مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

وأمّا الثاني : فالالتزام به أيضا مشكل ، كما سيجي‌ء تحقيقه إن شاء الله.

تنبيه : هل الكعبان داخلان في المسافة فيجب مسحهما ، أم لا؟ وجهان ، بل قولان : عن العلّامة في التحرير والمنتهى وكذا المحقّق الثاني : القول بالدخول (١) ، مستدلّين بدخول الغاية في المغيّى وكون كلمة «إلى» بمعنى «مع» كما في قوله تعالى (إِلَى الْمَرافِقِ) (٢).

وبأنّ الكعب كما وقع نهاية للمسح في بعض الأدلّة وقع بداية في رواية يونس ، قال : أخبرني من رأى أبا الحسن عليه‌السلام بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم (٣).

والمراد من أعلى القدم ـ بحسب الظاهر ـ رؤوس الأصابع ، فيدخل الكعب حينئذ في المسافة ، فيجب أن يكون الانتهاء كذلك ، لعدم القائل بالفرق.

وفي الاستشهاد بهذه الرواية لمذهبهم نظر ، لأنّ البداية الحقيقيّة كالنهاية الحقيقيّة لا معنى لدخولها في المسافة أو خروجها منها.

وأمّا مدخول كلمة «من» إذا كان مركّبا ذا أجزاء ، فقد يكون داخلا

__________________

(١) حكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٢ : ٢١٤ ، وانظر : تحرير الأحكام ١ : ١٠ ، ومنتهى المطلب ١ : ٦٤ ، وجامع المقاصد ١ : ٢٢١.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٣) الكافي ٣ : ٣١ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ٥٧ ـ ١٦٠ ، و ٦٥ ـ ١٨٣ ، الاستبصار ١ : ٥٨ ـ ١٧٠ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٤٢١

في المسافة ، وقد يكون خارجا ، وقد يكون بعض أجزائه داخلا وبعضها خارجا ، وهذا الأخير هو الشائع في المحاورات ، المنصرف إلى الذهن من الإطلاقات دون الأوّلين ، ومن المعلوم أنّ انصرافه إلى الذهن من الرواية لا ينفع المستدلّ أصلا ، لأنّ وجوب مسح بعض الكعب ولو من باب المقدّمة مسلّم ، وصدوره عن الإمام عليه‌السلام معلوم ، سواء صرّح به الراوي أم لا ، والرواية لا تدلّ على أزيد من ذلك ، كما لا يخفى.

وأمّا استدلالهم بدخول الغاية في المغيّى : ففيه منع ظاهر ، بل الظاهر خروجها ، إلّا أن يدلّ دليل خارجي على الدخول ، كما في غسل اليدين. وثبوته في غسل اليدين لا يوجب رفع اليد عن ظاهر الآية والروايات الكثيرة الواردة في مسح الرّجلين.

ودعوى : أنّ كون الكعبين من جنس المغيّى في كونهما من أجزاء الرّجل قرينة على الدخول ، مدفوعة : بأنّ الكعب ـ الذي هو عبارة عن قبّة القدم ـ أمر ممتاز عن غيره.

وكونه من أجزاء الرّجل وعدم وجود مفصل محسوس يمتاز به أوّل جزء منه لا يقتضي دخول جميع أجزائه ، كما هو ظاهر.

ولا يخفى عليك أنّ استدلال العلّامة ـ رحمه‌الله ـ بهذه الأدلّة والتزامه بوجوب مسح الكعبين مع القدمين ينافي قوله : بأنّ الكعب نفس المفصل ، إذ لا مسافة لنفس المفصل حتى ينازع في دخولها في المحدود أو خروجها ، فهذا ممّا يؤيّد ما صدر عن بعض الأعلام من توجيه كلامه في تفسير الكعب بما يوافق المشهور.

٤٢٢

واستدلّ للقول الآخر ـ مضافا إلى ظهور الآية والأخبار الآمرة بالمسح إلى الكعبين ـ بقوله عليه‌السلام في خبر الأخوين : «فإذا مسحت بشي‌ء ممّا بين كعبيك إلى آخر أطراف أصابعك» (١) لأنّ المتبادر منه كون محلّ المسح ما وقع بين الحدّين لانفسهما.

وأجيب : بأنّه قد يقال : عندي ما بين الواحد إلى العشرة ، والمراد مجموعها المشتمل على الطرفين.

وفيه : مع وضوح الفرق بين ما نحن فيه وبين المثال ـ حيث إنّ المثال مسوق لبيان مورد الترديد ، نظير قولك : الأمر مردّد بين هذا وذاك ، فلا يقاس عليه قولك : ما وقع بين هذا وذاك حكمه كذا ـ أنّ مجرّد الاستعمال لا يمنع الظهور.

