مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

عن الصحاح : نويت كذا : إذا عزمت عليه (١).

وفي المجمع : النيّة هي : القصد والعزم على الفعل (٢).

وهذا إجمالا ممّا لا إشكال فيه ، بل ولا خلاف ظاهرا في ذلك.

وأمّا ما نسب إلى المشهور من أنّ النيّة عندهم هي الصورة المخطرة بالبال ، وأنّها حديث نفسي ممتدّ ، وأنّها عندهم مركّبة لا بسيطة (٣) ، فهو ـ على الظاهر ـ اشتباه نشأ من الغفلة عن فهم مرادهم ، فإنّ مقصودهم ـ بحسب الظاهر ـ أنّ النيّة عبارة عن الإرادة التفصيلية المنبعثة عن تصوّر الفعل وغايته ، فالصورة المخطرة مقدّمة للنيّة لا نفسها.

كما يشهد لذلك ما في كلماتهم من تفسيرها بأنّها (إرادة تفعل بالقلب).

وأمّا الأمر المغروس في الذهن ، الباقي في النفس ، الموجب لاتّصاف مجموع العمل بكونه عملا اختياريّا ، المعبّر عنه في لسان المتأخّرين بالداعي إلى الفعل ، فلا يسمّى نيّة عندهم ، بل لا تصدق الإرادة والقصد عليه حقيقة لديهم ، بل هو من آثار النيّة السابقة وأحكامها ، ويعتبرون استدامته إلى آخر العمل حتى يتّصف تمام العمل بكونه اختياريّا صادرا عن قصد وإرادة ، ويعبّرون عنها بالاستدامة الحكمية.

وأمّا المتأخّرون الذين خالفوهم في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ النيّة أعمّ

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٠ ، وانظر : الصحاح ٦ : ٢٥١٦ «نوى».

(٢) مجمع البحرين ١ : ٤٢٣ «نوا».

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨١.

١٤١

من تلك الإرادة التفصيليّة ومن ذلك الأمر المركوز في الذهن ، فإنّ هذا الأمر الباقي أيضا من سنخ الإرادة ، وقد صرّح المحقّق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في التجريد بذلك حيث قال : والحركة إلى مكان تتبع إرادة بحسبها ، وجزئيّات تلك الحركة تتبع تخيّلات وإرادات جزئيّة يكون السابق من هذه علّة للسابق المعدّ لحصول حركة أخرى ، فتتّصل الإرادات في النفس والحركات في المسافة إلى آخرها (١). انتهى.

وتوضيح محلّ الخلاف : أنّهم بعد اتّفاقهم ظاهرا ـ على ما يشهد به حكم العقل والعقلاء ـ في أنّ حدوث النيّة الباعثة على الفعل لا بدّ وأن تكون منبعثة عن تصوّر الفعل وغايته ، واختلفوا في أنّ النيّة هل هي هذه الإرادة التفصيليّة ، أم هي أعمّ منها وممّا يبقى مركوزا في الذهن ، مؤثّرا في اتّصاف أجزاء العمل بكون كلّ منها عملا اختياريّا ، كالمجموع؟ قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ بعد تحريره محلّ النزاع كما حرّرناه : ويمكن أن يجعل خلافهم ـ بعد اتّفاقهم على كون النيّة هي الإرادة التفصيليّة المتوقّفة على الإخطار ـ في أنّ المعتبر مقارنة تلك الإرادة لنفس المأمور به ، أو تكفي مقارنتها لما يتعلّق به ممّا يعدّ معه فعلا واحدا؟

والأظهر في كلماتهم جعل محلّ الخلاف هو الأوّل (٢). انتهى.

أقول : وجه الأظهرية ظاهر.

وكيف كان ، فالأقوى ما اختاره المتأخّرون ، لعدم الدليل على اعتبار

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١٣٦.

(٢) كتاب الطهارة : ٨١.

١٤٢

اقتران المأمور به بالإرادة التفصيليّة المتّصلة به بعد صدق الإطاعة والعبادة عقلا وعرفا على فاقدتها.

ويشهد بذلك : حكم العقلاء قاطبة بكون العبد الذي التفت إلى أمر المولى بشراء اللّحم ، فقام من مقامه ، ولبس ثيابه ، ومشى إلى السوق ، واشترى اللحم بداعي أمر المولى مطيعا ولو لم يلتفت تفصيلا إلى الأمر حال إيجاده الفعل المأمور به.

قال في الحدائق حاكيا عن بعض المحقّقين من متأخّري المتأخّرين : إنّه لمّا كانت النيّة عبارة عن القصد إلى الفعل بعد تصوّر الدواعي له والحامل عليه ، والضرورة قاضية ـ كما نجده في سائر أفعالنا ـ بأنّه قد يعرض لنا مع الاشتغال بالفعل الغفلة عن ذلك القصد والداعي في أثناء الفعل ، بحيث إنّا لو رجعنا إلى وجداننا لرأينا النفس باقية على ذلك القصد الأوّل ، ومع ذلك لا نحكم على أنفسنا ولا يحكم علينا غيرنا بأنّ ما فعلناه وقت الذهول والغفلة بغير نيّة وقصد ، بل من المعلوم أنّه أثر ذلك القصد والداعي السابقين ، كان الحكم للعبادة كذلك ، إذ ليست العبادة إلّا كغيرها من الأفعال الاختيارية للمكلّف ، والنيّة ليست إلّا عبارة عمّا ذكرنا.

