الأِهْدَاء
الى الامام أبي الحسن
علي بن محمد الهادي عليهالسلام
الذي لم يزل يعاني .. وحشة الغربة ، والحصار
أقدم هذا الجزء من (قوافل النور)
موشحاً بالحب ، والدمع ، والوفاء.
اضاءة
هذا هو الجزء الثاني عشر في حياة الامام العاشر من ائمة اهل البيت عليهمالسلام الا وهو الامام علي بن محمد الهادي عليهالسلام الذي عاش محنة المراقبة والحصار الشديد في سامراء. وواجه حكام عصره بصبرٍ ، وحلمٍ ، وعناء.
فقد عاش الامام الهادي فترة ضعف الدولة العباسية وتفككها ، وسيطرة القادة الاتراك على مقاليد الامور فيها ، كما عاش مرحلة الصراعات السياسية والفكرية ، وظهور الفرق والاتجاهات المنحرفة التي حاولت تشويه الاسلام من داخله ، وتحريف المفاهيم والاحكام ، وتأويل آيات القرآن الكريم على غير وجهها الصحيح.
فكان للامام الهادي عليهالسلام الدور الامثل في مواجهة البدع والاتجاهات الضالة ، من خلال اعداده للجماعة الصالحة التي حملت فكره وتراثه وهداه ، وكان دوره جزءً مكملاً لادوار آبائه الطاهرين الذين أرسوا قواعد مدرسة فكرية راسخة تمثل أصالة الاسلام في عقيدته ، وشريعته ، وتعاليمه.
إن حياة الامام ابي الحسن الهادي عليهالسلام حافلة بالحركة ، زاخرة بالعطاء على مختلف الاتجاهات والاصعدة.
وهذا الجزء من ملحمة قوافل النور ، يستعرض ضمن سياقه الادبي أهم المحطات في حياته الشريفة ، ويرسم الملامح العامة لدوره وحركته على مستوى الفكر والسياسة ، والاجتماع الانساني.
كما يقف هذا الجزء من الملحمة عند
أهم الاحداث السياسية والاجتماعية التي عاصرها الامام الهادي عليهالسلام وكانت لها انعكاسات ايجابية أو سلبية على
حركته ومشاريعه ، ولم تغفل « قوافل النور » استعراض أهم تلامذته والرواة عنه ، فقد توقفت عند ثلة مباركة من خيرة الفقهاء والمحدثين الذين حملوا تراث الامامة وعبروا به الى الاجيال زاداً طيباً وقبسات من ضياء.
وأخيراً توقفت الملحمة بألم وحسرة عند الحادثة المفجعة التي جرحت قلوب المسلمين عموماً ، وقلوب شيعة اهل البيت عليهمالسلام على وجه الخصوص ، ألا وهي حادثة الاعتداء الآثم بتفجير مرقده الشريف وقبته الذهبية المباركة من قبل شذاذ الآفاق ، من التكفيريين ، وبقايا فلول حزب البعث الكافر.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ويجعلنا من المتمسكين بهدى الامام الهادي والمدافعين عن خطه ونهجه انه سميع مجيب.
ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
المولد المبارك
في ليلةٍ عظيمة السعاده |
|
بشرَ داعي الخير بالولاده |
يومَ ولادة الامام الهادي |
|
نجلِ الامام الطاهرِ الجوادِ |
شعّت به مدينةُ النبيِّ |
|
مشرقةً من وجهه البهيَّ |
في النصفِ من ذي الحجة الحرامِ |
|
محجةً لأمةِ الاسلامِ |
في قرية كانت تسمى « صريا » |
|
قد ملئت نوراً به وهديا |
يا فرحةً قد عمت الاقطارا |
|
وعمّت الصغارَ والكبارا |
فالنورُ في مرابع النبوه |
|
والخيرُ في مواطنِ الفتوه |
يملأ بالبهجةِ كل قلبِ |
|
ويطلقُ ابتسامةً بحُبِ |
تحملهُ في حضنها « سُمانه » |
|
بالطهرِ والعفةِ والامانه (١) |
__________________
(١) لا يخفى على المتتبع الخلاف المألوف في تحديد ولادة ووفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله والائمة المعصومين من ذريته عليهمالسلام وقد رأينا ذلك واضحاً فيما سبق ، ويظهر أن هذا الاختلاف قد وقع هنا في حياة ووفاة إمامنا الهادي عليهالسلام وقد استفاض الشيخ عباس القميّ بيان الاقوال بشأن ولادة الامام الهادي عليهالسلام واخيراً رجّح ولادته في النصف من ذي الحجة سنة ٢١٢ هـ في المدينة المنوّرة في قرية يُقال لها « صريا » أو « صربا » أو « صرياء » أسّسها جده الامام الكاظم عليهالسلام على بعد ثلاثة إميال من المدينة المنوّرة. منتهى الآمال ٢ / ٥٩١.
