مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

ظاهر المحقّق الأردبيلي : دعوى الإجماع عليه (١) ، بل في طهارة سيّدنا المعاصر بعد أن نسبه إلى المشهور شهرة عظيمة : أنّ نقل الإجماع عليه مستفيض.

وما عن غير واحد من العلماء (٢) ـ رضوان الله عليهم ـ بل نسبه في محكيّ المختلف إلى المشهور بين العلماء من الاكتفاء في مسح الرأس والرّجلين بإصبع واحدة (٣) لا ينافي ما ذكرنا من الاكتفاء بالمسمّى مطلقا ، لأنّ مقصودهم ـ بحسب الظاهر على ما يشهد به قرائن كثيرة ـ بيان أقلّ ما به يتحقّق المسمّى ، وعدم وجوب مسح الزائد عليه ، خلافا لمن قال بوجوب مسح مقدار ثلاث أصابع.

نعم ، قد يأبى عن هذا الحمل ما حكي عن التهذيب حيث قال في مقام الاستدلال على ما ذكره المفيد من الاجتزاء بالإصبع : ويدلّ عليه آية المسح ، ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ، ويسمّى ماسحا ، ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع ، لأنّا لو خلّينا والظاهر ، لقلنا بجواز ذلك ، لكنّ السنّة منعت منه (٤).

وكيف كان ، فلا شبهة في ضعف التحديد بالإصبع ، سواء أريد منه عرض الإصبع أو طولها أم عرض الرأس أو طوله ، لعدم مساعدة شي‌ء من

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٦ ، وانظر : زبدة البيان : ١٧.

(٢) حكاه عنهم العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٢١ ، المسألة ٧٥ وصاحب الجواهر فيها ٢ : ١٧٠.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٧٠ ، وانظر : المختلف : ١ : ١٢١ ، المسألة ٧٥.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٦٤ ، وصاحب الجواهر فيها ٢ : ١٧١ ، وانظر : التهذيب ١ : ٨٩.

٣٤١

الأدلّة على اعتباره.

والأقوى ما ذكره المصنّف من كفاية ما يسمّى به ماسحا عرفا من دون فرق بين الاختيار والاضطرار ، ولا الرجل والمرأة ، لإطلاق الآية ، بل وكذا الرواية المتقدّمة (١) الواردة في تفسيرها.

والمناقشة في إطلاقها : بعدم كونها مسوقة لبيان هذا الحكم حتى يصحّ التمسّك بإطلاقها ، مدفوعة : بأنّ وقوعها تفسيرا للآية التي لها إطلاق قرينة على إرادة مطلق مسح بعض الرأس ، المتحقّق بمسمّاه ، لا البعض في الجملة ، فالرواية لأجل كونها تفسيرا للآية بمنزلتها في الإطلاق.

وقد يناقش في دلالة الآية على كفاية مسمّى المسح : بإنكار سيبويه مجي‌ء الباء للتبعيض (٢) ، فلا يجوز حمل الآية عليه.

وفيه : أنّ منع دلالة الآية لا يتوقّف على إنكار مجي‌ء الباء للتبعيض حتى يعارض إنكار سيبويه بتصريح غير واحد من النحاة ـ كابن جنّي وابن مالك وابن هشام (٣) وغيرهم ـ بمجيئها للتبعيض كثيرا في النظم والنثر ، بل يكفي في عدم ظهورها في ذلك : عدم القرينة على تعيّن إرادته ، لأنّ حمل المشترك على بعض معانيه يحتاج إلى قرينة معيّنة ، ومع وجودها لا يضرّ إنكار سيبويه ولا غيره ، إذ بعد ظهور الكلام ـ بمساعدة القرينة ـ في إرادة المسح على بعض الرأس لا بدّ إمّا من الالتزام بأنّ الباء في الآية

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٤٠.

(٢) انظر الكتاب ٤ : ٢١٧.

(٣) انظر : مغني اللبيب ١ : ١٤٢.

٣٤٢

للتبعيض إمّا حقيقة لو سلّمناه ، أو مجازا لو جوّزناه ، أو الالتزام بأنّ المراد من الرأس بعضه مجازا ، أو أنّ المسح متضمّن لمعنى ما يتحقّق عرفا بوقوعه على بعض الرأس ، كالمرور أو اللصوق أو الملابسة أو غيرها.

والإنصاف أنّ إدراج كلمة الباء في البين وتغيير الأسلوب مع أنّ المسح ممّا يتعدّى بنفسه لو لم نقل بدلالته على التضمين أو إرادة البعض من نفسها باستعمالها للتبعيض ، أو من مدخولها مجازا ، فلا أقلّ من إشعاره بذلك.

