مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

الأسباب الشرعيّة إلّا كالأسباب العقليّة ، فكما أنّه يمتنع عدم تحقّق الطبيعة في الخارج في ضمن فردين على تقدير تكرّر علّة وجودها بشرط قابليّتها للتكرار ، فكذا يتعدّد اشتغال الذّمّة بتعدّد أسبابه.

وقد ظهر ممّا ذكرناه فساد تنظير المقام بالأوامر المتعدّدة المؤكّدة بعضها بعضا كما لا يخفى.

وقد يتوهّم أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة وإن كان ما ذكرناه ، إلّا أنّ إطلاق الجزاء ينفيه ، لأنّ مقتضاه كفاية ما يصدق عليه الطبيعة ، فتقييدها بغير الفرد المأتيّ به امتثالا للأمر الأوّل يحتاج إلى دليل. وتحكيم إطلاق الشرط عليه تحكّم.

ويدفعه : أنّ التقييد إنّما نشأ من حكم العقل بعد استفادة السببيّة من الدليل ، فإطلاق السبب منضمّا إلى حكم العقل بأنّ تعدّد المؤثّر يستلزم تعدّد الأثر بيان للجزاء ، ومعه لا مجال للتمسّك بإطلاقه ، وليس المقام من قبيل تحكيم أحد الظاهرين على الآخر حتى يطالب بالدليل ، بل لأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني يتوقّف على إطلاق سببيّته ، ومعه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم العقل ، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه.

نعم ، التمسّك بالإطلاق إنّما يحسن في الأوامر الابتدائية المتعلّقة بطبيعة واحدة لا في ذوات الأسباب ، فإنّ مقتضى إطلاق الجميع : كون ما عدا الأوّل تأكيدا له ، واحتمال التأسيس ينفيه أصالة الإطلاق.

والعجب ممّن عكس الأمر ، فالتزم بكفاية فرد واحد في المقام ، تمسّكا بإطلاق الجزاء ، وعدم كفايته في الأوامر الابتدائية المتعلّقة بطبيعة واحدة لا في ذوات الأسباب ، فإنّ مقتضى الإطلاق الجميع : كون ما عدا الأوّل تأكيدا له ، واحتمال التأسيس ينفه أصالة الإطلاق.

والعجب ممّن عكس الأمر ، فالتزم بكفاية فرد واحد في المقام ، تمسّكا بإطلاق الجزاء ، وعدم كفايته في الأوامر الابتدائية ، استنادا إلى

٢٦١

الفهم العرفي.

وفيه ما عرفت.

وأمّا دعوى : أنّ المتفاهم من مثل : «اضرب زيدا اضرب زيدا» و «أعط زيدا درهما أعط زيدا درهما» عرفا التعدّد عريّة عن الشاهد ، فأصالة الإطلاق محكّمة عليها.

إن قلت : إنّ ما ذكرت من أنّ تعدّد السبب إنّما يقتضي تعدّد الجزاء مسلّم إذا كانت الأسباب أسبابا حقيقيّة ، وأمّا على ما هو المعروف من أنّ العلل الشرعيّة معرّفات عن الأسباب الواقعيّة ، فلا ، لجواز أن يكون لسبب واحد لوازم عديدة كلّ واحد منها يكشف عن وجود ما هو السبب في الواقع ، ولذا صرّح غير واحد بابتناء المسألة على كون العلل الشرعيّة أسبابا حقيقيّة أو معرّفات.

قلت : أوّلا : دعوى أنّ العلل الشرعيّة على إطلاقها معرّفات ممّا لا دليل عليها ، بل ظواهر القضايا الشرطيّة أدلّة على خلافها.

نعم ، قد يوجد في الشرعيّات ما علم أنّها معرّفات ، كالبيّنة واليد والإقرار ونظائرها من الأسباب التي اعتبرها الشارع كواشف عن الملكيّة التي هي سبب لجواز التصرّف.

وأمّا جواز اجتماعها على مسبّب واحد كالإحداث المتعدّدة المجتمعة أو المتعاقبة ، وأسباب وجود قتل زيد في المثال المتقدّم ، فلا ينافي سببيّتها حقيقة حتى نحتاج إلى هذا التكلّف ، لوجود نظيرها في

٢٦٢

الأسباب العقليّة ، إذ ليس أسباب وجوب القتل إلّا كأسباب نفس القتل ، فما هو التوجيه لأسباب نفس القتل حال اجتماعها ـ كما لو سقط زيد من مكان عال وشقّ بطنه وفري أوداجه ـ هو التوجيه في أسباب وجوبه ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ هذه الدعوى في المقام غير مجدية ، لأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة كون كلّ سبب معرّفا فعليّا ، ولا ريب أنّ المعرّف الفعلي سبب لحصول التعريف ، ووجود المعرّف في الذهن ، فتعدّده يستلزم تعدّد المعرّف ، فيجب أن يكون السبب المستكشف بالمعرّف الثاني مغايرا لما استكشف بالمعرّف الأوّل ، وإلّا للزم تحصيل الحاصل ، وهو باطل ، فيعود المحذور.

