مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

وأمّا عدم إمكان ارتكاب التأويل المذكور بدعوى اختصاص الصحّة بصلاة من لا يعرضه العجب فيما بعد فوجهه واضح ، لأنّ الأمر بالصلاة مطلق ، فلا يعقل اختصاص الصحّة بفعل بعض دون بعض ، لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء عقلا.

ودعوى : أنّ حصول العجب فيما بعد كاشف عن فقد شرط وجودي أو عدمي معتبر في ماهيّة الصلاة ، لا أنّ الصفة الانتزاعية معتبرة حتى يتوجّه ما ذكر ، مدفوعة : بأنّ تقييد الواجب المطلق بما لا طريق للمكلّف إلى إحرازه حال الفعل تكليف بما لا يطاق.

سلّمنا إمكان ذلك ، ولكنّه خلاف ظاهر الأدلّة بعد تسليم دلالتها ، لأنّ مفادها أنّ نفس العجب سبب للبطلان ، لا أنّ الوصف الانتزاعي ـ وهو كون المكلّف بحيث لا يعرضه العجب أو ما هو ملزوم لذلك ـ شرط في الصحّة.

وكيف كان ، فلا شبهة في فساد هذا القول ، لاستلزامه بطلان عبادة من صرف طول عمره في عبادة الله تعالى خالصا مخلصا لوجهه الكريم بمجرّد حصول العجب بأعماله السابقة ، فيجب عليه إعادتها بعد التوبة ، فيكون العجب على هذا التقدير أشدّ تأثير في إحباط العمل من الارتداد ، وهو بديهيّ البطلان ، فضلا عن مخالفته للإجماع.

وأمّا العجب المقارن للعمل ، سواء حصل في ابتداء العمل أو طرأ في الأثناء ، فقد سمعت من الجواهر أنّ ظاهر الأصحاب عدم كونه مفسدا ، بل لم يعرف قائلا بخلافه إلّا بعض مشايخه.

٢٤١

نعم ، قد يستظهر من الأخبار السابقة : بطلان العمل به.

ويؤيّده ما في بعض الأدعية من قوله عليه‌السلام : «لا تفسد عبادتي بالعجب» (١).

ولكن في الاستظهار نظر ظاهر ، لظهور الجميع في كون العجب موجبا لنقص العامل ، وعدم قابليته لتأثير العبادة فيه ، لا سببا لكون العمل فاقدا لشرائط الصحّة.

هذا ، مع أنّ إطلاق الأخبار يعمّ العجب المتأخّر ، وقد عرفت امتناع كونه مفسدا للعمل السابق حقيقة ، فلا بدّ من حمل الأخبار على معنى يصحّ إثباته للعجب المتأخّر ، ككونه موجبا لحبط العمل إن أمكن الالتزام به ، أو مانعا من تأثير العبادة في رفع الدرجة والفوز إلى المقامات العالية أو غيرهما من المعاني المحتملة.

وتخصيصها بالعجب المقارن خلاف ما يشهد به جلّ الأخبار ، كما لا يخفى.

وفي الجواهر بعد أن ذكر الأخبار التي يتوهّم ظهورها في كون العجب مفسدا للعمل ، قال : والكلّ كما ترى ، وأولى ما يستدلّ به لذلك :ما رواه يونس بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خاليا ، فيدخله العجب ، فقال عليه‌السلام : «إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك ، فليمض في صلاته ،

__________________

(١) الصحيفة السجّادية ، دعاء (٢٠) مكارم الأخلاق.

٢٤٢

وليخسأ (١) الشيطان» (٢) فإنّه بالمفهوم دالّ على المطلوب.

ويدلّ أيضا بالمنطوق على عدم الإفساد لو وقع في الأثناء وبالأولى الواقع بعده (٣). انتهى.

واعترض السيّد المتقدّم على استدلاله بالمنطوق على عدم الإفساد :

بقوله : وفيه ظهور الخبر في إرادة ما يعرض في الأثناء من الهواجس والخواطر وإن كان رياء أو سمعة ، كما هو مقتضى عموم كلمة «ما». انتهى.

وفي الاعتراض نظر ظاهر ، لأنّ عموم كلمة «ما» على تقدير تسليمه لا يقتضي تخصيص المورد.

ودعوى : أنّ العجب الطارئ غالبا من الهواجس والخطرات لا العجب حقيقة ، فيستفاد حكمه من الجواب ، ولا يستلزم تخصيص المورد ، وأمّا العجب الحقيقي الذي هو ظاهر فرض السائل ، فلم يتعرّض الإمام عليه‌السلام لجوابه ، لندرته ، فيها ما لا يخفى ، إذ لا شبهة في أنّ العجب الطارئ وكذا ما يحصل بعد العمل لو لم يكن غالبا لا أقلّ من كونه كثيرا ، فيقبح إهماله في مقام الجواب ، فلا محيص عن الالتزام باستفادة حكمه من جواب الإمام عليه‌السلام وإن قلنا بظهوره فيما يدّعيه المعترض بدعوى أنّ ترك التعرّض يدلّ على عدم الإخلال به ، وإلّا كان على الإمام عليه‌السلام بيانه.