هذا كلّه ، مع قطع النظر عن الصحيحة الواردة في تفسيرها ، وإلّا فلا مجال للمناقشة في دلالتها بعد تصريح أهل بيت الوحي الذين هم أدرى بما فيه : بأنّ المراد منها المسح على بعض الرأس ، غاية الأمر أنّا لو أنكرنا مجي‌ء الباء للتبعيض ، نلتزم بالتجوّز أو التضمين ، كما هو ظاهر.

وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ ما حكي (١) عن العلّامة ـ رحمه‌الله ـ من إنكار مجي‌ء كلمة الباء للتبعيض ، استنادا إلى إنكار سيبويه مجيئها له ليس أمرا منافيا للرواية الصحيحة ، كما توهّمه بعض القاصرين المنحرفين عن الصواب ، فأخذ في الطعن وإساءة الأدب على رؤساء الدين الذين لو لا هم ، لكان أكثر الطاعنين في بيداء الضلالة تائهين.

وقد جرّأهم على ذلك شيخنا البهائي ـ رحمه‌الله ـ حيث اعترض ـ فيما حكي عنه ـ على العلّامة : باقتضاء كلامه طرح الرواية الصحيحة ، لقول سيبويه (٢) وقد عرفت أنّ الاعتراض من مثله منشؤه الغفلة.

__________________

(١) الحاكي عنه الشيخ البهائي في هامش الحبل المتين : ١٦.

(٢) الحبل المتين : ١٦ (الهامش).

٣٤٣

هذا ، مع أنّ في إثبات الموضوعات اللّغويّة والآثار الغير الشرعيّة بأخبار الآحاد التي لم يعلم بصدورها على سبيل الجزم واليقين كلاما ليس هاهنا مقام تفصيله ، فليس عدم الالتزام بها في غير الآثار الشرعيّة أمرا واضح الفساد حتى يتوجّه عليه الطعن والاعتراض ، والله العالم ، وهو الحاكم.

وممّا يدلّ أيضا على المطلوب : صحيحة أخرى لزرارة وبكير عن أبي جعفر عليه‌السلام فيما حكاه عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ثم قال : إنّ الله تعالى يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (١) إلى أن قال : ثم قال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٢) فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه» (٣) إلى آخره.

ورواية أخرى لهما أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال في المسح :«تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك» (٤).

ويدلّ على كفاية مقدار الإصبع ، وعدم اعتبار ما زاد عليه في عرض الرأس : مرسلة حمّاد عن أحدهما عليه‌السلام في الرجل يتوضّأ وعليه العمامة ،

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٣) الكافي ٣ : ٢٥ ـ ٢٦ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٧٦ ـ ١٩١ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٤) التهذيب ١ : ٩٠ ـ ٢٣٧ ، الإستبصار ١ : ٦١ ـ ١٨٢ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

٣٤٤

قال : «يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه ، فيمسح على مقدّم رأسه» (١).

وكذا روايته الأخرى عن الحسين عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل توضّأ وهو معتمّ ، فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد ، فقال : «ليدخل إصبعه» (٢).

ويحتمل اتّحاد الروايتين ، وكون الاختلاف من الراوي ، وترك تعرّضه فيما أرسله لبعض ما أورده في السؤال في الرواية ، لفهمه عدم المدخلية في الحكم.

وكيف كان ، فهذه الرواية تدلّ بظاهرها على كفاية مسح مقدار من الرأس تمرّ عليه إصبع واحدة من تحت العمامة ، وهو أقلّ عرضا من عرض الإصبع ، لأنّ باطن الإصبع المماسّ لظاهر الممسوح أقلّ مسافة من عرض الإصبع ، بل ظاهر إطلاق الجواب كفاية مطلق المسح بإدخال الإصبع ولو برأس الأنملة.

ويمكن المناقشة في دلالة هاتين الروايتين : بعدم كونهما مسوقتين إلّا لبيان عدم وجوب رفع العمامة ، وكفاية إدخال اليد من تحتها ، وأمّا كفايته مطلقا بمجرّد حصول المسح بها في الجملة ، أو بشرط إدارتها على تمام الناصية بحيث يحصل مسح مجموع المقدّم أو المسح مورّبا حتى يحصل به مسح مقدار ثلاث أصابع من عرض الرأس أو طوله ، فلا تعرّض لها فيهما ، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقهما من هذه الجهة.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٩٠ ـ ٢٣٨ ، الإستبصار ١ : ٦٠ ـ ١٧٨ ، الوسائل ، الباب ٢٢ و ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣٠ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٣٤٥

ولكنّ الإنصاف أنّه ينسبق إلى الذهن منهما كفاية المسح بإصبع واحدة على الكيفيّة المتعارفة ، وهي إمرارها إلى جهة الفوق ، أو من الفوق إلى قصاص الشعر.