ثمّ قال : إنّه كما يجوز صدور الفعل بالإرادة لغرض مع الذهول في أثنائه عن تصوّر الفعل والغرض مفصّلا ، فكذلك يمكن صدوره بالإرادة لغرض مع الذهول عنها مفصّلا في ابتداء الفعل أيضا إذا تصوّر الفعل والغرض في زمان سابق عليه ، وذلك باعث على صدور الفعل في هذا الزمان ، والضرورة حاكمة أيضا بوقوع هذا الغرض عند ملاحظة حال

١٤٣

الأفعال ، فحينئذ يجوز أن يصدر الوضوء لغرض الامتثال والقربة باعتبار تصوره وتصوّر ذلك الغرض في الزمان السابق ، فيلزم أن يكون ذلك الوضوء أيضا صحيحا ، لما عرفت من عدم لزوم شي‌ء على المكلّف زائدا على هذا المعنى ، فبطل القول بمقارنة النيّة لأوّل الأفعال (١). انتهى كلامه المحكي عن بعض المحقّقين.

وفي حاشية النسخة الموجودة عندي أنّه هو المحقّق الفيلسوف الشيرازي في شرحه على أصول الكافي. انتهى.

ولا تتوهّم أنّ اعتبار هذا القيد في ماهيّة الإطاعة في الشرعيّات لعلّه لدليل تعبّدي شرعي كقيد الإخلاص مثلا ، فلا يتمّ الاستدلال للمدّعى بما تشبّثنا به من صدق الإطاعة عرفا ، إذ لم يظهر من أحد من القائلين به دعواه ، بل لم يستندوا في ذلك إلّا إلى كون النيّة عبارة عن ذلك ، وهي من مقوّمات الإطاعة عقلا وعرفا.

هذا ، مع أنّ هذا الاحتمال مدفوع بالأصل وغيره ، كما سنوضّحه لك في بعض التفاصيل التي التزموا باعتبارها في النيّة إن شاء الله.

المرحلة الثالثة : في تعيين المنويّ.

يجب أن يقصد إيقاع الفعل الخاصّ الذي تعلّق به الأمر امتثالا للأمر المتعلّق به ، وهذا لا يتحقّق إلّا بعد تصوّر الفعل بجميع قيوده التي لها مدخليّة في تعلّق الطلب به ، إذ لو يتصوّره كذلك ، لامتنع وقوعه امتثالا

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

١٤٤

للأمر المتعلّق به.

مثلا : لو أمر بغسل الثوب للصلاة ، وأراد امتثال هذا الأمر ، يجب عليه إيقاع الغسل بعنوان كونه مقدّمة للصلاة بداعي الأمر المتعلّق به ، وأمّا قصد مطلق الغسل فلا ينفع في حصول الامتثال ، لأنّ مطلق الغسل لم يتعلّق به أمر حتى يقع امتثالا له ، وما تعلّق به الأمر ليس إلّا الغسل بعنوان المقدّمية ، وهو لم يقع بهذا العنوان ، فما وقع عن قصد غير مأمور به ، وما هو المأمور به غير مقصود.

والحاصل : أنّه لا بدّ في حصول الامتثال من إتيان الفعل على الوجه الذي تعلّق به الأمر لا غير ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال والخلاف في تشخيص بعض القيود التي لها مدخليّة في تعلّق الطلب ، فإنّها على أقسام :

منها : ما يكون محقّقا لنفس العنوان المأمور به ، كالقيود المنوّعة للطبيعة ، كما لو كلّف بإحضار حيوان ناطق أو بشراء ماء الورد ، وهذا القسم من القيود ممّا لا تأمّل في وجوب قصده.

ومنها : ما ليس من مقوّمات الماهيّة ، بل هي من عوارضها التي بها يمتاز الفرد المأمور به عن غيره ، سواء لم يكن ذلك الغير مأمورا به أصلا ، أو كان ولكن لم يكن بهذا الأمر ، وهذا كتقييد الصلاة بكونها ظهرا أو عصرا أو صبحا ، أو نافلتها ، أو النوافل المبتدأة ، أو الصلوات المبتدعة ، فإنّ لكلّ منها خصوصيات بها اختلفت أحكامها ، وتعدّدت أوامرها.

وهذا القسم أيضا ممّا لا شبهة فيه في لزوم تصوّر القيد إجمالا ،

١٤٥

وتمييز المقيّد عمّا عداه إذا كان هذا القيد الذي فرضناه مأخوذا في عناوين الأدلّة الشرعية على سبيل التقييد ، كالأمثلة المتقدّمة ، بخلاف ما لو لم يؤخذ قيدا في عناوين الأدلّة ، كما سيتّضح وجهه إن شاء الله.

