مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

به لاحتمال الوجوب ، لأنّ الإطاعة في التكاليف المحتملة لا تعقل إلّا بأن يأتي بالفعل بداعي الاحتمال.

واشتراط حصولها بإدراج المكلّف نفسه في الموضوع الذي يقطع بسببه تنجّز الخطاب في حقّه ممّا لا يساعد عليه العقل وبناء العقلاء.

وأمّا ما كان منشؤ التردّد والاشتباه الجهل بالحكم الشرعي ، فربما يظهر من غير واحد وجوب الفحص عن الحكم الشرعي بمراجعة الأدلّة ، أو تقليد المجتهد ، وبطلان العبادة بدونه ، بل ربما يظهر من العبارة المحكية عن السيّد الرضي وتقرير أخيه السيّد المرتضى ـ قدس‌سرهما ـ كون بطلان العبادة على تقدير الجهل بأحكامها إجماعيّا (١) ، وقد اشتهر بينهم بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.

والذي يقتضيه التحقيق صحّة عمل المحتاط التارك للطريقين ، كما لا يبعد شيوع القول بها بين المتأخّرين ، لأنّ العلم بالأحكام ليس شرطا شرعيّا في العبادات ـ كالوضوء للصلاة ـ حتى تبطل بالإخلال به ، وإنّما وجب تحصيله مقدّمة للخروج عن عهدتها ، ولا يتوقّف قصد الإطاعة المعتبر في صحّة العبادات على إحراز التكليف ، بل يكفي فيه احتماله ، فإنّ المراد بقصد الإطاعة ـ الذي نقول باشتراطه ـ إنّما هو الإتيان بالمأمور به بقصد امتثال الأمر والخروج عن عهدة التكليف بأن يكون بعنوان كونه كذلك صادرا عن اختيار المكلّف ، ولا يتوقّف ذلك على إحراز الأمر ، بل يكفي فيه احتماله ، فإنّ الآتي بالفعل احتياطا لا يقصد بفعله إلّا امتثال الأمر

__________________

(١) انظر : الذكرى : ٢٥٩ ، وروض الجنان : ٣٩٨ ، ورسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٨٣.

١٦١

المحتمل ، والخروج عن عهدة التكليف على تقدير ثبوته ، فالباعث له على الفعل ليس إلّا إرادة الامتثال.

وإن شئت قلت : إنّه لا يعتبر في صحّة العبادة أزيد من حصولها بقصد التقرّب ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، وهو حاصل في الفرض ، لأنّه لم يأت بالفعل إلّا لله تعالى ، وكفى بكونه كذلك في حصول قصد التقرّب.

وأمّا احتمال كون الجزم في النيّة شرطا شرعيّا في الواجبات التعبّديّة ، فيدفعه الجزم بعدم استناد القائلين باعتباره إلّا إلى توقّف تحقّق الإطاعة عليه عقلا ، لا بدليل تعبّديّ ، ولأجل ذلك يمكن دعوى الإجماع التقديري على عدم اعتبار الجزم في النيّة.

هذا ، مع أنّ مجرّد الاحتمال لا يقتضي وجوب الاحتياط في مثل المقام ، لأنّ شرطيّة بيانها من وظيفة الشارع على هذا التقدير ، وقد عرفت فيما سبق أنّ المرجع فيه أصالة البراءة ، لا الاحتياط ، فراجع ما سبق (١) ، وانتظر ما سنتلو عليك فيما سيأتي في إزالة بعض الشكوك المتوهمّة إن شاء الله.

وإن كان التردّد في المكلّف به لا في التكليف ، ومنشؤه إمّا الجهل بنفس الواجب وتردّده بين أمور ، وإمّا عدم الوثوق حين الشروع بتمكّنه من إتمام الفرد المأتي به ، وسلامته عن عروض المنافيات له ، كما إذا صلّى في مكان لا يثق بقدرته على إتمامها في ذلك المكان ، أو توضّأ بماء

__________________

(١) انظر ص ١٣٢.

