مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

المبيحة للمحظورات بقدرها ، فيكون أمرها أوسع من غيرها ، وفاقا لتصريح غير واحد من الأعلام ، بل ربّما يستشمّ من بعض عبائرهم كونه مسلّما عندهم ، خلافا لصريح بعض ، وظاهر آخرين ، وهم المتمسّكون للجواز بأدلّة الحرج.

واستدلّ المانعون : بانتفاء الضرر مع المندوحة ، فيزول المقتضي.

ويردّه : عدم انحصار المدارك بقاعدة نفي الضرر ، بل المعتمد إنّما هو أخبار الباب ، وظاهرها جواز التقيّة مطلقا.

وتقييدها بعدم المندوحة ممّا لا دليل عليه ، بل الأدلّة ناطقة بخلافه ، حيث إنّ ظواهر أكثر أخبار التقيّة أنّ مجرّد وقوع العبادة بمحضر العامّة مقتض لوجوب التقيّة مطلقا من دون اشتراطه بشي‌ء آخر.

مثل : ما رواه العيّاشي بسنده عن صفوان عن أبي الحسن عليه‌السلام ، في غسل اليدين : قلت له : يردّ الشعر؟ قال عليه‌السلام : «إن كان عنده آخر فعل» (١) يعني بالآخر من يتّقيه ، إذ لا يمكن تقييده بما إذا كان ذلك الآخر ملازما له في تمام الوقت ولم يتمكّن من طرده أو التستّر عنه.

وكذا غيره من الأخبار الآمرة بالصلاة معهم والحضور في مجامعهم ، الدالّة على الحثّ العظيم على الصلاة مع المخالف ، ووعد الثواب عليها ، حتى ورد أنّ الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى غير ذلك

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٣٠٠ ـ ٥٤ ، مستدرك الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ ـ ١١٢٦ ، أمالي الصدوق : ٣٠٠ ـ ١٤ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

٤٤١

من الأخبار التي لا يمكن ارتكاب التقييد فيها بما إذا لم يتمكّن من إيجاد صلاته في جميع وقتها إلّا في مكان يجب فيه التقيّة ، بل لا يبعد دعوى صراحة غير واحد من الأخبار في أنّ الأمر في التقيّة أوسع من ذلك.

نعم ، يظهر من غير واحد من الأخبار إناطة الإذن في التقيّة بالضرورة ، كرواية البزنطي عن إبراهيم بن شيبة (١) ، قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، أسأله عن الصلاة خلف من يتولّى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يمسح على الخفّين ، فكتب «لا تصلّ خلف من يمسح على الخفّين ، فإن جامعك وإيّاهم موضع لا تجد بدّا من الصلاة معهم (٢) ، فأذّن لنفسك وأقم» (٣) إلى آخره.

وفي رواية معمّر بن يحيى «كلّ ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقيّة» (٤). وبمعناها غيرها.

وظاهرها كونها مسوقة لبيان ضابط التقيّة ومدارها نفيا وإثباتا.

وفي المرسل المحكيّ في الفقه الرضوي عن العالم «لا تصلّ خلف أحد إلّا خلف رجلين : أحدهما من تثق به وبدينه وورعه ، والآخر من

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : إبراهيم بن هاشم. وما أثبتناه من المصدر.

(٢) كذا ، ولم ترد كلمة «معهم» في المصدر.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٧٦ ـ ٨٠٧ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الصلاة الجماعة ، الحديث ٢ بتفاوت.

(٤) نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى : ٧٣ ـ ١٥٤ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب كتاب الأيمان ، الحديث ١٦.

٤٤٢

تتّقي سيفه وسوطه وشرّه وبوائقه وشنعته ، فصلّ خلفه على سبيل التقيّة والمداراة» (١).

وعن دعائم الإسلام بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام «لا تصلّوا خلف ناصب ولا كرامة إلّا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم فصلّوا في بيوتكم ثم صلّوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا» (٢).

ولكنّ الذي يقتضيه الجمع بين الأخبار حمل الضرورة المعتبرة في مشروعيّتها على الضرورة الفعليّة حال العمل ، لا الضرورة المطلقة ، لما عرفت من عدم إمكان تقييد الأخبار السابقة بها ، بل ومنافاته للتسهيل الذي عليه ابتناء شرع التقيّة ، لأنّ الالتزام بالتخلّص بنفسه ضيق وحرج مع أنّ إعمال الحلية وبذل الجهد في التفصّي حال العبادة غير معروف عن المعاصرين للأئمّة عليه‌السلام ، فالقول باشتراطها بعدم المندوحة مطلقا ضعيف.

نعم ، لا بدّ من الالتزام باشتراطها بعدم تمكّنه من إيجاد الفعل الصحيح الواقعي حين إرادة امتثال أمره بمعنى عدم تمكنه في زمان صدور الفعل منه ومكانه إلّا من إيجاده على وجه التقيّة ، بل نفى الريب عنه غير واحد ، بل يظهر من بعض أنّ خلافهم في اعتبار عدم المندوحة وعدمه إنّما هو بالمعنى الأوّل ، وأمّا اعتبار عدم المندوحة بهذا المعنى فممّا لا

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٤٤ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٣.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١٥١ ، مستدرك الوسائل ، الباب ٦ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

٤٤٣

خلاف فيه.