ألا ترى أنّ غير واحد من العلماء تشبّث بهما لإثبات اعتبار مقدار الإصبع ، وعدم اعتبار غير الأزيد ، بل جعل الشيخ ـ فيما نسب (١) إليه ـ ثانيهما شاهدا للجمع بين الأخبار المطلقة والآمرة بالمسح بثلاث أصابع ، وخصّص أخبار الثلاث ـ بشهادة هذه الرواية ـ بغير صورة الاضطرار لبرودة ونحوها ، فلو لم يكن مسح مقدار يحصل مسحه بإدخال الإصبع على الكيفية المتعارفة مجزئا ، لكان على الإمام عليه‌السلام التنبيه عليه في مثل هذه الروايات ، صونا للمسامع عن الوقوع من الاشتباه وإن لم يكن الإطلاق ناظرا إلى بيان حكم المسح من هذه الجهة ، إذ لا منافاة بين عدم كونه مقصودا بالإفادة أصالة واستفادته عرفا من الخطاب.

نعم ، لا دلالة فيهما على عدم اعتبار ما زاد على عرض الإصبع في طول الرأس ، فلا ينافيهما أخبار الثلاث ، لو أريد منها هذا المقدار من طول الرأس لا عرضه.

فقد ظهر لك أنّه لا وجه لتعيين مقدار الممسوح من حيث الطول وتحديده بعرض الإصبع بهاتين الروايتين ، لما عرفت من إهمالهما من هذه الجهة.

وكذا لا وجه لتعيين مقداره من حيث العرض بعرض الإصبع ، إذ لا

__________________

(١) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٧٣ ، وانظر : التهذيب ١ : ٩٠ ذيل الحديث ٣٣٩.

٣٤٦

دلالة في الأمر بإدخال الإصبع تحت العمامة على اعتبار المسح بمجموع عرض الإصبع ، وعدم كفاية مسمّى المسح ، لأنّ إيجاد المسمّى أيضا يتوقّف على إدخال الإصبع تحت العمامة ، فلا يدلّ الأمر به على اعتبار أمر زائد على ما علم وجوبه من الأخبار المطلقة.

فالقول بعدم كفاية ما دون عرض الإصبع في طول الممسوح أو عرضه ، استنادا إلى هاتين الروايتين ضعيف.

نعم ، لو ادّعى القائل بعدم كفاية ما دون عرض الإصبع في عرض الرأس أو طوله : انصراف مطلقات الباب عن مثله ، لم تكن دعواها بعيدة وإن كانت قابلة للمنع ، فعلى هذا يكون التحديد بعرض الإصبع من باب الحدس والتخمين لا التعبّد.

وأضعف من هذا القول : ما عن ظاهر النهاية من التفصيل بين المختار وغيره ، حيث قال : وتجزئ إصبع عند الخوف من كشف الرأس ، ولا يجزئ أقلّ من ثلاث أصابع مضمومة للمختار (١).

توضيح ما فيه من الضعف ، أوّلا : لما عرفت من أنّ تعيين مقدار الإصبع ممّا لا يساعد عليه دليل حتى يقيّده بحال الاضطرار.

اللهم إلّا أن لا يريد من قوله : وتجزئ إصبع ، اعتبار مقدار الإصبع ، بل يريد منه كفاية مطلق المسمّى ، فعبّر عن مراده بكفاية الإصبع ، لغلبة تحقّق المسمّى به لا بدونه ، أو لغلبة التعبير عن الأقلّ بذلك.

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٦ ، وانظر : النهاية : ١٤.

٣٤٧

وثانيا : أنّ تخصيص كفاية الإصبع بمن يخاف من كشف رأسه ، أي المضطرّ دون المختار ممّا لا دليل عليه.

ورواية حمّاد على خلافه أدلّ ، لأنّ قوله : ثقل عليه نزع العمامة ، لا يدلّ على خوفه من ذلك واضطراره إلى تركه ، بل مفاده أنّه يشقّ عليه ذلك ، وهو أعمّ من الخوف والضرورة.

