الإِهْدَاء
اليك سيدي أيها الرضا
يا من واصلت طريق الحق والهدى
رغم عذابات الغربة ومعاناتها
ويا من فتحت نوافذ النور لمحبيك
رغم سطوة الظلام من حولك
ويا من وهبت الصبر معاني اخرى
لم تكن في مفردات المعاجم
اليك أهدي هذا الجزء من ( قوافل النور )
علّها تكشف بعض خطى مسيرتك الواثقة ..
وتتوشح بشيءٍ من عطائك الذي لا ينضب ..
ونورك الذي لا ينطفىء.
اضاءة
واذ تواصل ملحمة قوافل النور مسيرتها المتلألأة بانوار الائمة الاطهار عليهمالسلام وتسلط الضوء على معاناتهم ، وصبرهم ، وبطولاتهم ، وتفوقهم على الجهل والتخلف والانحراف ، تتوقف في محطة اخرى من محطات الامامة وهي فترة امامة الامام علي بن موسى الرضا عليهالسلام. تلك الفترة التي ما زالت مستعصية على تحليل المؤرخين ، وتقدير الباحثين بالرغم من توفر الوثائق والمستندات التاريخية عنها ، لانها تنطوي على احداث خفية ومؤامرات شائكة ، وتلون في المواقف ، والمتبنيات.
والشعر الذي يرى ان من مهامه ان يوصل سامعيه الى الحقيقة ، ويأخذ بيد قارئيه الى الواقع كما هو ، وهذه مهمة ليست باليسيرة ، اذ تحتاج الى عينين صادقتين وأذنين صاغيتين وفهم لا ينطق إلا بالحق بعيدا عن الافتراء والظنون والمبالغة.
وهكذا ترتسم صورة ذلك العصر بجميع شخوصه واحداثه وابعاده الخفية من خلال ملحمة « قوافل النور » المعطرة بانفاس علي بن موسى الرضا عليهالسلام وهو يدرج في المدينة المنورة صبياً ، قرب قبر جده رسول الله صلىاللهعليهوآله ثم وهو شاب ينهل من منابع الرسالة والنبوة ، وبعدها الحديث عن قصة رحلته من المدينة الى طوس ، وهو يطوي الصحارى المتعطشة الى ظلاله وصوت تراتيله الملهمة ، ثم وهو مطوق بالمؤامرات في احد قصور المأمون العباسي ، وما اكتنف ذلك من غموض في بيعته ، وضبابية في شهادته ، ويا لها من حياة مليئة بالعطاء والحركة من اجل الا تضيع مفاهيم الاصالة التي صنعتها دماء آبائه الشهداء الطاهرين ، ومن اجل حماية الامة من حمأة المسخ والقمع والتشويه.
أسأل الله سبحانه وتعالى ان يجعله في ذخيرة اعمالي يوم القاه انه ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المولد المبارك
رواية جاءت رواها الكاظم |
|
« بأنه يولدُ مني عالمُ » |
وغير مرة يقول الصادقُ |
|
يا ليتني الى الرضا أعانقُ |
فهو سميّ جدنا الفخر علي |
|
وهو وريث الطاهرين الأولِ (١) |
* * *
__________________
(١) تظافرت الروايات على عظمة قدر الامام الرضا عليهالسلام وانه كان محل عناية آبائه واجداده المعصومين عليهمالسلام وانهم كانوا يبشرون بولادته.
وقد ذكر الطبرسي بسند متصل الى الامام الكاظم عليهالسلام انه كان يقول لبنيه :
هذا اخوكم علي الرضا عالم آل محمد صلىاللهعليهوآله فأسألوه عن اديانكم ، واحفظوا ما يقول لكم فاني سمعت ابي يقول لي غير مرة : ان عالم آل محمد لفي صلبك ، وليتني ادركته سميّ جدنا امير المؤمنين علي عليهالسلام. اعلام الورى ٢ / ٦٥.