وقد يستدلّ بأخبار عدم استبطان الشراك ، كما سيجي‌ء توضيحه إن شاء الله.

ثمّ على القول بالخروج لا ريب في أنّه يجب مسح مقدار منه مقدّمة للمسح الواجب ، بل يمكن القول بوجوب مسح هذا المقدار أصالة ببعض الاعتبارات التي يمكن استفادتها من الأدلّة المتقدّمة ، والله العالم. (و) الأقوى : أنّه (يجوز) المسح (منكوسا) بأن يمسح من الكعب إلى رؤوس الأصابع.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى إطلاقات الأدلّة ـ قول الصادق عليه‌السلام في

__________________

(١) التهذيب ١ : ٩٠ ـ ٢٣٧ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

٤٢٣

صحيحة حمّاد : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا» (١).

وفي خبر آخر له أيضا : «لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا» (٢).

ومرسلة يونس ، المتقدّمة (٣) ، وفيها بعد أن أخبره من رأى أبا الحسن عليه‌السلام بمنى أنّه كان يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم ، قال : ويقول عليه‌السلام : «الأمر في مسح الرّجلين موسّع من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا ، فإنّه من الأمر الموسّع إن شاء الله».

وقيل : لا يجوز (٤) ، للاحتياط ، وللوضوءات البيانيّة ، ولظاهر الآية وغيرها من الأخبار الآمرة بالمسح إلى الكعبين ، الظاهرة في كون الكعبين نهاية للمسح.

وفيه : أنّ الأخبار السابقة حاكمة على هذه الأدلّة ، ووجهها ظاهر ، والله العالم.

وهل يجوز التبعيض؟ بأن يمسح بعض القدم مقبلا وبعضها الآخر مدبرا ، فيه إشكال ، لما عرفت ـ فيما سبق ـ من إمكان الالتزام بظاهر الآية والأخبار من كون الكعبين غاية للمسح ، وتنزيلها على كونها بيانا لبعض أفراد الواجب المخير ، وعلى هذا فلا يجوز رفع اليد عن هذا الظاهر إلا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٥٨ / ١٦١ ، الإستبصار ١ : ٥٧ / ١٦٩ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ٨٣ / ٢١٧ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) تقدمت مع الإشارة إلى مصادرها في ص ٤٢١.

(٤) انظر السرائر ١ : ٩٩.

٤٢٤

بالقدر الثابت ، وهو غير هذا الفرض.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «إنّ الأمر في مسح الرّجل موسّع» فلا يدلّ على الجواز في الفرض ، لانصرافه عنه وعدم التفات الذهن حال استماعه إلّا إلى جواز إيقاع المسح بتمامه مدبرا ، كجواز إيقاعه مقبلا.

وقوله عليه‌السلام بعده : «من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا» ـ بحسب الظاهر ـ بيان لما أراده عليه‌السلام من التوسعة ، فلا يعمّ المفروض ، والله العالم. (وليس بين الرّجلين ترتيب) على الأشهر الأقوى ، بل عن المختلف والذكرى وكاشف اللثام وغيرها أنّه المشهور (١) ، بل عن ابن إدريس في بعض الفتاوي : لا أظنّ مخالفا منّا فيه (٢).

ويدلّ عليه إطلاق الكتاب والسنّة ، بل ربّما يظهر من الوضوءات البيانيّة على كثرتها وتعرّضها للترتيب وسائر الخصوصيّات المقصودة بالإفهام : عدم كون خصوصيّة الترتيب بين الرّجلين ملحوظة عندهم أصلا ، إذ لم يكن في شي‌ء منها إشعار ببيانه ، بل ربّما يستظهر من بعضها :أنّه مسحهما دفعة.

فلو ادّعى مدّع القطع بأنّ الترتيب بين الرّجلين لو كان واجبا لكان الإمام عليه‌السلام متعرّضا لذكره في الأخبار المسوقة لبيان خصوص الترتيب

__________________

(١) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٢ : ٢٢٦ ، وانظر : المختلف ١ : ١٣٠ ، المسألة ٨١ ، والذكرى : ٨٩ ، وكشف اللثام ١ : ٧٠.

(٢) كما في جواهر الكلام ٢ : ٢٢٦.

٤٢٥

المعتبر بين أفعال الوضوء ، وكذا في غيرها من الأخبار البيانيّة وغيرها المسوقة لبيان كيفيّة الوضوء من حيث الأجزاء والشرائط ، لم تكن دعواه بعيدة.