__________________

(١) يخسأ الشيطان : يسكته صاغرا مطرودا. مجمع البحرين ١ : ١٢١ «خسأ».

(٢) الكافي ٣ : ٢٦٨ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣.

(٣) جواهر الكلام ٢ : ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٤٣

نعم ، استدلال صاحب الجواهر ـ قدس‌سره ـ لإبطال العجب المقارن للنيّة بمفهوم الرواية لا يخلو عن غفلة ، لابتنائه على اعتبار مفهوم اللقب وتقديمه على ظاهر المنطوق في الشرطيّة ، وهو سببيّة الشرط للجزاء.

بيان ذلك : أنّ مفاد منطوق الرواية أنّه إذا انعقد صلاته بنيّة خالصة لله تعالى ، فصلاته صحيحة ، ومفهومها : أنّه إذا لم تنعقد صلاته كذلك ، فهي غير صحيحة ، وقوله عليه‌السلام : «فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك» تفريع على سابقه ، فهي جملة خبريّة سادّة مسدّ الجزاء ، كقوله تعالى (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (١) وليست بنفسها جزاء للشرط ، لعدم صلاحيتها لذلك ، إذ لو كانت بنفسها الجزاء ، للزم انتفاؤه على تقدير انتفاء الشرط ، فيكون مفادها أنّ ما يدخله بعد ذلك ، يضرّه على تقدير فقد الإخلاص في النيّة ، وهو غير صحيح ، لأنّ التضرّر يحصل على هذا التقدير من فقد الإخلاص ، لا من العجب الذي دخله بعد ذلك ، وليس منطوق الرواية : إن لم يكن العجب في ابتداء العمل فلا يضرّه ، حتّى يكون مفهومه : إن كان في ابتداء العمل يضرّه ، كما توهّم.

وحينئذ نقول : ظاهر الشرطية سببية الإخلاص للصحّة ، وسببية عدمه لعدمها ومقتضاه : عدم الإخلال بالعجب المقارن لو لم يكن منافيا للإخلاص ، كما أنّ مقتضى مفهومها بطلانها بالعجب إذا كان منافيا له ، كما إذا انتهى عجبه إلى أن صلّى لا لمجرّد إرادة الله تعالى ، بل لدفع المنقصة

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٨٩.

٢٤٤

عن نفسه ، وعدم كونه في عداد من لا يبالي بترك الصلاة ، وغير ذلك من الأغراض الفاسدة المنبعثة عن العجب ، المانعة من الخلوص.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك» فلا يدلّ على أنّ ما يدخله قبل ذلك مضرّ ، لعدم الاعتداد بمفهوم اللقب ، خصوصا فيما كان لذكره نكتة ظاهرة ، كما فيما نحن فيه ، لإمكان أن تكون النكتة في ذكره التنصيص على حكم ما هو مفروض السائل.

هذا ، مضافا إلى معارضته لظهور الشرطيّة في السببيّة المنحصرة.

ثمّ إنّ دعوى شمول الرواية للرياء والسمعة وغيرهما من الهواجس الطارئة في أثناء العمل ممّا لا شاهد عليها ، لأنّ عموم الموصول لا يكون إلّا بمقدار قابليّة المحلّ.

ألا ترى أنّه لو سئل عمّا هو الأحبّ من الرمّانتين ، فقيل : ما كان أكبر ، لا يكون دالّا على محبوبيّة كلّ شي‌ء يكون أكبر من غيره ، فظاهر الرواية أنّه لا يضرّه ما دخله بعد ذلك من العجب ، لا مطلق ما يعرض على القلب.

نعم ، يحتمل قويّا إرادة العموم ، وكون الرواية مسوقة لضرب قاعدة كلّيّة يستفاد منها حكم العجب وغيره ، وهي أنّ طواري القلب مطلقا ما لم تكن منافية للإخلاص حال الشروع غير مضرّة.

وتخصيص اعتبار الإخلاص بأوّل الصلاة لا لعدم اعتباره فيما عداه ، كيف وهو معتبر فيها مطلقا ، بل لأجل أنّ الباعث على إتمام العمل غالبا ما

٢٤٥

كان باعثا على الشروع ، وما يدخله بعد ذلك ويظنّ أنّ له مدخليّة في الفعل من وساوس الشيطان ، كما يشعر به قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «وليخسأ الشيطان» فلا تعارض ما دلّ على اعتبار الإخلاص في تمام العمل حتى نحتاج إلى الجمع والترجيح بين الأخبار.

هذا ، مع أنّ الاعتماد على مثل هذا الاحتمال مشكل بعد كون الكلام محفوفا بما يصلح أن يكون قرينة لإرادة الخصوص.