وذكر القمي كذلك بسند متصل الى علي بن عبد الله الهاشمي قال :
كنا عند قبر رسول الله صلىاللهعليهوآله نحو من سبعين رجلاً من موالينا اذ اقبل ابو ابراهيم موسى بن جعفر عليهالسلام ويد عليّ الرضا ابنه في يده فوقف وقال : اشهدوا انه وكيلي في حياتي ، ووصي بعد مماتي. كفاية الأثر / ٢٦٧.
الوالدة الطاهرة
وجاء ان ام موسى البرة |
|
قد اشترت يوماً فتاةً حرة |
جارية من خير اهل العجمِ |
|
كانت تسمى عندهم « بتكتمِ » |
من أفضل النساء دينا وهدى |
|
كريمة وكفها كف الندى |
قد وهبتها مرةً لموسى |
|
فاصبحت لابن التقى عروسا |
فحملت حملا خفيفاً طيبا |
|
وشرفت بابن النبيِّ نسبا |
ووضعتهُ بالعلى واليمُنِ |
|
يخجلُ حسنه جنان عدنِ |
فهو عليٌ ذو الندى والفضلِ |
|
شبلٌ حوى مفاخراً من شبلِ |
بخرقةٍ بيضاء قد لفتهُ |
|
وبحليب طاهرٍ سقتهُ |
جاءت به تحمله لموسى |
|
غرساً باحضان التقى مغروسا |
فضمه بالحب والحنانِ |
|
وجال في أذنيه بالأذانِ |
حنكه بجرعةِ الفراتِ |
|
وقال ذا بقية الهداةِ |
طوبى لمن صدقهُ وأيدهُ |
|
وألف ويل للذي قد جحدهُ (١) |
__________________
(١) ذكر المؤرخون ان السيدة « حميدة
» والدة امامنا الكاظم عليهالسلام اشترت جارية اختلفت المصادر التاريخية في تحديد اسمها ، وكانت الجواري في ذلك العصر تُعرف بكثرة الاسماء
والطفها ، فقيل انها « تكتم » وقيل « نجمة » وقيل « سوسن » وقيل « صقيل » والمشهور
« تكتم » وهي عربية مغربية ، وقد اطبقت المصادر على طهرها ، وعفتها ، وسلامة دينها ، وسعة كرمها وسرعان ما رأت السيدة حميدة رؤيا يأمرها رسول الله صلىاللهعليهوآله ان تهديها زوجة لولده موسى بن جعفر عليهالسلام لكي تنجب منه عالم آل محمد صلىاللهعليهوآله وسرعان ما وهبتها
للكاظم عليهالسلام فانجب منها ولده الرضا عليهالسلام فسمّاه بـ « عليّ » سمي جده امير المؤمنين عليهالسلام علي
بن ابي
=
__________________
=
طالب ، وسرعان ما حملته امه « تكتم » الى والده الكاظم عليهالسلام ليجري عليه سنة جده صلىاللهعليهوآله مما يحتاج اليه المولود الجديد.
وعن مراسيم هذا المولد المبارك قال الشيخ الصدوق : واخذ الكاظم عليهالسلام وليده المبارك وقد لُفّ في خرقة بيضاء واجرى عليه المراسم الشرعية فأذن في اذنه اليمنى واقام في اليسرى وحنكه بماء الفرات ثم رده الى امه قائلاً لها : خُذيه فأنه بقية الله في ارضه ، ثم سماه بأسم جده امير المؤمنين علي عليهالسلام تبركاً بهذا الاسم العظيم. عيون اخبار الرضا ١ / ١٨.
وقد ذكر كذلك الطبرسي بسند متصل الى علي بن ميثم قال : اشترت « حميدة المصفاة » جارية اسمها « تكتم » وكانت من افضل النساء في عقلها ، ودينها ، ثم قالت حميدة لابنها موسى عليهالسلام : يا بني ان تكتم جارية ما رأيت قط افضل منها ، ولستُ اشك ان الله سبحانه سيظهر نسلها وقد وهبتها لك فاستوصِ بها خيرا. اعلام الورى ٢ / ٤٠.