وعن غير واحد من قدماء الأصحاب ومتأخّريهم القول بوجوب تقديم اليمنى على اليسرى (١) ، بل عن ظاهر الشيخ في الخلاف ـ نظرا إلى عموم قوله بوجوب الترتيب في الوضوء في الأعضاء كلّها ـ دعوى الإجماع عليه (٢).

ويدلّ عليه : ما رواه الكليني رحمه‌الله ـ في الحسن كالصحيح ـ عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : وذكر المسح ، فقال : «امسح على مقدّم رأسك وامسح على القدمين وابدأ بالشقّ الأيمن» (٣).

وما رواه النجاشي بإسناده عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله ابن أبي رافع وكان كاتب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه كان يقول : «إذا توضّأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده» (٤).

وما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان إذا توضّأ بدأ بميامنه (٥).

ولكنّك خبير بأنّ تقييد الأخبار الخاصّة المسوقة لبيان الترتيب ، وكذا

__________________

(١) حكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٢٦١.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ٢٢٧ ، وانظر : الخلاف ١ : ٩٥ ـ ٩٦ ، المسألة ٤٢.

(٣) الكافي ٣ : ٢٩ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٢٥ و ٣٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٢.

(٤) رجال النجاشي : ٧ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

(٥) أمالي الطوسي ١ : ٣٩٧ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٤٢٦

المطلقات الكثيرة الواردة في محلّ الحاجة في مثل هذا الحكم العامّ البلوى في غاية الإشكال ، فلا يمكن الالتزام به بمجرّد ظهور لفظ الأمر في إرادة الوجوب ، فالتصرّف في ظاهر الأمر بحمله على الاستحباب أهون من تقييد مثل هذه المطلقات على ما يشهد به فهم العرف ، لأنّ الالتزام بإهمال هذه المطلقات الكثيرة أو احتفافها بقرائن حاليّة أو مقاليّة ، أو الالتزام بكونها مسوقة لبيان الحكم الظاهري للمخاطبين دون التكليف الواقعي أو غير ذلك ممّا يصحّح تأخير ذكر القيد ليس بأهون من حمل الأمر على الاستحباب.

هذا ، مع أنّ حمل هذه الروايات على الوجوب يستلزم ارتكاب التقييد في نفسها أيضا ، لمعارضتها ـ ظاهرا ـ بظاهر التوقيع المرويّ عن الطبرسي في الاحتجاج ، الخارج من الناحية المقدّسة في جملة أجوبة مسائل الحميري حيث سأل عن المسح على الرّجلين يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعا؟ فخرج التوقيع «يمسح عليهما جميعا ، فإن بدأ بإحداهما قبل الأخرى فلا يبدأ إلّا باليمنى» (١).

ومقتضى الجمع بين التوقيع والأخبار السابقة : تقييدها به ، والالتزام بالتخيير بين المقارنة وتقديم اليمنى ، كما نسب (٢) اختياره إلى بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين.

ولكنّك عرفت أنّ حمل الأخبار المقيّدة على الاستحباب أهون في

__________________

(١) الاحتجاج : ٤٩٢ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٢) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٣٥٩.

٤٢٧

مقام التصرّف من تقييد مطلقات الباب ، بل لعلّ في التوقيع إشعارا بذلك ، فالقول بعدم وجوب الترتيب واستحباب المقارنة أو تقديم اليمنى أقوى ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم. (وإذا قطع بعض موضع المسح) من القدم (مسح على ما بقي) منه ، ولا ينتقل فرضه إلى التيمّم ، وقد ظهر لك وجهه في مسألة قطع اليد ، لاتّحاد مدرك المسألتين.

وبما حقّقناه في تلك المسألة يظهر لك ما يقتضيه المقام من التفصيل ، وقد عرفت فيها أنّه لو قطع اليد من فوق المرفق ، سقط وجوب غسلها ، لا وجوب الوضوء (ف) كذا (لو قطع) قدمه (من) فوق (الكعب ، سقط المسح على القدم).

ولو قطع من ابتداء الكعب ، فإن قلنا بوجوب مسح مجموع الكعب.

أو بعضه أصالة ، يجب عليه مسح ما بقي منه ، وإلّا فلا ، ووجهه ظاهر. (ويجب المسح على بشرة القدمين) بإجماعنا ، كما عن المدارك (١) وغيره (٢) نقله ، ويدلّ عليه أخبارنا المتواترة معنى. (ولا يجوز) المسح (على حائل) يستر موضع الفرض من ظهر القدم (من خفّ أو غيره) مع الاختيار ، سواء ستر جميع موضع الفرض أو بعضه ، بلا خلاف فيه ظاهرا ، إلّا فيما يستره شراك النعل وما يشبهه ، فإنّ كلماتهم فيه مختلفة حيث إنّه يظهر من بعض الأصحاب أنّه يستثنى

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ٢٣٢ ، وانظر : مدارك الأحكام ١ : ٢٢٣.

