مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

الله وبارز الله في السرّ بما يكرهه الله لقي الله وهو عليه غضبان له ماقت» (١).

وظاهر الروايتين أنّ من أظهر عند الناس أنّه يعبد الله وهو لا يعبده لو خلّي وطبعه ، لقي الله وهو ماقت له ، فقوله عليه‌السلام : «وبارز الله بما كرهه» تعبير بما هو لازم المراد مذكور استطرادا لبيان تعرّف حال الموضوع ، فمناط المقت هو إظهار العبادة للناس.

واحتمال كون المقت على سوء سريرته وفساد عزمه خلاف الظاهر.

والحاصل : أنّ المتبادر من الروايتين أنّ عمل المرائي ممقوت عند الله تعالى.

ومنها : ما عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سيأتي على الناس زمان تخبث سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعا في الدنيا لا يريدون به ما عند ربّهم ، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف يعمّهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم» (٢).

ومنها : ما عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن آبائه عليه‌السلام «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل فيما النجاة غدا؟ فقال : إنّما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فإنّه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ، ونفسه تخدع لو يشعر ، قيل له : فكيف يخادع الله!؟ قال يعمل بما أمره

__________________

(١) قرب الإسناد : ٩٢ ـ ٩٣ ـ ٣٠٩ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٤.

(٢) الكافي ٢ : ٢٩٦ ـ ١٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٤.

٢٢١

الله ثم يريد به غيره ، فاتّقوا الله في الرياء ، فإنّه الشرك بالله ، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا فاجر يا كافر يا غادر يا خاسر حبط عملك ، وبطل أجرك ، فلا خلاص لك اليوم ، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له» (١).

ومنها : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يؤمر برجال إلى النار ـ إلى أن قال ـ فيقول لهم خازن النار : يا أشقياء ما كان حالكم؟ قالوا : كنّا نعمل لغير الله ، فقيل : لتأخذوا ثوابكم ممّن عملتم له» (٢).

وقد ورد في الأخبار المستفيضة بل المتواترة معني أنّ المرائي مشرك :

مثل : قوله عليه‌السلام : «من عمل للناس كان ثوابه على الناس ، يا زرارة (٣) كلّ رياء شرك» وقال : «قال الله عزوجل : من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له» (٤).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام «لو أنّ عبدا عمل عملا يطلب به وجه الله والدار الآخرة ، وأدخل فيه رضى أحد من الناس ، كان مشركا» (٥).

__________________

(١) عقاب الأعمال : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٦.

(٢) عقاب الأعمال : ٢٦٦ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١.

(٣) في المحاسن : يا يزيد.

(٤) المحاسن : ١٢٢ ـ ١٣٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، ذيل الحديث ١١.

(٥) المحاسن : ١٢٢ ـ ١٣٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١١.

٢٢٢

وقد ورد في تفسير قول الله عزوجل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال :«سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير قول الله عزوجل (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١) فقال :من صلّى مراءاة الناس فهو مشرك ـ إلى أن قال ـ : ومن عمل عملا ممّا أمر الله به مراءاة الناس فهو مشرك ولا يقبل الله عمل مراء» (٢).

ودلالة هذه الأخبار الكثيرة على بطلان عمل المرائي ـ على ما يتفاهم منها عرفا ـ لا تقصر عن دلالتها على الحرمة ، فلا حاجة في إثبات المطلوب إلى التشبّث باستحالة كون العبادة حراما.

هذا ، مضافا إلى الأخبار الكثيرة المستفيضة الناهية عن الرياء والسمعة المعلّلة بأنّ من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له (٣) ، أو إلى عمله (٤) ، وأنّ العمل الذي يراد به الناس كان ثوابه على الناس (٥) ، وأنّ الله تعالى لا يقبله إلّا إذا كان خالصا له (٦) ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الصريحة في كون عمل المرائي مردودا غير مقبول عند الله.

والمتبادر من ردّ العمل وعدم قبوله ـ على ما يفهمه العرف ـ بطلان العبادة لو لم نقل باستلزامه ذلك عقلا ، كما لا يخفى وجهه.

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ١١٠.

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٤٧ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٣.

(٣) الكافي ٢ : ٢٩٣ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٦.

(٤) الكافي ٢ : ٢٩٧ ـ ١٧ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠.

(٥) الكافي ٢ : ٢٩٣ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١١.

(٦) الزهد : ٦٣ ـ ١٦٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١١.

