة هذه الروايات ، فلا أقلّ من كونها مؤيّدة للرواية المتقدّمة.

٣٠٢

وقد يستدلّ أيضا : بعدم القول بالفصل بين غسل الوجه وبين غسل اليدين ، وسيجي‌ء أنّ الأقوى : عدم جواز النكس فيه ، فكذا في الوجه.

وهذا الاستدلال حسن على تقدير ثبوت الدعوى ، وفيه تأمّل.

واستدلّ بعض من ناقش في الأدلّة السابقة ببعض المناقشات المتقدّمة لإثبات المطلوب : بالأوامر المطلقة المتعلّقة بالغسل ، بدعوى :انصرافها إلى المتعارف ، وهو الغسل من الأعلى.

وفيه : منع تعارف كون الغسل من أعلى الجبهة بحيث ينصرف إليه الإطلاق.

وعلى تقدير تسليمه فالانصراف بدوي منشؤه غلبة الوجود ، ومثله لا يضرّ بالإطلاق.

وقد يستدلّ له أيضا : بقاعدة الاشتغال ، وهو مبنيّ على دعوى إهمال المطلقات ، وورودها في مقام بيان أصل تشريع الحكم ، كأغلب الإطلاقات الواردة في العبادات.

وفيها ما لا يخفى ، ضرورة ظهور مطلقات الباب حتى الكتاب العزيز في كونها مسوقة لبيان ماهيّة الوضوء ، وورود كثير منها في مقام الجواب عن أسئلة السائلين ، فكيف يمكن دعوى الإهمال فيها!؟ مع مخالفتها للأصل المعتمد عليه عند العقلاء في مباحث الألفاظ ، وهو حمل الكلام المسموع من المتكلّم على كون مفاده تمام مراده من هذا اللفظ ، ولذا لا يتوقّف العبيد في استكشاف مقاصد الموالي من أوامرهم بمجرّد احتمال

٣٠٣

كونهم في مقام تشريع الحكم.

وثبوت إرادة هذا المعنى في كثير من مطلقات الكتاب ، الواردة في العبادات بقرينة متّصلة ، كإجمال متعلّق الأمر ، أو منفصلة ، كورود تقييدات كثيرة موجبة لاستهجان إرادة الإطلاق من المطلق ، غير ضائر في التمسّك بالإطلاق فيما لم يثبت فيه ذلك ، كما فيما نحن فيه ، خصوصا مع كون أغلب ما هو من هذا القبيل ممّا كان متعلّق الخطاب فيه مجملا ، فهي بنفسها مجملات لا توجب كثرتها وهنا في المطلقات.

هذا ، مع أنّ ذكر الغاية في الآية من أقوى الشواهد على كونها مسوقة لبيان موضوع الحكم لا لمجرّد تشريعه.

مضافا إلى تصريح أمير المؤمنين (١) عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه‌السلام بأنّ هذه الآية من المحكم الذي تأويله في تنزيله ، ولا يحتاج تأويله إلى أكثر من تنزيله (٢).

بل وكذا استدلال الباقر عليه‌السلام في خبري زرارة وبكير لوجوب غسل

__________________

(١) في الوسائل : علي بن الحسين الموسوي المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه [: ١٦ و ٧٩] نقلا من تفسير النعماني بإسناده الآتي عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث قال : «والمحكم من القرآن ممّا تأويله في تنزيله مثل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [سورة المائدة ٥ :٦] وهذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله لا يحتاج تأويله إلى أكثر من التنزيل». ثم قال : «وأمّا حدود الوضوء فغسل الوجه واليدين ، ومسح الرأس والرّجلين وما يتعلّق بها ويتّصل ، سنّة واجبة على من عرفها وقد على فعلها» (منه قدّس سره).

(٢) المحكم والمتشابه : ١٦ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢٣.

٣٠٤

تمام الوجه واليدين ومسح بعض الرأس والرّجلين بالآية الشريفة (١).

ثمّ لو سلّم إهمال الأدلّة ، فالمرجع أصالة البراءة على المختار من جريانها في الشك في الشرطيّة.