ويؤيّد كلامه أنّ عدم المندوحة بهذا المعنى ـ بحسب الظاهر ـ من مقوّمات موضوع التقيّة عرفا.

مع أنّه لا مقتضى لتقييد الأوامر الواقعيّة بغير الفرض ، لأنّ المفروض أنّ التقيّة لا تنافيها ، فلو تمكّن حال الوضوء من تلبيس الأمر عليهم على وجه لا ينافي التقيّة ، يجب عليه ذلك ، ولا يجزئه موافقتهم حينئذ جزما ، لما عرفت من إناطتها بالضرورة الفعلية بمقتضى الأخبار المقيّدة.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّه لا يكاد يستفاد جوازها في الفرض من مطلقات الأخبار فضلا عن غيرها ، لانصرافها عن مثل الفرض ، لما ارتكز في الذهن من أنّ الواجب الواقعي والمطلوب النفس الأمري إنّما هو مسح الرّجلين ، وأمّا ما عداه فإنّما سوغه العجز ، فلا يجوز مع التمكّن الفعلي من فعله.

هذا إذا التفت إلى إمكان التفصّي ، وأمّا إذا لم يلتفت أو خاف من إعمال الحيلة في إيجاد الفعل الصحيح ، فلا إشكال في كفاية ما أتى به عن الواقع ، لإطلاقات الأدلّة الشاملة للفرض بلا تأمّل.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّ الأقوى أنّه لا يجوز له الحضور في مجامعهم ومجالسهم عند إرادة فعل الوضوء أو الصلاة لا لضرورة عرفيّة مقتضية لذلك ولو مثل حسن المعاشرة أو إظهار المودّة الموجبة للأمن من ضررهم بملاحظة المصلحة النوعيّة.

٤٤٤

وقد يتوهّم جوازه بل رجحانه مطلقا ، نظرا إلى إطلاق بعض الأوامر التي تقدّمت الإشارة إليها ، الداّلة على الحثّ العظيم على الصلاة مع المخالف ووعد الثواب عليها ، الظاهرة في استحبابها في حدّ ذاتها ، فتكون الضرورة حكمة للحكم لا علّة له.

ويدفعه : ما عرفت من وجوب رفع اليد عن هذا الظاهر بمقتضى الأخبار المتقدّمة.

هذا ، مع ما في دعوى ظهورها في حدّ ذاتها في الاستحباب مطلقا من المنع ، لقوّة احتمال ورود الأخبار الآمرة بالحضور في مجامعهم مورد الغالب ، حيث إنّ الأشخاص المعاصرين للأئمّة عليه‌السلام غالبا كانوا مضطرّين إلى مخالطتهم ومعاشرتهم ، كي لا يعرفوهم بالفرض والتشيّع فيؤذوهم ، والإمام عليه‌السلام بيّن لهم ما يترتّب على فعلهم من الأجر والثواب ، كي لا تشمئزّ طباعهم بمقتضى جبلّتهم من حضور مساجدهم والصلاة معهم ، فيؤدّي ذلك إلى ترك الحضور والاختلاط ، الكاشف عمّا في نفوسهم من الرفض والاستنكار ، فلا تعمّ هذه الأخبار من لم يكن في معرض هذه التهمات ، كما أنّه لا تدلّ على جواز الصلاة معهم عند ارتفاع شوكتهم وذهاب سلطانهم وانقراض عصرهم بحيث لم يبق منهم إلّا الأذلّون ، لانصرافها عن مثل الفرض جزما.

والحاصل : أنّ المستفاد من مجموع الأخبار : أنّ عبادات كلّ من ألجأته التقيّة إلى إيجادها على وجه غير مشروع ممضاة شرعا ، لا أنّ الإمضاء منحصر في حقّ من لا منجا له إلّا التقيّة ، فجوازها منوط

٤٤٥

بالضرورة حال الفعل بأن يكون إيقاعه موافقا لمذهب المخالف لأجل خوف الضرر لا الضرورة المطلقة.

نعم ، لا يعتبر في مشروعيّتها خوفه من خصوص من يتّقي منه ، أو في خصوص الواقعة الشخصية ، بل يكفي فيها احتمال كون ترك التقيّة في خصوص المورد مؤدّيا إلى التضرّر في سائر الموارد ، كما إذا صار ترك التقيّة في هذا المورد موجبا لعدم تمكّنه من التقيّة في موارد الحاجة.

ويدلّ على ذلك ـ مضافا إلى عمومات الأدلّة الشاملة للفروض ـ قوله عليه‌السلام : «ليس منّا من لم يجعل التقيّة شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيّة له مع من يجذره» (١).

ولا ينافيها ظهور بعض الأخبار المتقدّمة في خلافها ، لأنّ ظهوره في الخلاف بدويّ يرتفع بالتأمّل في نفسه فضلا عمّا يقتضيه الجمع بينه وبين معارضاته ، والله العالم.