وهنا نود الاشارة الى الاختلاف في تحديد ميلاد الامام الرضا عليهالسلام فقد حصل بين المؤرخين تضارب في تحديد ولادته ، ولكن المشهور انه ولد في المدينة في الحادي عشر من ذي القعدة عام ١٤٨ هـ.
كنيته وألقابهُ
كنيتهُ قد عرفت « ابو الحسن » |
|
جاءته فخراً عن ابيه المؤتمن |
ألقابه الصابرُ والرضيُّ |
|
والضامن الفاضل والوفيُّ |
وهو سراجُ الله بل غيظ العدى |
|
وقرةُ الأعين بل نور الهدى |
واجملُ الالقاب عنده الرضا |
|
وهو رضى منه بما جاء القضا |
قد رضي المخالف الحقودُ |
|
بنهجهِ والمؤمن الودودُ (١) |
* * *
__________________
(١) من المؤكد ان الامام الكاظم عليهالسلام قد كنّى ولده علي الرضا عليهالسلام بـ « ابي الحسن » وهي ايضاً كنية ابيه الكاظم عليهالسلام وجده امير المؤمنين علي عليهالسلام وكنية الامام علي الهادي عليهالسلام.
وقد ذكر العلامة المجلسي عن الامام الكاظم عليهالسلام قال : قال الامام الكاظم عليهالسلام لعلي بن يقطين : هذا ابني واشار الى الرضا عليهالسلام سيد ولدي وقد نحلته كنيتي. بحار الانوار ١٢ / ٣.
ولمّا كان الامام الكاظم عليهالسلام يُكنى بـ « ابي الحسن » وهذه ايضاً كنية ولده « علي الرضا » فقد قيل للامام الكاظم بـ « ابي الحسن الماضي ، او الاول » وقيل للرضا بـ « ابي الحسن الثاني » للتمايز بين الاثنين ، ومن المفيد ذكره هنا ان الامام علي الهادي عليهالسلام يُكنى بـ « ابي الحسن الثالث ».
والقابه كثيرة منها : سراج الله ، نور الهدى ، قرة عين المؤمنين ، الفاضل ، الصابر ، الوفي ، الصديق ، الرضا ؛ وهو اشهرها.
وبالاجمال فقد اتفق المؤرخون على الالقاب التالية :
الرضا : لأنه كان رضى الله عز وجل في ارضه ورضى لرسوله والائمة من بعده ، قيل سُمي بذلك لأنه رضي به المخالفون من اعدائه كما رضي به الموافقون من اوليائه ، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه ، وقيل لأنه رضي بما جاء به القدر.
الصابر : وذلك لشدة صبره على المحن. والزكي : لأنه من ازكياء البشر. والولي : لعموم ولايته. والوفي : لوفائه لربه وللناس. والسراج : لأنه يُهتدى به. الفاضل : لأشتهاره بالفضل. والصدّيق : لأنه كالصديق نبي الله يوسف عليهالسلام لحصول الولاية له من قبل حاكم عصره.
إمامته
نصّبهُ الكاظم للامامه |
|
بنصه معظماً مقامه |
فقد روى نصَ الامام فيه |
|
جماعةٌ تنقلُ عن أبيه |
منهم حسين وهو ابن المختار |
|
ومنهم « محمد بن عمار » |
ومنهم « زيادٌ بن مروان » |
|
وثمّ داودُ فتى سليمان |
قالوا : فمن بعدك فينا يهدي ؟ |
|
فقال : ذا صاحبكم من بعدي |
فهو أحب أهل بيتي عندي |
|
وهو وصييّ وكبيرُ ولدي (١) |
__________________
(١) تعتقد الامامية ، مدرسة اهل البيت عليهمالسلام : ان الامامة منصب آلهي ، وقيادة عامة للمجتمع ، وفق احكام الشرع لا يتسنى لأحد ان ينالها بأختيار شخصي ، وهي نص واصطفاء ونصبٍ من الله سبحانه ، وعلى هذا الاساس كان تنصيب الامام للذي يلي بعده من الائمة ضرورياً للكشف عن مصاديق هذا الاصطفاء الآلهي والاختيار الرباني.