وأمّا الكلام في حرمة العجب شرعا ، فملخّصه أنّي لا أراه فعلا اختياريّا مسبوقا بالعزم والإرادة حتى يصحّ تعلّق التكليف به ، فهو وإن كان أشدّ تأثيرا في العبد عن رحمة الله تعالى من الحرام ، كما يشهد به غير واحد من الأخبار ، كغيره من الأخلاق الرذيلة ، كحبّ الدنيا والحسد والبخل ، إلّا أنّه غير محرّم شرعا ، كنظائره ، والأخبار الواردة فيه أيضا لا يكاد يظهر منها أزيد من ذلك ، فالبحث عنه ليس شأن الفقيه ، بل هو من مسائل علم الأخلاق.

وأمّا عدم كونه فعلا اختياريّا : فلأنّه اعتقاد يتولّد من ضمّ صغرى وجدانيّة إلى كبرى قطعيّة عقليّة أو نقليّة ، كفضيلة صلاة الليل ، أو الصلاة في أوّل وقتها ، أو كون الأمر مقتضيا للإجزاء ، وعدم تعقّل التقصير في الإطاعة بعد موافقة المأتي به للمأمور به ، وكعدم مساواة الجاهل والعالم ، وأنّ العبد المطيع خير من العاصي ، إلى غير من ذلك من الكبريات الصادقة التي لو وجد شيئا منها في شخص آخر ، للزم عليه عقلا وشرعا الإذعان بجلالة قدره ، وأنّ له عند الله شأنا من الشأن ، فلو أحسّ بشي‌ء

٢٤٦

منها من نفسه لا يمكن تكليفه بوجوب إذعانه بخلاف ما ينتج القضية وإن كان منشؤ الاستنتاج الجهل والغرور ، بمعنى أنّ العارف بجلالة الله تعالى ، البصير بمهانة نفسه لا يلتفت إلّا إلى نقائصه وتقصيره في الطاعة.

وحاصله : أنّ الإنسان الكامل ينظر إلى نفسه بعين السخط وإلى إخوانه المؤمنين بعين الرضى ، ولذا يتبرّك بدعائهم ويتشرّف بصحبتهم ، لا أنّه بعد إحراز الكمال من نفسه على سبيل القطع يجب عليه أن لا يعتقد بما ينتجه القضيّة ، لأنّ التكليف بعدم الاعتقاد غير معقول ، فلو تعلّق به خطاب بظاهره يدلّ على ذلك ، لوجب صرفه وإرجاعه إمّا إلى مبادئه ، وهي : إهمال النفس بحيث تتأثّر من هذه النتائج ، ومرجعه إلى وجوب تزكية النفس بحيث لا تغترّ بشي‌ء منها ، أو إلى وجوب إزالته بعد حصوله والتفات النفس إليه بالتفكّر في سوء المنقلب وغيره ممّا يؤثّر في إزالة العجب ، أو غيرهما من المحامل.

أمّا التأويل الأوّل : فممّا لا يمكن الالتزام به ، ضرورة أنّ الله تعالى لم يكلّف عامّة عباده على سبيل الحتم والإلزام بتحصيل هذه المرتبة من الكمال ، بل من رحمته الواسعة أنّه سلّط على من أحبّه النوم ، ومنعه من فعل ما يحبّه من العبادة حفظا له من أن يدخله العجب ، كما في بعض الأخبار (١) ، ولم يكلّفه ابتداء باعتصام نفسه عن ذلك.

وأمّا التوجيه الثاني : فغير بعيد لو لم يكن وجه أقرب منه ، كحمل الخطاب على الإرشاد والمبالغة في المبغوضية ، أو حمل النهي على نفي

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٠ ـ ٤ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١.

٢٤٧

إظهاره ، أو ترتيب الآثار العمليّة عليه ، وغيرها من المحامل ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فللعجب مراتب ، وعلى تقدير الالتزام بحرمته أو كونه مفسدا للعبادة لا بدّ من تخصيص الحكم ببعض مراتبه ، الظاهر المنسبق إلى الذهن ، لا مطلقا بحيث يعمّ بعض مراتبه ، الخفيّ الذي لا ينفك عنه إلّا الأوحدي من الأكياس الذين لا ينال أدنى درجاتهم خواصّ الأبرار ، والله العالم.

المقام الثالث : فيما لو ضمّ المتوضّئ إلى نيّة القربة إرادة حصول أمر راجح شرعا من حيث كونه كذلك ،فلا تأمّل في صحّة وضوئه ما لم يكن الوضوء تابعا في القصد بالمعنى المتقدّم في الضميمة التبعيّة ، بل عن المدارك عدم الخلاف في الصحّة هنا (١) ، وعن شرح الدروس الاتّفاق عليه (٢).