(٢) جواهر الكلام ٢ : ٢٣٢.

٤٢٨

من الحائل المسح على شراك النعل العربي.

قال في محكي التذكرة : يجوز المسح على النعل العربي وإن لم يدخل يده تحت الشراك ، وهل يجزئ لو تخلّف ما تحته أو بعضه؟ إشكال ، أقربه : ذلك. وهل ينسحب إلى ما يشبهه كالسير في الخشب؟ إشكال ، وكذا لو ربط رجليه بسير للحاجة ، وفي العبث إشكال (١). انتهى.

ويظهر من المحكي عن الذكرى (٢) أيضا أنّ حكم جواز المسح على النعل العربي مخالف للأصل ، ثابت بالنصّ الخاصّ.

وربّما استظهر ذلك من كلّ من خصّ الجواز بالمسح على النعل العربي دون غيره.

ولكن في الاستظهار نظر ، إذ الظاهر أنّ تخصيصهم الجواز بالنعل العربي لأجل أنّه لا يمنع من مسح ما يجب مسحه.

ولذا حمل الشيخ في التهذيب المسح على النعلين ، الوارد في الأخبار على النعلين العربيّين.

قال : لأنّهما لا يمنعان وصول الماء إلى الرّجلين بقدر ما يجب من المسح (٣).

نعم ، هذا الاستثناء لازم كلّ من قال بأنّ الكعب هو مفصل الساق أو

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٢٧ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ١٧٣ ، فرع «ز».

(٢) الذكرى : ٩٠ وانظر : كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٢٧.

(٣) التهذيب ١ : ٦٥ ذيل الحديث ١٨٢.

٤٢٩

العظم المستدير الواقع فيه ، لما ورد في الأخبار المستفيضة من أنّ عليّا وكذا الباقر ـ صلوات الله عليهما ـ مسحا على الكعبين ولم يستبطنا الشراكين (١).

وفي صحيحة الأخوين عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنّه قال في المسح :«تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك» (٢) إذ من المعلوم أنّ معقد الشراك دون مفصل الساق ، فإذا لم يجب تبطينه بتخلّف ما تحته ، فلا بدّ من الالتزام بقيامه مقام البشرة ، أو القول بعدم وجوب الاستيعاب من حيث الطول ، وقد عرفت أنّ الثاني لضعفه بل ومخالفته للإجماع ممّا لا يقولون به ، فتعيّن الأوّل.

بل الظاهر أنّ القول بدخول الكعب في الممسوح مطلقا يستلزم ذلك ، لأنّ الكعب على ما فسّروه : معقد الشراك ، فلا بدّ من ستره لجزء منه في المتعارف الذي ينزّل عليه إطلاق الصحيحة.

فما عن العلّامة ـ رحمه‌الله ـ في المنتهى من الاستدلال على عدم وجوب استبطان الشراك : بأنّه لا يمنع مسح محلّ الفرض ، مناف لما حكي عنه فيه من إيجابه إدخال الكعب في المسح (٣) ، كما عرفت.

__________________

(١) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة. وفي المصادر : عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنّ عليّا عليه‌السلام مسح على النعلين ولم يستبطن الشراكين». انظر : الفقيه ١ : ٢٧ ـ ٨٦ ، والتهذيب ١ : ٦٤ ـ ٦٥ ـ ١٨٢ ، والوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

(٢) التهذيب ١ : ٩٠ ـ ٢٣٧ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

(٣) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٢٧ ـ ١٢٨ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٦٥.

٤٣٠

والذي يقتضيه التأمّل : أنّه لا يجوز المسح على الحائل مطلقا من دون استثناء شي‌ء.

وأمّا الأخبار المستفيضة : فهي من أقوى الشواهد على أنّ الكعب هو قبّة القدم ، وأنّه غير داخل في الممسوح ، لا لمجرّد أنّ التخصيص أولى من سائر التصرّفات المقتضية لرفع اليد عن ظواهر الأدلّة الدالّة على وجوب مسح البشرة ، بل لاستفادة المطلوب من نفس هذه الأخبار ، فإنّ صحيحة الأخوين تنادي بأعلى صوتها على أنّ النهي عن إدخال اليد تحت الشراك إنّما هو لأجل عدم الحاجة إليه ، وحصول مسح مقدار الواجب بدونه ، لا لكونه حكما تعبّديّا شرعيّا ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «فإذا مسحت بشي‌ء» إلى آخره ، في قوّة التعليل لكفاية المسح على مقدّم الرأس وظاهر الرّجل من دون استبطان الشراك.