وهل التقيّة من غير المخالفين بحكم التقيّة من المخالفين في كون أمرها أوسع من سائر الضرورات ، أم هي على حدّ غيرها من الضرورات المبيحة للمحظورات ، فيشترط جوازها بعدم المندوحة في مجموع الوقت ، أو في الجزء الذي يوقعه فيه مع اليأس من التمكّن منه فيما بعده ، أو مطلقا على التفصيل والخلاف في أولي الأعذار؟ وجهان ، أحوطهما : الثاني ، بل لا يخلو القول به عن قوّة ، لأنّ شيوع التقيّة من المخالفين ومعهوديّتها في زمان الأئمّة عليه‌السلام يمنع من استفادة إرادة العموم من أخبار الباب ، والله العالم.

__________________

(١) أمالي الطوسي ١ : ٢٩٩ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢٩.

٤٤٦

بالصواب.

وقد يستدلّ لكفاية المسح على الخفّ ، للضرورة ـ مضافا إلى الرواية السابقة والإجماعات المحكيّة ـ بعموم الآية (١) الدالّة

على نفي الحرج في الدين.

وفيه : أنّه أعمّ من إيجاب المسح ومن سقوطه ومن التيمّم ، إلّا أن يوجّه دلالتها بخبر عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل ، قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) امسح عليه» (٣).

ولكن في التوجيه نظر ، إذ ليس المسح على الخفّ عرفا من نظائر المسح على المرارة ، لكون المسح على المرارة لأجل اتّصالها بالرّجل وشدّة لصوقها بها وتعسّر نزعها عنها بمنزلة المسح على الرّجل بنظر العرف ، فيكون المسح عليها من المراتب الميسورة الثابتة للمأمور به بنظر العرف ، ولعلّه لذا أحال الإمام عليه‌السلام معرفة حكمه إلى كتاب الله عزوجل.

وأمّا المسح على الخفّ ، فهو أمر أجنبيّ عن المأمور به بنظر العرف ، إذ ليس المسح عليه في بادئ الرأي إلّا كالمسح على جسم

__________________

(١) سورة الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٢) سورة الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٣) التهذيب ١ : ٣٦٣ ـ ١٠٩٧ ، الإستبصار ١ : ٧٧ ـ ٢٤٠ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

٤٤٧

خارجيّ ، فلا يمكن استفادة وجوبه من الآية بوجه من الوجوه.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّه لا يمكن الاستدلال لإثبات وجوبه وكفايته عن مسح البشرة : بقاعدة الميسور أيضا ، ولا بقوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم» (٢).

ولا بفحوى أخبار الأقطع ولا الجبائر ، فإنّ شيئا منها لا يساعد على إثبات وجوب المسح على الخفّ ، فالعمدة في المقام إنّما هي الرواية المتقدّمة المعتضدة بالإجماعات المحكيّة وعدم ظهور مخالف صريح في المسألة.

نعم ، لا بأس بذكر الآمور المتقدّمة في مقام التأييد ، ودفع توهّم انتقال الفرض إلى التيمّم كما في المدارك (٣) احتماله وإن كان في كفايتها لدفع هذا الاحتمال أيضا تأمّل.

وبهذا ظهر لك أنّ إلحاق ضيق الوقت بالضرورة في جواز المسح على الخفّين في غاية الإشكال ، لأنّ تعميم الضرورة بحيث تعمّ ضيق الوقت ، ودعوى استفادة حكمها على إطلاقها من الرواية ، قابلة للمنع ، فإن ثبت في المسألة إجماع فهو ، وإلّا فمقتضى الاحتياط اللازم : وجوب الجمع بين المسح عليهما والتيمّم ، لأنّ وجوب أحد الأمرين معلوم بالإجماع ، إذ الظاهر أنّ جواز تركهما معا عند ضيق الوقت ممّا لا يلتزم به أحد ، فيجب الجمع بينهما ، تحصيلا للبراءة اليقينيّة ، إلّا أن يقال : إنّه

__________________

(١) غوالي اللآلي ٤ : ٥٨ ـ ٢٠٧.

(٢) كنز العمّال ٥ : ٢١ ـ ١١٨٧٢.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٢٢٤.

٤٤٨

يستفاد من أمر الشارع بمسح الخفّين للضرورة أنّ المسح عليهما ليس أمرا أجنبيّا عن ماهيّة المأمور به ، كما يتوهّمه العرف في بادئ النظر ، بل هو من مراتبه الميسورة التي لا تسقط بمعسوره ، فيدلّ على وجوبه في ضيق الوقت قاعدة الميسور وغيرها من الآمور التي تقدّمت الإشارة إليها ، أو يقال : إنّه يمكن إثبات وجوب سائر أجزاء الوضوء ما عدا مسح الخفّين ببعض الأدلّة المتقدّمة ، فيتعيّن المسح على الخفّ ، لعدم القول بالفصل ، وفيه تأمّل ، والله العالم. (وإذا زال السبب) المسوّغ للمسح على الخفّ (أعاد الطهارة) للغايات التي أراده إيجادها بعد زوال السبب (على قول) نسبه في المدارك (١) إلى الشيخ وجماعة ممّن تأخّر عنه.