ووجه الحاجة إلى تصوّر القيد في القسم المزبور : ما أشرنا إليه من وجوب تشخيص المأمور به في حصول الامتثال ، لأنّ مطلق الصلاة في المثال المفروض ليس موضوعا للوجوب ، لأنّها قد تقع مندوبة ولو بالنسبة إلى غير هذا المكلّف ، أو بالنسبة إليه في غير هذا الوقت ، بل قد تقع محرّمة ، فالوجوب إنّما تعلّق بالصلاة المقيّدة التي هي المشتملة على المصلحة الوجوبية دون غيرها ، فهي المأمور بها ، وهي التي تدعو الغاية الحاصلة من فعل المأمور به إلى فعلها دون فعل مطلق الصلاة.

وما يتوهّم من أنّ المحوج إلى قصد القيد هو اشتراك العنوان بين فردين مأمور بهما فعلا ليتميّز امتثال أحد الأمرين عن الآخر ، فلا حاجة إلى هذا القصد إلّا في صورة تنجّز الأمرين ، دون ما لو لم يتنجّز في حقّه إلّا أحدهما ، أو لم يكن الآخر مأمورا به رأسا ، مدفوع : بما بيّنا في وجه الحاجة من أنّ المحوج إلى المميّز هو لزوم تصوّر الفعل على الوجه الذي به صار متعلّقا للأمر ، إذ تصوّره وقصده على غير ذلك الوجه لا يصحّ معه كون الداعي إلى فعله هو القرب الحاصل من امتثال هذا الأمر.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكرناه وجها لوجوب تصوّر القيد إنّما يتمّ فيما لو انحصر تعيين موضوع الأمر بذلك ، وأمّا لو أمكن تشخيصه بوجه آخر ، كما لو كان أحد الفردين واجبا والآخر مستحبّا كفريضة الصبح ونافلته ، أو

١٤٦

لم يكن الآخر مأمورا به أصلا ، فنوى إيجاد الصلاة الواجبة ، أو ما وجب في حقّه فعلا ، فقد قصد الإتيان بالفرد المأمور به وإن لم يلتفت إلى كونه صبحا أو مع الجهل بعنوانه أو التردّد بينه وبين غيره ، لما عرفت من أنّ وجه الحاجة إلى تصوّر القيد يتميّز المأمور به عن غيره ، وهو حاصل في الفرض ، كما أنّ قصد كونه ظهرا ممّا وجب عليه الظهر أو نافلته مغن عن قصد الوجوب والاستحباب.

قال في الذكرى : لو نوى فريضة الوقت ، أجزأ عن نيّة الظهر أن العصر ، لحصول التعيين ، إذ لا مشارك لها.

هذا إذا كان في الوقت المختصّ ، أمّا في المشترك فيحتمل المنع ، لاشتراك الوقت.

ووجه الإجزاء : أنّ قضيّة الترتيب تجعل الوقت مختصّا بالأوّل.

ولو صلّى الظهر ثم نوى فريضة الوقت ، أجزأ وإن كان في المشترك (١). انتهى.

ومنها : ما لا يكون اعتباره تقييدا في عناوين الأدلّة بمعنى أنّ القيد الملحوظ في نظر الآمر ليس ممّا أخذ قيدا للفعل بأن يكون من قيوده المقسّمة ، كما إذا أمر بإكرام رجل أو بعتق رقبة أو صوم يوم ، فإنّ تخصيص الحكم بفرد مّا ليس لأجل كون الطبيعة الحاصلة في ضمنه قسما خاصّا من مطلق الطبيعة وقد تعلّق الغرض بإيجاده بالخصوص حتى يعتبر

__________________

(١) الذكرى : ١٧٧.

١٤٧

تمييزه عمّا عداه ، بل لأنّ الغرض لم يتعلّق إلّا بإيجاد الطبيعة من حيث هي في ضمن مصداق من مصاديقها ، فمتى تحقّقت الطبيعة في ضمن شي‌ء من مصاديقها فقد حصلت الماهيّة المأمور بها ، فمتى قصد إيجاد الطبيعة في الخارج امتثالا للأمر ، فقد قصد الإتيان بعين الطبيعة المأمور بها ، فلا يعتبر في مثل الفرض الالتفات إلى كون المأتيّ به فردا من الطبيعة ، بل يكفي في حصول الامتثال تصوّر نفس الماهيّة وإرادة إيجادها في الخارج التي هي ملزوم لإرادة إيجاد الفرد المأمور به.

إذا عرفت أنّ هذا النحو من الخصوصية ليس من عوارض الماهيّة المتنوّعة بها ، بل هي من لواحق وجودها ، ظهر لك أنّه لا يعقل أن يتعدّد الأمر بالطبيعة بملاحظتها.