٢٢٣

فما عن السيّد ـ رحمه‌الله ـ من أنّ عمل المرائي صحيح مسقط للأمر ولكنّه غير مقبول عند الله (١) ، لأنّ الصحّة أعمّ من القبول ، كما يدلّ عليه قوله تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢) وغيره من الآيات ، ضعيف في الغاية ، إذ ـ بعد تسليم إمكان عدم القبول مع كون المأتي به موافقا للمأمور به ، وجواز سقوط الأمر العبادي مع كون العمل مردودا حال كون المكلّف متمكّنا من إيجاد الفعل ثانيا ـ يتوجّه عليه أوّلا ما عرفت من ظهور عدم القبول عرفا في بطلانه.

وأمّا القبول في الآية : فلعلّ المراد منه ـ والله العالم ـ هو القبول الكامل الحسن الموجب لمزيد الأجر وارتفاع الدرجة ، لا القبول الذي يقابله الردّ ـ كما هو ظاهر أخبار الباب بل صريحها ـ حتى ينافي عدمه لقاعدة الأجزاء التي يستقلّ بها العقل ، أو أنّ المراد من القبول معناه الحقيقي ووجه عدم قبول أعمال غير المتّقين : عدم استيفاء عملهم غالبا شرائط التكليف ، فتكون أعمالهم غالبا من قبيل صدقة السارق وصلاة الغاصب ، وقد ورد في الخبر أنّ المراد من المتّقين هم الشيعة (٣) ، فتخرج الآية على هذا التقدير من معرض الاستشهاد.

وكيف كان ، فلا يجوز رفع اليد عن المحكمات بالمتشابهات.

هذا ، مضافا إلى ما عرفت من دلالة الأخبار السابقة على البطلان

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٢٢٢ ، وانظر : الانتصار : ١٧.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٢٧.

(٣) تفسير العيّاشي ١ : ٢٦ ـ ١ ، تفسير البرهان ١ : ٥٣ ـ ٥.

٢٢٤

بشهادة العرف وحكومة العقل.

والقول بجواز اجتماع الأمر والنهي لا يجدي في المقام ، فإنّ المسألة من قبيل النهي في العبادة ، كما أشرنا إليه إجمالا ، وستعرف تفصيله إن شاء الله ، ولم يقل أحد بالجواز فيها.

ودعوى أنّ المحرّم هو قصد المرائي لا فعله ، فليس المأمور به متعلّقا للنهي ، يكذّبها الأخبار السابقة الظاهرة في كون العمل محرّما مكتوبا في سجّين.

مضافا إلى شهادة العرف واللغة بأنّ الرياء هو العمل الذي يقصد به المدح لا القصد المجرّد.

هذا ، مع أنّ قصد المرائي ينافي الإخلاص ، كما عرفت في المباح ، فكيف يصحّ القول بصحّة عمل المرائي على إطلاقه!؟

نعم ، لو تعلّق قصده بالرياء في خصوصيّات العمل ، لا يخلو قوله عن وجهه على هذا التقدير ، فتأمّل.

ثمّ إنّ المحصّل من مجموع الأخبار : أنّ العمل الذي يوجد في الخارج بعنوان الإطاعة لله تعالى ، لو كان الباعث على حصوله بهذا العنوان إرادة إراءة الغير ، باطل ومحرّم ، سواء كانت الإرادة سببا مستقلّا في البعث أو كان لها مدخليّة في ذلك.

وبعبارة أخرى : أنّ غاية ما يستفاد من الأخبار أنّ قصد إرادة الغير وإظهار الكمال لديهم في العبادة مفسد للعبادة ، وموجب لحرمتها ، وأمّا

٢٢٥

حرمة ما عدا ما ذكر فلا تكاد تظهر من شي‌ء من أخبار الباب.

وحينئذ فإن قلنا بأنّ المتبادر من الرياء في إطلاقات الشارع وعرف المتشرّعة هو هذا المعنى الذي ادّعينا استفادته من الأخبار ـ كما يؤيّده ظاهر ما عن بعض علماء الأخلاق في تفسير الرياء من أنّه طلب المنزلة عند غيره تعالى بالعبادة (١) ـ فلا إشكال ، وإلّا فلو قلنا بأنّ الرياء يطلق لغة وعرفا على مطلق الفعل الذي يراد به إرادة الغير ، فيقيّد موضوع الحكم بالقيود المذكورة ، أعني تخصيص الحرمة بالرياء في العبادة من حيث كونها عبادة حال كونه مؤثّرا في حصول أصل الفعل أو كيفيّاته وخصوصيّاته بأن كان سببا أو جزءا من السبب لا مطلق الرياء ولا الرياء في العبادة من غير جهة كونها عبادة ، كما لو قصد بقيامه في صلاته النظر إلى متاع صديقه ليوصف بذلك بحسن الصداقة وشدّة الاهتمام في حفظ أموال الصديق ، ولا الرياء التبعي الذي لا تأثير له في العمل أصلا ، لقصور أخبار الحرمة عن شمول غير المذكور ، وعدم دليل فيما عداه على الحرمة لو لم يكن على عدمها ، إذ لا عموم في المقام بحيث يمكن استفادة حكم الرياء في غير العبادة منه.

وقوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة (٢) : «يا زرارة كلّ رياء شرك» لا يدلّ على العموم ، لوجوب تقييده بالعبادات بقرينة حمل الشرك عليه ، لأنّ حمل الشرك على مطلق الرياء بحيث يعمّ غير العبادات لا يستقيم إلّا بإرادة

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٧ ، وانظر : المحجّة البيضاء ٦ : ١٤٨ ، وجامع السعادات ٢ : ٣٧٣.

(٢) تقدّمت في ص ٢٢٢.

٢٢٦

التشبيه في المبغوضية ، أو بارتكاب التأويل ، بدعوى : أنّ المرائي حيث اتّخذ إلهه هواه ، فقد جعل مع الله إلها آخر ، فهو مشرك بهذا الاعتبار.

ولكنّك خبير بما في هذا التوجيه من مخالفة الظاهر ، لأنّ ظاهر حمل الشرك على الرياء كون العمل المأتي به رياء بنفسه شركا ، أي مأتيّا به لله تعالى ولغيره ، فيجب أن يكون مورده العبادة ، لأنّها هي التي يكون الرياء فيها شركا ، سواء كان الرياء جزء سبب الفعل أو تمامه.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وأمّا على الثاني : فلوقوع ظاهر العمل لله تعالى ، وباطنه للغير.

هذا ، مع أنّ سوق الرواية يشهد بذلك ، فإنّ المقصود بقوله عليه‌السلام :«من عمل للناس كان ثوابه على الناس» (١) هو أن يأتي بعبادة الله للناس ، وإلّا فهو من قبيل إظهار البديهي ، فقوله بعد ذلك : «يا زرارة كلّ رياء شرك» مسوق لبيان مفسدة أخرى لعمله أعظم من حبط أجره ، والتنبيه على أنّ مطلقه مندرج في موضوع القضية المذكورة أوّلا بشهادة قوله عزوجل : «من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له» (٢).

ثمّ ، لو سلّمنا عموم الرياء ، وفسّرنا الشرك بما يناسب العموم ، نقول : لا دليل على حرمة الشرك بهذا المعنى ، غاية الأمر دلالة الرواية على اعتبار الإخلاص في صحّة العبادة وبطلانها بسبب الرياء ، وعدم كون عمل المرائي مقبولا عند الله تعالى ، وأمّا حرمة الفعل بحيث يعاقب عليه فلا تستفاد

__________________

(١) تقدّم مع الإشارة إلى مصادره في ص ٢٢٢.

(٢) تقدّم مع الإشارة إلى مصادره في ص ٢٢٢.

٢٢٧

من هذه الرواية ، كيف ولو بنينا على حرمة الرياء في سائر الأعمال ، للزم كون أغلب أعمال أكثر أرباب الكمالات حراما حيث لا يقصدون بعملهم إلّا إظهار كمالاتهم ، تحصيلا للمنزلة عند الناس ، ولا يعدّ عملهم من المنكرات عند شيخ المتشرّعة ، مع أنّها لو كانت محرّمة ، لكانت حرمتها ـ لعموم البلوى بها ـ كحرمة الغيبة والكذب معروفة عند العوام ، فضلا عن العلماء.

فالإنصاف أنّه لا ريب في نفي حرمته شرعا في غير العبادات وإن كان مذموما في الغاية لكونه ناشئا من حبّ الجاه الذي ينبغي التحرّز عنه كغيره من المهالك التي تصدّى لبيانها علماء الأخلاق.

وأمّا اعتبار قيد الحيثية في موضوع الحرمة : فلانصراف ما دلّ على الحرمة ، بل صراحة أغلبها في ذلك ، كما لا يخفى على المتأمّل ، بل وكذا ما دلّ على أنّ من عمل للناس كان ثوابه على الناس ، وأنّ الرياء شرك ، وأنّ المراثي مشرك ، وأنّ عمله غير مقبول عند الله تعالى ، لظهور الجميع في وقوع العمل للغير بالعنوان الذي يقع به لله تعالى بقرينة ذكر الثواب وانصراف لفظ «الرياء» و «الشرك في العبادة» إليه.