ووجهه : عدم منافاة الضميمة الراجحة للإخلاص المعتبر فيه ، لأنّ تصادق العناوين الراجحة على الفرد موجب لآكديّة طلبه ، وكونه أفضل أفراد المأمور به ، ولذا لا يرتاب أحد في أنّ التصدّق على الفقير العالم المؤمن ذي الرحم أفضل من فاقد هذه الأوصاف إذا نوى المتصدّق بتصدّقه إكرام العالم وسرور المؤمن ومواصلة ذي الرحم ، ومقتضى كون الفرد المأتي به مصداقا للأوامر المتعدّدة حصول امتثال الجميع لو قصد الفاعل بفعله امتثال الكلّ ، فيستحقّ باختياره هذا الفرد مزيد الأجر والثواب ، كما أنّ لازمه سقوط الأوامر المتعلّقة به على تقدير كونها

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٧ ، وانظر : مدارك الأحكام ١ : ١٩١.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٩٧ ، وانظر : مشارق الشموس : ٩٨.

٢٤٨

توصّليّة مطلقا ولو لم يقصد بإيجاده امتثال الجميع ، مثل ما لو وجب عليه الغسل وإزالة النجاسة عن بدنه لو لم نشترط في صحّة الغسل طهارة البدن ، فيسقط الأمر بالإزالة قهرا بغسله ولو لم ينو امتثاله.

نعم ، حصول الإطاعة واستحقاق الأجر موقوف على القصد ، كما في التعبّديّات.

وليعلم أنّه لا دخل لما نحن فيه بمسألة تداخل التكاليف التي اختلفوا فيها ، كما قد يتوهّم ، وسيجي‌ء التعرّض لبيانها في مسألة توارد الأحداث وتداخل الأغسال بما يرتفع به غشاوة الأوهام إن شاء الله.

وأمّا إذا كان الوضوء تابعا في القصد ، بأن لا يكون سببا للفعل ولا جزءا من السبب ، فلا يصحّ ، لتوقّف الإطاعة على قصد الامتثال بالفعل ، وهو منتف في الفرض ، لما عرفت فيما سبق من أنّ القصد التبعي بالمعنى المذكور ليس إرادة حقيقيّة ، بل هو من مقولة المحبّة والشوق ، والله العالم.

(و) أمّا (وقت النيّة) في الوضوء : فعلى ما نسب (١) إلى المشهور من أنّها هي الإرادة التفصيليّة المقارنة للفعل ، فهو : حين الاشتغال بأوّل جزء من أجزاء الوضوء ، كما في غيره من العبادات ، من دون فرق بين أن يكون الجزء الأوّل من أجزائه الواجبة أو المستحبّة.

وتوهّم تعذّر قصد الوجوب حين البدأة بالجزء المستحبّي ، مدفوع : بأنّ المنويّ الفرد المشتمل على الجزء ، لا الجزء بانفراده حتى

__________________

(١) الناسب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٩٨.

٢٤٩

يشكل فيه ، فلو أشكل ، لم يفرّق بين كون الجزء المندوب أوّل الأفعال أو في الأثناء ، فما يقال في توجيه الأجزاء المستحبّة المتخلّلة فقد يقال في الجزء الأوّل المستحبّ أيضا ، كما لا يخفى.

فلو قصد المكلّف الإتيان بالوضوء المشتمل على المضمضة أو الاستنشاق فلا بدّ من تقديمها بحيث تقع المضمضة أو الاستنشاق منويّة حتى تصير بها جزءا منه. وكذا لو نوى الإتيان بالفرد المشتمل على غسل اليدين يجب أن ينوي (عند) أوّل جزء من (غسل اليدين).

إلّا أنّه قد يتأمّل في جزئيّة غسل اليدين بدعوى : قصور الأخبار عن إفادته ، بل ظهورها في خلافه ، فيشكل التقديم حينئذ حيث تنتفي المقارنة المعتبرة في صحّة العمل وإثبات جزئيته بالتسامح في أدلّة السنن.

وذهاب المشهور إليها لا يجدي ، لأنّ جواز التقديم من الآثار المخصوصة بالجزء الواقعي ، فلا يترتّب على الجزء المسامحي ، كما تقرّر في الأصول.

وأمّا على المختار من كفاية الأمر المغروس في الذهن المعبّر عنه بالداعي في صحّة العمل وأنّه هو النيّة المعتبرة في صدق الإطاعة ، لا خصوص الإرادة التفصيليّة ، فيعتبر حصوله حال الفعل مطلقا من دون فرق بين الجزء الأوّل وغيره ، فلا بدّ من وقوع الفعل بجميع أجزائه مستندا إليه.

وأمّا الإرادة التفصيليّة التي يتوقّف عليها حصول الداعي ، فليس لها وقت موظّف ، بل المعتبر سببيتها لانبعاث الفعل عن داعي الامتثال ، فكما يكفي تحقّقها حال الشروع في الفعل ، كذا يكفي حصولها حال الأخذ