هذا ، مع أنّ مسح مقدار الثلاث يحصل بإدخال الثلاث من أصابعه من تحت العمامة ، فلا ضرورة تدعوه إلى تركه في الغالب ، فأمر الإمام عليه‌السلام بإدخال إصبع مع تيسّر إدخال الثلاث غالبا دليل على عدم وجوب ما زاد مطلقا ، فهذه الرواية بظاهرها تعارض أخبار الثلاث لو تمّت دلالتها كغيرها من الأخبار الظاهرة في كفاية المسمّى.

وعن الفقيه أنّ حدّ مسح الرأس أن يمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدّم الرأس (١).

وعن المعتبر أنّه حكى عن مسائل الخلاف للسيّد ـ قدس‌سره ـ أنّه أوجب الثلاث (٢).

فإن أراد من أوجب الثلاث وجوب أن تكون آلة المسح ثلاث أصابع ، كما هو ظاهر عبارة الفقيه ، ففيه : أنّه لا يمكن استفادته من شي‌ء من الأدلّة.

وإن أريد مسح موضع الثلاث من مقدّم الرأس ولو بإصبع واحدة ،

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٦ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٧٢ ، وانظر : الفقيه ١ : ٢٨ ذيل الحديث ٨٨.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٦ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٤٥.

٣٤٨

كما ليس بالبعيد ، لغلبة التعبير عن المقدّرات بالإصبع واليد والذراع ونحوها ، فإن أراد من عبّر بمثل الفقيه اعتبار وقوع المسح على هذا المقدار من مقدّم الرأس دون غيره ، بأن تكون كلمة «من» في كلامه بيانيّة ، ففيه : ما سيجي‌ء في تحديد مقدّم الرأس إن شاء الله.

وإن أراد وجوب كون المسح بهذا المقدار من مقدّم الرأس لا أقلّ منه ، فيمكن الاستشهاد له : برواية معمّر بن عمر (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام «يجزئ من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع وكذلك الرّجل» (٢).

وكذا صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «المرأة يجزئها من مسح الرأس أن تمسح مقدّمة قدر ثلاث أصابع ، ولا تلقي عنها خمارها» (٣) بناء على الإجماع على عدم الفرق بين الرجل والمرأة ، وعدم الاعتناء بما حكي (٤) عن الإسكافي من الفرق بينهما وكفاية الإصبع للرجل.

ويؤيّده : ما عن محمّد بن عيسى ، قال : قلت لحريز يوما : يا عبد الله كم يجزئك أن تمسح من شعر رأسك في وضوئك؟ قال : مقدار ثلاث أصابع. وأشار إلى السبّابة والوسطى والثالثة (٥) ، إذ الظاهر أنّ مثل

__________________

(١) في «ض ١ ، ٩» والطبعة الحجرية وكذا في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٦ : معمر بن خلّاد. وما أثبتناه من المصادر.

(٢) الكافي ٣ : ٢٩ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٦٠ ـ ١٦٧ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٣٠ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٧٧ ـ ١٩٥ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٤) حكاه عنه الشهيد في الذكرى : ٨٦ ، كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٦.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٦ ـ ٦١٦ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٣٤٩

حريز لا يفتي في الشرعيّات إلّا بما سمعه.

وظاهر لفظ الإجزاء خصوصا في فتوى حريز عدم كفاية ما دون الثلاث ، لا لأجل الاعتماد على مفهوم اللقب حتى يضعف ، بل لأجل أنّ لفظ الإجزاء له ظهور عرفي في كون متعلّقه أقلّ ما يجزئ ، فيقيّد به الأخبار المطلقة ، هكذا قيل.

وفيه : منع ظهور لفظ الإجزاء في ذلك ، بل غايته الإشعار به ، وهو لا يصلح لتقييد المطلقات ، إذ كثيرا مّا يكون متعلّق الإجزاء أفضل أفراد الواجب ، كما لا يخفى على من تتبّع الأخبار ، بل لاحظ استعمالات العرف.

وسرّه : أنّ الإجزاء قد يستعمل ويراد منه بيان ما يرتفع به كلفة التكليف ، ويندفع به محذور مخالفة الواجب ، ويحتاج إلى فعله المكلّف على سبيل الحتم واللزوم ، فمعنى إجزاء الفعل على هذا التقدير كفايته عمّا كان مضطرّا إليه ، وهو أقلّ الواجب.

وقد يراد منه بيان ما يحتاج إليه في مقام أداء التكليف ولو لم تكن حاجته إليه بطريق اللزوم ، فمعنى «يجزئه» حينئذ : يكفيه بحيث لا يحتاج بعده إلى أمر آخر في مقام الامتثال ، ورفع الحاجة على سبيل الإطلاق إنّما يحصل بأفضل الأفراد.