وأمّا إقامة الأدلّة المتعدّدة على مطلوب واحد فلا تدلّ على جواز حصول العلم بكلّ منها ، ضرورة أنّ العلم إمّا يحصل من المجموع أو من بعضها ، وعلى الثاني فما يذكر بعده من الأدلّة لا يعقل أن يكون مؤثّرا في حصول هذه المرتبة من العلم ، بل إمّا يحصل بها مرتبة اخرى من الانكشاف ، أو أنّها أدلّة شأنيّة تذكر في طيّ الاستدلال لما يترتّب عليها من الفوائد ، وكيف لا!؟ مع أنّ المسألة عقليّة لا تتخصّص ، فلا فرق في استحالة توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد بين الموجود الذهني والخارجي ، وتقييد معرفيّة السبب فعلا بعدم كونه مسبوقا بمعرّف آخر ليس بأهون من تقييد سببيّته بذلك حتى نتفصّى عنه بهذا التكليف ، كما هو ظاهر.

٢٦٣

ولا فرق في وجوب تعدّد الجزاء بتعدّد السبب بين كون الجزاءات المتعدّدة تعبّديّة أو توصّليّة أو مختلفة ، إذ الفرق بينهما إنّما هو في كفاية تحقّق ذات الواجب في الخارج مطلقا في الثاني دون الأوّل ، وقد تقرّر لك أنّ مقتضى تعدّد السبب تعدّد ذات الواجب سواء أتي بها بقصد الامتثال أم لا ، فلا فرق بينهما فيما نحن فيه.

بقي في المقام شي‌ء يجب التنبيه عليه ،وهو : أنّ ما ذكرناه من ظهور القضيّة الشرطيّة في سببيّة الشرط للجزاء مطلقا ممّا لا تأمّل فيه ، ولكنّه ربّما يتأمّل في اقتضاء إطلاق سببيّة الشرط عمومها من حيث الأفراد فيما إذا علّق الجزاء على طبيعة الشرط ، فإنّه ربما يقال : إنّ قضيّة التعليق على الطبيعة ليست إلّا سببيّة تلك الطبيعة من حيث هي بلحاظ تحقّقها الخارجي مطلقا لإيجاب الجزاء من دون أن يكون لأفرادها من حيث خصوصيّاتها الشخصيّة مدخليّة في الحكم ، ومن المعلوم أنّ الطبيعة من حيث هي لا تقبل التكرّر ، وإنّما المتكرّر أفرادها التي لا مدخليّة لخصوصياتها في ثبوت الجزاء.

مثلا : لو قال الشارع : إذا لاقى ماء البئر بدن الجنب فانزح منها سبع دلاء ، نقول : لا يفهم منه إلّا أنّه يجب نزح السبع لأجل الملاقاة من حيث هي ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يقع في البئر فرد من الجنب أو أفراد كثيرة ، دفعة أو تدريجا.

أمّا دفعة : فواضح ، فإنّه إذا تحقّقت الطبيعة في ضمن المجموع دفعة واحدة ، يكون المجموع من حيث المجموع سببا واحدا للجزاء ،

٢٦٤

وليس فيه مخالفة لظاهر القضيّة الشرطيّة أصلا.

وأمّا إذا وقعت تدريجا : فمقتضى كون الطبيعة هي السبب : حصول المسبّب بتحقّق مسمّاها في ضمن الفرد الأوّل ، وكون ما عداه من الأفراد أسبابا شأنيّة ، فإنّ تحقّقها في ضمن الفرد الثاني ليس إلّا كبقائها في ضمن الفرد الأوّل بعد حصول المسمّى عند استدامتها إلى الزمان الثاني ، فكما أنّ عدم تأثيرها ثانيا في الفرض الثاني ليس منافيا لظاهر الدليل حتى ينفيه أصالة الإطلاق كذلك في الفرض الأوّل.

واتّصاف الملاقاة ـ التي هي السبب ـ بالوحدة عند استدامتها إلى الزمان الثاني ، وبالتعدّد عند تجدّدها في ضمن الأفراد المتعاقبة إنّما يصلح فارقا إذا كان الحكم معلّقا على وجودات الطبيعة وتشخصاتها ، أي أفرادها ، دون ما إذا كان معلّقا على الطبيعة بلحاظ تحقّقها الخارجي ، وبينهما فرق بيّن.

فعلى الأوّل لا يتنجّز الأمر بالجزاء إلّا بعد أن يتفرّد الفرد بالفرديّة عرفا وإن طالت مدّته ، فيكون مجموع أجزاء الفرد الممتدّ مؤثّرا في إيجاب الجزاء.