وكذا ما روياه من فعل أبي جعفر عليه‌السلام في حكاية وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماء جديدا ، وأنّه عليه‌السلام لم يدخل أصابعه تحت الشراك ، فإنّه من الواضح ـ الذي لا يعتريه شبهة لمن تأمّل في الرواية ـ أنّ مسحه على النعل لم يكن لأجل الحكاية ، وبيان جوازه على خلاف الأصل ، لأنّه عليه‌السلام بعد أنّ فرغ من وضوئه استشهد بالآية وفسّرها للراوي ، إلى أن قال : «ثم قال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه» وهذا يدلّ على كون عمله مطابقا لمضمون الآية ، كما لا يخفى.

٤٣١

تنبيه : قال في الحدائق : إنّ ظاهر كلمة الأصحاب الاتّفاق على أنّ من الحائل ـ الذي لا يجوز المسح عليه اختيارا ـ الشعر على الرّجل حيث صرّحوا في الرأس بالمسح على البشرة أو الشعر المختصّ ، وفي الرّجل بالبشرة.

قال بعض [المحقّقين] من متأخّري المتأخّرين بعد نقل ذلك عنهم : وهذا الحكم ممّا لم أقف فيه على تصريح في كلام القوم ، غير أنّهم أقحموا لفظ البشرة في هذا الموضع.

ويمكن أن يكون مرادهم الاحتراز عن الخفّ ونحوه لا الشعر ، كما هو الظاهر بحسب النظر ، لأنّ المسح على الرّجلين إنّما يصدق عرفا على المسح على شعرهما (١). انتهى.

ثمّ نقل عن الشهيد في المسالك في شرح عبارة المصنّف (٢) ـ رحمه‌الله ـ استظهاره منها عدم جواز المسح على الشعر ، واختياره ذلك معلّلا بأنّه هو الذي يقتضيه النصّ الدالّ على وجوب مسح الرّجلين ، إذ الشعر لا يسمّى رجلا ولا جزءا منها ، وإنّما الأصحاب لم يصرّحوا بمنع المسح على الشعر في الرّجلين ، لندور الشعر الحائل فيهما ، القاطع لخط المسح ، فاكتفوا باستفادته من لفظ البشرة ، فإنّها كالصريح إن لم تكنه (٣). انتهى.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ : ٣١٢ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي الحدائق الناضرة ٢ : ٣١٣ هكذا : «أقول : بل الظاهر أنّ الوجه في ذلك عندهم ما نبّه عليه شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة حيث قال بعد نقل عبارة المصنف ..».

(٣) الحدائق الناضرة ٢ : ٣١٣ ، وانظر : المقاصد العليّة ٥٨ ، ومسالك الأفهام ١ : ٣٩.

٤٣٢

والذي يقتضيه الإنصاف أنّ منع حصول امتثال الأمر بمسح الرّجلين مع وجود الشعر بل إحاطته عليهما فضلا عن الشعر الخفيف ، مكابرة للوجدان ، وتكذيب لما أطبقت عليه كلمة العرف.

أترى أنّه لو أمر المولى عبده بإمرار يده على ساقه أو ساعده أو غيرهما من أعضائه هل يخطر بباله إزالة الشعر أوّلا مقدّمة للامتثال؟ حاشاهم عن ذلك ، بل الشعر المخصوص بكلّ عضو يعدّ عرفا من توابع ذلك العضو.

بل قد عرفت في مسح الرأس أنّ من أقوى الأدلّة على كفاية مسح الشعر المختصّ بالمقدّم كونه عرفا من توابعه ، وانسباق الذهن إلى مسحه من الأمر بمسح مقدّم الرأس ، إلّا أنّك خبير بأنّ البحث عن كفاية مسح الشعر عن البشرة قليل الجدوى ، لأنّ الشعر المخصوص بالرّجل ـ على ما هو الغالب المتعارف ـ ليس بحيث يوجب قطع خط المسح عن نفس البشرة ، بل يحصل مسح مقدار المسمّى بإمرار اليد ولو مع وجود الشعر.

ولعلّ هذا هو الوجه لإهمال العلماء ـ رضوان الله عليهم ـ ذكره في خصوص المقام ، وعدم تصريحهم بقيامه مقام البشرة.

وأمّا ما استظهروه من كلماتهم : ففيه منع ظاهر ، بل الظاهر أنّ إقحام لفظ البشرة في عبائر بعضهم ليس إلّا للتحرّز عن المسح على ما يعدّ حائلا بنظر العرف ، كالخفّ ونحوه ، لا الشعر ، كما يدلّ عليه تفريعاتهم ، كيف؟! ولو كان مقصودهم من الحائل ما يعمّ الشعر ، لكان عليهم التنصيص في مقام التمثيل ، دفعا للاشتباه ، فكان التصريح به أولى من ذكر

٤٣٣

الخفّ وامتثاله ، مع أنّه لم يصرّح بذكره أحد منهم.