اللهمّ إلّا أنّ يدّعى أنّ الشكّ في المقام شكّ في المكلّف به لا في التكليف ، لقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) فيجب على المكلّف إحراز الطهور ولو بالاحتياط ، لأنّ متعلّق التكليف مفهوم مبيّن ، والشكّ فيما به يتحقّق هذا المفهوم إلّا أنّ في كون مفهوم الطهور في الرواية مبيّنا وعدم إرادة أسبابه منه تأمّلا ، والله العالم.

ولا تجب مراعاة التحقيق في صدق كون غسل كلّ جزء بعد غسل ما فوقه حقيقة ، بل يكفي في غسل الوجه ما يصدق عليه عرفا أنّه غسل من أعلى وجهه إلى أسفله.

نعم ، لو كان مدرك الحكم قاعدة الاشتغال ، للزم مراعاة ذلك بأن لا يغسل الجزء السافل إلّا بعد غسل ما فوقه ممّا هو في سمته حقيقة لا بالمسامحة العرفيّة ، تحصيلا للقطع بحصول الطهارة المعتبرة في صحّة الصلاة ، إلّا أن يستظهر من الأخبار البيانيّة عدم مراعاة التحقيق ، أو يدّعى كونها حرجا منفيّا في الشريعة ، ولكن في الأخير منع ، والأوّل لا يخلو عن

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٥ ـ ٢٦ ـ ٥ ، و ٣٠ ـ ٤ ، الفقيه ١ : ٥٦ ـ ٢١٢ ، التهذيب ١ : ٦١ ـ ١٦٨ ، الإستبصار ١ : ٦٢ ـ ٦٣ ـ ١٨٦ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣ والباب ٢٣ من تلك الأبواب ، الحديث ١.

(٢) أورده ابن عبد البرّ في التمهيد ٨ : ٢١٥.

٣٠٥

تأمّل.

وأمّا احتمال وجوب غسل السافل بعد الفراغ عن جميع ما فوقه من الأجزاء ولازمه الالتزام بوجوب غسل الوجوه بخطّ عرضيّ على أدقّ ما يمكن ، فيدفعه ـ مضافا إلى تعذّره أو تعسّره المنافي لأدلّة نفي الحرج ، ومخالفته لسيرة المتشرّعة ـ : صريح الأخبار البيانيّة الحاكية لوضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يجب ولو على القول بإهمال الأدلّة ووجوب الاحتياط. (ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية) وخرج من حدود الوجه إجماعا ، كما عن غير واحد نقله.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الأصل والإجماع ـ : صحيحة زرارة ، المتقدّمة (١) الدالّة على انحصار ما يجب غسله من الوجه بما دارت عليه الإبهام والوسطى من قصاص الشعر إلى آخر الذقن.

نعم ، يجب غسل ما أحاط منها على الوجه ، لا لصدق اسم الوجه عليه حينئذ ، بل للأخبار الآتية الدالّة على قيامه مقام الوجه في إجزاء الماء عليه.

فلا وجه للاستشكال في نفي وجوب غسل الزائد عن حدّ الوجه ممّا يشتمل عليه الإصبعان على تقدير صغر الوجه ، لأنّ وجوب غسله إنّما هو لإحاطته على الوجه لا لذاته ، وصغير الوجه يعيّن حدود وجهه بالرجوع إلى المستوي لا بإصبعيه ، فلا يجب عليه إلّا غسل ما أحاط على

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢٨٨.

٣٠٦

وجهه من الشعر لا غير.

وعن الإسكافي : استحباب غسل ما استرسل (١).

وقد ينافيه قوله عليه‌السلام : «إن زاد عليه لم يؤجر» (٢) إلّا أن يدّعى عدم صدق الزيادة ما لم يكن غسل الزائد بعنوان كونه من الوجه ، ولكنّه يتوجّه عليه حينئذ مطالبة دليل الاستحباب.

وما في بعض الروايات الحاكية لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه عليه‌السلام غرف ملأ كفّه اليمنى ماء فوضعها على جبهته ثم قال : بسم الله ، وسدله على أطراف لحيته ثم أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينه مرّة واحدة (٣) ، لا يدلّ على غسلها.