وقد تظافرت الروايات على تنصيب الامام الرضا عليهالسلام قبل ولادته وبعدها بحيث ورد بعضها عن الرسول الاعظم صلىاللهعليهوآله بواسطة بعض الصحابة ، وبعضها ورد عن طريق آبائه الكرام عليهالسلام ولا سيما جده الامام الصادق عليهالسلام وابيه الكاظم عليهالسلام.
وممن روى النص على الامام الرضا عليهالسلام من ابيه الكاظم عليهالسلام جماعة من خاصته واهل ثقاته محمد بن اسحاق بن عمار ، والحسين بن المختار ، وزياد بن مروان النقدي الواقفي ، وداود بن سليمان ، ومحمد بن سنان ، وعلي بن يقطين ، واتماماً للفائدة ننقل هنا اربعة من هذه النصوص الدالة على الوصية بإمامته عليهالسلام :
ذكر الطبرسي بسند متصل الى داود بن سليمان قال : قلتُ لأبي ابراهيم ـ يقصد الكاظم عليهالسلام : اني اخاف ان يحدث حدثٌ ولا القاك فأخبرني من الامام بعدك ؟
فقال عليهالسلام : ابني علي الرضا عليهالسلام. اعلام الورى ٢ / ٤٦.
=
__________________
=
وذكر الطبرسي ثانية بسند متصل الى الحسين بن المختار قال : خرجت الينا الواح من ابي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام وهو في حبس هارون يقول فيها : عهدي الى اكبر ولدي ان يفعل كذا وكذا.
وذكر الطبرسي ايضاً بسند متصل الى محمد بن اسحاق بن عمار قال : قلتُ لأبي الحسن الاول ـ يقصد الكاظم عليهالسلام ـ الا تدلني على مَنْ اخذ عنه ديني من بعدك ؟ فقال عليهالسلام : هذا ابني علي الرضا.
وذكر الطبرسي كذلك بسند متصل الى زياد بن مروان القندي ، وكان من الواقفة قال : دخلت على ابي ابراهيم الكاظم عليهالسلام وعنده ابو الحسن علي ابنه عليهالسلام فقال : يا زياد هذا ابني كتابه كتابي وكلامه كلامي ورسوله رسولي وما قال فالقول فيه.
أخلاقهُ وعبادتهُ وعلومه
وهو الذي ينشر علم الدينِ |
|
ويبذل الاموال للمسكينِ |
يبكي لدى المحراب حتى الفجر |
|
وصبره ما مثله من صبر |
وزهدهُ تعرفه الزهّادُ |
|
وذكره تعرفه العبادُ |
وكفه أندى من الغمامِ |
|
تمطرُ بالحب على الانامِ |
« الجفرُ » من علومه الخفيه |
|
والطبُ من أسراره المطوية |
دانت له الأمةُ بالولاءِ |
|
والحب والتبجيل والثناءِ (١) |
__________________
(١) إطبق اهل التراجم والسير على عظمة الامام الرضا عليهالسلام وسمّوه ، وعلو اخلاقه ، وكمال صفاته ، وشهرة فضائله ، فقد عُرف بالزهد ، وسعة الصبر ، وطول العبادة ، وكثرة العطاء.
وفي هذا المجال تواترت الروايات في اثبات جملة من فضائل اخلاقه ، ونشر إضمامة طيبة من عطر سلوكه واخلاقياته ، ومن هذا القبيل ما نقله الشيخ باقر شريف القرشي ، عن ابراهيم بن العباس الصولي قوله عن شخصية الامام الرضا عليهالسلام : ما رأيت ولا سمعت بأحدٍ افضل من ابي الحسن الرضا عليهالسلام ما جفا احداً قط ولا قطع على احدٍ كلامه ولا رد احداً عن حاجةٍ وكان يحي اكثر لياليه بالمعروف والصدقة والعبادة. حياة الامام الرضا عليهالسلام ١ / ٧١.