١٦٢

لا يطمئنّ بكفايته للوضوء ، أو ائتمّ بإمام لا يجزم بإدراكه راكعا ، أو إتمام الصلاة على وجه مشروع ، ومن هذا القبيل ما لو لم يعلم بأحكام الطوارئ ، كالشكوك العارضة في أثناء الصلاة ، فتردّد ـ لأجل احتمال طروّها في الأثناء ـ في التمكّن من إتمام الصلاة على وجه مشروع ، فهل يجوز له الشروع في محتملات الواجب في صورة الجهل بنفس الواجب مع تمكّنه من معرفته تفصيلا ، أو الدخول في الفرد الذي لا يطمئنّ بسلامته عن الطوارئ ، بمعنى أنّه تتحقّق به الإطاعة لو أتى به بداعي امتثال الأمر لو صادف الواقع ، مع كونه متردّدا في وقوعه على الوجه المأمور به ، أم لا ، بل لا بدّ من معرفة الواجب تفصيلا في الفرض الأوّل ، وكذا يجب عليه تعلّم أحكام الطوارئ قبل الشروع في الفعل مقدّمة لتحصيل الجزم بالنيّة في الصورة الأخيرة ، وفيما عداهما يجب عليه الإتيان بفرد آخر من أفراد الطبيعة ممّا يطمئنّ بوقوعه موافقا لما أراده الشارع ، أم تصحّ العبادة لو كان عازما من أوّل الأمر على إيجاد المأمور به على وجه طلبه الشارع ، كما إذا نوى الإتيان بجميع محتملات الواجب في صورة الجهل وفي غيرها من الصور بأن أتى بالفرد بانيا على الاقتصار عليه على تقدير سلامته عن المنافيات ، وإلّا فيأتي بما عداه حتى يتحقّق منه في الخارج ما يوافق المأمور به ، وكذا في مسألة الجهد بأحكام الطوارئ ينوي الاقتصار عليه على تقدير سلامته عنها والبحث عن أحوالها على تقدير طروّ شي‌ء منها ، فإن ظهر كونه مفسدا ، يعيد ، وإلّا فيمضي عليه ، بخلاف ما إذا لم يكن عازما على الاحتياط من أوّل الأمر ، فيفسد مطلقا ، أو يفصّل بين ما إذا كان الفعل واجبا ، فيفسد ، أو كان مستحبّا فيصحّ؟ في المسألة وجوه.

١٦٣

والذي قوّاه سيّد (١) مشايخنا ـ دام ظلّه ـ في مجلس البحث ، هو التفصيل ، فتفسد العبادة لو لم يكن قاصدا للامتثال على نحو الإطلاق في الواجبات ، للتأمّل في صدق الإطاعة عرفا على فعل من يقتصر على بعض المحتملات في الواجبات ، لكون القصد فيها مشوبا بالتجرّي ، واختلاط التجرّي في البين موجب للتردّد في صدق الإطاعة ، لكونه بمنزلة الآتي بالفعل من دون قصد الامتثال ، وهذا بخلاف المستحبّات حيث لا تجرّي فيها ، ولا شبهة في أنّ من أتى ببعض المحتملات ناويا بفعله أنّه إن كان هو المحبوب الواقعي ، فهو ، وإلّا فتارك له يعدّ بنظر العرف مطيعا ، ويستحقّ بعمله المدح والثواب ، فإنّ الإطاعة عرفا وعقلا ليس إلّا عبارة عن إتيان المأمور به بقصد امتثال الأمر ، وهذا المعنى حاصل في الفرض ، لأنّ الباعث على الفعل ليس إلّا إرادة الامتثال ، وهذا وإن اقتضى الصحّة في الواجبات أيضا ، إلّا أنّ كون القصد مشوبا بالتجرّي مانع من الجزم بصدق الإطاعة عليه عرفا.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ التفرقة بينهما في صدق الإطاعة لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ التجرّي إنّما يتحقّق بترك الآخر لا بفعل المأتي به ، فما هو الملاك في حصول الإطاعة موجود في كليهما ، فليتأمّل.

وعن بعض علماء العصر اختيار الصحّة مطلقا. ولعلّه لا يخلو عن قوّة.

وبما ذكرنا ظهر أنّه لا ينبغي التردّد في صحّة العمل على تقدير

__________________

(١) هو السيّد محمّد بن حسن المجدّد الشيرازي قدس‌سره.

١٦٤

العزم على الخروج من عهدة التكليف مطلقا ـ كما في سائر الصور ـ وإن لم يكن جازما حال الفعل بكون المأتي به عين المأمور به.

وإن كنت في شكّ من ذلك ، فراجع حكم العقل والعقلاء فيما إذا أمر المولى عبده بإكرام أحد شخصين ، ولم يميّزه العبد بشخصه ، فأكرمهما جميعا احتياطا ، فهل للمولى أن يعاقبه أو يعاتبه بقوله : لم عصيتني وما أطعت أمري؟ حاشاهم أن يجوّزوا ذلك له.

ثمّ إنّه يظهر من شيخ مشايخنا المرتضى ـ قدس‌سره ـ في غير مورد من رسائله تفصيل آخر ، وهو : بطلان عبادة من لم يكن عازما من أوّل الأمر على إحراز الواقع بالاحتياط دون من كان عازما عليه من أوّل الأمر ، فإنّه تصحّ عبادته مطلقا على ما يومئ إليه بعض عبائره ، إلّا أنّه ربما يظهر منه أيضا التفصيل في موارد قصد إحراز الواقع بالاحتياط بين ما إذا كان الاحتياط موقوفا على تكرار العبادة وبين غيره ، فتصحّ في الثاني دون الأوّل.