وكيف كان ، فدعوى ظهوره فيما ذكر ، ممنوعة.

نعم ، في بعض الموارد يستفاد منه ذلك ، لخصوصيّات المقام.

٣٥٠

ولعلّ فتوى حريز من هذا القبيل إلّا أنّها ليست بحجّة ، لاحتمال تطرّق الاجتهاد فيها إلى هذا.

مع أنّ في رواية معمّر ـ التي هي العمدة في الاستدلال ـ قرينة الاستحباب لإلحاق مسح الرّجل بالرأس مع أنّ وجوب الثلاث في الرّجل مخالف للإجماع ، كما عن غير واحد نقله.

نعم ، عن التذكرة نسبة القول بوجوبها في الرّجلين إلى بعض العلماء (١).

لكنّك خبير بعدم خروج الرواية بمثل هذا القول ـ الذي لم يتحقّق قائله ـ من الشذوذ.

مع أنّها ـ مع قصور سندها ودلالتها ـ معارضة بالأخبار المطلقة والدالّة على كفاية الإصبع.

أمّا معارضتها مع الأخيرة : فظاهرة.

وأمّا معارضتها مع المطلقات : فلعدم صلاحيّتها للتقييد بهذه الرواية بالنسبة إلى القدمين ، لأنّ إرادة موضع ثلاث أصابع من عرض ظاهر القدمين ـ كما هو المتعيّن إرادته ـ يزيد عن نصف ظاهر القدمين بكثير ، فيبعد إرادته من قوله عليه‌السلام : «فإذا مسح بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع» (٢) لظهوره في كفاية مسح مقدار يسير منهما ،

__________________

(١) حكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٢٥٢ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ١٧١ ، ذيل المسألة ٥٢.

(٢) التهذيب ١ : ٩٠ ـ ٢٣٧ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤ بتفاوت يسير في اللفظ.

٣٥١

وموضع ثلاث أصابع بالنسبة إلى القدمين لا يعدّ يسيرا ، فلا يصحّ حمل الرواية عليه ، فالروايتان بمنزلة المتباينين ، لا العامّ والخاصّ ، فيجب تنزيل رواية الثلاث على كونها بيانا لما يجزئ على الوجه الأتمّ ، فيكون المسح بمقدار الثلاث أفضل أفراد الواجب.

وأمّا صحيحة زرارة : فهي ـ مضافا إلى منع ظهورها في عدم كفاية ما دون الثلاث ، كما عرفت ، ومعارضتها بما دلّ على كفاية الإصبع إلّا أن يراد منها اعتبار مقدار الثلاث في طول الرأس ، أو يلتزم باختصاصها بالمرأة ، وتخصيص ما عداها بالرجل ، كما عن الإسكافي (١) ـ يرد عليها عدم تعيّن كون إطلاق الإجزاء بلحاظ مقدار الممسوح ، بل يحتمل إرادة بيان أنّ المسح من تحت القناع يجزئها ، ولا يجب عليها إلقاء خمارها ، فيكون الإجزاء راجعا إلى القيد الأخير.

وقد يستدلّ لوجوب المسح بالثلاث : بصحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع ، فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ، فقلت له : جعلت فداك لو أنّ رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا ، فقال : «لا إلّا بكفّه» (٢) بدعوى : عدم القول بالفصل بين القدمين والرأس ، فإذا وجب الثلاث في القدمين بمقتضى هذه الصحيحة وجب في الرأس أيضا ، لعدم القول بوجوب الثلاث فيهما دون الرأس.

__________________

(١) حكاه عنه الشهيد في الذكرى : ٨٦.

(٢) الكافي ٣ : ٣٠ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٩١ ـ ٢٤٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

٣٥٢

وفيه : ما لا يخفى من عدم انطباق ظاهر الصحيحة لشي‌ء من الأقوال ، ومعارضتها لغيرها من الأدلّة ، فلا مناص عن حملها على الاستحباب.

فظهر لك قوّة القول بأنّ الواجب مسح مقدار من الرأس يسمّى المتوضّي بمسحه ماسحا (و) أنّ (المندوب) مسح (مقدار ثلاث أصابع) مضمومة (عرضا) أي من حيث عرض الممسوح ، أي الرأس ، وأمّا من حيث الطول فلا تقدير له بحسب الظاهر ، بل يكفي فيه مسمّى الإمرار ، فقوله : «عرضا» تميز يبيّن المقدار.