وبعبارة أوفى : أنّ القيود المقسّمة للطبيعة ـ ككون الصلاة ظهرا أو عصرا أو نافلة أو فريضة ـ لمّا كانت سببا لاختصاص موضوع الأمر بقسم منها لا يمنع تعلّق الأمر الإلزامي بقسم منها عن تعلّقه بالقسم الآخر ، وهذا بخلاف الخصوصيّة التي نتكلّم فيها ، فإنّ ملاحظتها قيدا في المأمور به مانعة عن تعلّق أمر آخر بفرد آخر ، فإنّ معنى اعتبار خصوصية الفرد قيدا أنّ فردا من الطبيعة لا أزيد هو الواجب ، وهذا يناقض الأمر بإيجادها في ضمن فرد آخر ، فلو أمر بفرد آخر ، للزوم أن لا تكون خصوصيّة تحقّقها في ضمن فرد قيدا في المطلوب ، فمآل الأمرين إلى أمر واحد بفردين من تلك الطبيعة ، لأنّه بعد أن فرضنا أنّ الأمر الأوّل تعلّق بصرف الطبيعة من حيث هي بلحاظ وجودها في ضمن فرد مّا ، ولم يلاحظ فيها جهة تقييد

١٤٨

أصلا ، فإن تعلّق بها أمر ثانيا ، فإن لم يلاحظ في الأمر الثاني أيضا إلّا إيجادها في ضمن فرد مّا ، فلا بدّ من أن يكون الأمر الثاني أيضا إلّا إيجادها في ضمن فرد مّا ، فلا بدّ من أن يكون الأمر الثاني تأكيدا للأوّل ، وإن أريد منه إيجادها في ضمن فرد آخر ، فالمحصّل من الأمرين وجوب إيجاد تلك الطبيعة المتّحدة بالذات في ضمن فردين ، فلا يتوقّف امتثال شي‌ء من الأمرين إلّا على تصوّر نفس الماهيّة وإيجادها بداعي الأمر ، وهذا بخلاف القيود المقسّمة ، كما عرفته سابقا.

نعم ، يعقل تعلّق أمر آخر من غير سنخ الطلب الموجود ، بأن يكون الأوّل إلزاميّا ، والآخر ندبيّا ، إذ لا يمنع مراعاة الخصوصية إلّا من تعلّق طلب من سنخ الموجود لا من سنخ آخر ، فلو كان لفعل ـ كالذكر في السجود مثلا ـ مصلحة مقتضية لمحبوبيته على الإطلاق أو لمحبوبية إيجاده في ضمن أفراد متعدّدة ، لكن لا على وجه لا يرضى الأمر بترك الجميع ، بل على وجه لا يرضى بتركه رأسا ، أو أنّه بلحاظ هذه المصلحة يرضى بترك الجميع ، لكن فيه مصلحة أخرى مقتضية لإيجاب فرد منه لا أزيد ، فحينئذ يتعلّق بذلك الفعل حكمان : أحدهما : الوجوب بلحاظ تحقّقه في ضمن فرد مّا ، والآخر : الاستحباب بلحاظ تحقّقه في ضمن ما زاد على القدر الواجب ، وحينئذ فما يأتي به المكلّف أوّلا لا يقع إلّا واجبا ، وما يأتي به ثانيا لا يقع إلّا مندوبا لو كانا تدريجي الحصول ، لأنّ الطبيعة إذا عرض لها صفة الوجوب بلحاظ وجودها في ضمن فرد مّا ، فأوّل ما تتحقّق تلك الطبيعة في ضمن فرد يقع ذلك الفرد مصداقا للواجب وإن نوى بفعله امتثال الأمر الاستحبابي ، لأنّ القصد لا يغيّر الشي‌ء

١٤٩

عمّا هو عليه من صفة الوجوب.

نعم ، ربما يكون مثل هذا القصد مفسدا للعمل إذا كان عبادة ، بناء على أنّ قصد الخلاف مضرّ ، كما سيأتي الكلام فيه.

لكنّه على تقدير صحّته ـ كما هو المفروض ـ لا يعقل أن يتّصف إلّا بالوجوب ، وما يأتي به ثانيا لا يقع إلّا ندبا ، لزوال صفة الوجوب بحصول الواجب ، فلم يبق فيها بعد حصول مقدار الواجب في الخارج إلّا الرجحان الغير المانع من النقيض.

ولو كانا ممّا يمكن إيجادهما دفعة ، كما لو أمره بإعطاء درهم وجوبا ، ثم أمره بإعطاء درهم آخر ندبا فأوجدهما بفعل واحد أو في زمان واحد ، لا يتّصف ما أوقعه إلّا بصفة الوجوب إلّا أنّ ما أتى به أفضل فردي الواجب ، لاشتماله على مصلحة كلا الأمرين.

ولو أوجدهما تدريجا ، فكالصورة السابقة ، كما لا يخفى.