وعلى الثاني يتنجّز التكليف بعد حصول المسمّى ، ولا مدخليّة لما زاد عنه في التأثير ، لكن لا يصحّ منه الجزاء ما دام السبب موجودا وإن لم يكن الأثر مستندا إليه بالفعل.

فلو نزح في المثال بعد حصول المسمّى ، لا يجديه النزح ما دام الجنب في البئر ، لأنّ بقاءه وإن لم يكن علّة فعليّة لكنّه مانع من تأثير

٢٦٥

النزح في سقوط التكليف ، كما هو ظاهر.

فتلخّص لك أنّ استفادة سببيّة كلّ فرد فرد من أفراد الشرط من القضيّة الشرطيّة التي علّق فيها الجزاء على الطبيعة دون الأفراد ـ كالمثال المتقدّم ونظائره ، مثل قوله عليه‌السلام : «من أتى حائضا فعليه نصف دينار» (١) ـ في غاية الإشكال.

اللهم إلّا أن يدّعي أنّ المتبادر منها عرفا سببيّتها بلحاظ ما يتحقّق منها في الخارج ، أعني مصاديقها إمّا مطلقا ، أو إذا كانت متعاقبة ، لا سببيّتها من حيث تحقّقها الخارجي.

وفيه تأمّل ، وعهدته على مدّعيه ، وعلى تقدير الشكّ يرجع إلى قاعدة البراءة ، كما عرفت ، والله العالم.

هذا كلّه فيما لو اتّحدت ماهيّة الجزاءات المتعدّدة ، وأمّا لو تعدّدت وتصادقت في فرد ـ كما لو قال : إن جاءك زيد فأكرم فقيرا وإن جاءك عمرو فأضف هاشميّا أو فأكرم هاشميّا ـ فالذي تقتضيه القواعد وقوعه امتثالا للجميع لو أوجده بقصد امتثال الجميع ، كما تقدّم بعض الكلام فيه في الضميمة الراجحة. ووجهه : إطلاق الجزاء ، وعدم ما يصلح لتقييده.

وما ذكرناه مقيّدا في الفرض السابق من حكومة العقل بأنّ تعدّد المؤثّر يستلزم تعدّد الأثر لا يصلح للتقييد في هذا الفرض ، لاختلاف

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٦٣ ـ ٤٦٨ ، الإستبصار ١ : ١٣٣ ـ ٤٥٦ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب الحيض ، الحديث ٤.

٢٦٦

الطبائع وتعدّدها ، فكلّ سبب لا يوجب إلّا إيجاد عنوان الجزاء المترتّب عليه ، والعنوانان متغايران ذاتا وإن اتّحدا وجودا في بعض المصاديق ، فكما أنّ للمكلّف إيجاد كلّ من العنوانين في ضمن كلّ فرد يختاره كذا له إيجادهما معا في ضمن فرد واحد.

ودعوى : أنّ المتبادر عرفا من الأوامر المتعدّدة استقلال كلّ منهما بالإطاعة ، وعدم كفاية فرد واحد امتثالا للكلّ ، سواء كانت الأوامر ابتدائية أو من ذوات الأسباب ، فهي مصادمة للضرورة في الواجبات التوصّليّة ، وكذا في الأوامر المستحبّة ، كما عرفت في الضميمة الراجحة من شهادة البداهة على أرجحيّة التصدّق على الفقير المؤمن العالم ذي الرحم من التصدّق على فاقد بعض هذه الأوصاف ، فلو لم تتحقّق إطاعة الأوامر المتعدّدة باختيار هذا الفرد ، لما رجّح على غيره ، كما لا يخفى.

نعم ، قد يتوهّم صدق هذه الدعوى في الواجبات التعبّديّة ، إلّا أنّه لا شاهد لها ، بل يكذّبها عدم الفرق بين الواجبات التوصّليّة والتعبّديّة في كيفيّة الإطاعة ، إلّا أنّها اعتبرت قيدا في القسم الثاني ، فلا يسقط أمره إلّا بها دون الأوّل ، كما أنّه لا فرق في كيفيّة الإطاعة بين المستحبّات والواجبات ، وقد عرفت تحقّقها في المستحبّات عرفا وعقلا بإيجاد الفرد المجتمع فيه العناوين المتعدّدة ، فكذا في الواجبات.

وإن أبيت إلّا عن توقّف صدق الإطاعة بالنسبة إلى كلّ أمر على أن يكون الأمر بنفسه باعثا مستقلّا على الفعل ، فنقول بعد الإغماض عن بطلان هذه الدعوى في حدّ ذاتها : إنّ العبادات لا تتوقّف صحّتها إلّا على

٢٦٧

حصول ذات المأمور به في الخارج قربة إلى الله تعالى ، وهو لا يتوقّف على الإطاعة بهذا المعنى ، لأنّ تصادق العناوين يؤكّد قصد القربة ولا يزاحمه ، وإن بقي في ذهنك شي‌ء من الشكوك والشبهات ، فعليك بمراجعة ما طويناه في المراحل الماضية في صدر المبحث ، والله الموفّق والمعين.