وأمّا الرياء التبعي الذي لا تأثير له في حصول الفعل وخصوصياته :فلا تأمّل في قصور الأخبار عن إفادة حرمته وإبطاله للعبادة ، بل التأمّل في صدق الرياء عليه ، لأنّ صدق كون العمل رياء فرع استناده إليه وتأثيره فيه.

ومجرّد السرور برؤية الغير وازدياد الشوق بها وقصد حصولها من دون أن يؤثّر في العمل لا يسمّى رياء في العرف واللغة.

هذا ، مع أنّ المتّبع هو أخبار الباب ، وهي مخصوصة بما إذا كان

٢٢٨

العمل للغير ، كما هو مفاد أغلبها ، وكان الغير شريكا في العمل ، كما يستفاد من بعضها ، أو كان له مدخلية في حصول الفعل على ما يظهر من بعض آخر ، ولا ريب أنّ مدخليّته في حصول الفعل من دون أن يكون من أجزاء علّته غير معقولة. وكونه جزءا خلاف فرض التبعيّة.

فما في عبارة شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ من الاستشكال في الفرض المزبور ، نظرا إلى إطلاق قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ، المتقدّمة (١) : «ثم أدخل فيه رضى أحد من الناس» حيث قال : يصدق على مثل ما نحن فيه ، لأنّ الفعل مستند إلى الداعي المتأكّد ، فللمؤكّد دخل في هذا الداعي الشخصي (٢) ـ لا يخلو عن نظر.

توضيحه : أنّه لا يعقل المدخليّة إلّا أن يكون تصوّر رؤية الغير ـ كتصوّر امتثال الأمر ـ باعثا على تحريك الأعصاب والعضلات لتحصيل الفعل ، ولازمه أن يكون قصد حصول كلّ من الغايتين في عرض الآخر ، وهذا ينافي فرض التبعيّة بالمعنى الذي تقدّم في المباح. وأمّا فرض التبعيّة بالمعنى المتقدّم فلا يتمّ إلّا فيما إذا كان الباعث على العمل مجرّد تصوّر أمر الشارع ، وإرادة امتثاله من حيث هو مع الالتفات إلى حصول غاية أخرى محبوبة للمكلّف مترتّبة على العمل حال كونه مسرورا بحصول تلك الغاية المحبوبة له الموجبة لمزيد الشوق في امتثال الأمر من دون أن يكون لحصولها مدخليّة في حصولها الفعل وجودا وعدما ، وإلّا للزم بطلان

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢٢٢.

(٢) كتاب الطهارة : ٩٦.

٢٢٩

العبادة بالضميمة التبعية المباحة أيضا ، لمنافاته للإخلاص المعتبر في صحّتها ، مع أنّه ـ قدس‌سره ـ صرّح في المباح بعدم منافاته له (١).

وبما ذكرنا ظهر أنّ تسمية هذا القصد التبعي إرادة وقصدا مسامحة ، لأنّ الإرادة هو الشوق المؤكّد الموجب لتحريك الأعصاب والعضلات ، وهذا القصد التبعي ليس بهذه المثابة ، بل هو من مقولة الشوق والمحبّة ، لا من سنخ الإرادة.

نعم ، له شأنية صيرورته جزءا من السبب واندراجه في سنخ الإرادة لو طرأ على الباعث الأصلي ما يزاحمه في البعث لو لا انضمامه إلى هذا الشوق والمحبّة ، إلّا أنّه في هذا الفرض يخرج عن فرض التبعيّة ، وأمّا بدون عروض المزاحم فلا يكون ذلك إلّا مجرّد المحبّة والسرور الموجب لازدياد الشوق من دون أن يكون لزيادته تأثير في حصول الأثر.

وقد ورد نفي البأس عن مثل ذلك في حسنة زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل يعمل العمل من الخير فيراه الإنسان فيسرّه ذلك ، فقال : «لا بأس ما من أحد إلّا ويحبّ أن يظهر [له] للناس الخير إذا لم يكن يصنع ذلك لذلك» (٢).

ومن المعلوم أنّ الرياء إنّما يكون تبعيّا إذا لم يكن يصنع ذلك لذلك ، وإلّا فهو جزء من السبب أو سبب مستقلّ ، كما لا يخفى.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٩٥.

(٢) الكافي ٢ : ٢٩٧ ـ ١٨ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٢٣٠

ولا ينافي ما ذكرناه قوله عليه‌السلام : «للمرائي ثلاث علامات : ينشط إذا رأى الناس ، ويكسل إذا كان وحده ، ويحبّ أن يحمد في جميع أموره» (١).

ضرورة كون كلّ واحد من العلائم علامة في الغالب لا من اللوازم التي لا تنفكّ ، وإلّا لعارضها الحسنة السابقة وغيرها من الروايات الأخر.