٢٥٠

بمقدّمات العمل ، كإحضار الماء وغيره ، فلا يهمّنا التعرّض لتحقيق أنّ غسل اليدين هل هو جزء مستحبّي أو مستحبّ خارجي ، إذ لا يترتّب غسل اليدين هل هو جزء مستحبّي أو مستحبّ خارجي ، إذ لا يترتّب عليه ثمرة معتدّ بها على المختار إلّا في قصد الجزئيّة وعدمها ، والأمر فيه سهل ، إذ يكفي في جوازه المسامحة في دليله لو قلنا بها فيه ، وإلّا فينوي امتثال أمره الواقعي على ما هو عليه في علم الله تعالى ، والله العالم. (و) الأولى لمن سلك سبيل الاحتياط وتحرّز عن مخالفة المشهور : تجديد الإرادة التفصيليّة عند المضمضة والاستنشاق ، بل الأحوط تأخيرها عنهما أيضا إلى أن (يتضيّق) وقتها ، وهو (عند غسل الوجه) المعلوم وجوبه وجزئيّته ، لقيام احتمال الاستحباب النفسي فيهما أيضا ، كغسل اليدين وإن كان بعيدا ، إلّا أنّ الاحتياط يقتضي مراعاته. (و) كيف كان فقد ظهر لك ممّا أشرنا إليه ـ من توقّف تحقّق الإطاعة عرفا وعقلا على انبعاث الفعل بجميع أجزائه عن داعي امتثال الأمر ـ وجه ما ذهب إليه المشهور ـ بعد أن فسّروا النيّة بالإرادة التفصيليّة ـ من أنّه (تجب استدامة حكمها إلى الفراغ).

ومعناها الجري على طبق إرادته الماضية بأن تكون تلك الإرادة التفصيليّة بحكم الموجودة بالفعل في استناد الفعل إليها وانبعاثه عنها ، وكونه كذلك يتوقّف على عدم انتقاله في أثناء العمل إلى نيّة تخالفها ، وعدم حصول التردّد له في إمضاء الإرادة السابقة حال الالتفات إليها ، ويلزمه تجديد الإرادة السابقة مفصّلا وإن لم تكن بقيودها المفصّلة في أوّل العمل حال توجّه ذهنه إلى الفعل.

٢٥١

ولعلّ ما ذكرناه في تفسير الاستدامة ، الذي مرجعه إلى اعتبار انبعاث الفعل عن الأمر المركوز في الذهن ، الذي نسميه بالداعي ، ونلتزم بأنّه هو النيّة ، هو : لبّ مراد جميع العلماء القائلين باعتبار الاستدامة ، ومجمع شتات عبائرهم المختلفة في تفسيرها ، واختلاف تفاسيرهم نشأ من اختلاف أنظارهم في آثارها ، وقد تصدّى لتأويل كلماتهم بما يرجع إلى ما ذكرناه شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في طهارته ، فراجع (١).

وكيف كان ، فلا شبهة في اعتبار استدامة النيّة بالمعنى المذكور ، لتوقّف صدق الإطاعة عليها عقلا وعرفا.

وأمّا كفايتها وعدم الحاجة إلى اعتبار أمر زائد عليها : فلعدم توقّف الإطاعة إلّا عليها ، كما عرفت فيما سبق ، فالبحث مع المشهور إنّما هو في اعتبار الزائد على ذلك في أوّل العمل ، وهلّا جعلوا النيّة الفعليّة هي التي سمّوها بالحكميّة ، لا في اعتبار ذلك.

وقد يستدلّ لكفاية هذا المقدار في أجزاء العمل وعدم اعتبار الإرادة الفعليّة : بتعذّرها أو تعسّرها حيث إنّ الله تعالى لم يجعل لرجل في جوفه من قلبين ، فما دام مشغولا بالأجزاء ربما يغفل عن ذلك ، والتكليف بوجوب استدامته فعلا تكليف بما لا يطاق ، إلّا أنّه لمّا تعذّرت الفعليّة وجبت الحكميّة ، لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

وفيه ما لا يخفى من الضعف ، فالوجه ما ذكرنا.

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٩٩ ـ ١٠٠.

٢٥٢

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المعتبر إنّما هو استدامة حكمها حال الاشتغال بأجزاء الفعل ، فلو نوى الخلاف في الأثناء ثم ارتدع عن قصده قبل أن تفوته الموالاة فأتمّه ، أجزأه بلا إشكال ، بل ولا خلاف فيه على ما صرّح به شيخنا المرتضى (١) ـ رحمه‌الله ـ في غير مورد من كلامه.

وما يوهمه بعض العبائر ـ كظاهر المتن وغيره ـ من أنّ نيّة القطع والخلاف في أثناء الوضوء مخلّة مطلقا ، فغير مراد جزما ، لأنّ النيّة إنّما تعتبر في أجزاء العمل الذي هو عبادة لا في غيرها ، فالاستدامة أو الاستمرار في كلامهم إنّما يلاحظ بالنسبة إلى الفعل المعدود أمرا مستمرّا متّصلا في مقابل انقطاعها في أثناء العمل ، المستلزم لوقوع جزء منه بلا نيّة ، لا بالنسبة إلى الأكوان المتخلّلة بين أجزاء العمل حتى يقدح فيه نيّة القطع في بعض تلك الأكوان.

ووجهه ظاهر ، إذ لا يقتضي دليل اعتبار الاستدامة إلّا هذا المقدار.