قد تظافرت الاخبار بأن النبي صلىاللهعليهوآله املى على الامام علي عليهالسلام كتابي الجفر والجامعة وان فيهما علم ما كان وما يكون الى يوم القيامة ، ونقل الكليني ان هذين الكتابين وصلا الى الامام الصادق عليهالسلام ثم اورثهما الى ولده يتوارثونهما واحداً بعد واحد. سفينة البحار ١ / ٤١٠
وقال المحقق الشريف في كتابه شرح المواقف : الجفر والجامعة كتابان لعلي عليهالسلام ذكر فيهما على طريق علم الحروف الحوادث التي تحدث حتى انقراض الدنيا وكان الائمة من ولده يعرفونهما ويحكمون بهما.
=
__________________
=
وقد نقل المفيد بسندٍ متصل الى نعيم القابوسي قال : سمعت ابا الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام يقول : ان ابني علي اكبر ولدي ، واثرهم عندي ، وهو ينظر معي في الجفر ، ولم ينظر فيه الا نبي او وصي. الارشاد / ٣٠٥
اما بخصوص علم الامام الرضا عليهالسلام بالطب فقد اقر الجمهور له بذلك ، فقد املى الامام الرضا عليهالسلام للخليفة العباسي المأمون رسالته الشهيرة في الطب « الرسالة الذهبية » والتي منحها المأمون وساماً عظيماً تداولها بين الاطباء ، ومنحه عليها لقب « الطبيب » بل صارت محل اعتناء القدامى والمحدثين ، والذين تداولوها بالتقدير والتبجيل والثناء والشرح والاطراء.
الواقفة
الا قليلاً منهم توقفا |
|
بالجهل في أمر الرضا ما اعترفا |
فشاع أنهم رجال « الواقفة » |
|
وهم لعمري قلةٌ مخالفة |
فمنهم القندي وابن مروان |
|
ثم الرواسي ابن عيسى عثمان |
ومنهم « علي البطائني » |
|
حيثُ غدا في ماله كالخائنِ |
وابن أبي بشرٍ هو السرّاج |
|
ومن له عن الهدى إعوجاجُ |
قد نازعتهم أنفسٌ طمّاعه |
|
ان يخرجوا عن منهج الجماعه |
لكنما الرضا بما قد وهبا |
|
من عصمةٍ نيطت على اهل العبا |
لم يتزلزل منهجا وموقفا |
|
ولم يعر بالاً لمن قد وقفا |
فقال عنهم قوله موافقه |
|
« عاشوا حيارى ومضوا زنادقه » |
قد انكروا أمامة الرضيّ |
|
وهو ابن موسى المبتلى عليّ |
ومن له كل المعالي تشهدٌ |
|
ونحوهُ خير السجايا تقصدُ |
مكارمُ الاخلاق من عاداتهِ |
|
حتى غدا الزمان من رواتهِ (١) |
__________________
(١) انتقلت الامامة بعد استشهاد الامام الكاظم عليهالسلام لولده الكبير علي الرضا عليهالسلام وقد دانت له عموم الشيعة بالولاء والطاعة والقبول ، لكنه عليهالسلام واجه مشكلة خطيرة ، وهي توقف جماعة من شيعته في امامته طمعاً واخلاداً الى الدنيا وابتزازاً لما في ايديهم من اموال ابيه الكاظم عليهالسلام.
ومن الاحداث التي جرت في عصر
الامام الرضا عليهالسلام وازعجتهُ الى حدٍ بعيد هي انتشار مذهب « الواقفة » بين صفوف الشيعة ، فقد ذهب هؤلاء الى ان الامام الكاظم عليهالسلام حي
لم يمت والسبب في ذلك ان الامام الكاظم عليهالسلام عندما كان في سجن هارون
العباسي قد
=
__________________
=
نصب وكلاء له لجمع الاموال من الحقوق الشرعية ، وقد اجتمعت عند هؤلاء اموال طائلة ، فلما استشهد الامام عليهالسلام جحدوا موته واشتروا بتلك الاموال ضياعاً ، ودوراً ، ورفضوا تسليمها الى الامام من بعده ولده الرضا عليهالسلام وقام هؤلاء ببث الدعايات ، وشراء الضمائر ، واضلال الناس .. لكن الامام الرضا عليهالسلام تصدى لهؤلاء بمختلف الوسائل حتى انقطع زيفهم وظهر بطلان دعواهم ، بل ورجع بعضهم الى الاقرار بأمامته ، وفي هذا المجال كتب الامام الرضا عليهالسلام عنهم : الواقف حائد عن الحق ، مُقيم على السيئة ، وان مات كانت جهنم مأواه وبئس المصير. وقال عنهم ايضاً : انهم زنادقة وكفار مشركون ومن ابرزهم الحسن بن مهران ، وزياد بن مروان القندي ، وغيرهم.
