مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

وما ورد من جواز مسح المؤخّر مأوّل أو محمول على التقيّة.

ولقد أطنب صاحب الحدائق ـ قدس‌سره ـ في إثبات أنّ المراد من مقدّم الرأس في النصوص وفتاوي العلماء هو ما ذكرناه موردا فيها كلمات غير واحد من العلماء واللغويّين مستشهدا بتصريحات بعضهم ، ومستظهرا من تلويحات آخرين ، دفعا لما توهّمه بعض الفضلاء من حمله على خصوص الناصية ، أي الموضع المحدود من طرفيه بالنزعتين ومن طرفه الأعلى بالخط المحاذي لآخرهما (١).

ولكنّك خبير بأنّه لا حاجة في ردّه إلى التطويل بعد كون مقدّم الرأس أعمّ من الناصية عرفا على تقدير كون الناصية قصاص الشعر أو خصوص الشعر الواقع بين النزعتين ، المنتهى بانتهائهما ، إذ لا إجمال في مفهومه العرفي حتى يحتاج إلى الاستشهاد بكلام أهل اللغة ، ضرورة أنّه لم يرد منه غير ما يتفاهم منه عرفا.

ومنشؤ توهّم المتوهّم : عدّ صاحب القاموس من معاني المقدّمة :الجبهة والناصية (٢) ، ووقوع التعبير عن مقدّم الرأس بالناصية في كلمات بعض علمائنا المتقدّمين ، والتصريح بها في رواية زرارة ، قال عليه‌السلام : «إنّ الله وتر ويحبّ الوتر ، فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه ، واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك» (٣).

__________________

(١) انظر : الحدائق الناضرة ٢ : ٢٥٤ ـ ٢٦٢.

(٢) القاموس المحيط ٤ : ١٦٢ «قدم».

(٣) الكافي ٣ : ٢٥ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٣٦٠ ـ ١٠٨٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ و ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢ و ٢.

٣٦١

وكذا قال في ذيل الرواية المتقدّمة (١) من أنّ المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها ، فإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها» ويدفعه أوّلا : أنّه لا يجوز في مثل هذه الألفاظ المعروفة رفع اليد عن المحكمات العرفيّة بمتشابهات أهل اللغة.

مع أنّ كون الناصية من المعاني لا يجوز المطلقات عليها بعد ظهورها في المعنى الآخر الذي اتّفقت كلمة اللغويّين وأفهام العرف على كونه حقيقة فيه ، وهو كونه ضدّ المؤخّر.

وثانيا : أنّ عبارة القاموس لا تدلّ على كون الناصية من معاني مقدّم الرأس ، لأنّه قال : مقدّمة الجيش متقدّموه ، ومن الإبل أوّل ما ينتج ويلقح ، ومن كلّ شي‌ء أوّله والناصية والجبهة (٢).

وهذه العبارة بظاهرها مسوقة لبيان إطلاقات المقدّمة ، لا المقدّم المضاف إلى الرأس.

ويحتمل قويّا إرادة كون مجموع الجبهة والناصية ممّا يطلق عليه المقدّمة ، لكونهما من الإنسان بمنزلة مقدّمة الجيش للعسكر.

وثالثا : أنّه لم يظهر من القاموس أنّه أراد من الناصية ما أراده المتوهّم ، أعني ما بين النزعتين ، لأنّ الناصية ـ كما في المجمع (٣) ـ : قصاص الشعر فوق الجبهة. وعن القاموس والمصباح : الناصية قصاص

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٥٧.

(٢) القاموس المحيط ٤ : ١٦٢ «قدم».

(٣) مجمع البحرين ١ : ٤١٧ «نصا».

٣٦٢

الشعر (١). فحمل الناصية في كلامه على ما فسّرها به أولى.

نعم ، إطلاقها على خصوص ما بين النزعتين شائع ، بل عن العلّامة في التذكرة وغيره في غيرها : تحديدها به (٢) ، كما أنّ إطلاقها على مقدّم الرأس أيضا كذلك.

وفي المجمع : ما روي من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح ناصيته ، يعني مقدّم رأسه (٣). بل عن البيضاوي : تحديدها بربع الرأس (٤). وعن ظاهر مجمع البرهان وشرح المفاتيح أنّها حقيقة في مقدّم الرأس (٥).

وبما ذكرنا من إجمال معنى الناصية وشيوع إطلاقها على مقدّم الرأس ظهر لك الجواب عن الاستدلال بالروايتين لتقييد المطلقات ، مضافا إلى أنّ ارتكاب التجوّز أو مخالفة الظاهر في المقيّد بحمله على الاستحباب أو كونه بعض أفراد المطلق أولى من ارتكاب التقييد في مثل هذه المطلقات الواردة في مقام البيان لمثل هذا الحكم الذي يبتلي به المكلّف في كلّ يوم وليلته مرّات.