كذلك أختلف الرواة وأهل التاريخ في تحديد إسم أمه ، وأصلها رغم اتفاقهم على جلالة قدرهم وعظم شأنها ، فمنهم مَنْ يقول أن أسمها « سمانة » وهي مغربية الاصل ، بينما يقول النوبختي في فرق الشيعة ان إسمها « سوسن » في حين جمال الدين الشافعي يقول في الدر النظيم أنها « سمانة » وتُعرف بالسيدة ، وهي مغربية الاصل ، كنيتها « أم الفضل ».
=
__________________
=
ويطلع علينا جماعة كالشيخ محمد أمين الطويل ، والشيخ عبد الرزاق البدري في سيرة الهادي ، وربما غيرهم من يقول أنها « أم الفضل » بنت المأمون العباسي ، بينما تُشير جلّ المصادر القديمة أن هذه المرأة لم تنجب أي ولد للإمام الجواد عليهالسلام وأن الامام الهادي عليهالسلام ليس منها على الاطلاق.
وقد أتفقّ كثير من الرواة على جلالة شأن أمه « سمانة » ونقاء ثوبها وإتّصافها بالعفّة والطهارة ، فقد نقل الشيخ القمّي بسندٍ معتبر عن الامام الهادي قوله عليهالسلام : أمّي من أهل الجنة لا يقربها ولا ينالها كيد جبّار عنيد وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام ولا تختلف عن أمهات الصدّيقين والصالحين. مستدرك السفينة ٣ / ٦٠٥.
ونقل القمي أنها كانت دائمة الصوم ، ولا مثيل لها في الزهد والتقوى. منتهى الآمال ٢ / ٥٩١.
ألقابهُ وصفاته
قد فرح الجوادُ في لُقياهُ |
|
فما له خليفةٌ سواهُ |
منوهاً عن فضله ومعلنا |
|
فهو سليلُ الاوصيا الامنا |
قد عُرفت كنيتهُ ابو الحسن |
|
ألقابهُ الهادي النجيبُ المؤتمن |
وهو النقيُّ والتقيُّ المرتضى |
|
والعالمُ الفقيه راضٍ بالقضا |
وقد يُسمى الطيبُ الامينُ |
|
والكلُ في صفاته مفتونُ |
عبادةٌ مقرونة بالعلم |
|
وسيرةٌ مشفوعةٌ بالحلمِ (١) |
__________________
(١) تلقى إمامنا الجواد عليهالسلام وليده علي الهادي عليهالسلام من يد أمه الفاضلة « سمانة » حيث شاعت اجواء الفرح ، والسرور ، والبهجة بهذا المولود الكريم ، وتشير الروايات الى أن الامام الجواد عليهالسلام ضمّه الى صدره وأجرى المراسم النبوية المترتبة للمولود الجديد ، لا سيما وهو وصيّه من بعده ، ومُبشراً شيعته أنه خليفته من بعده في سلسلة الامامة ، ومُعلناً أمام الملأ جلالة فضله ، وكونه سليل الاولياء السابقين من أهل البيت عليهمالسلام وقد حرص والده عليهالسلام على تغذيته بمكارم الاخلاق والعلم والحكمة ، كما وحرص منذ الوهلة الاولى على التركيز على أنه الوصي من بعده ، وأخذ يكرّر ذلك في مجالسه الخاصّة والعامة وكونه الامام من بعده.
عُرف عليهالسلام في عصره بكنيته « ابي الحسن » تيمّناً بجدّه أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام وجده الرضا عليهالسلام حيث كانا يكتبان بهذه الكنية ، وللتفريق بينهم يكنّيان الامام الهادي عليهالسلام بـ « ابي الحسن الثالث ».
اما القابه عليهالسلام فكثيرة لتعدّد صفاته وإتساع محاسن أخلاقه قال الشيخ القمّي : اشهر القابه النقي ، والهادي ، وربما قيل له النجيب ، والمرتضى ، والعالم ، والفقيه ، والناصح ، والمؤتمن ، والطيّب ، والمتوكل. منتهى الآمال ٢ / ٥٩١.