موقف المأمون
ميراثهُ من احمد هداهُ |
|
ومن عليّ المرتضى علاهُ |
فعن « أبي الصلت » أتت رواية |
|
وياسر الخادم ذي الدراية |
إنَّ له المأمون قال مرة |
|
وقد بدت في وجهه المسرة |
فضلك والعلمُ مع العباده |
|
والورعُ الخالصُ والزهاده |
اراك أنتَ الكفء للخلافة |
|
بروحك الرقيقة الشفافة |
قال الرضا أفخر بالتعبدِ |
|
واكتسي بالزهد والتجردِ |
عن المحارمِ إرتديتُ الورعا |
|
للفوز في دنياي والاخرى معا (١) |
* * *
__________________
(١) أن اخلاق الامام الرضا عليهالسلام وكمالاته قد اعترف بها البعيد والقريب والعدو والصديق ولعل في هذا الاعتراف الصادر من المأمون العباسي ما يدلّل على عظمة الامام عليهالسلام وهذا الاعتراف جاء ضمن مجلس عقده المأمون حيث اكره الامام عليهالسلام على القبول بولاية العهد.
وقد اشار الى ذلك الشيخ الصدوق حيث نقل لنا بسند متصل الى ابي الصلت الهروي قال : قال المأمون العباسي للرضا عليهالسلام : يا ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد عرفتُ فضلك ، وعلمك ، وزهدك ، وورعك ، وعبادتك ، واراك احق مني بالخلافة ، فقال الرضا عليهالسلام : بالعبودية لله عز وجل افتخرُ ، وبالزهدُ بالدنيا ارجو النجاة من شرها ، وبالورع عن المحارم ارجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا ارجو الرفعة عند الله عز وجل. عيون اخبار الرضا ١ / ١٥١.
صفاتهُ وسجاياه
وبالتواضع ارتفعتُ شأنا |
|
وزدتُ بالقربى ندى وحسنى |
ما ردّ يوماً احداً عن حاجه |
|
ولم يعاند قَّطُّ في لجاجه |
ولم يخاصم أحداً أو يعتدي |
|
وبالسلام في الطريقِ يبتدي (١) |
وعلمه أعظم من أن يخفى |
|
قد بلغ الرواةُ عنه ألفا |
* * *
__________________
(١) كان الامام الرضا عليهالسلام على درجة عالية من الادب ، والتواضع ، ومكارم ، الاخلاق ، وكيف لا يكون كذلك وهو سليل النبوة وخلاصة الامامة ، ولهذا اقرّ الجميع بفضله وتواضعه وسعة علمه وعظم عبادته وشهرته في الجود والعطاء ، وقد اورد المؤرخون في كتبهم المزيد من محاسن اخلاقه ، وجلائل فضائله ، في جميع مكارم الاخلاق مما يجعل الاعناق خاضعة لعلو مقامه وجميل صفاته.
إحتجاجاته
حاججه الجالوت والروميّ |
|
والهربد الاكبر والصّبيُّ |
لكنه أفحمهم بالحججٍ |
|
وخاض بالعلوم خوض اللجج |
وهو ابن نيّفٍ وعشرين سنه |
|
يروى أحاديث النبي المتقنه |
وبعدها يركن للعباده |
|
فهي بعنق المتقي قلاده |
يُطيلُ في صلاته السجودا |
|
ويكثر القيام والقعودا (١) |
* * *
__________________
(١) فمن الاحتجاجات ما رووه المؤرخون : من ان المأمون امر الفضل بن سهل أن يجمع له علماء الاديان والفِرق والمتكلمين ، فجمعهم وأدخلهم على المأمون بأمره ، ثم قال لهم المأمون : إنما جمعتكم لخير واحببت ان تناظروا ابن عمّي هذا المدني ، القادم عليَّ ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ولا يتخلّف منكم احد.