تنبيه : هل التداخل في الفرض عزيمة أو رخصة؟

لا ينبغي التأمّل في أنّه بالنسبة إلى الأوامر التوصّليّة عزيمة لسقوط الأمر بإيجاد ذات المأمور به ، فإيجاده الفعل ثانيا بقصد الامتثال تشريع.

وأمّا بالنسبة إلى الأوامر التعبّديّة فهو رخصة ، بمعنى أنّه يجوز له أن يأتي بهذا الفرد بقصد امتثال بعض العناوين ، فليس له حينئذ إلّا ما نواه ، وأمّا ما لم ينو امتثاله فلا ، فيأتي بالفعل ثانيا بقصد إطاعته ، كما لا يخفى وجهه.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فلا بدّ لك من التأمّل في تشخيص أنّ الحدث الأكبر هل هي طبيعة واحدة غير قابلة للشدّة والضعف ، نظير مرتبة خاصّة من السواد في الأعيان الخارجيّة ، أم هي طبائع مختلفة ، كالسواد والصفرة مثلا ، أم طبيعة واحدة قابلة للاشتداد ، كمطلق السواد؟

فإن كان من القسم الأوّل ، فحكمه حكم الحدث الأصغر ، (و) قد عرفت أنّه لو اجتمعت أسباب مختلفة للحدث الأصغر ، كفى وضوء واحد بنيّة التقرّب ، فـ (كذا) لو اجتمعت أسباب مختلفة للحدث الأكبر ، كفى غسل واحد بنيّة القربة للجميع.

وإن كان الحدث الأكبر قابلا للاشتداد بتوارد أسبابه أو كان الحدث

٢٦٨

المسبّب عن كلّ سبب مغايرا للحدث المسبّب عن سبب آخر ، فلا بدّ من أن ينظر إلى ما جعله الشارع رافعا له ، فإن كان المجعول رافعا له رافعا لجنسه بوجوده الشخصي من دون فرق بين كونه شديدا أو ضعيفا ، واحدا أو متعدّدا ، نظير إزالة قذارات صورية متعدّدة بغسلة واحدة من الماء ، فلا إشكال أيضا في كفاية الغسل الواحد بنيّة القربة (لو كانت عليه أغسال) متعدّدة.

وأمّا لو لم يكن كذلك ، بأن كان المجعول رافعا لحدث الحيض أو الاستحاضة مثلا قسما من الغسل مغايرا لما هو رافع للجنابة ، أو المجعول رافعا للمرتبة الشديدة الحاصلة بتوارد الأسباب مغايرا لما جعله رافعا للمرتبة الضعيفة ولو بتكرير الغسل ، فيجب أن يأتي لكلّ سبب بخصوصه ما جعله الشارع رافعا له ، أو يختار في مقام امتثال الجميع فردا يعلم بكونه مصداقا لجميع العناوين المزيلة لأثر الأسباب المجتمعة.

واختياره هذا الفرد موقوف على علمه بتصادق الطبيعتين في الجملة ، إذ لا يكفي مجرّد الاحتمال بعد ثبوت الاشتغال ، كما أنّه لا يكفي في جواز الاقتصار على غسل واحد مجرّد احتمال اتّحاد الحدث نوعا ، وعدم قابليته للتزايد ، أو احتمال اتّحاد طبيعة الغسل الذي جعل رافعا لمطلق الحدث ، لما عرفت من أنّ مقتضى إطلاق سببيّة كلّ واحد من هذه الأسباب تأثيره مستقلّا في إيجاب الغسل ، ولازمه التعدّد ، إلّا أن يدلّ دليل خارجي من عقل أو نقل على كفاية الواحد ، فيرفع اليد به عن الظاهر.

ومجرّد اتّحاد أفراد الغسل صورة لا يدلّ على وحدة حقيقيّة ،

٢٦٩

ورافعيّته مطلقا لمطلق الحدث ، لإمكان مغايرة غسل الجمعة والجنابة ذاتا ، وتوقّف تحقّق كلّ منهما في الخارج على قصد امتثال أمره بالخصوص ، كصلاة الفريضة والنافلة ، فلا بدّ من التأمّل في الأخبار الدالّة على كفاية غسل واحد عن أغسال متعدّدة ، والاقتصار في رفع اليد عن المطلقات على ما يستفاد من تلك الأخبار.

فنقول : منها : صحيحة زرارة ، المرويّة في السرائر عن كتاب محمد ابن علي بن محبوب وعن كتاب حريز بن عبد الله عن أبي جعفر عليه‌السلام :«إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر الحلق والذبح والزيارة ، فإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك غسل واحد» قال : ثمّ قال : «وكذلك المرأة يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها» (١).