وما يدلّ على جواز الأخذ من مائها للمسح عند الجفاف لا يدلّ على استحباب غسلها ، فلعلّ الوجه فيه كون مائها من بقيّة بلل الوجه ، ولأجل بقاء العلقة بينه وبين الوجه لا يقاس بالماء المنفصل عنه ، مع أنّ الحكم تعبدي لا يتوجّه عليه النقص.

والقول بأنّ هذا النحو من الإشعارات يكفي في إثبات الاستحباب ، للتسامح في أدلّة السنن ، وإن كان وجيها إلّا أنّه لا يخلو عن مسامحة ، فليتأمّل. (و) كذا (لا) يجب (تخليلها) أي : اللحية بإيصال الماء في

__________________

(١) انظر : مفتاح الكرامة ١ : ٢٣٦.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨ ـ ٨٨ ، التهذيب ١ : ٥٤ ـ ١٥٤ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٢٥ ـ ٤ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٣٠٧

خلالها لغسل ما استتر بها من البشرة والشعر.

وكذا لا يجب تبطينها بإيصال الماء إلى باطن الشعر الذي لا يقع عليه حسّ البصر (بل يغسل الظاهر) الذي يقع عليه حسّ البصر في بادئ الرأي بلا تعمّق وتأمّل في النظر ، بشرة كان المرئي أم شعرا محيطا على البشرة أم محيطا على الشعر المحيط على البشرة ، لما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت : أرأيت ما كان تحت الشعر؟ قال : «كلّ ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجرى عليه الماء» (١).

وفي الوسائل : رواه الصدوق بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال : «كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجرى عليه الماء» (٢).

وصحيح ابن مسلم عن أحدهما عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يتوضّأ أيبطن لحيّة؟ قال : «لا» (٣).

وفي خبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنّة ، إنّما عليك أن تغسل ما ظهر» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٤ ـ ١١٠٦ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣ ، وراجع : الفقيه ١ : ٢٨ ـ ٨٨.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٣٦٠ ـ ١٠٨٤ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٤) التهذيب ١ : ٧٨ ـ ٢٠٢ ، الإستبصار ١ : ٦٧ ـ ٢٠١ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

٣٠٨

وفي دلالة الأخير على المدّعى تأمّل ، لكونه مسوقا لبيان نفي وجوب المضمضة والاستنشاق ، فالحصر إضافيّ ، فتأمّل.

وكيف كان فهذا الحكم إجماعا ممّا لا شبهة فيه ، لصراحة الأخبار في إفادته ، بل عليه إجماع الفرقة ، كما عن الخلاف وغيره (١) نقله ، إلّا أنّ الإشكال والخلاف في تشخيص بعض مصاديقه الخفيّة ، كاللحية الخفيفة التي لا تغطّي البشرة ولا تمنع من وقوع حسّ البصر عليها ، فإنّ كلمات الأعلام في بيان حكمها في غاية الاضطراب حتى أنّ منهم من نفى الخلاف في وجوب تخليلها ، ومنهم من عكس الأمر ، وادّعى نفي الخلاف في عدم وجوب تخليلها ، وثالث جعل نزاعهم فيه لفظيّا.

قال الشهيد الثاني في محكيّ شرح الألفيّة : واعلم أنّ الخلاف في غسل بشرة الخفيف إنّما هو في المستور منها كما بيّنّاه ، لا في البشرة الظاهرة خلال الشعر على كلّ حال ، فإنّه يجب غسلها إجماعا ، لعدم انتقال اسم الوجه عنها وعدم إحاطة الشعر بها ، فعلى هذا لا بدّ في خفيف الشعر من إدخال الماء إلى البشرة التي بين شعره وغسل ما ظهر ، وحينئذ فتقلّ فائدة الخلاف في ذلك (٢). انتهى.

وجه قلّة الفائدة على هذا التقدير ظاهر ، لتوقّف غسل البشرة الظاهرة خلال الشعر الخفيف غالبا على غسل ما يستره الشعر الخفيف ولو

__________________

(١) الحاكي هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٢٤١ ، وانظر : الخلاف ١ : ٧٦ ذيل المسألة ٢٢ ، والمسائل الناصرية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٢٢٠ ، المسألة ٢٦.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٢ ، وانظر : المقاصد العلية : ٥٢ ـ ٥٣.