وأمّا ما تراه من التزام بعضهم بأنّ نيّة القطع في أثناء الصلاة مخلّة وإن لم يشتغل بشي‌ء منها ، فوجهه ما ذهبوا إليه من أنّ الأكوان المتخلّلة بين أجزائها من الأكوان الصلاتية يعتبر فيها ما يعتبر في أجزاء الصلاة ، فخلوّها عن النيّة مخلّ ، كسائر الأجزاء ، وتوضيحه في محلّه إن شاء الله.

(تفريع : إذا اجتمعت) في المكلّف (أسباب) متعدّدة للحدث الأصغر متجدّدة بالنوع أو (مختلفة) دفعة أو مترتّبة (توجب) أي :

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٠٠.

٢٥٣

يقتضي جميعها (الوضوء) في الشرع وجوبا أو استحبابا ، (كفى وضوء واحد) إجماعا بل ضرورة عند العلماء ، كما في طهارة شيخنا المرتضى رحمه‌الله (١) ، ولا تتوقّف صحّته إلّا على أن يأتي به (بنيّة التقرّب) وامتثال الأمر المتعلّق به المقصود امتثاله. (ولا يفتقر) على المختار ـ إلى ضمّ رفع الحدث إليه معيّنا أو مخيّرا بينه وبين الاستباحة ، كما عرفت تفصيل الكلام فيه فيما تقدّم.

وأمّا على القول الآخر فيحتاج (إلى) ضمّ رفع الحدث من حيث هو.

أمّا (تعيين الحدث الذي تطهر منه) فلا يعتبر قولا واحدا ، بل في المدارك أنّه مذهب العلماء كافّة (٢). وفي الجواهر : بلا خلاف أجده (٣) وفي طهارة شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ دعوى الوفاق عليه (٤).

ووجهه : أنّ الحدث الأصغر على ما يستفاد من الشرع بملاحظة اتّحاد لوازمه وأحكامه ماهيّة واحدة مسبّبة عن أسباب متعدّدة غير قابلة للتكرر ، كالقتل ونحوه ممّا لا يتكرّر بتكرّر أسبابه ، لعدم قابليّة المحلّ للتأثّر ، فلا مجال لتوهّم بقاء أثر شي‌ء من الأسباب المختلفة بعد تحقّق ما هو سبب تامّ لرفع طبيعة الحدث ، وهو الوضوء الصحيح ، كما أنّه لا وجه لتخصيص الرفع بالمنويّ دون غيره لو نوى رفع حدث البول فقط إذا كان

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١٠٠.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٩٣.

(٣) جواهر الكلام ٢ : ١١٠.

(٤) كتاب الطهارة : ٨٧.

٢٥٤

مجتمعا مع غيره ، إذ ليس الحدث الحاصل من البول مغايرا للحدث الحاصل من غيره لا ماهيّة ولا وجودا ، فلا يعقل التفكيك ، بل لا بدّ إمّا من الالتزام برفع الحدث مطلقا ، أو القول ببطلان الوضوء رأسا.

والثاني ضعيف ، إذ لا برهان عليه عدا ما يتوهّم من أنّه نوى أمرا غير مشروع.

وفيه : أنّه نوى امتثال الأمر المتعلّق به ، فيقع صحيحا.

وقصده حصول بعض لوازم المأمور به أو عدم حصول ما عدا المنويّ لا يؤثّر في انقلاب الماهيّة المأمور بها عن كونها كذلك.

نعم ، للتوهّم المذكور مجال لو نوى امتثال خصوص الأمر المسبّب عمّا عدا السبب الأوّل ، كالنوم الحاصل عقيب البول على سبيل التقييد ، لا بأن جعل الحدث النومي طريقا لاستكشاف الأمر المتعلّق به ، فإنّ الثاني صحيح قطعا ، لأنّ الحدث النومي عين الحدث الموجود وإن لم يكن مسبّبا عنه ، لما عرفت من اتّحاد ماهيّة الحدث.

وأمّا الأوّل : فقد يتأمّل في صحّته ، نظرا إلى استحالة تأثير ما عدا السبب الأوّل في المحلّ حتى يتوجّه بسببه خطاب على المكلّف ، فما نوى امتثاله غير متوجّه إليه ، وما هو المتوجّه إليه غير مقصود امتثاله.

ولكنّك عرفت في محلّه أنّ الأقوى صحّته ، لأنّه لا يعتبر في صحّة العبادة إلّا إيجادها قربة إلى الله تعالى ، وهي أعمّ من قصد امتثال خصوص الأمر الشخصي ، بل يكفي في حصولها مجرّد إيجاد الفعل لله تعالى لا

٢٥٥

لغيره ، فالمعتبر في صحّة العبادة كونها بهذا العنوان فعلا اختياريّا للمكلّف ، وهذا المعنى متحقّق في الفرض ، وخطؤه في تشخيص الطلب لا يخرج الفعل عن كونه فعلا اختياريّا بهذا العنوان.

وإن شئت قلت : إنّ قصد امتثال الأمر لا ينفكّ عن قصد إيجاد الفعل تحصيلا لمرضاة الله تعالى ، ومراده ، فيقع صحيحا.