هذا ، كلّه بعد الإغماض عن قصور دلالة الروايتين على التقييد ، وإلّا فمن تأمّل في مفاد الروايتين بملاحظة صدرهما يظهر له أنّه لا دلالة فيهما

__________________

(١) حكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٦٠ ، وانظر : القاموس المحيط ٤ :٣٩٥ ، والمصباح المنير : ٣١٦ «نصا».

(٢) الحاكي عنه وعن غيره البحراني في الحدائق الناضرة ٢ : ٢٥٤ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ١٦٢.

(٣) مجمع البحرين ١ : ٤١٧ ـ ٤١٨ «نصا».

(٤) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٨ ، وانظر : تفسير البيضاوي ١ : ٢٦٤.

(٥) لم نعثر على الحاكي عنهما ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٠٣.

٣٦٣

على التقييد أصلا ، لأنّ صحيحة زرارة مسوقة لبيان ما يجزئه من الماء في الوضوء ، وأنّه يكفي في مسح الناصية ـ الذي هو من أجزاء الوضوء ـ أو يجب أن يكون المسح بما بقي في يده من بلل الوضوء.

وعلى كلّ من الاحتمالين ليست الرواية مسوقة لبيان وجوب المسح على الناصية حتى يتمسّك بإطلاقها لإثبات وجوبه التعييني ، فيقيّد بها المطلقات.

فمن الجائز أن يكون مسح الناصية بعض أفراد الواجب ، غاية الأمر أنّ تخصيصها بالذكر وإضافة المسح إليها يحتاج إلى نكتة ، وهي : غلبة وقوع المسح عليها ، أو غلبة التعبير عن المقدّم بها ، أو لكونها الجزء الأعظم الملحوظ عرفا في مقام التعبير ، كالذراعين بالنسبة إلى اليدين ، إلى غير ذلك.

وأمّا الرواية الثانية : فهي ـ مع أنّها مسوقة لبيان حكم آخر كالرواية السابقة ـ على خلاف مطلوبهم أدلّ ، لأنّ إطلاق المسح على الرأس في الصبح ، وتقييده فيما عداه بكونه على الناصية من أوضح الشواهد على أنّ تخصيص الناصية بالذكر إنّما هو لكون المسح عليها مع بقاء القناع أسهل.

وكيف كان ، فلا يجوز رفع اليد عن الإطلاقات بمثل هذه الإشعارات ، خصوصا مع كون التقييد خلاف المشهور أو المجمع عليه ، والله العالم. (ويجب أن يكون) المسح (بنداوة الوضوء) خلافا لأهل الخلاف

٣٦٤

على ما نسب (١) إليهم ، فأوجبوا ـ عدا مالكهم (٢) ـ المسح بماء جديد ، وهو مخالف لإجماع الشيعة وأخبارهم المتواترة عن أهل البيت عليه‌السلام.

وما في بعض الروايات ممّا يدلّ بظاهره على وجوب استئناف ماء جديد ـ كما في خبر معمّر بن خلّاد : أيجزئ الرجل أن يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه «لا» فقلت : أبماء جديد؟ فقال برأسه «نعم» (٣).

وخبر أبي بصير : قلت : أمسح بما في يدي رأسي؟ قال : «لا ، بل تضع يدك في الماء ثم تمسح» (٤).

ورواية أبي عمارة الحارثي ، قال : سألت جعفر بن محمد عليه‌السلام :أمسح رأسي ببلل يدي؟ قال : «خذ لرأسك ماء جديدا» (٥) ـ مأوّل أو محمول على التقيّة.

وعن ظاهر الإسكافي جوازه (٦). وعبارته المحكيّة عنه قابلة للتوجيه قريبا. (ولا يجوز الاستئناف ماء جديد) لأنّ هذا هو الذي استقرّ عليه

__________________

(١) الناسب هو الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٨٠ ، المسألة ٢٨ ، وصاحب الجواهر فيها ٢ : ١٨١ ، وانظر : المغني ١ : ١٤٧ ، والشرح الكبير ١ : ١٦٩ ، وبداية المجتهد ١ : ١٣.

(٢) انظر : بداية المجتهد ١ : ١٣.

(٣) التهذيب ١ : ٥٨ ـ ٥٩ ـ ١٦٣ ، الإستبصار ١ : ٥٨ ـ ٥٩ ـ ١٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٤) التهذيب ١ : ٥٩ ـ ١٦٤ ، الإستبصار ١ : ٥٩ ـ ١٧٤ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

(٥) التهذيب ١ : ٥٩ ـ ١٦٦ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

(٦) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٢٨ ، المسألة ٨٠.