٣٠٩

من باب المقدّمة العلميّة.

وعن شارح الدروس عكس ذلك ، فنفى الريب عن عدم الخلاف في المستورة بالشعر الخفيف ، وانحصار الخلاف في البشرة الظاهرة خلال الشعر (١).

وعن ولده ـ قدس‌سره ـ أيضا استظهار ذلك في حاشية الروضة (٢).

وعن الحبل المتين : عدم الخلاف في وجوب غسل الظاهر ، وعدم وجوب غسل المستور [قال :] (٣) ومن هنا قال بعض مشايخنا : إنّ النزاع في هذه المسألة قليل الجدوى (٤). انتهى.

واعترض عليك شيخنا المرتضى رحمه‌الله ـ تبعا للوحيد البهبهاني (٥) ـ بأنّ النزاع حينئذ لفظي لا قليل الجدوى (٦). انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ اختلاف الأفهام منشؤه إجمال كلمات الأعلام ، وتأويل كلّ كلّها إلى ما يراه حقّا في المسألة ، فلا يهمّنا التعرّض لنقلها ، خصوصا بعد وضوح المناط ، فإنّ منشأ الخلاف ظاهرا الاختلاف في صدق الإحاطة على الشعر الخفيف وانتقال اسم الوجه إليه أم لا ، بناء على

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٢ ، وانظر : مشارق الشموس : ١٠٣.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٢ ، وانظر : التعليقات على شرح اللمعة الدمشقية : ٣١.

(٣) إضافة يقتضيها السياق.

(٤) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٢ ، وانظر : الحبل المتين : ١٥.

(٥) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٢ نقلا عن شرحه على المفاتيح.

(٦) كتاب الطهارة : ١١٢.

٣١٠

أنّ الوجه اسم لما يواجه به ، شعرا كان أم بشرة.

ولكنّك عرفت آنفا ضعف هذا البناء ، وأنّ الوجه اسم للعضو المخصوص ، وأنّ كفاية غسل ما أحاط به من الشعر إنّما هي للأدلّة الحاكمة على إطلاقات وجوب غسل الوجه ، فمدار المسألة إنّما هو على صدق الإحاطة وعدمه.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الشعر النابت على الوجه على أقسام :

منها : ما لا شبهة في إحاطته على الوجه عرفا ، وهو الشعر الكثيف المانع من وقوع حسّ البصر على البشرة في مجلس التخاطب ، وهذا القسم ممّا لا خلاف ولا إشكال في حكمه.

ومنها : ما لا شبهة في عدم صدق الإحاطة عليه عرفا ، كالشعر الدقيق الذي ينبت في أوائل خروج اللحية ولا يسمّى باسمها ، وكذا الشعر الخشن الذي ينبت على الوجه مع تباعد منبت بعضه عن بعض بعدا مفرطا أو بعدا في الجملة ولكن بشرط عدم التفاف بعضه ببعض ، بل قيام كلّ شعرة على أصلها ، فإنّه لا شبهة في عدم انصراف الرواية إلى مثلها ، بل عدم صدق الإحاطة عليها عرفا ، فإنّه يجب في مثل هذه الموارد غسل البشرة بلا إشكال ، بل الشعر أيضا إذا كان من توابعها عرفا على تأمّل يظهر وجهه عند التكلّم في شعر الذراعين ، ولو لم يكن من توابعها عرفا ـ كالشعرات الخشنة الطويلة المتدلّية على الوجه مثلا ـ لا يجب إلّا غسل شي‌ء يسير من أصوله تبعا للوجه ولو من باب المقدّمة العلمية.

ومنها : ما يشكّ في دخوله في أحد القسمين ـ كما هو الشأن في

٣١١

أغلب المفاهيم العرفيّة ، فإنّ لها مصاديق مشتبهة ـ ففي مثله يجب الرجوع إلى ما تقتضيه القواعد ، فلو شكّ في صدق الإحاطة على الشعر النابت على الوجه ، فإن كان منشؤ الشكّ إجمال المفهوم ، كما ربما يشكّ في صدق الإحاطة على ما يحكي بشرة الوجه مع التفاف بعضها ببعض وقرب منابتها ، فقد يتوهّم في مثله صدق الإحاطة ، وكونه بمنزلة الثوب الرقيق.