وقد ظهر ممّا قرّرنا لك : أنّ اشتراك الفعل في هذا القسم بين الوجوب والاستحباب إنّما هو بالقوّة لا بالفعل ، لأنّه ما دام معروضا للوجوب لا يتّصف بالاستحباب ، وما دام متّصفا بالاستحباب لا وجوب له ، فلو نوى بفعله امتثال الأمر المنجّز في حقّه المتوجّه إليه فعلا ، أجزأه عن قصد الوجوب والاستحباب ، كما أنّ قصد القيد في القسم السابق كان مجزئا عن ذلك ، فلا يتوجّه ما أورده في التذكرة بقوله : أمّا الفرضيّة والندبيّة ، فلا بدّ من التعرّض لهما عندنا ، لأنّ الظهر يقع على وجهي الفرض والندب ، كصلاة الصبي ومن أعادها للجماعة ، فلا يتخصّص

١٥٠

لأحدهما إلّا بالقصد (١) ، إذ ليس لما تنجّز في حقّه طلبه فعلا إلّا وجه واحد وإن كان ذاته قابلة للوجوه باعتبار اختلاف أحوال المكلّف دون الماهيّة الواقعة في حيّز الطلب.

هذا ، مع أنّه لا حاجة إلى تشخيص مثل هذه الوجوه الغير المنوّعة للطبيعة ، لأنّ المعتبر في باب الإطاعة إنّما هو تعيين الماهيّة الواقعة في حيّز الطلب وإيجادها بداعي امتثال الأمر ، وهذا المعنى لا يتوقّف حصوله في هذا القسم على تصوّر الوجوب أو الاستحباب.

نعم ، قد يقع الحاجة إلى تصورهما في القسم السابق إذا تعذّر معرفة الفعل المقيّد الواقع في حيّز الأمر ، لجهالة القيد ، فيجعل في مثل هذا المورد عنوان الوجوب معرّفا إجماليّا للقيود المعتبرة.

وأمّا الخصوصيات الملحوظة في هذا القسم ، الموجبة لقصر الحكم على بعض تحصّلات الطبيعة ، فلا يجب تصوّرها في حصول الإطاعة إلّا بناء على القول بوجوب معرفة وجه الوجوب لو فسّرناه بالمصالح والمفاسد المقتضية للحكم ، وستعرف ضعفه إن شاء الله.

وبما ذكرنا ظهر أنّ ما ذكره شيخنا المرتضى (٢) ـ رحمه‌الله ـ في توجيه مذهب المشهور القائلين بوجوب قصد الوجه في هذا القسم ـ من لزوم تصوّر الفعل بجميع خصوصيّاته ، وقصد الوجه معرّف لها وكاشف عنها ، ثم أورد عليهم بكفاية قصد امتثال الأمر المتوجّه إليه فعلا عن ذلك ـ لا يخلو

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٣ : ١٠١ ، المسألة ٢٠٠.

(٢) كتاب الطهارة : ٨٣.

١٥١

عن نظر.

واعترض شارح الروضة ـ على ما حكي (١) عنه ـ على القائل باعتبار قصد الوجوب والندب مستدلّا عليه : بوجوب إيقاع الفعل على وجهه : أنّه إن أريد وجوب إيقاع الفعل على وجوهه وصفاته وخواصّه التي تعلّق الأمر بالفعل مقيّدا بها ، فهو مسلّم ، لكنّ الوجوب والندب ليسا من ذلك.

وإن أريد إيقاعه على وجوه الأمر ، فغير مسلّم ، بل لا محصّل له.

توضيح الاعتراض : أنّ الوجوب والاستصحاب من مراتب الطلب ، فلا يعقل جعلهما من مميّزات المطلوب وأوصافه ، لتأخّر رتبتهما عنه ، والواجب على العبد تشخيص المطلوب ، لا تعيين مراتب الطلب ، فقصد الوجوب والاستحباب لا يرجع إلى محصّل.

وأجيب عنه : بأنّ القائل باعتباره لا يقول به ، لكونهما من العوارض المشخّصة للفعل حتى يتوجّه عليه الاعتراض ، بل يجعلهما معرّفا لها وكاشفا عنها.

ولكنّك عرفت اختصاص الحاجة إلى التميز بالقسم السابق ، مع أنّ القائل باعتبار قصد الوجه يقول به مطلقا ، فالاعتراض متوجّه عليه بالنسبة إلى القسم الأخير جزما.

نعم ، له دفعه في القسم السابق بما ذكر في الجواب ، ولكن يتوجّه عليه أيضا كفاية تصوّر القيد في حصول التميّز والاستغناء به عن قصد

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٣.

١٥٢

الوجه ، فلا ينحصر التعيين بذلك ، كما أنّه لو بنينا على لزوم تصوّر الخصوصيّات الملحوظة في نفس المولى ، الموجبة لقصر الحكم على بعض الأفراد في القسم الأخير ، لقلنا بكفاية قصد امتثال الأمر المنجّز عليه فعلا في ذلك من دون حاجة إلى تصوّر خصوص الوجوب والاستحباب ، فلاحظ وتدبّر.