٣٦٥

المذهب في زماننا ، كما في طهارة شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله ، بل وفي غيرها أيضا كما عن المعتبر دعواه (٢) ، وعن الذكري أنّه استقرّ إجماعنا عليه بعد ابن الجنيد (٣) ، وعن جامع المقاصد أنّه استقرّ عليه مذهب الأصحاب (٤) ، إلى غير ذلك من العبائر الظاهرة ـ لو لم تكن صريحة ـ في كون الحكم إجماعيّا بين الشيعة لو لا مخالفة ابن الجنيد في ظاهر عبارته ، ولا يعتدّ بخلافه بعد إطباق الطائفة على خلافه.

ويدلّ على المطلوب : الأخبار المستفيضة ، بل المتواترة لو انضمّ إليها الأخبار البيانيّة الحاكية لوضوء النبي والوصي عليه‌السلام ، المصرّحة بأنّه عليه‌السلام مسح رأسه ورجليه ببقيّة البلل.

والخدشة في دلالة الأخبار البيانيّة على الوجوب بما مرّ في غسل الوجه قد عرفت دفعها بالنسبة إلى الخصوصيّات الملحوظة المقصودة بالإفهام ، كما فيما نحن فيه على ما يظهر ذلك من معروفيّة الخلاف عن أهل الخلاف ، وتصريح الرواة في غير واحد من الأخبار بأنّه عليه‌السلام لم يستأنف الماء الجديد.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ فعله عليه‌السلام لأجل كونه في مقام توهّم الوجوب لا يدلّ على أزيد من الجواز.

وفيه : ما عرفت فيما سبق من أنّ ظاهر الحكاية بيان ما يعتبر في

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٩٩.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٨١ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٤٦.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٨١ ، وانظر : الذكرى : ٨٦.

(٤) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٨١ ، وانظر : جامع المقاصد ١ : ٢٢٢.

٣٦٦

ماهيّة الوضوء ، فظاهرها كون جميع الخصوصيّات المقصودة بالإفهام معتبرة في الماهيّة ، خصوصا مع تصريحه عليه‌السلام في بعض هذه الروايات بأنّ «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به» (١) فلا يرفع اليد عن هذا الظاهر إلّا بدليل ، وهو منتف في المقام.

وممّا يدلّ عليه أيضا : ما كتبه عليه‌السلام إلى علي بن يقطين في الرواية التي تقدّم فيما سبق (٢) حكايتها عن إرشاد المفيد : «يا علي توضّأ كما أمر الله تعالى ، اغسل وجهك مرّة واحدة فريضة وأخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين وامسح بمقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك فقد زال ما كنّا نخاف عليك».

ومنها : الصحيح المروي عن الكافي والعلل ، المتضمّن لقصّة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالوضوء ليلة المعراج ، وفيه : «ثم امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء ورجليك إلى الكعبين» (٣).

ومنها : ما في خبر زرارة ، المتقدّم (٤) «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك» إلى آخره.

ومنها : ما ورد في ناسي المسح من أنّه يأخذ من بلّة لحيته ، وفي بعضها أنّه إن لم يبق عليه بلل الوضوء أعاده.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٧٦ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١١.

(٢) سبق في ص ٣٢٦.

(٣) الكافي ٣ : ٤٨٥ ضمن الحديث ١ ، علل الشرائع : ٣١٥ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٤) تقدّم في ص ٣٦١.

٣٦٧

كمرسلة الصدوق عن الصادق عليه‌السلام «إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك ، فإن لم يبق في يدك من نداوة وضوئك شي‌ء فخذ من لحيتك وامسح به رأسك ورجليك ، فإن لم يكن [لك] لحية فخذ من حاجبيك ، فإن لم يكن بقي من بلّة وضوئك شي‌ء ، فأعد الوضوء» (١).

وفي رواية مالك بن أعين : «فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه ، وإن لم يكن في لحيته بلل ، فلينصرف وليعد الوضوء» (٢).

والخدشة في دلالة هذه الروايات الواردة في حكم الناسي باحتمال كون الأمر بالإعادة لفوات الموالاة بالجفاف ، وكذا المناقشة في خبر زرارة : بعدم دلالته إلّا على كون المسح ببقيّة البلل مجزئا وهو أعمّ من الوجوب مع ضعف بعضها في حدّ ذاته ممّا لا يلتفت إليها بعد اعتضاد هذه الأخبار الكثيرة بعضها ببعض ، وكون الحكم مشهورا لو لم يكن إجماعيّا ، كما لا يخفى.

وأمّا ما يمكن أن يستدلّ به لمذهب ابن الجنيد فليس إلّا إطلاق الآية.