وكان عليهالسلام يعرُف
بـ « المتوكل » لشدة توكّله على الله سبحانه ، لكنه كان يخفي هذا اللقب
=
__________________
=
ويأمر أصحابه بذلك لكونه لقب الخليفة « جعفر » في ذلك الزمان ، كما لأنه لكونه عليهالسلام سكن محله « عسكر » هو وولده ابا محمد « الحسن عليهالسلام » كانا يعرفان به « العسكريين » وقد أستفاضت بين الرواة صفاته ، وكان عليهالسلام معروفاً آنذاك بجلائل الاخلاق ، ومحاسن الصفات.
قال ابن شهر آشوب : كان أطيب الناس لهجةً ، وأصدقهم قولاً ، بحيث إذا صمت علتهُ هيبة الوقار ، وإذا تكلم سماه البهاء. المناقب ٣ / ٥٠٥.
ووصفه الاربلي قال : واما مناقبه فمنها ما حلّ في الآذان محلًّ حلّاها بأشنافها ، وتشهد له أن نفسه موصوفة بنفائس أوصافها ، وانها نازلة من الدوحة النبوية من ذرى أشرافها.
كشف الغمة ٢ / ٨٨٤.
وقال ابن حجر : لقد ورث علي النقي من ابيه علماً وكمالاً وسخاءً. الصواعق المحرقة / ٢٠٦.
وهكذا ذكر كل مَن كتب في سيرته عليهالسلام على كمال صفاته ، وعلوّ شأنه ، من وقارٍ ، وهيبةٍ ، وعبادةٍ ، وسخاءٍ ، وحسن كلام ، وفصاحة منطق ، وجميل تواضع ، وهذا ينمُّ عمّا أخذه هذا الامام من ابيه وأجداده عليهمالسلام وما توارثه من معالي الصفات ، لا سيما وهو وريث الدوحة النبوية التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيرا.
مع ابيه عليهالسلام
لم يحظ من والده الجوادِ |
|
الا بعامين على العدادِ |
حيث مضى الجوادُ نحو « مروِ » |
|
وركبهُ يطوي الفلا ما يطوي |
وترك الوليد في المدينه |
|
برفقة الوالدةِ الحزينه |
غذتهُ من طهارةِ الانسابِ |
|
ومن صفاءِ الروحِ واللُباب |
ويا لها من برةٍ وفيه |
|
لدوحةٍ طاهرةٍ قدسيه |
وقد نما الامامُ في يديها |
|
يشعُ من أنوارهِ عليها (١) |
__________________
(١) تُشير المصادر الى عدم تمكنّ الامام الهادي عليهالسلام بالتمتع طويلاً في كنف والده الامام الجواد عليهالسلام بسبب الظروف السياسية التي لم تدع الامام الجواد للبقاء في مدينة جده رسول الله صلىاللهعليهوآله وأن المأمون العباسي عندما عزم على تزويج إبنته « أم الفضل » للامام الجواد كان عمر الامام الجواد ٩ سنوات ، وبعد إعتراض بني العباس على هذا الزواج دعاه المأمون الى بغداد لغرض المناظرة ، وإظهار فضله لكن يبدو من التحقيق أن المأمون عقد للامام الجواد عليهالسلام على ابنته بمرو سنة ٢٠٣ هـ وكان عمر الامام ٨ سنوات ، ومن خلال التقصي يبدو أن المأمون عندما عزم على التوجه من مرو الى بغداد بصحبة الامام الرضا عليهالسلام أستشهد الرضا في قرية من قرى خراسان ، ودفن هناك وحين عودة المأمون الى بغداد إعترضه بنو العباس على عقد الزواج هذا « للإمام الجواد » ممّا دعا المأمون الى استقدامه لغرض المناظرة ، وكان ذلك سنة ٢٠٤ هـ وعمر الامام الجواد آنذاك ٩ سنوات ، وبعد زواجه هذا طلب الامام من المأمون العودة الى مدينة جده صلىاللهعليهوآله وعند عودته تزوج « سمانة المغربية » وكان عليهالسلام عمره ١٦ سنة ، وذلك في عام ٢١١ هـ فولد منها الامام الهادي عليهالسلام عام ٢١٢ هـ.
أشرنا فيما سبق الى جملة من مواصفات والدة الامام الهادي عليهالسلام حيث أفاضتْ شيئاً من روحها الطاهرة ، وصفاء نفسها على ولدها الهادي عليهالسلام طالما هي برفقته ، وتشير بعض المصادر أن والدته « سمانة » من سلالة « مارية القبطية » أحدى زوجات الرسول صلىاللهعليهوآله وكانت مصرُ آنذاك تُعدُّ من منطقة المغرب ، وقد عرفنا أن « مارية القبطية » مصرية المرجع وأن « سمانة » مغربية الاصل ، ولا غرابة في ذلك.