وقد يتخيّل عدم صدقها عليه عرفا ، أو انصراف الأدلّة عنه ، فالمرجع فيه إطلاقات أدلّة وجوب غسل الوجه ، فإنّ إطلاق المحكوم عليه في مثله يرفع إجمال الحاكم.

وإن كان منشؤ الشكّ الاشتباه في المصداق ، كما لو شكّ في أنّ لحيته هل هي مانعة من وقوع حسّ البصر على وجهه في مجلس التخاطب أم لا يجب عليه الاحتياط بغسل البشرة والشعر ، لدوران الواجب بين المتباينين ، وفي مثله يجب الاحتياط ، ولا يجوز التمسّك بإطلاق وجوب غسل الوجه ، ولا بعموم ما أحاط به الشعر ، لكون الشبهة مصداقيّة ، وقد تقرّر في محلّه أنّه يرجع فيها إلى ما يقتضيه الأصل ، وهو :الاحتياط فيما نحن فيه.

نعم ، يمكن أن يقال : يستفاد من التتبّع والتأمّل في الأخبار البيانيّة وغيرها ميزان يعرف به حكم الموارد المشتبهة ، وهو : كفاية إسدال الماء على الوجه ، وإمرار اليد عليه مرّة أو مرّتين بحيث لا يصدق عليه التعمّق والبحث والطلب والتبطين المنهيّ عنها ، فالشعر الذي يمنع من إصابة الماء إلى البشرة بعد الغسل بهذه الكيفيّة ينوب منابها ، بل يصدق الإحاطة عليه

٣١٢

أيضا ، إذ لا يمنع من إصابة الماء في الفرض بعد إجراء الماء والمسح باليد إلّا إحاطة الشعر ، فيقتصر على غسله ، وما لا يمنع من إصابة الماء إلى المحلّ لا يترتّب على تحقيق حاله ثمرة في مقام العمل ، لأنّ العلم بحصول غسل أحدهما لا ينفكّ عن غسل الآخر.

نعم ، يبقى الكلام في تعيين ما هو الواجب بالأصالة ، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة : وجوب غسل البشرة في صورة الاشتباه المفهومي لا الشعر إلّا أن يكون من توابع البشرة.

وكيف كان ، فالخطب في موارد الاشتباه سهل بعد وضوح عدم وجوب الطلب والبحث والتعمّق في تحصيل العلم بوصول الماء إلى أصول الشعر ، الكاشف عدم إصابة الماء إليها عن إحاطته على المحلّ ، خصوصا بعد التأمّل في الأخبار البيانيّة الدالّة على كون غسل الوجه في غاية السهولة.

ففي بعضها : أنّه عليه‌السلام وضع ملأ كفّه ماء وأسدله على أطراف لحيته ، ثم أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينه مرّة واحدة (١) ، مع أنّ الوجه غالبا لا ينفكّ عن الشعر الخفيف في الجملة.

وعدم كون لحيتهم ـ صلوات الله عليهم ـ خفيفة لا ينافي ذلك ، لعدم انحصار شعر الوجه في اللحية ، بل الغالب المتعارف خفّة الشعر النابت على الخدّين والعنفقة وما بين الحاجبين والهدب.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٥ ـ ٤ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٣١٣

ومن لم يطمئنّ بمثل فعله عليه‌السلام في حصول غسل ما يجب غسله من وجهه ففي قلبه مرض الوسواس ، وإلّا فالماء أسرع نفوذا من أن تمنعه الشعرات الخفيفة.