وخبر منصور عن أبي عبد الله عليه‌السلام فيمن نسي مسح رأسه حتى قام في الصلاة ، قال : «ينصرف ويمسح رأسه ورجليه» (٣).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٦ ـ ١٣٤ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٠١ ـ ٧٨٨ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٣) التهذيب ١ : ٩٧ ـ ٢٥٣ ، الإستبصار ١ : ٧٥ ـ ٢٣٠ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

٣٦٨

وفي خبر أبي بصير «إن استيقن ذلك ، انصرف فمسح على رأسه ورجليه واستقبل الصلاة ، وإن شكّ فلم يدر مسح [أو لم يمسح] ، فيتناول من لحيته إن كانت مبتلّة ، وإن كان أمامه ماء فليتناول منه ، وليمسح به رأسه» (١).

ويردّه : وجوب تقييد الآية بالأدلّة المتقدّمة ، وكذلك الخبران ، أو ارتكاب التأويل فيهما بما لا ينافي تلك الأدلّة.

وقد يستدلّ له : بروايات (٢) أبي بصير ومعمّر بن خلّاد وأبي عمارة الحارثي ، الظاهرة في تعيين المسح بماء جديد ، وقد عرفت أنّها بظاهرها لا تنطبق على مذهب ابن الجنيد ، بل هي موافقة للعامّة ومخالفة لإجماع الشيعة وأخبارهم الصحيحة ، فهي محمولة على التقيّة.

ويجب أن يكون المسح بباطن الكفّ ممّا دون الزند مع القدرة على الأقوى ، فلا يجزئ المسح بظاهرها ، فضلا عن الذراعين وغيرهما.

وفي الحدائق : قد ذكر جملة من أصحابنا أنّه لا يجوز المسح بغير اليد اتّفاقا ، وأنّ الظاهر تعيّنه بالباطن ، لأنّه المتيقّن ، إلّا أن يتعذّر ، فيجوز بالظاهر (٣). انتهى.

ومرادهم من اليد ـ بحسب الظاهر كما يشهد به عبارة الحدائق ـ خصوص الكفّ لا الأعمّ منها ومن الساعد والعضد ، لأنّها هي التي تتبادر

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٠١ ـ ٧٨٧ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

(٢) تقدّمت الروايات في ص ٣٦٥.

(٣) الحدائق الناضرة ٢ : ٢٨٧.

٣٦٩

من إطلاق اليد ، خصوصا إذا أسند إليها ما يناسبها ، كالأكل والأخذ والمسح وغيرها من الأفعال التي جرت العادة بحصولها من الكفّ.

ولذا استدلّ بعض لتعيين المسح بالكفّ دون الذراع : بالأخبار المشتملة على ذكر اليد ، ولم يخطر بباله أصلا ـ على ما يشهد به كلامه ـ أنّ اليد لغة أعمّ من الذراع.

وكيف كان ، فلا شبهة في عدم جواز المسح بما عدا اليد مطلقا إجماعا ، بل ضرورة ، فلا يمكن الأخذ بإطلاق آية المسح ولو بعد تقييدها بكونه ببقيّة بلل الوضوء ، وكذا الأخذ بإطلاق الأوامر الكثيرة الواردة في الأخبار التي لا تحصى ، لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن جدّا.

ولا يرفع هذا الاستهجان التقييد المزبور ، لإمكان الأخذ من بقيّة البلل بسائر الآلات والمسح بها.

وكذا لا يمكن الالتزام بإهمال هذه الأخبار الكثيرة الواردة في مقام البيان ، بدعوى عدم كونها مسوقة لبيان تمام ما يعتبر في الوضوء ، بل المقصود منها بيانه في الجملة ، وأنّ تعيين آلة المسح موكول إلى مقام آخر ، لأنّ فساد هذه الدعوى أوضح من سابقتها ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ تعيين آلة المسح ـ نظير كيفيّة المسح والغسل وكثير من الخصوصيات المعتبرة في سائر الواجبات ـ موكول إلى ما هو المعهود المتعارف ، فلا يحتاج معرفتها إلى بيان خارجي.

ولا يستلزم ذلك توجيه الخطاب بما له ظاهر إرادة خلافه ، لأنّ معهودية حصوله بالآلة المتعارفة ـ وهي الكفّ ـ قرينة مرشدة إلى إرادتها.

مهودية حصوله بالالة المتعارفة ـ وهي الكفّ قرينة مرشدة إلى إرادتها.

٣٧٠

والحاصل : أنّا لو لم نقل بظواهر مطلقات أوامر المسح في حدّ ذاتها في إرادة إيجاده بإمرار خصوص الكفّ على النحو المتعارف ، أي بباطنها ، فلا محيص عن تنزيلها عليها بعد العلم بعدم إرادة مطلق المسح ، خصوصا في الأوامر المقيّدة بكونه ببقيّة بلل الوضوء ، المعلوم ورودها في مقام بيان تمام الحكم مع عدم التعرّض لبيان آلة المسح في أغلبها والتعرّض لذكر اليد في بعضها استطرادا لا لبيان كونه آلة للمسح ، فهذه كلّها أمارات عدم الحاجة إلى البيان وكون المراد منها إيجاد المسح على النحو المتعارف.