وهذه الرواية وردت بعدّة طرق في بعضها بدل «الجمعة» :«الجماعة» ولعلّه اشتباه من النسّاخ.

وهذه الصحيحة صريحة في كفاية غسل واحد عن الأغسال المتعدّدة التي بعضها واجب وبعضها مستحبّ ، وظاهرها خصوصا إطلاق ذيلها : عدم الفرق بين ما لو كانت الأغسال بأسرها واجبة أو مستحبّة أو مختلفة ، وذكر الجنابة فيها من باب المثال ، لا لخصوصيّة فيها ، كما يشهد به سياقها ، بل يدلّ عليه إطلاق ذيلها ، كما لا يخفى.

وهل يستفاد منها كفاية غسل واحد للجميع مطلقا ، أو لا يستفاد

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٨٨ و ٦٠٨ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

٢٧٠

منها إلّا كفايته إذا وقع بنيّة الجميع لا مطلقا؟ قد يقال باختصاصها بالثاني ، بدعوى : ظهور قوله عليه‌السلام : «يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها» إلى آخره ، بل وكذا غيره من الفقرات ، في كفاية الغسل الواحد الذي أوجده للجميع.

ولكن في الاستظهار نظر ، لأنّ الظاهر ـ ولا أقلّ من الاحتمال المانع من الاستدلال ـ أنّ متعلّق الظرف «يجزئها» لا الغسل خصوصا في الفقرة الاولى ، فلا تدلّ الرواية على التقييد.

نعم ، هذا الفرض هو القدر المتيقّن المعلوم إرادته من المطلق ، بل لعلّه المنسبق إلى الذهن من الإطلاق ، إلّا أنّ انصرافه بدويّ نشأ من أنس الذهن بوجوب امتثال جميع الأوامر ، وكونها تعبّديّة ، فلا يوجب تخصيص موضوع الحكم به ، فدعوى ظهور الرواية في خصوص هذا الفرض لا تخلو عن إشكال.

اللهم إلّا أن يدّعى ظهور قوله عليه‌السلام : «يجزئك» في كون الكفاية رخصة لا عزيمة ، فينفى بسببه الإطلاق بالملازمة العقليّة التي سنتعرّض لبيانها إن شاء الله.

وربّما يتمسّك بإطلاقها على إطلاق الكفاية ، وعدم اختصاصها بصورة قصد الجميع ، فيكفي الغسل الواحد عن الكلّ ولو لم يقصد بفعله إلّا البعض.

وفيه : أنّه ليس للرواية إطلاق أحواليّ يتمسّك به لإثبات العموم ، لأنّها مسوقة لبيان كفاية الغسل الواحد عن المتعدّد ، وأمّا كفايته مطلقا أو

٢٧١

في الجملة فلا تعرّض لها فيها على ما يشهد به سياقها.

هذا ، مع أنّ مجرّد احتمال عدم كون هذه الجهة ملحوظة للمتكلّم يمنع من التمسّك بالإطلاق ، لأنّ التمسّك به مشروط بإحراز كونه في مقام بيان هذا الحكم وعدم كونه مسوقا لبيان حكم آخر ، وهو غير معلوم لو لم ندّع خلافه ، مضافا إلى تعالى ما في نفس الرواية ممّا ينافي إطلاقها ، كما سنوضّحه إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فلا بدّ لنا في المقام ـ بعد العلم بكفاية الغسل الواحد ، كما هو صريح هذه الرواية وغيرها من الروايات الآتية ـ من الالتزام بأحد أمور ثلاثة : إمّا القول بأنّ الحدث الأكبر كالأصغر أمر وجدانيّ لا يتكرّر بتكرّر أسبابه ، فالحدث الحاصل من الحيض بعينه هو الحدث الحاصل من الجنابة أو من غيرها من الأسباب. والاختلاف الحاصل بين مصاديقه باختلاف أسبابه على هذا التقدير إنّما هو لأجل اختلاف تلك الأسباب في التأثير شدّة وضعفا ، لا لأجل اختلاف أثرها ذاتا حتى يتكرّر بسببها الحدث الصورية. وإمّا الالتزام بتصادف الأغسال المتعدّدة المسبّبة عن الأسباب المتكثّرة في الفرد الخارجي الواقع امتثالا للجميع ، فالفرد الخارجي يصدق عليه أنّه غسل جنابة وجمعة وإحرام وغيرها من العناوين التي يسقط أمرها به ، نظير إكرام الفقير الهاشمي العالم المؤمن.