وقد ظهر بما قرّرنا : أنّه لا يعتبر في حصول الإطاعة إلّا تصوّر كون المأتيّ به مطلوبا ، وأمّا تصوّر كونه على سبيل الحتم والإلزام أم على نحو الاستحباب فلا ، فليس على العبد بعد علمه بجنس الطلب التكلّف بإحراز الخصوصيّتين بالاجتهاد أو التقليد ، خلافا لصريح بعض وظاهر آخرين من عدم كفاية ذلك في الامتثال ، بل يجب عليه الاستعلام بتقليد أو اجتهاد.

ولكنّك عرفت أنّ الأقوى خلافه ، وأنّه لا يعتبر إلّا إحراز كونه مطلوبا ، فلا يضرّه الجهل بالخصوصيّتين ، بل لو نوى الوجوب في المندوب أو العكس جهلا ، صحّ العمل إذا قصد بفعله امتثال الأمر المتعلّق به الذي يعتقد أنّه أمر استحبابي ، لأنّ هذا الاعتقاد لم يؤثّر في خروج الفعل عن كونه مأتيّا به بداعي الطلب المتعلّق به الذي هو مناط حصول الإطاعة.

نعم ، لو لم يقصد بفعله إلّا امتثال الطلب المقيّد بكونه استحبابيّا ، ففي الصحّة إشكال من حيث إنّ ما نواه غير موجود ، والموجود غير منويّ ، ولكنّ الأقوى فيه أيضا الصحّة ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله.

وقد ظهر أيضا : أنّه وجه لاعتبار ملاحظة الوجوب والندب أو

١٥٣

وجههما غاية للفعل ، لأنّه إن أريد الوجوب والندب الشرعيّان ومن وجههما سبب إيجاب الشارع وندبه ، فقد عرفت أنّه لا يجب على المطيع إلّا إيجاد الماهيّة المأمور بها بداعي الأمر ، ولا يتوقّف ذلك على إحراز مراتب الطلب ولا على إحراز سببه ، بل يكفي في حصوله علمه بجنس الطلب وإيجاده بداعي كونه مأمورا به على سبيل الإجمال.

هذا ، مع أنّ القربة المعلوم اعتبارها غاية في حصول الإطاعة في الشرعيّات التي هي عبارة عن إيجاد الفعل الذي يحصل به القرب بعنوان كونه كذلك خالصا مخلصا لله تعالى ، مغنية عن قصد الوجه ، لما أشرنا إليه إجمالا ، وستعرف تفصيله من أنّ مناط وقوع الفعل عبادة كونه مقرّبا ، أي محبوبا لله تعالى ومأتيّا به بداعي كونه كذلك ، وأنّ معرفة الوجه وقصده على القول باعتباره أو قصد جنس الطلب ـ كما هو المختار ـ إنّما هو لكونه وجها ظاهريّا يمتاز به المقرّب عن غيره ، فقصد إيجاده بعنوان كونه مقرّبا بداعي كونه كذلك مغن عن قصد وجهه ، كما أنّ قصد امتثال الطلب الحتمي أو الاستحبابي أو جنس الطلب مغن عن قصد القربة ، لكونه أخصّ منها ، فلا وجه لاعتبارهما معا غاية في مرتبة واحدة.

وقد حكي (١) هذا الاعتراض عن بعض تحقيقات الشهيد رحمه‌الله.

وإن أريد الوجوب والندب العقليّان ومن وجههما المصالح والمفاسد الكائنة في الأفعال أو غير ذلك مما ذكروه ، ففيه : أنّه لا دليل

__________________

(١) الحاكي هو الشهيد الثاني في روض الجنان : ٢٨ وكما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٥.

١٥٤

على اعتباره في الغاية ، بل الأدلّة على خلافه ، كيف وأكثر العوام لا يعلمون ذلك ، بل بعض الخواصّ يعتقدون عدم وجوب كون الفعل الواجب واجبا عقليّا ، بل يزعمون أنّه يكفي في التكليف حسن التكليف ، ولا يتوقّف على حسن المكلّف به.

والحاصل : أنّه ليس على المطيع في مقام الإطاعة إلّا تصوّر الفعل الخاصّ الواقع في حيّز الطلب ، والقصد إلى فعله طاعة لله تعالى ، وهذا ممّا يحصل على مذهب العدليّة والأشاعرة المنكرين للوجوب العقلي ، والزائد على ذلك الذي يختصّ تحقّقه بمذهب العدليّة لا دليل على اعتباره.

وأمّا ما نسب (١) إلى العدليّة ، وصرّح به المحقّق الطوسي ـ فيما حكي (٢) عنه ـ من أنّه يشترط في استحقاق الثواب على الواجب والمندوب الإتيان به لوجوبه أو ندبه ، أو وجههما ، فالمظنون قويّا بل يكاد يلحق بالمقطوع به : أنّ محطّ نظرهم بيان اشتراط كون العمل لله تعالى في استحقاق الثواب ، بأن يكون امتثالا لأمره تعالى أو بداعي شكره أو غيره من المصالح الموجبة للأمر احترازا عمّا لو أتى بالفعل لأغراض أخر غير امتثال الأمر أو الجهات المقتضية له ، فلا يستحقّ حينئذ بعمله الأجر والثواب ، كما هو واضح.