عودة الامام الجواد عليهالسلام
حتى غدا في سادس الاعوامِ |
|
مبرزاً في خيرة الاعمامِ |
جاء بشيرُ الخير بالبشاره |
|
ان جوادَ العلم حلَّ داره |
فعمت الافراحُ كل دارِ |
|
لا سيما بدارةِ المختارِ |
وفزع الهادي الى اللقاءِ |
|
بالشوق والدموعِ والدعاءِ |
معتنقاً اباهُ باشتياقِ |
|
ومطفئاً لحرقةِ الفراقِ |
وضمّهُ الجوادُ في حنانِ |
|
وحيثُ منه تدمعُ العينانِ |
ويحمدُ الله على نعمائه |
|
لما رأى وريث اوصيائهِ (١) |
* * *
__________________
(١) تُشير المصادر التاريخية الى أن الامام الجواد عليهالسلام بعد زواجه من « أم الفضل » ابنة المأمون العباسي لم يسمح له المأمون بالخروج من بغداد حتى جاءت سنة ٢١٨ هـ حيث قرّر المأمون أن يغزو الروم في هذه السنة ، حينئذ أستأذنه الامام الجواد عليهالسلام بالتوجه مع « أم الفضل » الى المدينة ، حيث ترك هناك ولده الهادي عليهالسلام مع والدته « سمانة » ولمّا وصلها كان عمر الهادي عليهالسلام حوالي ست سنوات.
وكان للإمام الجواد من أبيه الرضا عليهالسلام جملة من الاخوان هم أعمام الامام الهادي عليهالسلام وكانوا معروفين بالتقوى ، والوقار ، وشرف النسب ، وكانوا مع ابن اخيهم الهادي يجلّونه ويعرفون فضله.
وعلى كل حال فبعودة الامام الجواد عليهالسلام الى المدينة عمّتْ الافراح هناك برجوعه ثانيةً ، حيث عانق ولده الهادي عليهالسلام بعد غيبةٍ طويلة ، لكن سرعان ما يستدعيه طاغية العصر الجديد « المعتصم » الى بغداد ، وذلك في أوائل سنة ٢٢٠ هـ وهناك أوصى بالامامة من بعده لولده الهادي ، وما أن حلّ أخر ذي القعدة عام ٢٢٠ هـ أستشهد الامام الجواد عليهالسلام مسموماً على يد المعتصم ، وكان الامام الهادي عليهالسلام لا يتجاوز العاشرة من عمره الشريف ليتولى منصب الامامة بعد رحيل والده الجواد عليهالسلام.
دور الامام الهادي عليهالسلام
يغذوهُ بالفقه وبالمعارفِ |
|
وبالهدى من كل علمٍ هادفِ |
حتى غدا أعجوبةَ الزمانِ |
|
وسيداً فاق على الاقرانِ |
وإذ رقى المعتصمُ الخلافه |
|
وراقبَ « الجوادَ » حيثُ خافه |
مستقدماً اياه « للزوراءِ » |
|
يسومه بالظلم والبلاءِ |
فظل وحده الامامُ الهادي |
|
في ارضِ طيبةٍ بلا عمادِ |
لكنه مالان واستكانا |
|
رغم الذي عانى به ما عانى |
من وحشةٍ وقلةٍ من ناصرِ |
|
وظلم سلطان لئيمٍ جائرِ (١) |
* * *
__________________
(١) رغم قصر المدة التي قضاها الامام الجواد عليهالسلام مع ولده الهادي عليهالسلام والتي إمتدتْ سنتين بعد ولادته ، وسنتين بعد رجوعه ثانيةً الى المدينة ، كان الامام الجواد عليهالسلام يحرص خلال هذه المدة على إعداد ولده الهادي للامامة العامة ، فأخذ يزقّهُ من العلوم والمعارف ، وما ورثه من آبائه وأجداده من مكارم الاخلاق ، إضافة الى حرصه الشديد على التنويه بالنص عليه من بعده بين أوساط شيعته وجماهير الامة.