وكيف كان ، فهذا المقدار من الغسل يكفي في صحّة الوضوء ، وما لا يصل إليه الماء بهذا النحو من الغسل لإحاطة الشعر عليه لا يجب غسله ، سواء كان الشعر المحيط به خفيفا أو كثيفا ، إلّا أنّ الظاهر عدم انفكاك غسل المحلّ مع خفّة الشعر إلّا في بعض الفروض ، كما لو فرض طول الشعر وكثرته الموجبة لاجتماعه على العضو حال الغسل بوضع اليد عليه لإصابة الماء ، ففي هذه الحالة يستر البشرة ، ويحجبها عن وصول الماء إليها وإن لم يكن حاجبا عن رؤيتها في سائر الأحوال ، وفي مثل هذا الفرض نلتزم بكفاية غسله عن غسل البشرة ، لأنّ المناط كونه محيطا على البشرة حال الغسل بشرط كونه على الوضع المتعارف الذي يقتضيه غسل الوجه على ما هو المتبادر من الأخبار ، ففي مثله لا يجب البحث والطلب وإصابة الماء إلى باطن الشعر ، لصدق كونه محيطا بالبشرة حال الوضوء ولو لم نقل بصدقه في سائر الأحوال ، كما أنّ المناط في الشعر الظاهر ولو لم يجب غسله ما كان ظاهرا في هذه الحالة ، وإلّا لتعذّر حصول القطع الذي يجب غسله ما كان ظاهرا في هذه الحالة ، وإلّا لتعذّر حصول القطع بوصول الماء إلى ما كان ظاهرا قبل وضع اليد عليه بإجراء الماء عليه وإمرار اليد مرّة أو مرّتين ، لتغيّر أوضاع الشعر بوضع اليد عليه ، مع أنّ الأخبار البيانيّة وغيرها ناصّة بكفايته ، فتدبّر.

ويؤيّد ما ذكرناه ـ من عدم وجوب غسل ما لا يصل إليه الماء من

٣١٤

غير مبالغة ـ ما حكي عن الذكرى في تفسير الخفيف والكثيف ، حيث إنّه قدس‌سره ـ بعد أن فسّر الشعر الخفيف : بما ترى البشرة من خلاله في مجلس التخاطب ـ قال : أو هو ما يصل الماء إلى منبته من غير مبالغة (١).

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمّل في عدم وجوب غسل البقعة الواقعة في وسط اللحية المحيطة عليها من نواحيها ، لصدق الإحاطة التي هي مناط الحكم ، وعدم صحّة دعوى الانصراف عن مثله ، وكون إصابة الماء إليها بحثا وطلبا ، فلا يجب غسلها جزما ، كما أنّه لا يجب غسل ما يستره الشارب وغيره بالاسترسال إذا كان الموضع المستور قريبا من منبته ، وإلّا ففيه إشكال ، لإمكان دعوى كون الأخبار منزلة على الغالب ، وهو غير هذا الفرض وإن كان دعوى انصراف قوله عليه‌السلام : «كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه» (٢) إلى آخره ـ بعد سؤال السائل : أرأيت ما كان تحت الشعر؟ ـ عن مثل الفرض قابلة للمنع ، لا لأنّ العموم المستفاد من الرواية مستند إلى الوضع لا يحسن فيه دعوى الانصراف حتى يتوجّه عليه أنّ عمومه اللغوي إنّما هو بالنسبة إلى المواضع التي يجب غسلها لا بالنسبة إلى مصاديق الإحاطة ، فإنّ كفاية كلّ إحاطة إنّما تستفاد من الإطلاق لا العموم ، بل لدعوى أنّ المفروض من المصاديق الجليّة لدى العرف بل أظهر المصاديق الذي ينصرف إليه الذهن في مورد السؤال.

ودعوى ندرته يمكن منعها ، فترك الاستفصال في مثله يفيد

__________________

(١) الذكري : ٨٤.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨ ـ ٨٨ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٣١٥

العموم ، مضافا إلى إطلاق الجواب ، فتأمّل.

والأولى بالإشكال : ما لو كان منبت الشعر المحيط على البشرة خارجا عن حدّ الوجه ، كالصدغ المتدلّي على مجموع العذار إذا كان الموضع المستور محلّه المتعارف ، وإلّا فلا إشكال في وجوب غسل المحلّ دون الحالّ ، ولا ينبغي ترك الاحتياط في موارد الاشتباه خصوصا في الصورتين الأخيرتين ، والله العالم.