ويحتمل كونه مبيّنا لما أريد من الأصابع ، يعني مقدار عرض ثلاث أصابع ، لا مجموع سطحها طولا وعرضا.

ويظهر من المسالك : اعتبار التحديد بالثلاث بالنسبة إلى طول الرأس.

قال في شرح العبارة : إنّ «عرضا» حال من الأصابع ، أو منصوب بنزع الخافض ، والمراد مرور الماسح على الرأس بهذا المقدار وإن كان بإصبع ، لا كون آلة المسح ثلاث أصابع مع مرورها أقلّ من مقدار ثلاث أصابع ، ومعنى استحباب مسح هذا المقدار كونه أفضل الفردين الواجبين إن أوقعه دفعة وإن كان ذلك نادرا ، ولو كان على التدريج ـ كما هو الغالب ـ فالظاهر أنّ الزائد عن المسمّى موصوف بالاستحباب (١). انتهى.

وما ذكرناه في تفسيرها أوفق بالنظر إلى ظواهر الأدلّة وفتاوي

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٣٨.

٣٥٣

الأصحاب ، بل هو المتعيّن ، لما يظهر من غير واحد ـ على ما حكي عنهم ـ أنّ محلّ الكلام بين العلماء في تحديد مقدار الممسوح بعرض الإصبع أو الثلاث إنّما هو بالنسبة إلى عرض الرأس ، وأمّا بالنسبة إلى طوله فالظاهر أنّه يكفي الإمرار في الجملة بلا خلاف.

قال في محكي جامع المقاصد : المراد بثلاث أصابع في عرض الرأس ، أمّا في طوله فيكفي ما يسمّى به ماسحا (١).

وعن الشهيد الثاني في شرح النفليّة عند قول الشهيد ـ قدس‌سره ـ : المسح بثلاث أصابع مضمومة عرضا ، أي : في عرض الرأس ، خروجا من الخلاف (٢).

وكيف كان ، فالمعتمد في المقام مدرك المسألة ، والعمدة فيه : رواية معمّر بن عمر (٣) ، المتقدّمة (٤) ، وقد عرفت ظهورها في إرادة هذا المقدار من عرض الرأس بقرينة عطف الرجل عليه ، فهي قرينة على تعيين المراد من الصحيحة المتقدّمة أيضا.

ودعوى ظهورها في حدّ ذاتها في إرادة هذا المقدار من طول الرأس ، لكونها تحديدا للمسح ، الظاهر في إرادة مقدار إمرار اليد ، كدعوى ظهورها في خلافه بانصراف التحديد بالثلاث إلى إرادة العرض

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٧ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٢١٨.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٧ ، وانظر الفوائد الملية : ٢٦.

(٣) في «ض ١ ، ٩» والطبعة الحجريّة : معمر بن خلّاد ، والصحيح ما أثناه.

(٤) تقدّمت في ص ٣٤٩.

٣٥٤

لغلبة حصول وضع الثلاث على الرأس بهذه الكيفيّة ، ممّا لا يلتفت إليها.

فالأقوى ما ذكرنا من استحباب هذا المقدار من عرض الرأس بشهادة رواية معمّر.

والأحوط مراعاته في طرف الطول أيضا ، كما أنّ الأحوط كون آلة المسح أيضا ثلاث أصابع ، بل الأولى والأحوط مسح مقدار مجموع ثلاث أصابع طولا وعرضا في طول الرأس وعرضه ، بل يظهر من بعض وجوبه ، جمعا بين الأخبار السابقة المعتضدة بالأخبار الآتية الدالّة على وجوب مسح الناصية ومقدّم الرأس ، الظاهرة في جميعه.

وقد عرفت أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار خلافه ، إلّا أنّ مراعاته أحوط ، خروجا من شبهة الخلاف ، وعملا بمحتملات مجموع الروايات ، بل القول باستحبابه لا يخلو عن قوّة ، لقوّة احتمال إرادته من الروايتين ، خصوصا الصحيحة ، بل لا يبعد دعوى ظهورها في ذلك ، وأمّا رواية معمّر : فلأجل اشتمالها على الرجل حملها على إرادة هذا المعنى لا يخلو عن تكلّف ، والله العالم.

ولو قلنا باستحباب مسح مقدار الثلاث في طول الرأس ، فلو أوجد مسح مجموع هذا المقدار دفعة بأن وضع مقدار ثلاث أصابع من يده أو أقلّ منه بمقادر يسير بحيث يحصل بأوّل زمان حصول مسمّى المسح مسح مجموع موضع ثلاث أصابع ، فلا خفاء في اتّصاف هذا المسح الخارجي بالوجوب ، وتسميته مستحبّا إنّما هي باعتبار كونه أفضل أفراد الواجب.