ومن تعرّض لذكره ـ كالشهيد وبعض من تأخّر عنه ـ بين متردّد في الحكم أو مفت بنفي البأس عنه ، أو قائل بمانعيّته ، فكيف يمكن استظهار مثل هذا الفرع الخفيّ من إطلاق ذكر الحائل أو إقحام لفظ البشرة في عبائر بعضهم!؟ مع أنّ الذهن لا يلتفت إليه إلّا بعد التنبيه ، وبعده أيضا يتردّد في إرادته من الإطلاق لو لم يجزم بعدمه.

وما ذكره الشهيد ـ رحمه‌الله ـ وجها لعدم تصريحهم من ندرة مانعيّته من مسح مقدار الواجب ، ففيه : أنّها إنّما تمنع التفات الذهن إليه وإرادته من إطلاق الحائل ، لا إهمال ذكره في مقام التمثيل بعد التفات الذهن إليه وإرادته من الإطلاق ، كما لا يخفى.

وقد يستدلّ للجواز بعموم «كلّ ما أحاط به الشعر» (١) إلى آخره ، وبخلوّ الأخبار عن التعرّض لمانعيّة شعر الرّجل من المسح مع غلبة وجوده في الرّجل ، وعموم الابتلاء بالحكم ، فهو دليل العدم.

ويتوجّه على الأوّل : منع العموم ، كما عرفت في مسح الرأس.

وعلى الثاني : منع مانعيّته من حصول مسح مقدار الواجب غالبا ، فلا يتمّ الاستدلال.

فالعمدة في المقام ما ادّعيناه من أنّ الشعر المخصوص بموضع المسح ليس من الحائل عرفا ، وإلّا فلا يصحّ المسح على الحائل مطلقا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٤ ـ ١١٠٦ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٤٣٤

(إلّا للتقيّة أو الضرورة) وأمّا عند التقيّة والضرورة فلا يجب مسح بشرة القدم جزما ، لعمومات أدلّة التقيّة ، ونفي الضرر والحرج الشامل للمقام بلا تأمّل ، بل لا يجزئ مع الالتفات ، للنهي المفسد للعبادة.

نعم ، لو مسح رجليه ولم يلتفت إلى التقيّة أو الضرورة الموجبة لتركه ، فالأقوى صحّة وضوئه ، لما تقرّر في محلّه من أنّ مثل هذه العناوين الطارئة المانعة من تأثير المقتضيات في تنجيز الخطابات الواقعيّة ـ كالتقيّة والضرر والحرج ـ لا تؤثّر في بطلان العبادة ما لم تؤثّر نهيا فعليّا متعلّقا بها.

وكيف كان ، فالواجب عليه في حال التقيّة تكليفا ووضعا إنّما هو مسح الخفّين لو لم تؤدّ التقيّة إلّا به ، بلا خلاف فيه ظاهرا ، كما عن غير واحد نقله ، بل ادّعي الإجماع عليه.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماع وعمومات أخبار التقيّة التي كادت تكون من ضروريّات مذهب الشيعة ، المعتضدة بالقواعد العقليّة والنقليّة ، التي لا يمكن رفع اليد عنها إلّا بمخصّص قويّ غير قابل للتأويل ـ خصوص خبر أبي الورد ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه رأي عليّا عليه‌السلام أراق الماء ثم مسح على الخفّين ، فقال : «كذب أبو ظبيان ، أما بلغك قول علي عليه‌السلام فيكم : سبق الكتاب الخفّين؟» فقلت : هل فيهما رخصة؟ فقال : «لا إلّا من عدوّ تتّقيه أو ثلج تخاف على رجليك» (١).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٢ ـ ١٠٩٢ ، الإستبصار ١ : ٧٦ ـ ٢٣٦ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

٤٣٥

وظاهر هذه الرواية ـ كغيرها من الأخبار الآمرة بالتقيّة في الوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات ، كخبر علي بن يقطين (١) وغيره (٢) ـ كون الفعل المأتيّ به تقيّة مجزئا عن الواقع ، لا مجرّد الرخصة في الفعل من حيث الحكم التكليفي.

وظاهر قوله عليه‌السلام : «أو ثلج تخاف على رجليك» جوازه مطلقا لكلّ ضرورة ، لشهادة السياق بسوقه من باب المثال.