وأمّا تخصيص القول بالعدلية : فلانتفاء أصل الاستحقاق على مذهب

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٥.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٥ ، وانظر تجريد الاعتقاد : ٣٠١.

١٥٥

غيرهم ، لا لعدم اشتراط قصد امتثال الأمر لديهم في حصول الإطاعة.

وأمّا تصريحهم بوجوب جعل خصوص الوجوب والندب غاية لا جنس الطلب : فلأجل أنّ الجنس لا ينفكّ عن إحدى الخصوصيتين ، لا لأجل أنّ للخصوصية مدخليّة في استحقاق الثواب ، فلا يستحقّه لو نوى بفعله امتثال جنس الطلب المستلزم إطلاقه انتفاء حسن الاحتياط عند التعذّر عن معرفة نوع الطلب ، مع أنّه لا يظنّ بأحد منهم أن يلتزم بذلك.

نعم ، نسب (١) إلى ظاهر السيّد أبي المكارم ابن زهرة الالتزام بذلك وإن كان في تحقّق النسبة تأمّل ، كما يظهر وجهه بمراجعة عبارته المحكية عن الغنية.

وكيف كان ، فإن عنوا بما ادّعوه ما بيّنّاه ، فهو ، وإلّا فعليهم إقامة البيّنة على مدّعاهم وأنّى لهم بها ، فهذا دليل على عدم إرادتهم إلّا ما وجّهنا به كلامهم ، لأنّه حينئذ يندرج في القضايا التي قياساتها معها ، ضرورة أنّه إن لم يعمل لله تعالى ، لا يستحقّ منه شيئا ، وهذا بخلاف ما لو أتى به بداعي أمره ، فيستحقّ بذلك أجر المطيعين أو بداعي الشكر إن كان وجه وجوبه الشكر ، فيستحقّ أجر الشاكرين لا أجر المطيعين ، وسقوط الأمر بعد حصول الغرض قهري وإن لم يقصد به الإطاعة ، كما في التوصّليّات ، فتدبّر. (و) قد تلخّص ممّا فصّلناه : أنّ النيّة المعتبرة في العبادات (كيفيّتها

__________________

(١) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ٢ : ٨٨ ، وانظر : الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٩١.

١٥٦

أن ينوي) بفعله الخاصّ التقرّب إلى الله تعالى ، ولا يعتبر قصد (الوجوب أو (١) الندب ، و) إنّما المعتبر هو قصد (القربة) التي هي عبارة عن كون العمل خالصا لله تعالى ، بأن يكون آتيا بالفعل امتثالا لأمره ، أو موافقة لطاعته أو انقيادا لحكمه أو إجابة لدعوته ، أو أداء لشكره ، أو تعظيما لجلالة.

ولو أتى بالفعل طلبا للرفعة عنده ، أو نيل ثوابه ، أو الخلاص من عقابه ، أو غيرها من الأغراض وإن كانت دنيويّة فضلا عن الأخروية ممّا لا يتوصّل إليها إلّا بإتيان الفعل طاعة لله تعالى ، صحّ ، إذ لا منافاة بين هذه الأغراض وبين الإخلاص المعتبر في صحّة العمل ، إذ ليس غائيّة تلك الأمور في عرض الإطاعة حتى يخرج الفعل بسببها عن الإخلاص ، بل هي مترتّبة عليها ، فلا تعارضها.

نعم ، لو لم يقصد بعمله إلّا هذه الأمور من دون توسيط طاعة الله تعالى ، يفسد العمل جزما.

توضيح المقام : أنّ الداعي إلى إطاعة الله تعالى ، والتقرّب إليه بامتثال أوامره ، والتجنّب عن نواهيه يختلف باختلاف درجات المطيعين والمتقرّبين ، فإنّ منهم من لا يدعوه إلى التقرّب والطاعة إلّا أهليّة المطاع لأن يعبد ، أو كون العبادة محبوبة لديه أو ما شابههما ممّا لا يبعث المطيع على الإطاعة والتقرّب إلّا ما في نفس المطاع من الأهليّة ونحوها ، لا الفائدة العائدة إلى نفسه ، وهذه المرتبة أعلى مراتب المقرّبين ، وأرفع درجات

__________________

(١) في الشرائع : أو.

١٥٧

المطيعين ، لأنّ غايتها أشرف الغايات ، ولا ينبغي دعواها إلّا لمن ادّعاها بقوله صلوات الله عليه : «ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنّتك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (١).

ومعنى أنّه لا يقصد بعمله إلّا أهليّة المطاع : أنّ الباعث على الفعل أوّلا وبالذات ليس إلّا هي ، أنّه لا يخاف من عقاب الله تعالى ولا يرجو ثوابه ولا يريده بعبادته ، كما لا يخفى.