ويؤيّده فعل الإمام عليه‌السلام في مقام البيان في الموارد الكثيرة ، كما يدلّ عليه الأخبار البيانيّة تصريحا في ببعضها وظهورا في بعضها الآخر من حيث عدم التعرّض لتعيين الماسح ، إذ من المعلوم أنّ المسح لو صدر على خلاف المتعارف ، لنقل في هذه الأخبار ، فعدم النقل في مثلها دليل على عدمه.

وقد ناقش فيما ادّعيناه من التبادر شيخنا المرتضى ـ قدس‌سره ـ بقوله : والتبادر لأجل غلبة الوجوه ، فهو مجرّد حضور الفرد الغالب في الذهن لا على أنّه المراد ، ولذا لا يعتمد عليه في غسل الوجه واليدين ، ولا بالنسبة إلى باطن الكفّ ، مع أنّ غلبة الوجود بالنسبة إلى إطلاق الآية ممنوعة جدّا وفي الموضوعات البيانيّة ما مرّ من قصور الدلالة ، فالتمسّك بالإطلاق غير بعيد.

نعم ، لو شكّ في الإطلاقات من حيث كون الغلبة موجبة لإجمالها ، نظير المجاز المشهور ، وجب الرجوع إلى الاحتياط اللازم من قوله عليه‌السلام

٣٧١

«لا صلاة إلّا بطهور» (١) (٢). انتهى.

وفيه : أنّ غلبة وجوده بهذه الكيفيّة مسبّبة عن تعارفه ، لا عن تعذّر حصوله بغير اليد ، أو تعسّره ، ومثلها يوجب الانصراف جزما ، كما لو أمر المولى عبده بغسل ثوبه أو بدنه يحمل على إرادة غسله بالماء المطلق دون المضاف ، لكونه هو الفرد الذي توجد طبيعة الغسل في ضمنه غالبا.

نعم لا يختصّ ذلك بماء بلده أو بغير ماء النفط والكبريت ممّا يعزّ وجوده ، لأنّ منشأ انسبقا الذهب إلى ما عداه عدم حضوره عند المكلّف أو ندرة وجوده ، لا عدم تعارف الغسل به ، فكيف يقاس عليه انصراف الذهن عن الذراعين فيما نحن فيه مع كونهما نصب عيني الآمر والمكلّف ، ولا يلتفتان إلى المسح بهما!؟ بل لو فرض حصول المانع للمكلّف من المسح بكفّه كما لو التفّت كفّه بخرقة ، بادر إلى إزالة المانع عنها للمسح ، ولا ينسبق إلى ذهنه جوازه بذراعيه.

ولو قيل : إنّ المراد من المسح ـ على ما يتفاهم منه عرفا ـ إنّما هو إيجاد الطبيعة المطلقة ، وتشخّصها في الخارج غالبا بكيفيّة لا يوجب تقييدها في مقام التصوّر والطلب ، فالمطلوب مطلق ، وامتثاله غالبا لا يتحقّق في الخارج إلّا بالكيفيّة الخاصّة.

قلت : هذه الدعوى ممّا يكذّبها الانصراف البدوي المسلّم بيننا وبين المدّعي ، إذ لا فرق بين الآمر والمأمور من هذه الجهة ، فإنّ الآمر يتصوّر

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٩ ـ ١٤٤ ، الإستبصار ، ١ : ٥٥ ـ ١٦٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) كتاب الطهارة : ١١٩.

٣٧٢

وجود الطبيعة في الخارج فيوجبها ، والمأمور يتصوّر وجودها فيوجدها ، فما ينسبق إلى ذهن المأمور من تصوّر مفهوم اللفظ بعينه هو الذي ينسبق إلى ذهن الآمر ويجعله في حيّز الطلب ، وهذا هو السرّ في انصراف المطلقات إلى الأفراد الشائعة.

وأمّا عدم صيرورة غلبة الوجود منشأ للانصراف فليس لأجل أنّ ما تصوّره الآمر حال الطلب أعمّ من الفرد النادر ، كما قد يتوهّم ، ضرورة أنّ الآمر بغسل الثوب لا يخطر بباله ماء النفط والكبريت أصلا ، بل لا يقصد إلّا الأمر بغسله بالمياه الموجودة عندهم ، إلّا أنّ العقل بعد التأمّل وفرض الموجود معدوما والمعدوم موجودا يحكم بأنّ غرض الآمر أعمّ ممّا تصوّره فعلا في مقام الطلب ، ولذا لو صرّح بغسله بالماء الموجود لا يفهم من كلامه التقييد ، ومن المعلوم أنّ العقل لا يحكم بذلك إلّا بعد علمه بكون الفرد النادر بحيث لو كان الآمر ملتفتا إليه لقصده ، كماء النفط مثلا ، لا المائعات المضافة ، وكذا الذراعان فيما نحن فيه.