قام الإمام عليهالسلام بالرد على جميع ألوان الانحراف الفكري من أجل اضعاف جبهة الانحراف والمنحرفين ، وكان يستهدف الافكار ، والاقوال تارة ، كما يستهدف الواضعين لها ، والمتأثرين بها تارة اُخرى.
ففي ردّه على المشبّهة قال عليهالسلام : الهي بدت قدرتك ، ولم تبدِ واهية فجهلوك ، وقدروك والتقدير على غير ما به ، وصفوك وإني بريء يا الهي من الذين بالتشبيه طلبوك ليس كمثلك شيء.
وفي رده على المجبرة والمفوضة قال عليهالسلام : من زعم ان الله يفل افعالنا ثم يعذبنا عليها ، فقد قال بالجبر ، ومن زعم ان الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق الى حججه عليهم السلام ، فقد قال بالتوفيض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك.
وله ردود عديدة على الغلاة والمجسّمة واصحاب التفسير بالرأي والقياس ، كما ان له رداً على الفرق غير الاسلامية كالزنادقة واليهود والنصارى والصابئة وغيرهم.
كرمهُ وسخاؤه
ويكثر الأذكار والتلاوة |
|
ويُكرم الاضياف في حفاوة |
مقدمٌ بالجود والسخاءِ |
|
والعطف والاكرام والعطاء |
فقد أجاز « دعبل الخزاعي » |
|
بستمائةٍ كما الشعاعِ |
اعطى « أبا نؤاسَ » ما اعطاهُ |
|
ما انقطعت من الندى يداه |
ومعتقاً الفاً من الرقيقِ |
|
في زمن العسرة أو في الضيقِ |
يدعو مواليه الى الطعامِ |
|
بالحب والرحمة والاكرامِ |
وعندهم يجلس في تواضعِ |
|
يتلو من الآيات والشرائعِ (١) |
__________________
(١) ان الشعر العقائدي يُعطي للعقيدة زخماً وطاقة للثبات والتحدي والانتشار ومن هذا المنطلق سعى الامام الرضا عليهالسلام لأكرام الشعراء ذوي العقيدة الخالصة والمباديء الحقة ولعل من ابرزهم دعبل الخزاعي ، صاحب القصائد الفاخرة في حضرة الامام عليهالسلام ولا سيما « تائيته » ذائعة الصيت وكذلك ابو نؤاس صاحب المقطوعات الفاخرة في مدح الامام الرضا عليهالسلام وكذلك الصولي وغيرهم ، وقد وذكر المؤرخون صوراً رائعة لموقف هؤلاء الشعراء في حضرة الامام عليهالسلام ولا سيما دعبل الخزاعي ، حيث انشد تائيته العصماء في حضرة الامام عليهالسلام وابكاه مما ادى بالامام الى اكرامه بـ ٦٠٠ درهم وجُبة من الخز ، وكذلك اكرام ابي نؤاس صاحب المقطوعة الهائية الشهيرة ، وسنشير الى المزيد من ذلك لاحقاً.
ومن المفيد ذكره هنا هو الخلط والاشتباه في الشاعر ابي نؤاس الذي نقصده في اكرام الرضا عليهالسلام له ، فقد يتوهم البعض انه هو ابو نؤاس المشهور صاحب الديوان وممن مدح هارون العباسي وعُرف بالخمور والفجور والخلاعة والذي يُعرف عند الائمة عليهمالسلام بأسم « ابو نؤاس الباطل ».