ولا يعارض هذه الرواية ما ـ في الصحيح ـ عن زرارة ، قال : قلت :هل في المسح على الخفّين تقيّة؟ قال عليه‌السلام : «ثلاث لا أتّقي فيهنّ أحدا :شرب المسكر ومسح الخفّين ومتعة الحجّ» قال زرارة : ولم يقل : الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحدا (٣) ، لاختصاص الحكم بالإمام عليه‌السلام ، كما يدلّ عليه فهم زرارة.

وأمّا وجه اختصاصه به عليه‌السلام : فلعلّه لانتفاء موضوع التقيّة بالنسبة إليه إمّا لمعروفيّة مذهبه عند العامّة ، أو لكونه عليه‌السلام عندهم كأحد قضاتهم الذين يعملون بآرائهم ، فلم يكن عليه في مثل هذه المسائل الاجتهادية إلّا

__________________

(١) الإرشاد ـ للمفيد ـ ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣١٢ ـ ٥٦٤ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٣٢ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٣٦٢ ، الحديث رقم ١٠٩٣ وذيله ، الاستبصار ١. ٧٦ ـ ٧٧ ، الحديث رقم ٢٣٧ وذيله ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٤٣٦

بيان مدارك حكمه لا تقليد فقهاء العامّة.

وأمّا شيعته ـ عليه وعليهم‌السلام ـ كان عليهم التستّر خوفا من ظهور إضافتهم إلى أهل البيت عليه‌السلام.

ولا يخفى عليك أنّ فهم زرارة اختصاص الحكم بالإمام عليه‌السلام مع إطلاق سؤاله ممّا يؤيّد ما أشرنا إليه من عدم إمكان التصرّف في عمومات الباب إلّا بمخصّص قويّ صريح الدلالة في التخصيص.

وكذا لا يعارضها ما في صحيحة زرارة ، قال : «لا تتّق في ثلاث» قلت : وما هنّ؟ قال : «شرب المسكر ، والمسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ» (١) وكذا ما في صحيحة هشام عن أبي عمر ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام :«يا أبا عمر تسعة أعشار الدين في التقيّة ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شي‌ء إلّا في ثلاث : شرب المسكر والمسح على الخفّين ومتعة الحجّ» (٢) ، إذ ليس المراد من الصحيحتين نفي التقيّة في هذه الأشياء على الإطلاق قطعا ، لمخالفة إطلاقهما الإجماع والضرورة ، ضرورة أنّه لو دار الأمر بين مسح الخفّين أو ضرب الأعناق ، لا يجوز الإقدام عليه ، ولا يرضى الشارع بفعله ، كما يدلّ عليه فحوى ترخيص الشارع بارتكاب المحاذير التي ربّما تكون حرمتها أعظم في نظر الشارع من ترك الصلاة في مظانّ الهلكة ، فضلا عن ترك مباشرة الماسح للممسوح ، الذي يسوّغه الحرج ،

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٥ ـ ١٢ ، وفيه : «لا يتّقى ..».

(٢) الكافي ٢ : ٢١٧ ـ ٢ ، المحاسن : ٢٥٩ ـ ٣٠٩ ، الوسائل ، الباب ٢٤ و ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث رقم ٣ في كلا البابين. وفيها جميعا هكذا : «.. والتقيّة في كلّ شي‌ء إلّا في النبيذ والمسح على الخفّين».

٤٣٧

كما يدلّ عليه رواية عبد الأعلى ، المتقدّمة (١).

فالمراد منهما ـ والله العالم ـ إمّا نفي آثارها الوضعيّة لا وجوبها من حيث الحكم التكليفي ، بمعنى أنّ المسح على الخفّين ، المأتيّ به تقيّة ليس ممضى شرعا بأن يكون جزءا من الوضوء ، فيجب عليه إعادته بعد ارتفاع الضرورة ، ولا تصحّ الصلاة معه ، أو أنّ المراد أنّ هذه الأشياء ليست على حدّ سائر أحكامهم ممّا يجوّز إظهار التديّن بها تقيّة ملاحظة للمصلحة النوعيّة من دون إناطتها بالضرر الشخصي ، أو عدم اشتراطها بعدم المندوحة ، كما لعلّه هو الأقوى بالنظر إلى ظواهر أخبار التقيّة ، أو أنّ المراد عدم جواز التقيّة في المسح على الخفّين ، لانتفاء موضوعها ، وهي الضرورة الداعية إليها ، لاستقرار مذهبهم ـ على ما نسب إليهم ـ على التخيير بين مسح الخفّين وغسل الرّجلين ، فعدم مشروعيّة مسح الخفّين على تقدير تأدية التقيّة بغسل الرّجلين ـ كما هو مقتضى مذهبهم ـ إمّا لكون المتوضّئ متمكّنا من تلبيس الأمر عليهم بإيجاد مسح الرّجلين عند اختيار الغسل ، أو لكون غسل الرّجلين مقدّما على مسح الخفّين في الرتبة عند التقيّة ، كما هو المشهور.