وأمّا الغايات الواقعة حال وجود السبب المسوّغ فقد سقط أوامرها بحصول امتثالها في ضمن الفرد الاضطراري ، لأنّ الفرد الاضطراري ـ كالفرد الاختياري ـ مقتض للإجزاء عقلا ، فلا إشكال بل لا خلاف في عدم وجوب إعادتها في الوقت فضلا عن قضائها في خارجه ، فلا يعقل وجوب إعادة الطهارة لأجلها حتى يقع الخلاف فيها ، فالخلاف إنّما هو في إعادتها للغايات المتأخّرة.

نعم ، قد يلوح من المحكيّ عن المحقّق الثاني في بعض فوائده (٢) :

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٢٢٤ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢٢ ، والمعتبر ١ : ١٥٤ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ١٧٤.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٣٠.

٤٤٩

التفصيل في وجوب الإعادة للصلاة التي صلّاها تقيّة : بأنّه إن كان متعلّق التقيّة مأذونا فيه بخصوصه ، كغسل الرّجلين في الوضوء والتكتّف في الصلاة ، فإنّه إذا فعل على الوجه المأذون ، كان صحيحا مجزئا وإن كان للمكلّف مندوحة من فعله التفاتا إلى أنّ الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقية ، فكان الإتيان به امتثالا يقتضي الإجزاء ، فلا تجب الإعادة ولو تمكّن منها على غير وجه التقيّة قبل خروج الوقت ، ولا أعلم في ذلك خلافا.

وأمّا إذا كان متعلّقها ممّا لم يرد فيه نصّ على الخصوص ، كفعل الصلاة إلى غير القبلة والوضوء بالنبيذ ، ومع الإخلال بالموالاة فيجفّ السابق ، كما يراه بعض العامّة ، فإنّ المكلّف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقته أهل الخلاف وإظهار الموافقة لهم.

ثمّ إن أمكن الإعادة في الوقت بعد الإتيان ، وجبت ، ولو خرج الوقت نظر في دليل القضاء ، فإن وجد قيل به ، لأنّ القضاء إنّما يجب بفرض جديد.

ثمّ نقل عن بعض أصحابنا القول بعدم الإعادة مطلقا ، نظرا إلى أنّ المأتيّ به وقع شرعيّا فيكون مجزئا على كلّ تقدير.

وردّه بأنّ الإذن في التقيّة من جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة لهم مع الحاجة. انتهى كلامه رفع مقامه.

ولكنّك خبير بأنّ هذا التفصيل في الحقيقة ليس منافيا لما ادّعيناه من عدم الخلاف في أنّ صلاته الماضية مع الطهارة الناقصة ممضاة شرعا ،

٤٥٠

ولا يجب عليه إعادتها ولا إعادة الطهارة لأجلها ، وإنّما خلافه في تشخيص الصغرى حيث إنّه ـ قدس‌سره ـ زعم أنّ عمومات أخبار التقيّة لا تدلّ إلّا على وجوب إظهار الموافقة لهم في العمل ، وأمّا كون المأتيّ به فردا اضطراريّا للعبادات الواقعيّة حتى تسقط به أوامرها فلا.

وفيه : أنّه إن أراد من العمومات الموجبة للتقيّة ما دلّ على نفي الحرج والضرر في الشريعة أو ما دلّ على وجوب التقيّة لحفظ ما يجب عليه حفظه ، فالتفصيل حسن جدّا ولكن بعد تقييد موضوع وجوب الإعادة بما إذا أخلّ المتّقي لأجل التقيّة بجزء أو شرط غير مشروط بالاختيار ، كما لا يخفى وجهه.

إلّا أنّه يتوجّه عليه حينئذ عدم انحصار مدرك الحكم في مثل هذه العمومات ، فإنّ مفاد غير واحد من الأخبار هو الرخصة في إيجاد متعلّق التقيّة ورفع منعه المتعلّق به لو لا التقيّة مطلقا ، سواء كان المنع المتعلّق به لذاته أو لإخلاله بواجب مشروط بعدمه ، ولازم عموم رفع المنع رفع مانعيّة ما صدر تقيّة من حصول ما هو مشروط بعدمه ، ومقتضاه صحّة عبادة المتّقين ومضيّ أعمالهم التي أخلّت التقيّة بشي‌ء من أجزائها وشرائطها.

منها : الأخبار المستفيضة التي تقدّم (١) بعضها ، المصرّح فيها بأنّ «التقيّة في كلّ شي‌ء إلّا في شرب المسكر والمسح على الخفّين ومتعة الحجّ» فإنّ مقتضى عموم قوله عليه‌السلام : «التقيّة في كلّ شي‌ء» خصوصا

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٣٧.