قال في مبحث أصل البراءة في مقام بيان حكم عبادة العامل بالبراءة قبل الفحص من حيث الصحّة والفساد ، ما لفظه : وأمّا العبادات : فملخّص الكلام فيها : أنّه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما تقتضيه البراءة ، كأن صلّى بدون السورة ، فإن كان حين العمل متزلزلا في صحّة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ، فلا إشكال في الفساد وإن انكشف الصحّة بعد ذلك بلا خلاف في ذلك ظاهرا ، لعدم تحقّق نيّة القربة ، لأنّ الشاكّ في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرّب به!؟

١٦٥

وما ترى من الحكم بالصحّة فيما شكّ في صدور الأمر به على تقدير صدوره ـ كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر ، وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا من باب الاحتياط ـ فلا يشبه ما نحن فيه ، لأنّ الأمر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد امتثاله إلّا بهذا النحو ، فهو أقصى ما يمكن هناك من الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فإنّ امتثاله لا يكون إلّا بإتيان ما يعلم مطابقته له ، وإتيان ما يحتمله لاحتمال مطابقته لا يعدّ له إطاعة عرفا.

وبالجملة ، فقصد التقرب شرط في صحّة العبادة إجماعا نصّا وفتوى ، وهو لا يتحقّق مع الشّك في كون العمل مقرّبا.

وأمّا قصد التقرّب في الموارد المذكورة من الاحتياط فهو غير ممكن على وجه الجزم ، والجزم فيه غير معتبر إجماعا ، إذ لولاه ، لم يتحقّق احتياط في كثير من الموارد مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : لو لا استدلاله ـ قدس‌سره ـ بالدليل الذي ذكره ، لكان للمتوهّم أن يتوهّم استناد القائلين باعتبار الجزم إلى دليل تعبّدي شرعيّ ، فاستدلاله بالدليل المذكور يوهن الاستدلال بنقله عدم الخلاف في المسألة ظاهرا لو قلنا بحجّيّة مثله في الأحكام الشرعية ، لأنّه بعد ظهور المستند لا وجه للتشبّث بالإجماع المحصّل ، فضلا عن نقل عدم ظهور الخلاف ، بل لا بدّ على هذا التقدير من التأمّل في المستند ، فإن تمّ فهو ، وإلّا فلا.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥١٩.

١٦٦

وحينئذ نقول : حاصل ما استدلّ به للبطلان تعذّر تحقّق قصد القربة من المتردّد ، ويظهر من ذيل العبارة دليل آخر ، وهو : منع صدق الإطاعة عرفا على فعل المتردّد.

ويرد على ما ذكره أوّلا : النقض بما تفطّن له وتصدّى لدفعه بما لا يندفع به ، وهو : الحكم بالصّحة فيما شكّ في تعلّق الأمر به ، لأنّ ما ذكره وجها للصحّة إنّما يدلّ على عدم اعتبار الجزم في النيّة في صحّة عمل غير المتمكّن من تحصيل الجزم ، لا لعدم اعتبار قصد القربة في الصحّة ، كيف ومن المعلوم بديهة أنّه لو أتى المتردّد الغير المتمكّن من تحصيل الجزم بالفعل لا بداعي الأمر المحتمل ، تفسد عبادته ، فلنا على هذا قلب الدليل بدعوى : أنّ قصد القربة وكون المأتي به بداعي الأمر معتبر في صحّة العبادة عقلا ونقلا ، فتوى ونصّا ، كتابا وسنّة ، فلو تعذّر تحقّقه من المتردّد ، لامتنع حصول الاحتياط في كثير من الموارد ، وهي الموارد التي لا يعلم بصدور الأمر فيها ، والتالي باطل بالإجماع ، لتصريحه ـ قدس‌سره ـ برجحان الاحتياط فيها ، إجماعا ، فكذا المقدّم ، والملازمة ظاهرة.

وحلّه : أنّ الداعي إلى الفعل والباعث عليه في الفرض ليس إلّا احتمال كونه مأمورا به ومقرّبا ، فكيف لا يكون قاصدا للقربة وامتثال الأمر!؟

نعم ، ليس جازما بحصول الامتثال والقرب بفعله ، لا أنّه غير قاصد له ، وبينهما فرق بيّن.

وأمّا ما ذكره من منع صدق الإطاعة عرفا على فعل المتردّد ، ففيه

١٦٧

منع ظاهر ، إذ لا يعتبر في العبادة عرفا ـ كما صرّح به ـ قدس‌سره ـ بعد العبارة السابقة ـ إلّا إتيان المأمور به بقصد التقرّب ، وهذا المعنى حاصل في الفرض ، لأنّ المفروض مطابقته للواقع وإن لم يكن الفاعل جازما بذلك حين العمل ، وقد عرفت فيما سبق أنّ الآتي ببعض المحتملات في المستحبّات ناويا فيه الامتثال على تقدير المصادفة لا يرتاب أهل العرف في كونه مستحقّا للثواب ، ومطيعا لأمر مولاه.

نعم ، قد أشرنا إلى أنّ صدق الإطاعة في الواجبات على تقدير العزم على الاقتصار على بعض المحتملات لا يخلو عن خفاء ، لا لكونه متردّدا من حيث إنّه متردّد ، ولا يمكن قصد التقرّب منه ، بل لاختلاط الإطاعة بالتجرّي ، وصعوبة تصوّر استحقاق الثواب على أمر ، واستحقاق المذمّة على التجرّي بمخالفة ذلك الأمر الشخصي في زمان واحد ، فتأمّل.