٣٥٥

وأمّا لو أوجده تدريجا بأن وضع رؤوس أصابعه ـ مثلا ـ على الرأس ، وأمرّها إلى جهة الطول ، فهل يتّصف المجموع بكونه أفضل أفراد الواجب ، أو ما عدا مقدار المسمّى يتّصف بالاستحباب؟ فيه وجهان ، أظهرهما : الأوّل ، لأنّ المجموع بنظر العرف مصداق واحد للمسح ما لم يرفع يده عن المحلّ.

ويدلّ عليه : اعتبار مجموع المسح بالثلاث في النصّ والفتوى موضوعا للحكم بالاستحباب ، فلا يعقل إلّا أن يكون المجموع أفضل فردي الواجب ، فعلى هذا يشكل الالتزام بمشروعية الزائد عن المسمّى لو بدا له إتمام مقدار الثلاث بعد فراغه منه عرفا ، لحصول إطاعة الواجب وانتفاء أمر استحبابي.

اللهمّ إلّا أن يلتزم بمشروعيّة الإعادة للإجادة ، فيشرع له إعادة ما أوجده في ضمن فرد تامّ أو إتمام ما وجد ، وليس الالتزام به بعيدا عن طريقة العرف والعقلاء ، والله العالم.

ويستحبّ للمرأة إلقاء خمارها في وضوء صلاة الصبح والمغرب دون غيرهما من الصلوات ، واستحبابه في الصبح آكد.

وعن بعض استحبابه عليها مطلقا (١).

وعن بعض آخر : اقتصاره على الغدوة خاصّة ، لعدم وقوفه على نصّ يتضمّن إضافة المغرب إليها في ذلك (٢).

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٧٣ عن المحقّق في المعتبر ١ : ١٤٦ ، والعلّامة في منتهى المطلب ١ : ٦١ ، وغيرهما.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٧٣.

٣٥٦

وعن ظاهر الصدوق والشيخين وجوبه عليها في الصلاتين (١).

ومدرك المسألة : ما رواه الصدوق في الخصال عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «المرأة لا تمسح كما يمسح الرجال ، بل عليها أن تلقي الخمار عن موضع مسح رأسها في صلاة الغدوة والمغرب ، وتمسح عليه ، وفي سائر الصلوات تدخل إصبعها ، فتمسح على رأسها من غير أن تلقي عنها خمارها» (٢).

ورواية الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال ، إنّما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها ، وتضع الخمار عنها ، فإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها» (٣).

وظاهر كلّ من الروايتين في حدّ ذاتهما : وجوب وضع القناع عليها ، كما عن ظاهر الصدوق والشيخين ، إلّا أنّ التدبّر في مفادهما وما يقتضيه الجمع بينهما وبين سائر الأدلّة يعطي ظهورهما في إرادة الاستحباب ، لا للطعن في سندهما بالقصور ، أو دلالتهما بكونهما بلفظ الإخبار ، وهو لا يفيد الوجوب ، لضعف الأوّل : باشتهارهما بين الأصحاب ، إذ الظاهر أنّ فتواهم بالوجوب أو الاستحباب مستندة إليهما ، وهو كاف في جبر السند ، إلّا أن

__________________

(١) حكاه عن ظاهرهم البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٧٣ ، وانظر : الفقيه ١ : ٣٠ ذيل الحديث ٩٩ ، والمقنعة : ٤٥ ، والنهاية : ١٣ ، والمبسوط ١ : ٢٢.

(٢) الخصال : ٢٨٥ ـ ١٢ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٧٧ ـ ١٩٤ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

٣٥٧

يكون بناؤهم في الاستحباب على المسامحة ، فليتأمّل.

وكذا الثاني : بما تقرّر في الأصول من دلالة الجملة الخبرية أيضا على الوجوب كالأمر ، بل دلالتها عليه أظهر من الأمر ، بل الوجه فيه استفادة إرادة الاستحباب منهما بمعونة القرائن الداخليّة والخارجيّة التي منها معارضة نفس الروايتين بالنسبة إلى الصلاة المغرب ، فإنّ ظاهر الأولى وجوبه عليها في صلاة المغرب ، وصريح الثانية عدم الوجوب ، فيرفع اليد عن ظاهر الاولى بنصّ الأخرى ، فتحمل كلمة «عليها» على بيان ما عليها من وظيفة الاستحباب ، فيكون ضمّ الغدوة إلى المغرب في هذه الرواية قرينة على عدم إرادة الوجوب في الرواية الثانية أيضا ، فيجمع بين الروايتين بحمل الثانية على إرادة بعض مراتب الاستحباب ، التي ليست هذه المرتبة للمغرب ، فيكون استحبابه في الصبح آكد.