٤٥١

بقرينة استثناء مسح الخفّين ومتعة الحجّ : جواز ارتكاب كلّ محظور لأجل التقيّة ، سواء كان منع الشارع منه ـ لو لا التقيّة ـ لأجل ذاته ، كشرب المسكر وترك الصلاة والحجّ وغيرها من المحرّمات النفسية ، أو لأجل إخلاله بواجب مشروط بعدمه ، كالتكتّف في الصلاة والوضوء بالنبيذ ، وكذا غسل الرّجلين ومسح الخفّين ، إلى غير ذلك من المحرّمات الغيريّة ، ـ كما هو مقتضى العموم ـ يستلزم رفع مانعيّته من حصول الغير ، فإنّ رفع المنع عن التكتّف في الصلاة وكذا الوضوء بالنبيذ وغيرهما من الأمثلة يستلزم عقلا صحّة الغير المشروط بعدم شي‌ء منها من غير فرق بين أن تستفاد الرخصة من العموم أو من دليل خاصّ.

نعم ، لنا كلام في مثل الوضوء بالنبيذ ـ يشبه كلام المحقّق من غير أن يؤول إليه ـ سيأتي التنبيه عليه في آخر المبحث.

فإن قلت : لا يستفاد من هذه الروايات إلّا جواز الصلاة متكتّفا ، وكذا الوضوء بالنبيذ تقيّة ، وأمّا صحّة الصلاة المشروطة بعدم التكتّف والطهارة فلا ، لإمكان أن يكون منشؤ الجواز جواز ترك المشروط لا إيجاده فاقدا للشرط حتى يستلزم فعله الإجزاء.

قلت : ما ذكرت مرجعه إلى منع العموم وتخصيص الرخصة المستفادة من العمومات بارتكاب المحرّمات النفسيّة ، كترك الصلاة والصوم ، وشرب المسكر ، وقد عرفت أنّ المتبادر من العموم خلافه خصوصا بعد استثناء مسح الخفّين ومتعة الحجّ ، فإنّه بقرينة الاستثناء كاد

٤٥٢

يكون نصّا في المدّعى ، إذ لا حرمة في مسح الخفّين وترك متعة الحجّ في غير مقام التقيّة ، فضلا عن مقام التقيّة والضرورة إلّا لإخلالهما بماهيّة الوضوء والحجّ الواجبين ، فتجويز التقيّة فيهما معناه رفع اعتبارهما في الماهيّة المأمور بها ، واستثناؤهما من مورد الجواز دليل على عموم المستثنى منه ، كما هو ظاهر.

وإرادة خلاف الظاهر من المستثنى ـ كما عرفت فيما سبق ـ لا تنافي دلالتها على المدعى ، كما لا يخفى.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «التقية في كلّ شي‌ء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله» (١) فإنّ ظاهره أنّ التقيّة توجب رفع المنع الشرعي الثابت في كلّ شي‌ء بحسبه ، نفسيّا كان أو غيريّا ، ولازمه الرخصة في إيجاد الصلاة مستدبر القبلة في مقام امتثال أمرها حال التقيّة.

لا يقال : إنّ الذي حلّله الله إنّما هو ترك الصلاة ، المسبّب عن ترك شرطها ، الذي كان حراما ، لا ترك الشرط حتى ينافي إطلاق شرطيّته.

لأنّا نقول : الاضطرار إنّما تعلّق أوّلا وبالذات بترك الشرط ، فهو الذي حلّله الله ورخّص فيه ، ورفع منعه الغيريّ الثابت له حال الاختيار ، ولازمه انتفاء شرطيّته ، كما هو ظاهر.

ومنها : ما في موثّقة سماعة من أمره عليه‌السلام بإتمام الصلاة مع المخالف على ما استطاع ، معلّلا «بأنّ التقيّة واسعة وليس إلّا وصاحبها

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٢٠ ـ ١٨ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢.

٤٥٣

مأجور إن شاء الله» (١) فإنّ مقتضى التعليل بوسعة التقيّة جواز أداء كلّ عمل على وفق التقيّة ، وكونه ممضى شرعا وصاحبه مأجورا ، كما في الصلاة مع المخالف.

هذا ، مع أنّ في قوله عليه‌السلام : «التقيّة واسعة» كما ورد في غيرها من الأخبار أيضا إشعارا بذلك ، لأنّ وجوب موافقة العامّة في تكاليفهم ، وعدم كفايتها عن الواجبات الواقعيّة ، المستلزم لوجوب تداركها بعد زوال العذر ينافي التوسعة ، كما هو ظاهر.

وكيف كان (٢) ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ مفاد أكثر أخبار التقيّة جواز

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨٠ ـ ٧ ، التهذيب ٣ : ٥١ ـ ١٧٧ ، الوسائل ، الباب ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٢.

(٢) قولنا : وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في أنّ مفاد أكثر أخبار التقيّة ، إلى آخره.