وأمّا ما يظهر منه التفصيل بين ما يتوقّف إحراز الواقع على تكرار العبادة وغيره ، فهو ما ذكره في مبحث حكم العامل بالاحتياط ، التارك طريقي الاجتهاد والتقليد ـ بعد أن قسّم مورد إحراز الواقع بالاحتياط إلى قسمين : أحدهما : ما لا يحتاج إلى تكرار العمل كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا ، واختار فيه الصحة ، والثاني : ما يتوقّف الاحتياط فيه على تكرار العبادة ـ ما هذا لفظه :فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار العبادة بناء على عدم اعتبار نيّة الوجه.

لكنّ الإنصاف عدم العلم بكفاية هذا النحو من الإطاعة الإجمالية ،

١٦٨

وقوّة احتمال اعتبار الإطاعة التفصيلية في العبادة بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه ، ولذا يعدّ تكرار العبادة لإحراز الواقع مع التمكّن من العلم التفصيلي به أجنبيّا عن سيرة المتشرّعة ، بل من أتى بصلوات غير محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب ، أحدها : طاهر ، ساجدا على خمسة أشياء ، أحدها : ما يصحّ السجود عليه مائة صلاة مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ، يعدّ في الشرع والعرف لاعبا بأمر المولى ، والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصّل.

نعم ، لو كان ممّن لا يتمكّن من العلم التفصيلي ، كان ذلك منه محمودا مشكورا (١). انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى عليك أنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان اختيار الامتثال الإجمالي بالاحتياط لغرض عقلائي ، ومن المعلوم أنّه على هذا الفرض لا يعدّ عند العقلاء لاعبا لاهيا ، بل الفعل منه عندهم ـ كصورة التعذّر ـ محمود مشكور.

وأمّا ما ذكره من المثال ، فكونه قبيحا عند العرف ليس إلّا لإقدامه على ترك الأسهل وارتكاب الأصعب بلا مقتض.

ألا ترى الاستهجان العرفي في غير مورد التكرار أيضا في صورة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٠٨.

١٦٩

التمكّن عن إزالة الشبهة عن نفسه بسهولة ، كما لو أمره المولى بإكرام «زيد» وتردّد بين جماعة ، فأكرم جميعهم احتياطا ، مع كونه متمكّنا من معرفته بسهولة ، بل قد يعدّ من ترك التكرار إذا كان أسهل من تحصيل العلم لاعبا لاهيا.

ألا ترى أنّه لو أمره بأن يسلّم على شخص ، فتردّد بين شخصين أو أشخاص محصورة بعد أن غاب المولى عنه ، فلو تكلّف العبد بالحضور عند المولى تحصيلا للجزم بالنيّة في الإطاعة ، يعدّ سفيها في العرف.

وأمّا كونه أجنبيّا عن سيرة المتشرّعة : فبعد تسليمه ، وجهه ما أشرنا إليه من كونه تكلّفا بلا مقتض في الغالب ، أو لكونه مخالفا لفتوى مقلّديهم.

هذا ، مع أنّ السيرة المتشرعّة : فبعد تسليمه ، وجهه ما أشرنا إليه من كونه تكلّفا في الغائب ، أو لكونه مخالفا لفتوى مقلديهم.

هذا ، مع أنّ السيرة في مثله لا تورث القطع باعتبار الإطاعة التفصيلية في العبادة ، كاستقرار السيرة على ترك قراءة السور الطوال في الصلاة ، ومجرّد احتماله لا ينفع إن أريد اشتراطه شرعا ، وإن أريد اعتباره في ماهيّتها عرفا ، ففيه ما عرفت من أنّ حكم العرف على خلافه ، والله العالم.

بقي في المقام شبهة لا بدّ من إزالتها ، وهي : أنّ عمدة مقدّمات الفروع المتقدّمة دعوى صدق الإطاعة عرفا على مجرّد إيجاد المأمور به بداعي الأمر ، وهي قابلة للمنع ، لإمكان أن يقال : إنّ الإطاعة عبارة عن إتيان المأمور به على وجه تعلّق به غرض المولى بحيث يقطع بحصول غرضه.

وبعبارة أخرى : الإطاعة عبارة عن تحصيل غرض المولى.

وأمّا حكم العقلاء بحصول الإطاعة بمجرّد إتيان المأمور به بداعي

١٧٠

الأمر في أوامرهم العرفية فإنّما هو لأجل معلومية الغرض عندهم غالبا في هذه الموارد ، وإلّا فلو علم في مورد أنّ غرض المولى من الأمر شي‌ء آخر وراء نفس المأمور به ولا يعمل بحصوله ، لا يحكمون بحصول الإطاعة بمجرّد إيجاد المأمور به بداعي الأمر ، بل يحكمون بالعدم.