وكذا لا ينبغي التأمّل في أنّ كفاية غسل ما أحاط على البشرة عن غسلها عزيمة لا رخصة ، لما عرفت من حكومة أدلّتها على إطلاقات غسل الوجه ، فيقيّد بها مطلقاتها ، ولا دليل حينئذ على كفاية غسل البشرة عمّا وجب عليه ، ولا دلالة في الأدلّة الحاكمة على كون الحكم رخصة.

وقوله عليه‌السلام في خبر زرارة : «ليس على العباد أن يطلبوه» (١) لا يدلّ على كفاية غسل البشرة في امتثال الواجب ، خصوصا بعد وروده بطريق آخر : «ليس للعباد أن يطلبوه» (٢).

وليعلم أنّه لا فرق في عدم وجوب تخليل الشعر ووجوب غسل ظاهره بين شعر اللحية وغيرها ، كالحاجبين والهدب والعنفقة وغيرها ممّا أحاط على الوجه. (و) كذا لا فرق بين الرجل والمرأة نصّا وإجماعا ، فـ (لو نبت

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ٣١٥.

(٢) التهذيب ١ : ٣٦٤ ـ ١١٠٦ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢ ، وفيهما «.. أن يغسلوا».

٣١٦

للمرأة لحية ، لم يجب) عليها (تخليلها) بشرط كثافتها بالتفسير الذي تقدّم (١) نقله عن الشهيد رحمه‌الله. (ويكفي إفاضة الماء على ظاهرها) من دون تبطين ، فلو غسلت بشرة وجهها ، لم يجزئ ، كما تقدّم في الرجل ، والله العالم.

(الفرض الثالث) من فروض الوضوء ، الثابتة بالكتاب والسنّة والإجماع : (غسل اليدين ، والواجب) فيه (غسل الذراعين والمرفقين) بالأدلّة الثلاثة ، بناء على كون «إلى» في الآية بمعنى «مع» كما هو غير عزيز في الاستعمال.

ولا نعني من كونها بمعنى «مع» استعمالها فيه مجازا ، فإنّه بعيد ، بل بمعنى أنّه كثيرا مّا يراد في موارد الاستعمالات دخول الغاية في المغيّى فتكون كلمة «إلى» بمنزلة «مع».

وهذا وإن كان مخالفا للظاهر ولكنّه لا يستلزم تصرّفا في كلمة «إلى».

توضيح ذلك : أنّ كلمة «إلى» موضوعة لانتهاء الغاية ، ونهاية الشي‌ء طرفه الذي عنده ينتهي الشي‌ء ، فهي من حيث هي أمر انتزاعي غير قابل لأن ينازع في دخولها في المغيّى أو خروجها منه ، ولكن مدخول هذه الكلمة وكذا كلمة «حتى» قد يكون نفس الغاية الحقيقيّة التي هي الحدّ المشترك بين المسافة وما هو خارج منها ، كما لو قال : صم إلى آخر اليوم

__________________

(١) تقدّم في ص ٣١٥.

٣١٧

أو أوّل الليل ، فإنّ آخر اليوم لو أريد منه معناه الحقيقي لا الجزء الآخر مسامحة عبارة عن الحدّ المشترك الذي لو قيس إلى اليوم سمّي آخره ، ولو قيس إلى الليل ، سمّي أوّله ، نظير النقطة الموهومة التي ينقسم بها الخطّ ، فهي بداية لكلّ من القسمين باعتبار ، ونهاية لهما باعتبار آخر ، وليس لها في حدّ ذاتها طول حتى يزداد كلّ من الخطّين بزيادتها عليه ، وإلّا لما كانت حدّا مشتركا ، بل كانت جزءا من أحدهما ، وكان طرفها حدّا مشتركا ، فيخرج المفروض من كونه نقطة ، وهو خلاف الفرض.

وقد يكون مدخولها أمرا ذا أجزاء ومسافة ، مثل : صم إلى الليل ، وسر إلى المسجد ، وقد عرفت أنّ مجموع المدخول لا يعقل أن يكون غاية للصوم أو السير ، فلا بدّ في مثل المقام من تقدير كلمة يقتضيها المقام ، كلفظ «الأوّل» في المثال الأوّل ، وغيره ممّا يناسب في الثاني ، كداخل المسجد أو وسطه أو آخره ، إلى غير ذلك ، وهي تختلف بالنسبة إلى الموارد. والنزاع في دخول الغاية في المغيّى إنّما يتمشّى على هذا التقدير لا الفرض الأوّل.