أقول : والإنصاف أنّ استفادة صحّة ما صدر من الأعمال تقيّة إذا أخل بشي‌ء من أجزائها أو شرائطها التي هي من مقوّمات ماهيّة ذلك العمل ـ كالطهارة في الصلاة ، أو إطلاق الماء في الوضوء أو طهارته ـ ما لم يرد فيه دليل بالخصوص من عمومات أخبار التقيّة ، في غاية الإشكال ، بل غاية ما يمكن استفادته منها إنّما هو كون التقيّة من الأعذار المسوّغة للإخلال بأجزاء العبادات وشرائطها التي ينتفي اعتبارها لدى الضرورة ، فتصحّ العبادات في مثل الفرض لا مطلقا حتى فيما لو أخلّ بما لا تختصّ شرطيّته بحال التمكّن ، كالأمثلة المتقدّمة ، ولذا لو صلّى الظهر جمعة تقيّة ، لم تجزئ فتوى ونصّا ، فكذا لو صلّى بلا طهارة ، فإنّها ليست بصلاة لا اختياريّة ولا اضطراريّة ، وكذلك الوضوء بالمسكر أو بماء متنجّس ، فإنّه ليس بوضوء أصلا ، فالتقيّة إنّما تبيح فعله بدلا عن الواقع لا صحّته وضوءا وإن زعم العامّة أنّه وضوء ، فالوضوء بالنبيذ ليس إلّا كمسح الحشفة بالحائط ، فكما أنّ الثاني لا يؤثّر في إزالة الخبث فكذلك الأوّل لا يؤثّر في رفع الحدث.

٤٥٤

إيجاد الأفعال المأمور بها في الشريعة على وفق مذهب العامّة تقيّة ، ولازمه الإجزاء ، كما عرفت غير مرّة ، فلا ريب في عدم وجوب إعادة الأعمال الواقعة حال التقيّة من دون فرق بين أن يكون متعلّق التقيّة ممّا ورد فيه نصّ على الخصوص ، أم لا ، وإنّما الإشكال والخلاف في وجوب إعادة الوضوء الصادر تقيّة بل مطلق الوضوء الناقص بعد زوال السبب لأجل الغايات المتأخّرة ، فقد عرفت القول بوجوب الإعادة عن الشيخ وجماعة ممّن تأخّر عنه.

وفي الجواهر : اختاره في المعتبر والمنتهى ، وعن المبسوط والتذكرة والإيضاح وبعض متأخّري المتأخّرين ، وهو ظاهر كاشف اللثام. (وقيل : لا تجب إلّا لحدث) واختاره في المختلف والذكرى والدروس وجامع المقاصد والمدارك والمنظومة ، كما عن الجامع والروض ، بل ربما قيل : إنّه المشهور ، وفي التحرير : في الإعادة نظر.

__________________

نعم ، لو تعلّق به أمر بالخصوص ربما يظهر من ذلك الأمر كونه بعنوان كونه وضوءا ممضى شرعا ، فيصحّ حينئذ ، ولكن الأخبار العامّة لا تفي بذلك.

فما ذكره المحقّق المزبور من التفصيل وجيه ولكن بعد التقييد بما إذا أخلّ بما لا تختصّ شرطيّته بحال التمكّن ، فتمثيله بالصلاة إلى غير القبلة في غير محلّه ، لأنّ وجوب الاستقبال من الشرائط الاختيارية التي لا تنتفي شرعيّة الصلاة بتعذّرها ، فالمدار في صحّة المأتيّ به لو لم يدلّ عليه دليل خاصّ إنّما هو على كونه فردا اضطراريّا لذلك العمل بحيث يسوّغه سائر الضرورات ، لا مجرّد كونه عبادة صحيحة لدى العامّة ، فالإفطار لدى الغروب تقيّة مثلا ليس إلّا كالإفطار في يوم حكموا بكونه عيدا في كونه مفسدا للصوم ، اللهمّ إلّا أن يدلّ دليل خاصّ على خلافه ، فهذا هو الوجه في بطلان الوضوء بالنبيذ وأشباهه ، لا ما سيأتي ادّعاؤه ، فما حقّقناه بعد قولنا : «وليعلم ، إلى آخره» لا يخلو عن تأمّل ، فليتأمّل. (منه عفي عنه).

٤٥٥

وفي القواعد : إشكال.

وكيف كان ، فالأقوى في النظر : الثاني ، لكونه مأمورا بذلك ، والأمر يقتضي الإجزاء ، ولاستصحاب الصحّة ، ولما دلّ على أنّ «الوضوء لا ينقضه إلّا الحدث» (١) وارتفاع الضرورة ليس منه ، ولأنّه حيث ينوي بوضوئه رفع الحدث يجب حصوله ، لقوله عليه‌السلام : «لكلّ امرئ ما نوى» (٢) (٣). انتهى.

والتحقيق أنّه إن استظهرنا من الأدلّة أنّ الوضوء الناقص الذي يأتي به لتقيّة أو ضرورة بعينه هو الماهيّة التي أمر الله بها لإزالة الحدث ، فيكون المأتيّ به من مصاديقها الواقعيّة التي يرتفع بها الحدث حين الضرورة ، أو قلنا بأنّه يستفاد منها بدليّته عن الوضوء التامّ في جميع آثاره ولوازمه ، فالأقوى بل المتعيّن هو القول الثاني ، بل لا وجه للقول الأوّل أصلا ، ضرورة أنّ زوال سبب التقيّة ليس من نواقض الوضوء ، وإلّا لوجب النقض به لو كان مسبوقا بوضوء تامّ ، كما هو ظاهر.