هذا ، مع أنّ احتمال كونها عبارة عن المعنى المذكور كاف في لزوم الاحتياط ، إذ ليس الشكّ فيما به تتحقّق الإطاعة كالشكّ في أجزاء الواجب وشرائطه حتى يرجع فيه إلى البراءة إن قلنا بها فيهما ، لأنّ مرجع الثاني إلى الشكّ في التكليف ، كما تقرّر في محلّه ، بخلاف الأوّل ، فإنّه شكّ في المكلّف به ، فعلى هذا لو شكّ في أنّ غرض المولى هل هو إيجاد ذات المأمور به ، كما في التوصّليّات ، أو إتيانه بداعي الأمر مطلقا ، أو بشرط كونه قاصدا لوجوبه أو وجه وجوبه عازما به حال الفعل ، إلى غير ذلك من التفاصيل المحتمل اعتبارها شرعا أو عرفا ، يجب إحرازها بحكم العقل ، تحصيلا للقطع بالإطاعة ، المعلوم وجوبها عقلا.

ويدفعها : أوّلا أنّ التشكيك في حصول الإطاعة وامتثال الأمر عرفا بعد فرض إتيان المأمور به بقصد الامتثال والخروج عن عهدة التكليف من قبيل التشكيك في الضروريّات.

وثانيا : أنّ الإطاعة والمعصية من الموضوعات التي يستفاد حكمها من العقل ، كما تقدّم مفصّلا ، فلا بدّ من أن يؤخذ الموضوع من نفس الحاكم ، ولا معنى للرجوع إلى غيره في تشخيص موضوعه.

وأمّا ما مرّ عليك مرارا في مطاوي كلماتنا من الاستشهاد بالصدق

١٧١

العرفي فليس إلّا حجّة على من يزعم أنّ الموضوع في حكم العقل أخصّ ممّا ادّعيناه ، فتبطل دعواه بمراجعة أهل العرف والعقلاء الحاكمين بتحقّق الإطاعة بإيجاد المأمور به بداعي الأمر ، إذ من المعلوم أنّ حكمهم بذلك منبعث عن عقولهم ، فيدلّ توافق العقول وتطابق الآراء على فساد توهّم المخالف ، فكلّ من يحكم عقله بوجوب الإطاعة لا بدّ من أن يكون موضوع

حكمه مشروحا لديه ، متصوّرا بجميع خصوصيّاته التي لها مدخليّة في تعلّق الحكم ، فلا يعقل الإجمال والترديد في نفس الموضوع حتى يقال : إنّ احتمال كون معنى الإطاعة كذا كاف في وجوب الاحتياط.

نعم ، قد يشكّ في حصولها ، لا لإجمال المفهوم ، بل لوجود المصداق في الخارج.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ العقل إنّما يحكم بلزوم إيجاد العبد الفعل الذي ألزمه المولى بفعله بداعي إلزامه أداء لحقّه ، وتفصّيا عن عقابه بشرط علم العبد إلزامه به لا بدونه ، لأنّ العلم بالحكم مأخوذ في موضوع حكم العقل عقلا ، وهذا الإيجاد الخاصّ اسمه الإطاعة عرفا ، وحكمه الوجوب عقلا ، ولا يعقل التصرّف في هذا الحكم العقلي أصلا ولا في موضوعه أبدا لا من الشارع ولا من غيره ، فكلّ ما يفرض قيدا للإطاعة ، كمعرفة الوجه تفصيلا ، أو الجزم في النيّة ، أو غيرهما ممّا يحتمل اعتباره شرعا أو عرفا لا بدّ وأن يرجع عند التحليل إلى تقييد الفعل الواجب ، إذ لا يحكم العقل إلّا بوجوب إيجاد ما أوجبه المولى بداعي طلبه ، بل لا نتعقّل بقاء الوجوب بعد إيجاد الواجب على النحو الذي أوجبه بداعي وجوبه ، فهذه الكيفيّات إن كانت ممّا

١٧٢

أوجبها بتصريحه أو بشهادة العرف أو العقل عليها ، يجب تحصيلها ، وإلّا فلا ، كغيرها من الشرائط والأجزاء المعتبرة في الواجب ، ومرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في أصل التكليف ، والمرجع فيه البراءة ، كما تقرّر في محلّه.

وعدم إمكان أخذ هذه الكيفيّات قيدا للمأمور به صورة لا يصلح فارقا بين الموارد بعد ما عرفت من أنّها على تقدير اعتبارها من قيود الواجب الواقعي والمحبوب النفس الأمري.

نعم ، بين الموارد فرق من حيث إمكان التمسّك بالإطلاق لنفي الشرطية والجزئية فيما يصلح كونه تقييدا للمأمور به صورة دون غيره ، لا في جريان أصل البراءة ، بل قد عرفت في صدر المبحث أنّه لو شكّ في تعلّق غرضه بإيجاد المأمور به بداعي الأمر لتكون الإطاعة قيدا للمحبوب الواقعي ، نتمسّك في نفيه بأصالة البراءة ، مع أنّ اعتبارها قيدا شرعي ، لا أصل وجوبها ، فكيف في مثل هذه التفاصيل التي لا وجوب لها عقلا ، فشرطيتها على تقدير تحقّقها منتزعة عن الإيجاب الشرعي كغيرها من الشرائط.