اللهمّ إلّا أن يمنع دلالة الجمع بينهما في الدلالة على إرادة خصوص الاستحباب منهما ، إذ لا مانع من إرادة مطلق الرجحان ، فلا يصلح قرينة لصرف الرواية الثانية عن ظهورها في الوجوب.

لكن يتوجّه عليه أنّ القول بالوجوب في خصوص الصبح وعدمه فيما عداه ممّا لم نقف على قائل به ، فإعراض الأصحاب عن ظاهرها ، وحملها على الاستحباب كاشف إجمالي عن قرينة داخليّة أو خارجيّة أرشدتهم إلى ذلك.

ثمّ لو سلّم دلالتهما على الوجوب ، يعارضهما إطلاق قوله عليه‌السلام في

٣٥٨

ذيل صحيحة زرارة : «ولا تلقي عنها خمارها» (١).

والنسبة وإن كانت بالإطلاق والتقييد إلّا أنّ عموم الابتلاء بالمطلق ووروده في محلّ الحاجة ممّا يبعّد تقييده برواية أخرى متوجّهة إلى شخص آخر مع تخلّل زمان الحاجة بينهما ، فإنّ ارتكاب التقييد في هذا النحو من المطلقات من أبعد التصرّفات ، حيث إنّ المنصف يجد من نفسه قوّة الظنّ بعدم إرادة الإمام عليه‌السلام من هذا المطلق إلّا ظاهره ، فلهذه المطلقات ـ بقرينة مواردها ـ ظهور خاصّ في الإطلاق والعموم غير الظهور النوعي المستند إلى أصالة الإطلاق ، وهذا بخلاف المقيّد ، فإنّ إرادة الاستحباب منه غير بعيد ، فالتصرّف فيه أهون.

هذا كلّه ، مع تصريح أمير المؤمنين عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر ، المتقدّمة (٢) في أوائل مباحث الوضوء بعد قوله عليه‌السلام : «إنّ آية الوضوء من المحكمات ، وإنّ حدود الوضوء غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرّجلين» قال : «وما يتعلّق بها ويتّصل سنّة واجبة على من عرفها وقدر على فعلها» لأنّ ظاهرها نفي اعتبار ما سواها في صحّة الوضوء ، وأنّ ما ثبت مطلوبيّته شرعا ـ ممّا يتعلّق بالوضوء ما عدا المذكورات ، كالمضمضة والاستنشاق والسواك وغيرها ـ إنّما هو من السنن التي ينبغي أن لا يتركها من عرف أنّها سنّة شرعيّة ، وقدر على فعلها ، وليس المراد بالوجوب في الرواية ـ على ما يشهد به سياق الرواية وتقييد

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٧٧ ـ ١٩٥ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٢) تقدّمت في ص ٣٠٤ ، الهامش (١).

٣٥٩

موضوع الوجوب بالعلم بكونها سنّة والقدرة على فعلها ، مضافا إلى الشواهد العقليّة والنقليّة ـ إلّا هذا المعنى ، لا الوجوب الاصطلاحي ، فهذه الرواية حاكمة على غيرها من الأدلّة ، كما لا يخفى على من تدبّر ، والله العالم. (ويختصّ) موضع (المسح بمقدّم الرأس) وهو ـ على ما يتفاهم منه عرفا ، ويساعد عليه كلمات اللغويّين وتصريحات غير واحد من العلماء وتلويحات آخرين ـ عبارة عن الربع المحاذي للجبهة ، فلا يجزئ مسح المؤخّر أو أحد الجانبين بلا خلاف ، للأخبار المستفيضة المقيّدة لإطلاقات مسح بعض الرأس.

منها : رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «مسح الرأس على مقدّمة» (١).

ورواية أخرى عنه أيضا ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «امسح الرأس على مقدّمة» (٢).

ورواية حمّاد ـ المتقدّمة (٣) ـ عن أحدهما عليه‌السلام في الرجل يتوضّأ وعليه العمامة : «يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه ، فيمسح على مقدّم رأسه» إلى غير ذلك من الأخبار البيانيّة وغيرها.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٦٢ ـ ١٧١ ، الاستبصار ١ : ٦٠ ـ ١٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٩ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٩١ ـ ٢٤١ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) تقدّمت في ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

٣٦٠