والمراد من الغاية في هذا الاستعمال مدخول كلمة «إلى» وما بمعناها ، لا الغاية الحقيقيّة ، فمرجع النزاع في دخول الغاية في المسافة أو خروجها منها إلى النزاع في أنّ الغالب في هذه الاستعمالات انتزاع الغاية عن الجزء الآخر من مدخول كلمة «إلى» فيكون المدخول داخلا في المسافة ، أو انتزاعه من جزئه الأوّل ، فيكون خارجا.

وقد صرّح غير واحد بأنّ الغالب في المحاورات خروج مدخول

٣١٨

«إلى» من المسافة ، بخلاف «حتّى» فإنّ الغالب دخول مدخولها فيها ، فيحمل الموارد الخالية عن القرينة على الغالب.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : قد اختلفت كلمات العلماء واللغويّين في تفسير «المرفق» فمنهم من قال بأنّ المرفق عبارة عن المفصل أو الموصل على اختلاف التعابير ، كما هو المحكيّ عن أكثر اللغويّين وكثير من العلماء ، بل في الحدائق : أنّه هو المشهور ، قال فيها : المرفق كمنبر ومجلس : المفصل ، وهو رأس عظمي الذراع والعضد ، كما هو المشهور.

أو مجمع عظمي الذراع والعضد ، فعلى هذا شي‌ء منه داخل في الذراع وشي‌ء منه داخل في العضد (١). انتهى.

فإن أريد من رأسهما السطح الواقع في طرفهما الذي هو المفصل حقيقة ، كما يفصح عن ذلك تفريعه الدخول على المعنى الثاني ، فهذا ممّا خروجه يبعّده نزاعهم في دخوله في المحدود ، وكون «إلى» بمعنى «مع» أو خروجه منه ، لما أشرنا إليه من أنّه لا وقع لهذا الكلام على هذا التقدير ، فمن هنا يغلب على الظنّ أنّ مرادهم بالمفصل أو الموصل هو الجزء الذي يتقوّم به الفصل والوصل لا خصوص طرفهما الذي هو أمر انتزاعي ، فيؤول إلى المعنى الثاني أو يقرب منه.

كما يؤيّد ذلك ما حكي (٢) عن بعض من تقارب التفاسير المذكورة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ : ٢٤٠.

(٢) حكاه عنه شارح الدروس ، الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٤ ، وانظر :مشارق الشموس : ١١٠.

٣١٩

للمرفق.

وربّما نسب إلى بعض القول بأنّ المرفق طرف الساعد خاصّة (١) ، كما عن ظاهر الفاضل في المنتهى ومحتمله في النهاية (٢).

ولعلّه أراد بهذا طرفه الحقيقي الذي هو عبارة عن الحدّ المشترك ، احتراز عن القول بالمجموع ، فيؤول إلى المعنى الأوّل.

ولكن يبعّده ما عرفت من عدم صلاحيّته حينئذ ، لوقوع الكلام فيه في كون «إلى» بمعنى «مع» فالأولى تنزيل كلماتهم على ما يناسب ذلك.

وكيف كان فيدلّ على وجوب غسل المرفق مع الذراع السنّة ونقل الإجماع المستفيضان ، وأمّا استفادته من الآية الشريفة من حيث هي فمحلّ نظر بل منع ، بل هي بظاهرها تقتضي عدمه بمقتضى ما ادّعوه من أنّ الغالب خروج مدخول «إلى» من المحدود.

وأمّا الأخبار الدالّة عليه ، فمنها : رواية الهيثم بن عروة التميمي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٣) فقلت : هكذا؟ ومسحت من ظهر كفّي إلى المرافق ، فقال : «ليس هكذا تنزيلها ، إنّما هي (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) من (الْمَرافِقِ) ثم أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه (٤).

__________________

(١) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٦٢.

(٢) انظر منتهى المطلب ١ : ٥٩ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٨.

(٣) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٥٧ ـ ١٥٩ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٣٢٠