ومنهم من يقصد بطاعته التقرّب إلى الله تعالى من حيث إنّه في حدّ ذاته كمال له ، وهذه أعلى الغايات وأشرفها لمن يطيع الله تعالى لتحصيل الفوائد والغايات ، لأنّ هذه الفائدة أعظم الفوائد وأشرفها ، والعكوف لديها آخر منازل السالكين ، وغاية آمال العارفين.

ومنهم من يقصد بطاعته الفوز بالثواب أو التخلّص عن العقاب ، ودونهم في الرتبة من نوى بطاعته الوصول إلى الملاذّ الدنيويّة التي هي من قبيل الخواصّ المترتّبة على فعلها طاعة لله تعالى ، كما ورد في صلاة الليل من أنّها تدرّ الرزق (٢) ، وفي صلاة الحاجات وغيرها من الأدعية المأثورة للأغراض الدنيويّة ، وهذه أخسّ المراتب وأدناها ، لأنّ صاحبها ليس إلّا كالفقير المعدم الذي لا يقصد بمشيه إلى حضرة السلطان وقربه منه إلّا التناول من فضل طعامه ، لا لأجل أنّ طعامه له شرافة وفضل ، بل

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم ـ ٥ : ٣٦١ ، القواعد والفوائد ـ للشهيد الأوّل ـ ١ : ٧٧.

(٢) ثواب الأعمال : ٦٤ ـ ٦٥ ـ ٨ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ، ذيل الحديث ١٧.

١٥٨

لنفس الطعام من حيث ذاته من دون فرق بين أن يصل إليه من السلطان أو من غيره ، فهذا الشخص ممّن لم يذق طعم الكمالات الحقيقيّة ، ولم يستأنس إلّا بالشهوات الجسمانية ، فلا يليق به إلّا الفوز بما نواه ، وبين هذه المراتب أيضا مراتب لا تحصى ، والكلّ مشتركة في صحّة العمل بها ، وكونه مسقطا للأمر.

أمّا فيما عدا قصد الفوز بالثواب والتخلّص من العقاب وما دونها في الرتبة فلا كلام فيه.

وأمّا فيه وإن كان ظاهر بعض الاستشكال في صحّته إلّا أنّك عرفت أنّه لا إشكال فيها أيضا ، لأنّ ترتّب الشي‌ء على الإطاعة بالفعل لا يخرج الإطاعة عن كونها غاية للعمل حتى يعارضها في الإخلاص.

وإن أبيت إلّا عن ذلك ، فنقول : كفانا ـ في صحّة من ينوي بإطاعة الثواب أو الأمن من العقاب بل وغيرهما من الحوائج الدنيويّة ـ الآيات والأخبار المتكاثرة التي لا يحوم حولها الحدّ والحصر ، الدالّة على الصحّة.

وكفاك في ذلك أخبار التسامح ومشروعية صلاة الحاجات والأدعية المأثورة في طلب الأولاد وغيره ، بل ما فيها من الوعد والوعيد المعلوم سوقها لترغيب الناس بالطاعات والتحذير عن المعاصي.

وبعد الغضّ عن جميع ذلك ، نقول : كيف يمكن تكليف البخيل ـ الذي يحبّ المال حبّا شديدا ـ بأنّه يجب عليك أن تدفع خمس مالك حبّا لله لا خوفا من عقابه ، وهل هذا إلّا التكليف بغير المقدور؟

١٥٩

ولعلّ القائل بالفساد إنّما أراد ما لو قصد بفعله هذه الأمور من دون توسيط الطاعة ، كما سبق منّا بيانه ، والله العالم.

المرحلة الرابعة : في أنّه هل يعتبر في حصول الإطاعة الجزم بالنيّة؟ أم تصحّ العبادة مع الترديد؟ وتفصيل القول في هذا المقام : أنّ الترديد تارة في الأمر ، واخرى في المأمور به.

وبعبارة أخرى : الشكّ إمّا في التكليف ، أو في المكلّف به مع العلم بالتكليف.

وعلى أيّ تقدير إمّا أنّه متمكّن من تحصيل المعرفة التفصيلية والجزم بالنيّة حال العمل ، أم لا.

أمّا على الثاني : فلا إشكال بل لا كلام ظاهرا ـ إلّا ما عن ظاهر بعض ـ في حسن الفعل وحصول الإطاعة بإتيان المحتمل ، وعدم توقّفها على الجزم حال الفعل ، وإلّا للزم عدم مشروعية الاحتياط في العبادات رأسا ، وفساده ظاهر.

وأمّا على الأوّل : فإن كان الشكّ في التكليف ، فمنشؤه إمّا الاشتباه في الأمور الخارجية ، أو الجهل بالحكم الشرعي.

أمّا الأوّل فهو كما إذا شكّ في وجوب الغسل عليه ، للشكّ في طروّ الجنابة ، وكالشكّ في وجوب الوضوء عليه ، للشكّ في حدوث ما يوجبه ، وهذا القسم ممّا لا ينبغي التأمّل في حصول الإطاعة وصحّة العمل لو أتى

١٦٠