والحاصل : أنّه كلّ ما يشكّ في اعتباره قيدا للواجب الواقعي والمحبوب النفس الأمري ، سواء أمكن أخذه قيدا للمأمور به في العبادة أم لا ، يرجع فيه إلى البراءة.

نعم ، لو علم تعلّق غرضه بشي‌ء ممّا قد يوجد مع المأمور به أحيانا أو بإتيان المأمور به على كيفية خاصّة ، يجب إحرازه ، والقطع بحصوله جزما ، لأنّ عنوان الواجب الواقعي على هذا ما يحصل به الغرض المعلوم ، لا المأمور به الذي قد يتخطّى عن حصول الغرض ، لأنّ

١٧٣

الموضوع في حكم العقل بوجوب الإطاعة ما علم محبوبيته للمولى ، وأنّه لا يرضى بتركه ، سواء وفي ببيانه لفظه أم لا.

والمدار في ذلك على العلم بذلك لا على الشكّ ، لما ذكرنا من أنّ العلم المعتبر في موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة ، فلو شكّ في تعلّق غرضه بشي‌ء ممّا يمكن انفكاكه عن المأمور به ، لا يلتفت إليه أصلا ، ولا يجب القطع بحصوله جزما ، لأنّ إظهار ما في ضميره والتكليف بما يفي بتمام غرضه من وظيفته ، والعقاب على ما تعلّق به غرضه من دون بيانه للعبد وعلم العبد به قبيح.

وبما ذكرنا ظهر ما في تقرير الشبهة من المغالطة والاشتباه ، لظهور الفرق بين العلم بتعلّق غرضه بشي‌ء غير حاصل واحتماله ، وما نحن فيه من الثاني لا الأوّل ، وقد عرفت أنّه يجب الاحتياط في الأوّل دون الثاني.

وأمّا ما ذكر من أنّ مقاصد العقلاء في أوامرهم غالبا معلومة ، وأنّهم لا يرتابون في حصولها بوجود المأمور به ، ولذا يحكمون بحصول الإطاعة في أوامرهم بمجرّد إيجاده المأمور به بداعي الأمر ، ففيه : منع ظاهر ، إذ كثيرا مّا يشتبه على العبيد أغراض مواليهم ، مع أنّهم غير ملتزمين بالاحتياط فيما يحتملون تعلّق غرض المولى بحصوله ، بل لا يلتفتون إلى ذلك ، لما هو المغروس في أذهانهم من كفاية إيجاد المأمور به بداعي الأمر في سقوط الأمر وحصول الإطاعة.

إن قلت : تعلّق غرض الشارع في العبادات بما عدا وجود المأمور به من حيث هو معلوم ، وحصول غرضه بمجرّد إتيان المأمور به بداعي

١٧٤

الأمر مجرّدا عن التفاصيل المحتمل اعتبارها غير معلوم ، فيجب الاحتياط.

قلت : تعلّق غرضه فيها بإيجادها بعنوان الإطاعة التي قد عرفت أنّها عبارة عن إيجاد المأمور به بداعي الأمر معلوم ، وقد حصل بالفرض ، وتعلّق غرضه بشي‌ء آخر غير معلوم والأصل ينفيه.

وبما ذكرنا ـ من عدم إمكان تقييد الإطاعة بشي‌ء لا حكما ولا موضوعا ، وأنّ مرجع اعتبار قصد القربة ونحوها في العبادات لدي التحليل إلى تقييد ما به تتحقّق الإطاعة ، أي ذات الواجب لا نفس الإطاعة ـ ظهر ما في الاستدلال لنفي اعتبار معرفة الوجه وغيرها من التفاصيل : بإطلاقات أدلّة العبادات ، كقوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) وقوله تعالى : (لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢).

توضيح ما فيه : أنّ اعتبار هذه الأمور قيدا في العبادة يمنع من حصول مطلق الإطاعة بدونها ، فكيف ينفي اعتبارها إطلاق الإطاعة!؟

نعم ، يمكن دعوى القطع بعدم اعتبار شي‌ء منها في العبادات من عدم التعرّض لشي‌ء منها في شي‌ء من الأخبار ، مع عموم البلوى بها ، واحتياج العباد إلى معرفتها أكثر من حاجتهم إلى جميع العبادات ، لكونها شرطا في الجميع.

والإنصاف أنّ من شاهد سيرة النبي وأوصيائه صلوات الله عليهم مع أصحابهم في بيان الأحكام الشرعية وبيان أجزاء العبادات ، خصوصا في الأخبار البيانية المشتملة على الواجبات والمندوبات ، الواردة في محلّ الحاجة

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٥٩.

(٢) سورة البيّنة ٩٨ : ٥.

١٧٥

مع إهمال الوجه فيها ، وكذا الأخبار الكثيرة الواردة جوابا للسائلين عن أحكام الحوادث الواقعة في الصلاة وغيرها من العبادات ، المقتصر في الحكم بصحّة العمل فيها على كون العمل مطابقا للواقع ، من دون استفصال عن كونه متردّدا حال العمل أم لا ، بانيا على الفحص والسؤال أم لا ، عالما بوجه العمل مفصّلا أم لا ، لا يكاد يرتاب في عدم معهودية هذه الأمور لدي الشارع والمتشرّعة ، بل كان كيفيّة امتثال الأوامر الشرعية في عصرهم صلوات الله عليهم ، موكولة إلى ما هو المعهود لدى أهل العرف في أوامرهم العرفيّة ، والله العالم.