ولا يجوز الاستدلال على هذا التقدير بإطلاق الآية الآمرة بالوضوء

__________________

(١) التهذيب ١ : ٦ ـ ٥ ، الإستبصار ١ : ٧٩ ـ ٢٤٦ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٤.

(٢) أمالي الطوسي ٢ : ٢٣١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠.

(٣) جواهر الكلام ٢ : ٢٤٢ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٥٤ ، ومنتهى المطلب ١ : ٦٦ ، والمبسوط ١ : ٢٢ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ١٧٤ ، وإيضاح الفوائد ١ : ٤٠ ، وكشف اللثام ١ : ٦٩ ، ومختلف الشيعة ١ : ١٣٧ ، المسألة ٨٧ ، والدروس ١ : ٩٢ ، وجامع المقاصد ١ : ٢٢١ و ٢٢٢ ، ومدارك الأحكام ١ : ٢٢٤ ، والمنظومة : ٢٢ ، والجامع للشرائع : ٣٨ ، وروض الجنان : ٣٧ ، وتحرير الأحكام ١ : ١٠ ، وقواعد الأحكام ١ : ١١.

٤٥٦

عند إرادة الصلاة ، لاختصاصها بغير المتطهّر إجماعا ، كما أنّه لا يجوز التشبّث بذيل القاعدة المقرّرة من أنّ «الضرورة تقدّر بقدرها» لأنّ مقتضاها عدم جواز الإتيان بالوضوء العذري بعد زوال العذر ، لا عدم جواز إيقاع الغايات المشروطة بالطهارة بعد زوال العذر ، كما هو ظاهر.

وإن قلنا : بأنّه لا يستفاد من الأدلّة إلّا الإذن في امتثال الأمر بالوضوء حال الضرورة بهذا الوضوء الناقص ، وأمّا كونه مؤثّرا في رفع الحدث فلا ، بل غاية مفاد الأدلّة كونه مبيحا للصلاة ومسقطا للأمر المقدّمي المتعلّق بالتطهير ، كالتيمّم بناء على عدم إفادته للطهارة ، فالأقوى هو القول الأوّل ، لما ثبت بالكتاب والسنّة والإجماع من أنّه لا صلاة لمن تمكّن من التطهير إلّا بطهور ، فالطهارة شرط للصلاة مطلقا إلّا في حقّ من تعذّر في حقّه التطهير ، كدائم الحدث والمضطرّ الذي يجب عليه التيمّم أو الوضوء الناقص لو قلنا بعدم ارتفاع الحدث بهما ، فيجب على القادر إحرازها حال الصلاة كغيرها من الشرائط ، ولا يكفي فيه مجرّد احتمال حصولها بالوضوء الناقص ، كما هو واضح.

ولا ينفع لإثبات وجودها استصحاب بقاء اثر الوضوء السابق ، أعني جواز الدخول في الصلاة ، إذ لا يثبت به الطهارة الواقعيّة التي هي شرط للصلاة حال التمكّن ، كاستصحاب جواز الصلاة في ثوب صلّى فيه تقيّة ولم يعلم بكونه ممّا يؤكل لحمه ، أو استصحاب جواز الصلاة إلى الجهة التي صلّى إليها تقيّة لو شكّ في كونها قبلة واقعيّة ، إلى غير ذلك من الموارد.

٤٥٧

هذا ، مع أنّ الشكّ إنّما هو في مقدار تأثير الوضوء الناقص لا في رفع الأثر الموجود ، وقد تقرّر في الأصول أنّ الاستصحاب في مثل المقام ليس بحجّة.

والظاهر أنّ المراد من استصحاب الصحّة في العبارة المتقدّمة عن الجواهر هو هذا الاستصحاب الذي عرفت ضعفه.

وكذا التمسّك بقاعدة الإجزاء لا يجدي في المقام ، إذ لا كلام في كون المأتيّ به مسقطا للأمر المنجّز الذي قصد بفعله امتثاله ، وإنّما الكلام في كونه مانعا من توجيه الخطاب بالتطهير لأجل الغايات التي لم يكن لأجلها مأمورا بهذا الوضوء الناقص ، ومن المعلوم أنّه لا يتوجّه الأمر بالوضوء الناقص إذا فرضنا أنّه لا يتوجّه الأمر بالوضوء الناقص إذا فرضنا أنّه لا يؤثّر في التطهير إلّا بعد تنجّز الأمر بشي‌ء من غاياته التي لا يمكن التوصّل إليها إلّا بالوضوء الناقص ، وإلّا فلو أمكن التوصّل إليها بالوضوء التامّ ، لم يعقل كون الأمر بها مقتضيا لإيجاب الوضوء الناقص الذي هو بدل اضطراري ، فلا يكون الوضوء الناقص بالنسبة إلى الغايات ـ التي لا يتوقّف حصولها عليه ـ مأمورا به حتى يقال :إنّ الأمر يقتضي الإجزاء.