وأمّا ما التزامه بعض مشايخنا ـ قدس‌سره ـ بعد التزامه بمغايرة الأحداث

٢٧٢

والأغسال المسبّبة عنها المزيلة لأثرها ذاتا بخروج هذا الغسل المجزئ عن الجميع من تحت جميع العناوين ، وكونه طبيعة أخرى مغايرة للكلّ ، نظرا إلى استحالة صيرورة شيئين شيئا واحدا ، فهو أمر آخر مغاير لجميع الأغسال ذاتا وقد جعله الشارع مجزئا عن الكلّ تعبّدا. وتسمية الأغسال متداخلة مسامحة نشأت عن المشابهة الصورية بين الأغسال وبين هذا الأمر الأجنبي ، وقد تفصّى بما التزمه عن إشكال اجتماع الوجوب والاستحباب في الواحد الشخصي بدعوى خروجه من موضوع كلا الحكمين ، فهو في حدّ ذاته لا واجب ولا مستحبّ ولكنّه مجزئ عنهما تعبّدا (١) ، أو الطبيعتين بقيد الوجوب موجودا واحدا ، وأمّا إيجاد الطبيعتين بوجود واحد فلا استحالة فيه ، بل شائع ذائع قلّما يوجد موجود لا يوجد بوجوده مفاهيم لا تحصى.

هذا ، مع أنّ ما ارتكبه من التكلّف ممّا لا يجدي أصلا ، ضرورة أنّ هذه الطبيعة المغايرة للغسل إذا فرضنا كونها مجزئة عن غسل الجنابة ، وكذا عن غيره من الأغسال ، فلا محالة تكون أحد فردي الواجب المخيّر ، فيعود المحذور الذي فرّ منه.

بيان ذلك : أنّ الالتزام بتأثير كلّ واحد من الجنابة والحيض مثلا في حصول أثر مغاير للأثر الحاصل من الآخر ، ووجوب إزالة أثر كلّ منهما بالغسل المخصوص به ، وقيام هذه الطبيعة الثالثة مقام غسليهما ينحلّ بنظر

__________________

(١) انظر : جواهر الكلام ٢ : ١٢٩.

٢٧٣

العقل إلى دعوى وجوب إزالة أثر كلّ من السببين إمّا بالغسل أو ببدله ، فيكون عنوان الواجب بالنسبة إلى كلّ من السببين أعمّ من خصوص الغسل ، فالغسلان وإن تباينا ـ كما هو المفروض ـ إلّا أنّ بدليهما يتصادقان على الطبيعة الثالثة ، إذ بها تتحقّق إزالة أثري الجنابة والحيض ، وقد عرفت أنّ مرجع هذه الدعوى إلى جعل إزالة الأثرين موضوعا للوجوبين أعمّ من أن يكون حصولها بالغسل أو بغيره ، فيتحقّق امتثال كلا الأمرين بإيجاد أمر واحد ، ومن المعلوم عدم الفرق من حيث الإشكال بين الالتزام بأنّ عنوان الواجب هو غسل الجنابة والحيض وتصادقا في هذا الفرد ، وبين الالتزام بأنّ عنوان الواجب هو إزالة أثر الجنابة والحيض ، وتصادقت الإزالتان في الطبيعة الثالثة.

نعم ، بين الالتزامين فرق من حيث كون التخيير بين الغسلين المنفردين وهذا الفرد المجزئ عقليّا على الأوّل وشرعيّا على الثاني.

وبما ذكرنا ـ من استلزام الالتزام المذكور تعميم موضوع الأوامر المتعلّقة بالأغسال بما يعمّ الغسل وبدله ـ ظهر لك أنّه لا جدوى له في التفصّي عن إشكال اجتماع الوجوب والاستحباب في الواحد الشخصي ، ضرورة أنّ هذا الواحد الشخصي من حيث قيامه مقام الغسل المستحبّي أحد فردي المستحبّ ، ومن حيث كفايته عن الغسل الواجب أحد فردي الواجب التخييري ، فعاد المحذور.

فقد تقرّر لك ممّا حرّرناه أنّ الاحتمالات التي يمكن الالتزام بها في توجيه الكفاية منحصرة في الثلاثة المتقدّمة ، إلّا أنّ الاحتمالين الأوّلين منها

٢٧٤

ـ أعني اتّحاد طبيعة الحدث أو ماهيّة الغسل ـ يضعفهما بل يردهما ـ مضافا إلى ظواهر أدلّة الأغسال كما عرفت تحقيقه في صدر المبحث بما لا مزيد عليه ـ ظواهر أكثر أدلّة التداخل ، بل نفس هذه الرواية ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «فإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك غسل واحد» كالصريح في تعدّد الحقوق التي أريد بها الأغسال التي اشتغلت بها ذمّة المكلّف بواسطة أسبابها.