(وهل تجب) في الوضوء المبيح (نيّة رفع الحدث) كما عن بعض كتب الشيخ (١) رحمه‌الله (أو) نيّة (استباحة شي‌ء ممّا يشترط فيه الطهارة) كما عن السيّد (٢) رحمه‌الله ، أو هما معا ، كما عن الحلبي والقاضي والراوندي وابني حمزة وزهرة (٣) ، أو أحدهما تخييرا ، كما عن المبسوط وموضع من الوسيلة والسرائر والمعتبر وأكثر كتب العلّامة والشهيد وغيرهم (٤)؟ بل في السرائر : دعوى إجماعنا عليه.

قال في من صلّى الظهر بطهارة ولم يحدث وجدّد الوضوء ثم صلّى

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٧ ، وانظر عمل اليوم والليلة (ضمن الرسائل العشر) : ١٤٢.

(٢) حكاه عنه الشهيد في غاية المراد ١ : ٣٢ ـ ٣٣ ، وكما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٧.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٧ ، وانظر : الكافي في الفقه : ١٣٢ ، والمهذّب ١ : ٤٣ ، وفقه القرآن ـ للراوندي ـ ١ : ٢٦ ، والوسيلة : ٥١ ، والغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٩١.

(٤) حكاه عنهم الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٧ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٩ ، والوسيلة :٥٦ ، والسرائر ١ : ١٠٥ ، والمعتبر ١ : ١٣٩ ، والمختلف ١ : ١٠٧ ، المسألة ٦٥ ، والذكرى : ٨٠.

١٧٦

العصر فذكر أنّه ترك عضوا من أعضاء الطهارة بعد أن حكى عن الشيخ أنّه يعيد الظهر فقط ، وعن الشافعي يعيد الظهر ، وفي إعادة العصر قولان : قال ابن إدريس مصنّف هذا الكتاب : والذي يقوى في نفسي وتقتضيه أصول مذهبنا أنّه يعيد الصلاتين معا الظهر والعصر ، لأنّ الوضوء الثاني ما استبيح به الصلاة ولا رفع الحدث ، وإجماعنا منعقد على أنّه لا يستباح الصلاة إلّا بنيّة رفع الحدث أو نيّة استباحة الصلاة بالطهارة ، فأمّا إن توضّأ الإنسان بنيّة دخول المساجد والكون على الطهارة أو الأخذ في الحوائج ، لأنّ الإنسان يستحبّ له أن يكون في هذه المواضع على طهارة ، فلا يرتفع حدثه ولا يستبيح بذلك الوضوء الدخول في الصلاة ، وإلى هذا القول والتحرير ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي ـ رحمه‌الله ـ في جواب المسائل الحلبيّات التي سئل عنها ، فأجاب بما حرّرناه (١). انتهى.

أقول : ظاهر كلامه رحمه‌الله صحّة الوضوء في الصور المفروضة ، ووقوعه على وجه الطهورية ، ومع ذلك لا يرتفع به الحدث ، ولا يستباح به الصلاة ، وهو كما تراه مخالف لما يظهر من كلمات الأصحاب من أنّ الطهارة والحدث إمّا متناقضان أو متضادّان فلا يجتمعان ، ولكنّك ستعرف في مبحث التيمّم إمكان الالتزام باجتماعهما ببعض التقريبات التي لا تخلو عن التأمّل.

وكيف كان فـ (الأظهر أنّه لا تجب) نيّة شي‌ء منهما ، كما صرّح به غير واحد من مشايخنا (٢).

وعن جملة من المتأخّرين اختياره ، بل ربما نسب ذلك إلى جميع

__________________

(١) السرائر ١ : ١٠٥.

(٢) جواهر الكلام ٢ : ٨٩ و ٩٢ ، كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٧.

١٧٧

القائلين بعدم اعتبار قصد الوجه (١).

واستدلّ عليه شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ بقوله : للاتّفاق على أنّه لا يجب أن ينوي ما عدا مشخّصاته وغايته ، ولا شي‌ء منهما غاية له ولا مشخّصا ، لأنّهما أثران مترتّبان على إيقاع الوضوء بقيوده المشخّصة لغاية القربة ، فالرفع والإباحة من أحكام امتثال الأمر بالوضوء وإتيانه على الوجه الذي أمر به ، لا من الوجوه التي يقع الوضوء عليها حتى يجب أخذه قيدا للفعل ليوقع الفعل المقيّد به قربة إلى الله تعالى ، فالوضوء المعيّن المأتيّ به قربة إلى الله تعالى ، رافع للحدث ومبيح للصلاة ، لا أنّ الوضوء المعيّن الرافع للحدث أو المبيح للصلاة مأتيّ به قربة إلى الله ، كيف ولو كان الفعل المعيّن في نفسه رافعا للحدث أو مبيحا للصلاة ، لم يشترط في صحّة الوضوء قصد القربة ، لأنّ رفع الحدث حينئذ ـ كرفع الخبث ـ يكفي في سقوط الأمر بمجرّد وجوده في الخارج بأيّ غاية كان.