=
__________________
=
فالشاعر ابو نؤاس المقصود اولاً والذي اكرمه الامام الرضا عليهالسلام وهو صاحب الهائية المشهورة هو سهل بن يعقوب بن اسحاق الامامي الشيعي ، وهو ممن اختص بالامام الصادق والكاظم ، والرضا ، والهادي عليهمالسلام وكان يتشيع ، وقد اشار اليه الشيخ الطوسي في كتابه الرجال وكان الامام الرضا عليهالسلام وقيل الامام الهادي عليهالسلام قد قال له : انت نؤاس الحق ومَنْ تقدمك الباطل.
وهو صاحب هذه الابيات الطائرة في الآفاق في حق الرضا عليهالسلام :
قيل لي انت اوحدُ الناس طُراً |
|
في فنونٍ من الكلام النبيه |
لك من جوهر الكلام بديعٌ |
|
يثمر الدرّ في يدي مجتنيه |
فعلام تركت مدح ابن موسى |
|
والخصال التي تجمعنَّ فيه |
قلتُ لا اهتدي لمدح امامٍ |
|
كان جبريل خادماً لأبيه |
وقد اورد هذه الابيات الشيخ الصدوق في عيون اخبار الرضا ، وكان الشيخ المحقق عباس القمي هو اول مَنْ نبّه على هذا الخلط والاشتباه في كتابه الكنى والالقاب ، واشار الى وجود اثنين من الشعراء بأسم « ابو نؤاس » وان « ابو نؤاس الباطل » هو المشهور في عهد هارون وكان معروفاً بالفجور ، والخمر ، وان صاحبنا شاعر الرضا عليهالسلام هو « ابو نؤاس الحق » وهو صاحب الهائية انفة الذكر.
ونود هنا ان نشير الى اننا سنشير في هذه التعليقات في غير هذا المكان لما يقع فيه الخلط والاشتباه مما له علاقة بالامام الرضا عليهالسلام وخاصة عندما نتطرق لما يُعرف بـ « سليمان المروزي » وكذلك معروف الكرخي.
زهدهُ الواعي
يجلسُ في الصيف على حصيرِ |
|
وزادهُ قرصٌ من الشعيرِ |
يلبس تحت ثوبه المسوحا |
|
بذاك كان الزاهدَ الممدوحا |
وحين حاججته أهلُ النقدِ |
|
معترضين نهجه في الزهدِ |
قال : انظروا يوسفَ من فرعونِ |
|
منعَّماً غدا بكل لونِ |
لكنه يحكم بالعدل وما |
|
يخاف بالحكم سوى ربِّ السما |
مَنْ حرّم الزينة للعباد |
|
والطيبات من لذيذ الزاد |
فالطيبُ لا يخدشُ بالتواضع |
|
وهو الذي أُستحبَ في الشرائعِ |
والاصلُ في الزهد عفافُ النفسِ |
|
لا الرث في « الزي » ولا في اللبسِ (١) |
* * *
__________________
(١) ومن صفات الامام الرضا عليهالسلام الزهد في الدنيا ، والاعراض عن مباهجها وزينتها ، وقد تحدث عن زهده محمد بن عباد حيث قال : كان جلوس الرضا عليهالسلام على حصيرة في الصيف ، وعلى مسح في الشتاء ، ولباسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيا.
والمسح : هو الكساء من الشعر.
والتقى به سفيان الثوري ، وكان الإمام عليهالسلام قد لبس من خز ، فأنكر عليه ذلك وقال له : لو لبست ثوباً ادنى من هذا. فاخذ الإمام عليهالسلام يده برفق ، وأدخلها في كُمّه فإذا تحت ذلك الثوب مسح ، ثم قال له : يا سفيان ! الخز للخلق ، والمسح للحق ...
وحينما تقلّد ولاية العهد لم يحفل بأي مظهر من مظاهر السلطة ، ولم يقم لها أي وزن ، ولم يرغب في اي موكب رسمي ، حتى لقد كره مظاهر العظمة التي كان يقيمها الناس لملوكهم ولم يكن شيء في الدنيا أحب الى الإمام الرضا من الإحسان الى الناس ، والبر بالفقراء والمساكين. وقد ذكرت بوادر كثيرة من جوده وإحسانه. اعلام الهداية ١٠ / ٢٧ ـ ٢٨.