وتوهّم أنّ إطلاق الحقوق على ما اشتغلت به الذمّة بلحاظ تعدّد أسبابه لا تعدّد ما في الذمّة ، مدفوع : بكونه تأويلا بعيدا ، خصوصا مع مغروسيّة كون الأغسال المسبّبة عن الأسباب المختلفة بالنوع تكاليف متعدّدة في أذهان المتشرّعة ، كما يكشف عن ذلك أنّه لا يكاد يرتاب أحد منهم في أنّ من اغتسل يوم الجمعة للجنابة والجمعة والزيارة وغيرها من الأسباب يستحقّ بعمله مقدارا من الأجر لا يستحقّ هذا المقدار على تقدير تجرّده عن بعض هذه العناوين ، فهذا دليل على أنّ العناوين المتكثّرة لديهم من الجهات المحسنة للفعل.

وممّا يدلّ أيضا على اختلاف ماهيّة الأغسال وكونها أنواعا مختلفة :قوله عليه‌السلام : «كلّ غسل قبله الوضوء إلّا غسل الجنابة» (١) فإنّ ظاهره إرادة العموم بالنسبة إلى أنواع الغسل لا أفراده ، كما يشهد له استثناء غسل الجنابة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥ ـ ١٣ ، التهذيب ١ : ١٣٩ ـ ٣٩١ ، الإستبصار ١ : ١٢٩ ـ ٤٢٨ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الجنابة ، الحديث ١.

٢٧٥

ويدلّ على المدّعى أيضا : عدم مشروعيّة الوضوء مع غسل الجنابة دون سائر الأغسال ، كما يدلّ على اختلاف ماهيّة الأحداث اختلاف آثارها.

وممّا يدلّ أيضا على تعدّد ماهيّة الأحداث بل الأغسال أيضا ـ بعد دعوى الإجماع على عدم التعدّد على تقدير وحدة الحدث ـ ظهور قوله عليه‌السلام : «يجزئك» في كون الحكم مبنيّا على الرخصة في مقام الامتثال ، إذ على تقدير وحدة الطبيعة لا تكون الكفاية إلّا عزيمة.

ونظير هذه الصحيحة في الدلالة على تعدّد ماهيّة الأغسال وكفاية الغسل الواحد عن الجميع ، وكون الحكم مبنيّا على الرخصة بالتقريبات المتقدّمة : رواية [محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد] (١) عن علي بن حديد عن جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليه‌السلام «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كلّ غسل يلزمه في ذلك اليوم» (٢).

والظاهر أنّ المراد من الغسل الذي يلزمه في ذلك اليوم هو الغسل الذي يحتاج إليه في ذلك اليوم للزوم غاياته فيه ، لا ما يحدث سببه بعد الغسل ، لأنّ الإجزاء مشروط بقابليّة المحلّ عقلا ، وهو ما إذا كانت أسباب لزوم الغسل حاصلة حال الغسل ، إذ لا يعقل الإجزاء والامتثال قبل الطلب.

__________________

(١) في ض «١ ، ٩» والطبعة الحجرية بدل ما بين المعقوفين : ابن عيسى. وما أثبتناه من المصدر ، علما بأنّ «حماد بن عيسى» وردت في سند الرواية التي قبل هذه الرواية ، فلاحظ.

(٢) الكافي ٣ : ٤١ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٢.

٢٧٦

نعم ، يعقل أن يكون الفعل السابق مانعا من تأثير السبب اللاحق في توجيه الخطاب إمّا لقصور في سببيّته باختصاصه بما إذا لم يكن مسبوقا بالفعل ، وهذا غير مراد من الرواية جزما ، لأنّ الغسل الذي لا مقتضى له لا يلزمه حتى يكون الفعل مجزئا عنه ، وإمّا لخروج المحلّ عن قابليّة التأثير بحصول الغرض من الأمر ، وهذا كما إذا كان السبب مؤثّرا في حسن كون المكلّف بعد حصول السبب ممّن صدر منه غسل في ذلك اليوم في الجملة ، فالغسل السابق على هذا التقدير مجزئ عن ذلك الغسل بمعنى أنّه موجب لإحراز مصلحة ، وهذا بخلاف ما لو كان السبب مؤثّرا في طلب نفس الغسل ، فإنّ الإجزاء بالنسبة إليه غير معقول من دون فرق بين أن يكون الطلب استحبابيّا ، كمطلوبيّة الغسل بعد قتل الوزغة أو النظر إلى المصلوب ، أو وجوبيّا ، كمطلوبيّته بعد الجنابة.

والحاصل : أنّ الأغسال التي يجزئ غسل الجنابة عنها متخصّصة بحكم العقل بما إذا كانت أسباب لزومها حاصلة حال الغسل ، أو كان المقصود من الأمر بالغسل مجرّد حصول هذا الفعل منه في الخارج.

وكيف كان ، فدلالة الرواية على ما نحن بصدده ظاهرة.