هذا ، مع أنّ النشاط برؤية الناس يستلزم غالبا تغيير الكيفيّة ، فلا ينفكّ غالبا عن المدخليّة في التأثير ، والرواية منزلة على الغالب ، والكلام في فرض عدم التأثير.

وليعلم أنّه لا فرق في بطلان العمل الرياء بين حصول قصده من أوّل العمل أو في أثنائه لو تشاغل بجزء منه واقتصر عليه ، لأنّ بطلان الجزء يستلزم بطلان الكلّ بديهة ، وأمّا لو لم يتشاغل بشي‌ء من الأجزاء حال عروض قصد الرياء وأتى بباقي الأجزاء بعد زوال قصد الرياء ، فلا ينبغي التأمّل في صحّة العمل.

وما يتراءى من منافاته لما ذكروه من اعتبار استدامة النيّة حكما إلى آخر العمل ، ففيه ما سيجي‌ء توضيحه من أنّ المراد اعتبارها حال الاشتغال بأجزاء العمل حتى لا يكون شي‌ء منها لا عن نيّة ، لا أنّ نيّة رفع اليد عن الوضوء في أثناء الوضوء ـ كالحدث ـ مبطل للوضوء ، ومخرج للأجزاء السابقة عن قابليّة الإتمام ، وأمّا لو تشاغل بجزء منه وارتدع عن قصده وتداركه قبل فوات محلّه ، فالأقوى أيضا صحّته لو لم يكن التدارك مخلّا من جهة أخرى ، كفوات الموالاة في الوضوء أو الزيادة العمديّة في

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٥٩ ـ ٨ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١.

٢٣١

الصلاة لو قلنا بعموم أدلّتها لمثل المقام.

ودعوى أنّه يصدق في الفرض أنّه أشرك مع الله تعالى غيره في العمل ، وأدخل رضى أحد من الناس فيه ، وأنّ رفع اليد عن الجزء المأتيّ به رياء وتداركه لا يؤثّر في رفع الصدق المزبور بعد تحقّقه ، مدفوعة أوّلا : بمنع عدم تأثير رفع اليد والتدارك في نفي الصدق ، فإنّهما بمنزلة تبديل الجزء الفاسد في المركّبات الخارجيّة ، الموجب لالتيام المركّب ممّا عداه ، فبعد رفع اليد والتدارك يلتئم المركّب ممّا عداه ، ولا يصدق على ما عداه شي‌ء من الخبرين.

وثانيا : بما سنوضّحه فيما بعد إن شاء الله من أنّ معروض البطلان أوّلا وبالذات هو الجزء ، وبطلان الكلّ مسبّب عنه من حيث النقيصة ، ولازمه صحّة المركّب على تقدير التدارك.

ولو راءى في بعض الأجزاء التي لا مدخليّة لها في قوام الماهيّة ، بل هي من محسّنات الفرد ، بأن كان جزءا مستحبّيا للماهيّة المأمور بها منشأ لصيرورة الفرد المشتمل عليه أفضل الأفراد ، فقد يقال : ببطلان العبادة المشتملة عليه ، نظرا إلى صدق الروايتين المتقدّمتين على الفرد الموجود في الخارج ، لصحّة قولنا : إنّه أدخل في هذا العمل رضى أحد من الناس ، وأشرك مع الله تعالى غيره فيه.

ولكنّ الأظهر : الصحّة أيضا ، لأنّ معروض البطلان أوّلا وبالذات هو الجزء الريائي ، فلو قنت في صلاته رياء ، فكما يصحّ أن يقال : إنّه أشرك مع الله تعالى غيره في صلاته كذلك يصحّ أن يقال : إنّه أشرك في قنوته ،

٢٣٢

وأدخل فيه رضى أحد ، لأنّ أجزاء العمل أيضا عمل عند العرف والعقل ، ومن المعلوم أنّ الصلاة والقنوت ليستا مصداقين للعامّ على سبيل التواطؤ ، لاستحالة كون رياء واحد فردين من العامّ ، فصدقه عليهما إنّما هو على سبيل التشكيك بمعنى أنّ صدقه على القنوت لذاته ، وعلى الصلاة بواسطته ، ولازمه كون كلّ واحد من الأجزاء بحياله موضوعا للرواية ، وأن لا تكون

مطلوبيّته لذاته أو للغير ملحوظة في صدقها ، وحينئذ نقول : كما يصدق على القنوت أنّه وقع لغير الله ، أو أشرك فيه رضى أحد كذلك يصدق على ما عدا القنوت من التكبيرة والفاتحة والركوع والسجود وغيرها من الأجزاء أنّها وقعت خالصة لله تعالى ، فيترتّب عليها أثرها ، وهو : سقوط الأمر الغيري المتعلّق بكلّ منها بإيجاده ، والتيام الكلّ بانضمامها ، وسقوط الأمر المتعلّق بماهيّة الكلّ من حيث هي.