وملخّص الكلام : أنّ الانصرافات البدويّة ما لم يكن في العقل ما يصرفها تستقرّ ، وما نحن فيه منها ، كما لا يخفى.

وأمّا نقضه بغسل الوجه واليدين ففيه أوّلا : إنّا ادّعينا الانصراف في الأوامر المطلقة بعد العلم بعدم إرادة إطلاقها ، ودوران الأمر بين حملها على المتعارف أو الالتزام بإهمالها ، ووضح فساد الثاني دليل على إرادة الأوّل ، فلا يتوجّه النقض بالغسل.

وثانيا : منع الانصراف بالنسبة إلى الغسل ، إذ لا ملازمة بين

٣٧٣

الانصرافين ، ألا ترى أنّه لا يتبادر من الأمر بغسل رأس اليتيم مباشرته ، بخلاف الأمر بمسحه ، وسرّه : أنّ استعمال الآلة في الغسل من العوارض الغريبة التي لا يتوقّف تصوّر مفهوم الغسل على تصورها لا إجمالا ولا تفصيلا ، فربّما لا يلتفت إليها الذهن عند الأمر به ، وهذا بخلاف المسح ، فإنّه من مقوّمات مفهومه ، كالماء ونحوه في الغسل ، فلا بدّ عند تصوّر مفهوم المسح من تصوّره إجمالا أو تفصيلا ، فمعهوديّة هذا النحو من الخصوصيات التي هي بمنزلة الفصول المنوّعة للطبيعة هي التي توجب انصراف إطلاق الطبيعة إليها دون القسم الأوّل.

والحاصل : أنّ استعمال اليد في الغسل من المقدّمات ، وفي المسح من قيوده المقسّمة ، فلا يقاس أحدهما بالآخر من حيث السببيّة للانصراف.

هذا ، مع أنّ العلم الحاصل من الإجماع بعدم مدخليّة الخصوصيّة في الغسل دون المسح يكفي فارقا بين المقامين.

وأمّا نقضه بباطن الكفّ : ففيه : أنّه أوّل الكلام.

ولو أراد من باطن الكفّ بعضه كرؤوس الأصابع ، ففيه ـ بعد تسليم غلبة وقوع المسح بخصوص رؤوس الأصابع ـ عدم كونها موجبة لصيرورة المسح بما فوقها خلاف المتعارف.

مضافا إلى إمكان استفادة جواز المسح بالكفّ من صحيحة البزنطي (١) ، الواردة في كيفيّة مسح القدمين ، وغيرها من الأخبار البيانيّة ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٦٤ ـ ١٧٩ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

٣٧٤

كما لا يخفى.

وبما ذكرنا من عدم إمكان حمل المطلقات على إطلاقها ظهر ضعف ما في ذيل كلامه من نفي البعد عن التمسّك بالإطلاقات ، لأنّ مطلقات الباب لا تشتمل على ذكر اليد حتى يمكن الأخذ بإطلاقها ، فلا بدّ إمّا من الالتزام بإهمالها ، أو تنزيلها على المتعارف.

وأمّا الأخبار المشتملة على ذكر اليد فهي مسوقة لبيان حكم آخر ، فلا يجوز الأخذ بإطلاقها لإثبات هذا الحكم ، فلاحظ وتدبّر.

ولو تعذّر المسح بباطن الكفّ وإن كان لجفاف مائه لنسيان ونحوه ، فسيجي‌ء حكمه عند تعرض المصنّف ـ رحمه‌الله ـ له.

وإن كان لمرض وشبهه ، يجب عليه المسح بظاهرها أو الذراع ، كما يجب ذلك في حقّ الأقطع اليد والرّجل.

مضافا إلى ما يظهر من دعوى غير واحد القطع بذلك كونه من المسلّمات التي لا يشوبها شائبة خلاف ، بل يمكن التمسّك لوجوبه : بالاستصحاب ، وقاعدة الميسور ، كما تقدّم تقريبهما في مسألة الأقطع.

وأمّا بقاء المسح على وجوبه فلا ينبغي التأمّل فيه بعد إثبات وجوب الوضوء ، بل لا يشكّ أحد من العوام في ذلك ، لما شاع في الألسن وارتكز في العقول من أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور. مضافا إلى إطلاقات أوامر المسح كتابا وسنّة.

وتنزيلها على المتعارف ـ كما تقدّم ـ لا ينافي ذلك ، فإنّ المتعارف

٣٧٥

في حقّ العاجز المسح بظاهر الكفّ أو الذراع ، كما أنّ المتعارف لفاقد الكفّ المسح بالذراع ، فهذا الترتّب عرفيّ ينطبق عليه الإطلاق من دون أن يكون اللفظ مستعملا في معان متعدّدة ، كما هو ظاهر.