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا قرّرنا ـ من وحدة أثر أسباب الوضوء ، وعدم قابليّته للتكرّر ، وأنّ الأثر في مثله مستند إلى السبب الأوّل كما في الأسباب العقليّة المتعاقبة المتواردة على مسبّب واحد في الأمور الخارجية ـ أنّ مسألة توارد الأحداث خارجة من موضوع اختلاف العلماء فيما يقتضيه الأصل حال اجتماع الأسباب من التداخل وعدمه ، لعدم قابليّة المحلّ إلّا للتداخل لو وجدت الأسباب دفعة ، وللتأثّر من السبب الأوّل إن ترتّبت ، كما هو الشأن في جميع المعاليل بالمقايسة إلى عللها الواقعيّة ، فلا مجال لتوهّم الخلاف حتى يقع الاختلاف في موافقته للأصل أو مخالفته ، فإنّ التداخل في مثل المقام قهريّ عقلا ، فهو عزيمة لا رخصة ، كما لا يتوهّم الخلاف مع اختلاف المسبّبات ذاتا ومباينتها كلّيّة ، كما لو قال الشارع : إن أفطرت فأعتق عبدا حبشيّا ، وإن ظاهرت فأعتق عبدا غير حبشي ، فإنّ عدم التداخل في مثله عقليّ ، فمورد الكلام والإشكال إنّما هو فيما إذا اتّحدت ماهيّة المسبّب ، وأمكن تأثير كلّ سبب فيها ، بأن كانت الماهيّة قابلة للتكرار ، كالضرب والإكرام ، وكذا منزوحات البئر ، فإنّ نزح أربعين مرّتين لوقوع شاتين ، أو شاة وكلب أمر ممكن ، وكذا تضعيف نجاسة ماء

٢٥٦

البئر بتكرّر أسبابها أمر معقول.

وتنظيرها بنجاسة الثوب والبدن وغيرهما قياس مع وجود الفارق بين البئر وغيرها ، كما لا يخفى.

وأمّا إذا تغايرت ماهيّات المسبّبات وتصادقت في بعض المصاديق ، فلتوهّم الخلاف في تداخل المسبّبات في مورد الاجتماع مجال ، إلّا أنّه أيضا بحسب الظاهر خارج من موضوع مسألة التداخل ، التي وقع الاختلاف فيها ، فإنّ موضوعها ـ على ما يظهر ـ إنّما يتحقّق في الفرض الأوّل ، ولا بدّ لنا من التعرّض لتحقيق ما هو الحقّ في كلا الفرضين مقدّمة للمسألة الآتية ، مع أنّ المطلب بنفسه من المهمّات.

فأقول مستعينا بالله تعالى : إذا رتّب المولى جزاء واحدا على أسباب متعدّدة ، كأن قال : إن جاءك زيد فأعطه درهما ، وإن سلّم عليك فأعطه درهما ، وإن أكرمك فأعطه درهما ، إلى غير ذلك ، فهل يجب على العبد عند اجتماع بعض تلك الأسباب مع بعض الإتيان لكلّ سبب بجزاء مخصوص ، أم لا يجب إلّا إيجاد طبيعة الجزاء ، فيقع امتثالا للكلّ؟

ذهب المشهور ـ على ما نسب (١) إليهم ـ إلى الأوّل.

واختار جماعة منهم المحقّق الخوانساري على ما حكي (٢) عنه :القول الثاني.

__________________

(١) الناسب هو الآخوند الخراساني في كفاية الأصول : ٢٠٢.

(٢) حكاه عنه الآخوند الخراساني في الكفاية : ٢٠٢ ، وانظر : مشارق الشموس : ٦١.

٢٥٧

وعن الحلّي التفصيل بين اتّحاد الجنس (١) وتعدّده (٢).

وليعلم أوّلا أنّ الشكّ في كفاية فعل واحد في مقام الامتثال قد يكون مسبّبا عن الشكّ في تأثير كلّ سبب على نحو الاستقلال ، فيؤول الشكّ إلى أنّ كلّ واحد من هذه الأسباب هل هو سبب مستقلّ على الإطلاق أو أنّ تأثيره مستقلّا مشروط بعدم اقترانه أو مسبوقيّته بسبب آخر ، فيكون بمنزلة الحدث الواقع عقيب حدث أو معه؟

وقد يكون الشكّ مسبّبا عن أنّ الفعل الواحد هل يقع امتثالا للأوامر المتعدّدة المسبّبة عن الأسباب المختلفة؟ نظير ما مرّ عليك في الضميمة الراجحة من وقوع الفعل الواحد الشخصي امتثالا للأوامر المتعدّدة المتعلّقة بالعناوين المختلفة المتصادقة عليه ، فعلى الأوّل يكون الشكّ في تداخل الأسباب بمعنى عدم تأثيرها إلّا في مسبّب واحد ، وعلى الثاني يكون الشكّ في تداخل المسبّبات ، ومقتضى الأصل العملي في الأوّل البراءة ، لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في وحدة التكليف وتعدّده ، فالزائد عن المعلوم ينفى بالأصل ، وفي الثاني الاشتغال ، لأنّ كفاية الفعل الواحد في مقام الامتثال غير معلومة ، فيجب عليه الاحتياط حتى يقطع بالفراغ.