نعم ، أثر وقوع القنوت رياء عدم انضمامه إلى سائر الأجزاء ، وعدم سقوط الأمر المتعلّق به بفعله ، وعدم حصول الامتثال للأمر المتعلّق بالفرد الأفضل ، إلّا أنّ امتثال هذا الأمر كامتثال أمره الغيري غير لازم ، وإلّا لما جاز تركه اختيارا ، وهو خلاف الفرض.

ودعوى : أنّ المراد من العمل في الروايات الأعمال المستقلّة التي تعلّق بها أمر نفسي مع أنّها بلا بينة يعتدّ بها ، يكذّبها شهادة العرف بصدقها على أجزاء العمل ، خصوصا فيما لو كان للأجزاء عناوين مستقلّة ملحوظة بنظر العرف.

أترى هل يتوهّم أحد من أهل العرف ممّن سمع هذه الروايات أنّه

٢٣٣

يجب على من قصد بجزء من أعمال حجّه الرياء إعادة حجّة في العام المقبل بمجرّد إفساد الجزء مع إمكان التدارك ، أم لا يحكمون إلّا بوجوب إعادة هذا الجزء؟

وكذا لو سئل عن منشأ بطلان صلاة من قصد الرياء بركوعها ، فإنّهم يعلّلونه بوقوع الركوع رياء ، وسببيته للبطلان ، لا بوقوع الرياء في الصلاة.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في ردّ تخيّل البطلان بالتقريب المتقدّم بقوله : ويدفعه أنّه يصدق أيضا أنّه أتى بأقلّ الواجب تقرّبا إلى الله تعالى ، ومقتضى ذلك إعطاء كلّ مصداق حكمه ، فالمركّب من حيث إنّ الجزء المستحبّ داخل في حقيقته متروك فاسد ليس له ثواب ، ويستحقّ عليه العقاب باعتبار جزئه ، وما عدا ذلك الجزء من حيث إنّه مصداق للكلّي أتى به تقرّبا صحيح على أحسن الأحوال (١).

انتهى كلامه رفع مقامه.

وقد ظهر لك ممّا تقدّم : أنّه لا فرق في حرمة العبادة وبطلانها بالرياء بين تعلّقه بنفس ماهيّتها أو بعوارضها المشخّصة وأوصافها المنتزعة منها.

نعم ، لا يؤثّر لك فيها قصد الرياء في الأوصاف المتصادقة عليها ، المنتزعة من موجود آخر خارج من حقيقتها ، كاستقبال القبلة في الوضوء والتحنّك في الصلاة.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٩٦ ـ ٩٧.

٢٣٤

ووجهه واضح ، لأنّ النهي عن الصفة مرجعه إلى النهي عمّا به تتحقّق تلك الصفة ، وهو خارج من المأمور به في الفرض ، فلا يؤثّر فيه ، والله العالم.

وأمّا السمعة ـ وهي أن يقصد بالعمل سماع الناس فيعظم رتبته عندهم ـ فهي كالرياء في جميع ما تقدّم ، بل هي من أفراده بناء على تفسير الرياء بما تقدّم (١) ، عن بعض علماء الأخلاق.

وكيف كان فلا إشكال في حكمها ، لعموم أكثر الأخبار المتقدّمة ، وخصوص بعضها المصرّحة بلفظ السمعة.

وأمّا العجب ، فهو على ما ذكره بعض علماء الأخلاق : إعظام النعمة والركون إليها مع نيسان إضافتها إلى المنعم (٢) ، ولا بدّ من أن يعمّم النعمة في كلامه بحيث يعمّ مطلق ما يحسبه المعجب نعمة وفضيلة وإن لم يكن الأمر كما ظنّه في نفس الأمر حتى لا ينتقض التعريف بالقبائح التي يرتكبها الجهّال ويزعمونها رجوليّة وكمالا وهم معجبون بها.

ونظيرها العبادات الفاسدة التي يعجب بها العامل وهو يحسب أنّه يحسن صنعا.

وكذا لا ينتقض في غير الأعمال بعجبه بما يظنّه فضيلة وهو في الحقيقة رذيلة ، كما لو أعجبه انتسابه إلى بعض الظلمة والفسّاق أو رأيه

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٢٦.

(٢) انظر : المحجّة البيضاء ٦ : ٢٧٦.