هذا ، مع أنّ مقتضى الاستصحاب أيضا وجوب المسح عليه ، وأمّا تعيين آلة المسح فلا حاجة إليه حتى يورد بكون الأصل مثبتا ، لأنّ إلزام العقل بوجوب تفريغ الذمّة عمّا علم وجوبه يغنينا عن ذلك ، كإلزامه بإيجاد المقدّمات العلميّة للواجبات المستصحبة.

وهل يتعيّن عليه المسح بظاهر الكفّ أم يكفي بالذراع أيضا؟ فيه وجهان ، أحوطهما : الأوّل ، بل لا يبعد دعوى كونه أوّل مراتب ميسور المتعذّر ، وكونه هو الفرد المتعارف الذي ينصرف إليه الإطلاق بالنسبة إلى المتمكّن ، إلّا أنّها قابلة للمنع ، فالأقوى خلافه ، والله العالم.

وهل يعتبر أن يكون المسح باليمنى؟ فيه وجهان ، بل قولان : عن ظاهر المشهور : عدم وجوبه (١) ، بل يظهر من الحدائق عدم الخلاف فيه وأنّ ظاهرهم الاتّفاق على استحبابه (٢). وعن بعض متأخّري المتأخّرين ـ وفاقا لظاهر الإسكافي ـ وجوبه (٣).

ويستدلّ عليه : بصحيحة زرارة «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك» (٤).

__________________

(١) حكاه عن ظاهر المشهور الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١٩.

(٢) الحدائق الناضرة ٢ : ٢٨٧.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١١٩.

(٤) الكافي ٣ : ٢٥ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٣٦٠ ـ ١٠٨٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ و ٣١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢ و ٢.

٣٧٦

وفيه : عدم صلاحيّتها لتقييد المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان للحكم الذي يعمّ به البلوى.

مضافا إلى ما عرفت فيما سبق من ضعف دلالتها على الوجوب ، فيتعيّن حلمها على الاستحباب ، كما حكي عن ظاهر الأصحاب ، بل لعلّ في صدر الرواية إشعار بذلك ، فتأمّل.

ولا يخفى عليك أنّ المتفاهم عرفا من الأمر بمسح الرأس ببلل الوضوء وجوب إيصال البلّة إلى الرأس وتأثّره منها ، نظير الأمر بمسح رأسه بالدهن أو بماء جديد ، فيعتبر في اليد الماسحة اشتمالها على رطوبة مسرية ، ولا يكفي تلبّسها بالبلّة ما لم يتأثّر بمسحها الممسوح.

وقد عرفت أنّه يعتبر أن تكون الرطوبة المسرية من بقيّة بلل الوضوء ، فلو امتزجت برطوبة خارجيّة غالبة بحيث انتفى عرفا صدق بلّة الوضوء على ما في اليد ، فلا ينبغي التأمّل في عدم كفاية المسح بها ، لانتفاء الصدق عرفا ، بل صدق كون المسح بماء جديد.

ودعوى انصراف النهي عن استئناف ماء جديد عن بعض صور الامتزاج ، لكونه تعريضا على ما يفعله العامّة ، مدفوعة : بأنّه ليس مدرك الحكم بحرمة استئناف ماء جديد نهيا أصليّا حتى نتكلّم في مفاده العرفي ، بل الوجه فيه ـ كما عرفت ـ هي الأدلّة الدالّة على اعتبار كون المسح ببقيّة بلل الوضوء ، الدالّة بمفهومها على حرمة الاستئناف ، فالمتّبع إنّما هو ما يتبادر عرفا من أدلّة الاشتراط ، نظير منطوق القضيّة الشرطيّة ومفهومها.

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك قوة القول بالبطلان في صورة الامتزاج

٣٧٧

مطلقا ما لم تستهلك الرطوبة الخارجيّة في الرطوبة الأصليّة ، لانصراف الأدلّة عنه ، بل عدم اتّصاف البلّة الموجودة فعلا بكونها بقيّة بلل الوضوء حقيقة ، كما صرّح به شيخنا ـ قدس‌سره ـ في جواهره ، معلّلا بأنّ المركب من الداخل والخارج خارج (١).

وعن اللوامع وغيره أيضا تعليله بذلك مستشهدا بأنّه لا يصدق على المسح بسكنجبين أنّه مسح بالخلّ والانگبين.

واعترض عليه : بأنّه لا يصدق عليه المسح ببقيّة البلل خاصّة لا مطلقا ، وانتفاء الصدق في السكنجبين ، لصيرورتهما طبيعة ثالثة بالتركيب ، وليس هذا بلازم في كلّ مركّب ، والماءان الممتزجان بل غالب الممتزجين ليس كذلك. انتهى.