وكيف كان ، فهذه الأخبار ـ لعدم إمكان الأخذ بها ، وإعراض الأصحاب عن ظاهرها ، بمعنى ترك العمل بإطلاقها ـ لا تعارض الرواية المتقدّمة.

هذا ، مع أنّ المعارضة بينهما من قبيل تعارض النصّ والظاهر ، لأنّ

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

٤٣٨

رواية أبي الورد (١) نصّ في جوازه في الجملة ، وهذه الأخبار لا تنافيها إلّا من حيث الإطلاق بعد حمل النهي فيها على حقيقته ، ومن المعلوم أنّ أصالة الحقيقة لا تزاحم الدليل ، فضلا عن أصالة الإطلاق المتفرّعة عليها ، فيجب الجمع بينهما بارتكاب التأويل في الظاهر بالنصّ ، وحيث لا تدلّ رواية أبي الورد إلّا على الإيجاب الجزئي يجب الاقتصار في رفع اليد عن الإطلاقات على القدر المتيقّن الذي انعقد الإجماع عليه ، وهو ما إذا لم تتأدّ التقيّة إلّا بالمسح.

ولعلّ هذا هو الوجه لما ذهب إليه المشهور ـ على ما نسب (٢) إليهم ـ من تقديم غسل الرّجلين على مسح الخفين عند الدوران في مقام التقيّة ، لا ما ذكره بعضهم من أنّ الغسل أقرب إلى مطلوب الشارع ، لإمكان الخدشة فيه : بعدم التسليم.

نعم ، يمكن الاستدلال له : بإطلاق أمر الإمام عليه‌السلام في خبر علي بن يقطين بغسل رجليه تقيّة (٣).

بل وكذا يمكن الاستدلال له : بإطلاق الأمر بغسل الرّجلين في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (٤) عليه‌السلام ، المحمولة على التقيّة ، إذ الظاهر أنّه عليه‌السلام أوجب عليهم غسل الرّجلين لأجل التقيّة ، لا أنّ الأمر صدر منه تقيّة من

__________________

(١) المتقدّمة في ص ٤٣٥.

(٢) الناسب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٣٠.

(٣) الإرشاد ـ للمفيد ـ ٢ : ٢٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٣٥ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٩٩ ـ ٢٥٨ ، الإستبصار ١ : ٧٤ ـ ٢٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

٤٣٩

المخالفين ، لا لمجرّد مخالفته للأصل المعتمد عليه عند العقلاء من حمل اللفظ على إرادة معناه الحقيقي واقعا ما لم ينكشف خلافه ، بل له ولما أشرنا إليه فيما تقدّم من معروفيّة مذهب الإمام عليه‌السلام عند أولي الشوكة الذين كانوا على الإمام عليه‌السلام التقيّة منهم ، كما يظهر ذلك بالتتبّع في أحوالهم حيث إنّهم كانوا يختبرون من يتّهم بالتشيّع بوضوئه ، فالقول بتقديم الغسل على المسح عند الدوران أقوى.

هذا ، مع أنّ الاحتياط في مثل المقام ممّا لا ينبغي تركه ، بل لا يبعد القول بوجوبه إمّا للقول بكونه هو المرجع عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، أو للالتزام بكون الشكّ فيه في المكلّف به ، أعني مصداق الطهور الذي هو شرط للصلاة لا في التكليف وإن كان في كليهما تأمّل.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّه لو ترك غسل الرّجلين حال التقيّة مع الإمكان وكذا مسح الخفّين لو لم تتأدّ التقيّة إلّا به ، لم يصح وضوؤه ، لأنّ ظاهر الأوامر بدليّة الفعل المأتيّ به تقيّة عن المسح الواقعي ، فيفسد الوضوء بتركه ، سواء مسح بشرة القدم حينئذ أم لا ، لأنّ مسح البشرة لأجل تعلّق النهي الفعلي بفعله لا يكون جزءا من العبادة ، فيكون كتارك الجزء الذاتي ، كما هو ظاهر.

ويظهر من عبارة المصنّف رحمه‌الله ـ حيث جعل التّقيّة قسيما للضرورة ـ أنّه لا يعتبر في جواز التقيّة عدم المندوحة ، فيجوز الوضوء تقيّة في محضر المخالفين مع التمكّن من إيجاده تامّ الأجزاء والشرائط بالتأخير أو التستّر عنهم ، فلا تكون التقيّة عن المخالف على حدّ سائر الضرورات

٤٤٠