ومن هنا يظهر فساد الاستدلال على اعتبار أحدهما بما دلّ على وجوب الوضوء من حيث كونه طهورا ، مثل قوله عليه‌السلام : «إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور» (٢) فيجب قصد العنوان المأمور به ، لعدم تحقّق الامتثال بدونه ، بل قد عرفت سابقا وجوب قصد قيود العنوان ، فلا بدّ أن يقصد إلى هذه الأفعال بعنوان حصول الطهارة ورفع الحدث بها.

__________________

(١) انظر جواهر الكلام ٢ : ٩٢.

(٢) الفقيه ١ : ٢٢ ـ ٦٧ ، التهذيب ٢ : ١٤٠ ـ ٥٤٦ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ ، والحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

١٧٨

توضيح الفساد : أنّه لو فرض الأمر متعلّقا بعنوان التطهير ـ أعني رفع الحدث أو استباحة الصلاة ـ كان ذلك الأمر توصّليّا قطعا ، إذ لا يقصد منه عدا حصول التطهير في الخارج ولو لم يقصده ولم يشعر به ، إذ بعد حصوله على أيّ وجه يسقط الأمر جزما ، فالمأمور به بالأمر التعبّدي المدخل له في العبادات ، المعتبر فيها القصد القربة هي الأفعال التي تصير سببا لحصول التطهير في الخارج بعد إتيانها في الخارج منويّا بها بعد تعيّنها بجميع مشخّصاتها التقرّب إلى الله تعالى.

ونظير الأمر بالتطهير كلّ أمر يعنون بعنوان مترتّب على عبادة ، كأوامر الإطاعة وما في معناها ، كقول الآمر : ابرأ ذمّتك ممّا عليك ، فإنّ هذه كلّها أوامر توصّليّة لم تصدر لغرض التعبّد بمضمونها في الخارج.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الفعل المأمور به على جهة التعبّد لم يؤخذ فيه رفع الحدث ، والذي أخذ فيه رفع الحدث لم يؤمر على جهة العبادة (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : ما حقّقه ـ قدس سرّه ـ في غاية المتانة ، وقد أشار ـ بقوله :للاتّفاق ، إلى آخره ـ إلى أنّه لا خلاف في أنّه لا يجب على العبد في مقام الإطاعة إلّا إيقاع المأمور به على الوجه الذي تعلّق به التكليف بداعي امتثال الأمر ، كما أنّه لا شبهة في عدم كون قصد الاستباحة والرفع شرطا تعبّديّا في صحّة الوضوء ، فالخلاف في اعتبار قصدهما كالخلاف في اعتبار قصد الوجوب والندب ينشأ من النزاع في أنّ هذه الوجوه هل هي

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٨٧.

١٧٩

من مميّزات الفعل ووجوهه التي يقع الفعل عليها ، كي يعتبر قصدها بجعلها صفة أو غاية في مقام الامتثال ، أم لا؟ وقد أقام البرهان على أنّهما أثران مترتّبان على الوضوء المأمور به ، وليسا من الوجوه الواقعة في حيّز الطلب التعبّدي ، كي يجب قصدهما في مقام الإطاعة.

ولكن يمكن الخدشة في ذلك بإمكان التزام القائلين باعتبار قصد الأثر بتعدّد ماهيّة الوضوء ، وكون الوضوء الرافع مغايرا بالذات لوضوء الجنب والحائض ونحوهما ، ولمّا لم يكن لنا سبيل إلى تعيين الماهيّة التي قصد إيجادها بداعي الأمر اعتبر قصد حصول الأثر ، لكونه مؤثّرا في قصد المؤثّر وطريقا إلى تعيينه.

ويدفعها ـ مضافا إلى ضعف المبني ، كما ستعرف ـ أنّ قصد التقرّب بفعله وإيجاده بداعي الأمر الشخصي المتوجّه إليه ، المقصود امتثاله ، كاف في التعيين ، لصيرورته بعنوان كونه مأمورا به بهذا الأمر الخاصّ الذي هو من أخصّ عناوينه فعلا اختياريّا له ، فلا حاجة إليهما.

لا يقال : إنّ من الجائز أن يكون هذا النوع من الوضوء ـ كالتأديب ـ من الأفعال التي يكون قصد ترتّب الأثر عليها كقصد التقرّب من مقوّمات مفهومها.

لأنّا نقول : غاية ما ثبت بإجماع ونحوه إنّما هو اشتراط أفعال الوضوء ، التي هي عبارة عن غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرّجلين على ما نطق به الكتاب العزيز بوقوعها بعناوينها الواقعة في حيّز الطلب بقصد التقرّب ، وأمّا وقوعها بعنوان آخر يتوقّف حصوله على قصد

١٨٠