وفيه : أنّ الفردين المتّحدين بالنوع إذا ارتفع تعدّدهما من البين ، وعرضتهما الواحدة الشخصيّة بالامتزاج ، ينقلبان فردا ثالثا من ذلك النوع عقلا ، فلا يعقل بقاء الحكم المترتّب على كلّ من الفردين بخصوصه.

نعم ، لو كان الحكم معلّقا على الطبيعة ، يترتّب على الفرد الحادث بالتركيب ، والمفروض فيما نحن فيه خلافه ، لأنّ جواز المسح بالبلّة الموجودة ـ التي هي جزئيّ حقيقيّ ومصداق خارجيّ لمطلق البلّة ـ مشروط باتّصافها ببقيّة بلل الوضوء ، واتّصافها بهذه الصفة ليس بأولى من اتّصافها بلل خارجيّ ، واتّصافها بهما معا محال ، فلا تتّصف بشي‌ء منهما.

واشتمال المجموع على بلّة الوضوء لا ينفع في صدق الاسم بعد ارتفاع

__________________

(١) جواهر الكلام ٢ : ١٨٧.

٣٧٨

تشخّص هذا الجزء وعدم استقلاله في صدق البلّة عليه بالخصوص.

نعم ، لو كان الجزء الخارجي مستهلكا بحيث لا تعدّ البلّة الموجودة مركّبة عرفا ، لاتّجه القول بالجواز ، لعدم ابتناء موضوعات الأحكام على التدقيقات العقليّة ، بل المتّبع هو الصدق العرفي ، كما في الفرض.

وقد ، ظهر لك ممّا قرّرناه أنّه لا يجوز المسح بعد الغسلة الثالثة التي ليست من الوضوء.

فما عن المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر من جوازه معلّلا باشتمال اليد على بقيّة ماء الوضوء (١) ضعيف.

وأضعف منه : القول بجواز إدخال اليد في الماء بعد غسلها ومسح الرّجلين بها ، كما عن الإسكافي (٢).

ولعلّه مبنيّ على ما نسب إلى ظاهر عبارته من جواز استئناف ماء جديد للمسح (٣). وكيف كان ، فلا خفاء في ضعفه.

نعم ، لا يعدّ من الماء الجديد ما تكتسبه اليد باستعمال ماء جديد إسباغا للغسلة المعتبرة ولو استظهارا ، بل ولو بإجرائه على المحلّ الذي علم غسله سابقا ، إذ لا يعدّ عرفا مثله أجنبيّا عن الغسلة المعتبرة ، بل المجموع بنظر العرف غسلة واحدة ، كما لا يعدّ تكرير إمرار اليد على المحلّ غسلات متعدّدة ، فلا بأس به ولو من دون قصد الاستظهار حتى على القول بعدم جواز المسح بغير نداوة الكفّ في غير الضرورة ، لأنّ

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٢١ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٦٠.

(٢) حكاه عنه الشهيد في الذكرى : ٨٦.

(٣) حكاه عنه العلّامة في المختلف ١ : ١٢٨ ، المسألة ٨٠.

٣٧٩

المراد من نداوة الكفّ ما يبقى في الكفّ بعد الفراغ من الغسلات ، وهو ما دام متشاغلا بإمرار يده لا يعدّ فارغا ، والمدار على الصدق العرفي ، ولكنّ الاحتياط في أغلب مصاديق هذه الفروع ممّا لا ينبغي تركه.

وفي جواز المسح بالبلّة الباقية في اليد بعد غسلها في الماء بطريق الغمس لو نوى الغسل بإدخالها فيه من المرفق أو بالمكث في الماء إشكال.

وأمّا لو نوى غسلها بإخراجها من الماء ، فلا ينبغي الإشكال في جوازه ، وعدم كون البلّة الموجودة ماء جديدا ، والله العالم.

ولا فرق فيما ذكرنا من عدم جواز المسح بالبلّة الممتزجة بين أن يكون حصول المزج من الخارج أو من مباشرة الممسوح ، فلا يجوز المسح إلّا بعد تنشيف المحلّ لو كان رطبا ، وإلّا لوقع المسح بالمجموع فلا يجزئ.

فما عن المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر من جواز إخراج رجله من الماء والمسح عليها (١) على إطلاقه في غاية الإشكال.

نعم ، لا بأس بنداوة المحلّ ما لم تمنعه من التأثير بأن كانت رطوبة الماسح غالبة ، لأنّ مثلها من توابع المحلّ عرفا ، كالعرق وغيره من الأوساخ الكائنة عليه ممّا لا يقدّر لوجودها حكم بنظر العرف ، ولا يمنع وجودها من صدق المسح على البشرة ولا من حصول المسح ببقيّة بلل الوضوء ، بل لا يحصل الامتزاج في الفرض ، لأنّ قاهريّة ما في اليد يمنعها

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٢ : ١٨٧ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٦٠.

٣٨٠