وممّا يدلّ على جواز الاكتفاء بغسل واحد عن المتعدّد : قوله عليه‌السلام في رواية شهاب بن عبد ربّه : «وإنّ غسّل ميّتا ثم توضّأ ثم أتى أهله يجزئه غسل واحد لهما» (١).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٥٠ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٤٤٨ ـ ١٤٥٠ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

٢٧٧

ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا حاضت المرأة وهي جنب أجزأها غسل واحد» (١).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن رجل أصاب من امرأته ثم حاضت قبل أن تغتسل ، قال عليه‌السلام : «تجعله غسلا واحدا» (٢).

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن رجل وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرّتين؟ قال : «تجعله غسلا واحدا» (٣).

والأمر بجعلهما غسلا واحدا لا يدلّ على الوجوب ، لكونه في مقام توهّم الحظر ، وإلّا لعارضه الرواية الآتية الدالّة على جواز التفكيك ، وهي رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن المرأة يواقعها زوجها ثمّ تحيض قبل أن تغتسل ، قال : «إن شاءت أن تغتسل فعلت ، وإن لم تفعل فليس عليها شي‌ء ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٩٥ ـ ١٢٢٥ ، الإستبصار ١ : ١٤٦ ـ ٥٠٢ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٣٩٥ ـ ١٢٢٦ ، الإستبصار ١ : ١٤٧ ـ ٥٠٣ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٥.

(٣) التهذيب ١ : ٣٩٥ ـ ١٢٢٧ ، الإستبصار ١ : ١٤٧ ـ ٥٠٤ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٦.

(٤) التهذيب ١ : ٣٩٦ ـ ١٢٢٩ ، الإستبصار ١ : ١٤٧ ـ ٥٦ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٧.

٢٧٨

وصحيحة زرارة في من مات وهو جنب «يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميّت ، لأنّهما حرمتان اجتمعتا في رحمة واحدة» (١).

وهذه الروايات بأسرها صريحة في كفاية الغسل الواحد عن المتعدّد ، كما أنّها ظاهرة في اختلاف ماهيّات الأغسال ، وأنّ الاكتفاء بواحد إنّما هو بجعل المكلّف في مقام الامتثال.

وأوضح من الكلّ في الدلالة على تعدّد الماهيّات : الروايتان الأخيرتان ، فإنّ فيهما جهات من الدلالة ، كما لا تخفى على المتأمّل.

وممّا يدلّ أيضا على تعدّد الماهيّات : رواية سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن عليه‌السلام قالا في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل أن تغتسل من الجنابة ، قال عليه‌السلام : «غسل الجنابة عليها واجب» (٢).

وقد أشكل توجيه هذه الرواية على القائلين بكفاية غسل واحد عن الجميع مطلقا.

وربّما وجّهها بعضهم : بعدم المنافاة بين وجوبه عليها وسقوطه بغسل الحيض.

وفيه : أنّ ظاهرها وجوبه عليها بعنوان غسل الجنابة لا غير ، فهي تدلّ على مغايرته لغسل الحيض ، وإلّا لما كان لوجوبه عليها بهذا العنوان

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٣٢ ـ ١٣٨٤ ، الإستبصار ١ : ١٩٤ ـ ٦٨٠ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ٣٩٥ ـ ١٢٢٨ ، الإستبصار ١ : ١٤٧ ـ ٥٠٥ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٨.

٢٧٩

وجه ، فليتأمّل.

ولا ينافي ما قوّيناه من تغاير الماهيّات : رواية ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال : «غسل الجنابة والحيض واحد» (١) لأنّ المراد منها بيان أنّ الجنابة لا توجب غسلا مستقلّا منفردا عن غسل الحيض ، بل أحدهما عين الآخر في الوجود الخارجي ، فهما شي‌ء واحد في الخارج بحمل أحدهما على الآخر بالحمل الشائع المتعارف ، لا بالحمل الذاتي حتى ينافي ما قدّمناه.

ولو سلّم ظهورها في اتّحادهما ذاتا ، لتعيّن صرفها إلى هذا المعنى ، جمعا بينها وبين الأدلّة المتقدّمة الدالّة على مغايرتهما ذاتا ، كما لا يخفى.

إذا تقرّر لك أنّ الأوفق بالقواعد بحيث لا يستلزم مخالفة شي‌ء من أخبار التداخل ولا إطلاقات الأوامر بالأغسال هو : الالتزام بتغاير الطبائع المتعلّقة للأوامر وتصادقها على الفرد المجزئ ، فنقول : لا ريب أنّه لو أتى بهذا الفرد بقصد امتثال جميع الأوامر ، يتحقّق بفعله امتثال الجميع ، وتسقط أوامرها ، كما عرفت تحقيقه فيما سبق.

وكذا لو قصد رفع جنس الحدث أو استباحة الصلاة لو كان آثار الأسباب المجتمعة من موانع الصلاة ، لانحلال هذا القصد إلى قصد الجميع.

وأمّا لو أتى به بقصد امتثال البعض ، فلا تأمّل في صحّة غسله

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٣ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٩.

٢٨٠