ولعلّ هذا هو مراد من أطلق القول وقال : الأصل عدم التداخل ، أو أنّه عنى بالأصل ما تقتضيه القواعد اللفظية فيما إذا كان الدليل لفظيّا ، وإلّا فقد عرفت أنّ الأصل في الأسباب التداخل ، وأمّا مقتضى القواعد اللفظية

__________________

(١) أي : جنس الشروط.

(٢) كما في كفاية الأصول : ٢٠٢ ، وانظر : السرائر ١ : ٢٥٨.

٢٥٨

فإنّما هو سببيّة كلّ شرط للجزاء مستقلّا ، كما تقرّر في الأصول ، ومقتضاه تعدّد اشتغال ذمّة المكلّف بتعدّد سببه ، لأنّ مقتضى إطلاق سببيّة كلّ شرط تنجّز الأمر بالجزاء عند حصول شرطه ، ومقتضى تنجّز الخطاب عند كلّ سبب حصول اشتغال الذمّة للمكلّف بفعل الجزاء بعدد الخطابات المتوجّهة إليه ، فكأنّ المولى قال في المثال المفروض في أوّل العنوان بعد حصول الأسباب المفروضة : أعط زيدا درهما لأجل مجيئه ، وأعطه درهما لأجل إكرامه ، إلى غير ذلك ، ومن المعلوم أنّه لا يعقل تعدّد التكليف والاشتغال إلّا مع تعدّد المشتغل به ، فإذا اشتغلت ذمّته بإعطاء درهم مرّتين ، يجب عليه إعطاء درهمين ، لأنّ إعطاء درهم واحد لا يعقل أن يقع امتثالا لأمرين ، إلّا أن يكون الأمر الثاني تأكيدا للأمر الأوّل ، وكونه كذلك ممتنع بعد فرض تأثير السبب الثاني في الفعل ، إذا لا يمكن أن يكون قوله : أعط زيدا درهما لأجل مجيئه ، تأكيدا لقوله : أعط زيدا درهما لأجل إكرامه.

وبما ذكرنا ظهر ضعف ما قد يتوهّم من أنّ اللازم من تعدّد السبب إنّما هو تعدّد الوجوب ، وهو لا يقتضي تعدّد الواجب ، بل قد تجتمع إيجابات متعدّدة في واجب واحد للتأكيد أو لجهات متعدّدة ، كما لو قتل زيد بسبب الارتداد وقتل النفس المحترمة والزنا بمحصنة ، ونظائره في الشرعيّات كثيرة.

توضيح ما فيه من الضعف : أنّه لا شبهة في أنّ السبب الأوّل سبب تامّ في اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء في الخارج ، والسبب الثاني إن

٢٥٩

أثّر في اشتغال ذمّته ثانيا ، وجب أن يكون أثره اشتغالا آخر غير الاشتغال الأوّل ، لأنّ تأثير المتأخّر في وجود المتقدّم غير معقول ، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتا ووجودا غير متصوّر.

وإن شئت قلت : إنّ الفعل الواحد الشخصي لا يجوز أن يكون معروضا لوجوبين ، لاستحالة اجتماع الامتثال ، كالأضداد ، وأمّا الطبيعة النوعيّة فجواز اتّصافها بأحكام متماثلة أو متضادّة فإنّما هو بلحاظ وجوداتها المتكثّرة ، لا بلحاظ نفسها من حيث هي ، فإنّها بهذه الملاحظة لا تتحمّل إلّا حكما واحدا ، كالواحد الشخصي ، فلا معنى لتعلّق وجوبين بالطبيعة إلّا وجوب إيجادها مرّتين.

وإن لم يؤثّر السبب الثاني في الاشتغال ثانيا ، فيجب أن يستند عدم التأثير إمّا إلى فقد المقتضي أو وجود المانع ، والكلّ منتف في الفرض ، لأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة سببيّة الشرط مطلقا ، والمحلّ قابل للتأثير ، والمكلّف قادر على الامتثال ، فأيّ مانع من التنجّز؟

وأمّا وجوب قتل زيد بالأسباب العديدة في المثال المذكور فليس إلّا مسبّبا عن السبب الأوّل ، وما عداه من الأسباب اللاحقة إنّما تؤكّد ذلك الوجوب ، لا أنّها مؤثّرة في إيجاب جديد.

وكونها كذلك ليس لقصور في سببيّتها ، بل إنّما هو لعدم قابليّة المحلّ إلّا لذلك ، فكونها مؤكّدة وإن كان خلاف ظاهر الشرطيّة وإطلاق السببيّة ولكنّه بحكم العقل بعد إحراز عدم قابليّة المحلّ ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ المحلّ قابل ، والمقتضي تامّ التأثير ، فيتأثّر ، وليس حال

٢٦٠