٢٣٥

الخطأ الذي يحسبه علما شريفا دقيقا لم يسبقه إليه أحد ، إلى غير ذلك من مواضع الغرور.

وكيف كان ، فلا شبهة في أنّ العجب مطلقا من المهلكات ، سواء تعلّق بالعبادة أم بغيرها ، لكونه من أعظم أسباب الكبر الذي خطره أكثر من أن يحصى ، ضرورة أنّ المعجب يرى نفسه عظيمة بواسطة ما أعجبه ، بل قد يكون العجب مسبّبا عن الكبر ، كما لو ظنّ العامل نفسه صاحب تقوى ويقين ، فيرى مثقال ذرّة من عمله خيرا من مل‌ء الأرض من عبادة غيره (١) ، فلأجل ذلك يرى عبادته من حيث كونها صادرة عنه عظيمة ، فيستعظم عمل نفسه ويستحقر عبادة غيره ، عكس ما هو من أوصاف المؤمنين.

قال بعض العارفين في وصف العجب : إنّه نبات حبّه الكفر ، وأرضه النفاق ، وماؤه البغي ، وأغصانه الجهل ، وورقه الضلالة ، وثمرة اللعنة والخلود في النار.

ومن إفادته الكبر ونسيان الذنوب والغرور والفتور في السعي في رفع المنقصة.

وكفى بها في كونه من المهالك إلّا أنّه مع ذلك لا ينبغي التأمّل في

__________________

(١) إشارة إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «حبّذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ، ولمثقال ذرّة من صاحب تقوى ويقين أفضل من مل‌ء الأرض من المغترّين (منه). وانظر : المحجّة البيضاء ٢ : ١٣٦ ، وإحياء علوم الدين ١ : ٢٣٦ ، وفيهما عن أبي الدرداء.

٢٣٦

عدم كونه حراما شرعيّا بحيث يعاقب عليه من حيث هو في غير العبادات ، وأمّا فيها فخطره أعظم ، ومفسدته أشدّ ، لمنافاته للخضوع والخشوع والتذلّل لله تعالى ، التي هي غاية أمر العباد بالعبادات ، ومزاحمته للفوز إلى مقام العبودية لله تعالى ، التي هي غاية الغايات ، واستلزامه المناقشة في الحساب ، التي لا يسلم منها أحد ، كما يشهد بها الاعتبار ، وتستشمّ من بعض الأخبار.

مضافا إلى ما ورد في غير واحد من الأخبار من ذمّه ، ولذا وقع الكلام فيه فيما يتعلّق منه بالعبادات في مقامين : أحدهما : في حرمته شرعا ، والآخر : في بطلان العبادة به.

وقد ظهر لك ممّا تقدّم : أنّ العجب في العبادة عبارة عن إعظام العبادة ، وأمّا رؤية الإنسان نفسه عظيمة فهي كبر متولّد من العجب.

فما ذكره بعض السادة المعاصرين من أنّ العجب بالعبادة : أن يجد العامل نفسه عظيمة بسبب عمله مبتهجة به خارجة من حدّ التقصير لا الابتهاج بتوفيق الله تعالى وتأييده للعمل ، لا يخلو عن مسامحة.

نعم ، لا يبعد دعوى أنّ إعظام النفس بالعمل أيضا من مصاديق العجب بنحو من الاعتبار ، لا أنّ العجب منحصر فيه ، كما هو ظاهر التعريف.

ثم إنّه لو انضمّ إلى عجبه بالعمل المنّة على الله تعالى ، أو تعجّب من تأخير أجابه الله دعاءه وتوقّع منه تعالى سرعة الاستجابة ، سمّي ذلك منه إدلالا ، على ما شهد به البعض المتقدّم ذكره في ذيل عبارته

٢٣٧

المتقدّمة (١).

وكيف كان ، فنقول في تحقيق المقام : أنّه قال في الجواهر : وربما ألحق بعض مشايخنا العجب المقارن للعمل بالرياء في الإفساد ، ولم أعرفه لأحد غيره ، بل قد يظهر من الأصحاب خلافه ، لمكان حصرهم المفسدات ، وذكرهم الرياء وترك العجب مع غلبة الذهن إلى الانتقال إليه عند ذكر الرياء.

نعم ، هو من الأمور القبيحة والأشياء المحرّمة المقلّلة لثواب الأعمال (٢). انتهى.

وقال السيّد المعاصر : لا ينبغي التأمّل في حرمته ، لأخبار كثيرة :

منها : أنّ الذنب خير منه ، وأنّ المدلّ لا يصعد عمله ، وأنّ ترك العمل خير منه مع العجب ، وأنّ سيّئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك ، وأنّه من المهلكات (٣).