ولا ينافي ذلك ما قوّيناه من عدم اشتراط صحّة الوضوء الصادر تقيّة بعدم المندوحة ولا القول بجواز البدار لأولى الأعذار مطلقا ، إذ بعد فرض كون وجوب الوضوء غيريّا ، وكون الوضوء الناقص بدلا اضطراريّا من دون أن يكون مؤثّرا في التطهير الحقيقي إنّما يلاحظ جواز البدار وعدم اشتراط عدم المندوحة بالنسبة إلى غايته التي أثّرت في طلبه لا نفسه ،

٤٥٨

فمعنى جواز البدار أنّ المكلّف مخيّر في إيجاد صلاته في كلّ جزء من أجزاء الوقت ، فلو اختار في مقام الامتثال إيجادها في جزء يتوقّف حصولها في ذلك الجزء على الوضوء الناقص ، يصحّ وضوؤه حينئذ ، وإلّا فلا ، لكونه مأمورا به في الأوّل ، وهو يقتضي الإجزاء دون الثاني.

نعم ، لازم هذا المذهب الالتزام بجواز الدخول في الصلاة التي توضّأ لأجلها بعد زوال السبب لو لم يتأخّر دخوله في الصلاة عن زمان زوال السبب بمقدار يمكن التطهير فيه ، إلّا أن يمنع جواز المبادرة في مثل الفرض بدعوى انصراف الأدلّة عن مثله ، كما ليس بالبعيد ، فإنّ وضوح كون الوضوء الناقص عذريّا ممّا يهوّن الأمر في التفصّي عن مثل هذه الإلزامات ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقاعدة الإجزاء لا تقتضي إلّا كون المأتيّ به مسقطا للأمر الغيريّ الذي قصد امتثاله ، لا الأوامر الغيريّة المتولّدة من الغايات الأخر ، فإنّ سقوط تلك الأوامر موقوف على كون المأتيّ به موجبا لتحقّق الماهيّة التي يتوقّف عليها سائر الغايات ، كما عرفت تحقيقه في مبحث النيّة ، وكونه كذلك فيما نحن فيه أوّل الكلام.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه لو لم يثبت كون الوضوء الناقص ـ كالتامّ ـ رافعا للحدث ليس للمتوضّئ قصده فضلا عن أن يجب حصوله.

وليس معنى قوله : «لكلّ امرئ ما نوى» أنّ كلّ ما يقصده المرء بفعله يترتّب عليه ولو لم يكن من آثاره ، كما هو ظاهر.

إذا عرفت ما ذكرناه ، ظهر لك أنّ المتّبع إنّما هو مستند الحكم ، فإن

٤٥٩

استفيد منه كون الوضوء الناقص بدلا اضطراريّا من الوضوء التامّ مطلقا ، أو استفيد منه كونه فردا حقيقيّا لماهيّة الوضوء ـ التي عرفت في محلّها أنّ من لوازمها رفع طبيعة الحدث لو صادفت محلّا قابلا للرفع ـ فهو ، وإلّا فمقتضى الاحتياط اللازم إعادة الوضوء بعد زوال السبب.

فنقول : ظاهر جميع الأدلّة الدالّة على وجوب الوضوء الناقص على أولى الأعذار ، بل صريح أكثرها : أنّ الفعل المأتيّ به حال الضرورة مصداق حقيقيّ وفرد واقعي لماهيّة الوضوء ، ولعلّه من الأمور الواضحة عند المتشرّعة ، المغروسة في أذهانهم.

ولذا ينوي المكلّف ـ بمجرّد الاطّلاع على الحكم الشرعي ـ بفعله امتثال أمره الواقعي ، ولا يلتمس في تعيين وجه الفعل دليلا آخر.

ولذا استدلّ شيخنا الأكبر ـ قدس‌سره ـ في جواهره (١) على المطلوب : بأنّه ينوي بوضوئه رفع الحدث ، فيجب حصوله اعتمادا على أنّ صغراه من البديهيّات التي لا يحتاج إثباتها إلى إقامة البرهان.

ألا ترى أنّه لا يشكّ أحد في أنّ الأقطع الرّجل وضوؤه الواقعيّ الذي يرتفع به حدثه هو ما يؤدّيه على وفق تكليفه ، فلو تجدّد له رجل بقدرة الله تعالى لا يقتضي ذلك إلّا تغيير كيفيّة وضوئه ، لا رفع أثر وضوئه السابق ، لأنّ تجدّد الرّجل ليس من نواقض الوضوء ، كما هو ظاهر.

وكذا رواية (٢) عبد الأعلى وغيرها من أخبار الباب حتى مثل قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) جواهر الكلام ٢ : ٢٤٢.

(٢) تقدّمت الرواية مع الإشارة إلى مصادرها في ص ٤٤٧.

٤٦٠