ومنها : قال إبليس : إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاثة لم أبال ما عمل فإنّه غير مقبول منه : إذا استكثر عمله ونسي ذنبه ودخله العجب (٤).

وفي حديث أبي عبيدة : يأتيه من ذلك ما فيه هلاكه ، لعجبه بأعماله ورضاه عن نفسه ، فيتباعد عنّي وهو يظنّ أنّه يتقرّب إليّ (٥). إلى غيرها

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢٣٦.

(٢) جواهر الكلام ٢ : ١٠٠.

(٣) انظر : الكافي ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤ ، باب العجب.

(٤) الخصال : ١١٢ ـ ٨٦.

(٥) التمحيص : ٥٧ ـ ١١٥.

٢٣٨

من الأخبار.

وأمّا بطلان العبادة به ففي مصابيح جدّي العلّامة : لا يبطل بالعجب وإن حرم.

ثمّ حكى عن الجواهر (١) نسبته إلى ظاهر الأصحاب ، إلى أن قال :لكنّ البطلان قويّ جدّا ، لظهوره من أخباره ، سواء كان مقارنا للعمل أو متقدّما باقيا إلى حال التلبّس ، بل ولو متأخّرا عنه بعد الفراغ ، لأنّ إبطاله ليس بجعله غاية كالرياء حتى لا يعقل تعلّقه بالماضي ، فيكون من الشرط المتأخّر.

ثمّ وجّه الأخبار في ذيل كلامه بما لا ينافي الصحّة.

وردّ توجيهه : بمخالفته للظاهر ، وعدم المقتضي لصرف الأخبار عن ظاهرها ، لعدم العلم بإعراض الأصحاب عنها. انتهى.

وليت شعري ما صنع بالشرط المتأخر حتى أذعن بإبطال العجب المتأخّر زاعما أنّه منه ، مع أنّ استحالة تأثير المتأخّر في وجود المتقدّم فطريّ ، والموارد التي يتراءى ثبوته فيها ـ كالإجازة في الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ـ لا بدّ من تأويله بجعل الوصف الموجود في الشي‌ء المنتزع من وجود الشي‌ء المتأخّر دخيلا فيه ، بمعنى الالتزام بأنّ العقد المتعلّق بملك من جرى في علم الله تعالى أنّه يجيز العقد هو السبب التامّ في النقل لا غير ، فلا يكون للإجازة تأثير على هذا التقدير في النقل ، بل

__________________

(١) جواهر الكلام ٢ : ١٠٢.

٢٣٩

هي كاشفة عن وجود الناقل ، ولأجل استحالة تأخّر الشرط عن المشروط وعسر الالتزام بالتوجيه المذكور التزم غير واحد من المتأخّرين بالكشف الحكمي ، وذهب آخرون إلى كونها ناقلة.

وعلى هذين التقديرين وإن كانت الإجازة مؤخّرة عن السبب ، إلّا أنّها مقدّمة على المشروط ، فلا محذور فيه ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن ارتكاب مثل هذا التأويل فيما نحن فيه ، بل ولا الالتزام بكون عدم العجب المتأخّر شرطا في سببية الصلاة السابقة لإسقاط الأمر المتعلّق بها ، كالإجازة في الفضولي على القول بأنّها ناقلة.

أمّا الثاني : فليس لمجرّد عدم معقولية بقاء الأمر بالكلّ بعد تحقّق تمام أجزائه بشرائطها المعتبرة في نفس الأجزاء ، لكونها علّة تامّة للسقوط ، واستحالة انفكاك المعلول عنها ، واشتراط حصوله بشي‌ء آخر ، بل لأجل أنّ توقّف تأثير السبب الناقص على الشرط المتأخّر إنّما يعقل فيما إذا كان الشرط وجوديّا ذا أثر ، كالإجازة في الفضولي ، لا عدميّا ، كما في المقام ، ضرورة أنّ شرطيّة العدم مرجعها إلى مانعيّة الوجود ، ولا يعقل التمانع بين الشي‌ء وما يتأخّر عنه في الوجود حتى يجعل عدمه شرطا ، فتأثير العجب المتأخّر ـ كالحدث الواقع عقيب الصلاة في إبطال ما وقع ـ غير معقول.

نعم ، يعقل أن يكون رافعا لأثره وموجبا لحبط العمل ، نظير الكشف الحكمي في مسألة الفضولي ، إلّا أنّه لا يمكن الالتزام به ، وكلام الخصم أيضا مبنيّ على عدمه.

٢٤٠