ذكرنا فيما سبق خوف الطغاة من وجود الائمة عليهمالسلام على طول العصور ، وما يشكله هذا الوجود من تهديد لسلطتهم ، وذكرنا كذلك كيف كان يخشى طاغية بني العباس « المعتصم » من وجود الامام الجواد عليهالسلام في المدينة ، وما يشكله من تهديد لسلطته هناك ممّا دعاه الى استقدامه الى بغداد ، حيث سامه بأنواع الظلم والبلاء من تهوين ومراقبة ، حتى دسّ إليه السمّ كعادة من سبقه من طغاة بني العباس ، وذلك في أواخر ذي القعدة من عام ٢٢٠ هـ ودفن جنب جده موسى الكاظم عليهالسلام في مقابر قريش ، تاركاً ولده الهادي عليهالسلام في المدينة ليعاني هو الآخر من ظلم هؤلاء الطغاة ومن ياتي بعدهم.
إمامة الهادي عليهالسلام
حتى قضى الجواد في بغداد |
|
واصبحت « يثربُ » في حدادِ |
وفزع الناس لبيت الهادي |
|
وهم يُعَزّونَ فتى الجوادِ |
وقيل أن عمره ثمانيه |
|
وقيل تسعة بقول راويه |
لكنه قد قام بالامامه |
|
متبعاً اباه بأستقامه |
يُجيبُ عن اسئلة العبادِ |
|
وينشر الاحكام في سدادِ |
قد عجبت من علمه الرواةُ |
|
واحتشدت في بيته الثقاةُ |
تروي الحديث عنه عن ابائهِ |
|
عن النبي وهو في عليائهِ (١) |
* * *
__________________
(١) نقل الشيخ المفيد « رحمه الله » في الارشاد أن الامام الجواد عليهالسلام كثيراً ما يقول : الامر من بعدي لولدي علي.
وفي ذلك ايضاً يقول الشيخ المفيد : والاخبار بشأن إثبات الوصية بإمامته كثيرة جداً ، وإن عملنا على إثباتها طال بها الكتاب ، ولعل في اجتماع المسلمين على إمامته وعدم مَنْ يدّعيها سواه في وقته ما يكفي لأثبات إمامته. الارشاد / ٣٢٩.
وهكذا لم توضح المصادر الى أن الامام الجواد عليهالسلام قد خرج مرتين من المدينة الى بغداد ، فقد ورد في « البحار » عن اسماعيل بن مهران أنه قال : لمّا خرج ابو جعفر « يعني الجواد » من المدينة الى بغداد من المرّة الاولى قلت له عند خروجه : جُعلت فداك إني أخاف عليك فالى مَن الامر بعدك ؟ فتبسّم الامام وقال : ليس حيث ظننت في هذه السنة ، فلما أستدعي من قبل المعتصم ثانيةً صرت إليه وقلت له : جُعلت فداك هذه المرة لِمن الامر بعدك ؟ فبكى عليهالسلام حتى أخضلت لحيته ثم قال : عند هذه يُخاف عليَّ ، الامر من بعدي لولدي عليّ.
وهكذا يتبين أن الامام الجواد عليهالسلام قد ترك ولده الهادي عليهالسلام وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره برفقة والدته الفاضلة « سمانة ».
اصحابهُ ورواتهُ
رواتهُ من اصدق الرواةِ |
|
يحدّثُ الماضي به للآتي |
أولائي كانوا ينقلون الخبرا |
|
بصدقهم ويكتبون الأثرا |
كانوا يعانون من الطغاةِ |
|
وقسوة الحكام والعتاةِ |
بصبرهِ يرعاهم الامامُ |
|
وباسمه يرتفع الاسلامُ |
منهم ابوشعيب الحنّاطُ |
|
وابن رجاء الثقة الخياطُ |
والشاعرُ الفذ ابو الغوث وقد |
|
تلاهُ احمد بن عيسى المعتمد |
واحمد بن حمزة القميُّ |
|
ثم ابنُ اسحاق الفتى الرازيُّ |
واحمدُ بن الكاتب السيّاري |
|
واحمدُ بن الكاتب الانباري |
وابن عبيد جعفر بن عيسى |
|
والثقة المبرقع بن موسى |
والحسن الصيقلُ والصنعاني |
|
وجعفر بن نوح الهمداني |
ثم الحسين بن عبيد القمي |
|
ثم ابن جمهور كبيرُ القومِ |
ثم ابن اسحاق الفتى حمدانُ |
|
وخادمُ أمِ الواثق « الخيرانُ » |
ثمَّ ابن قاسم الجليل الجعفري |
|
ثم ابو العباس وهو الحميري |
والاشعري سعدٌ بن الاحوصِ |
|
وعروةُ النخاس غيرُ المخلصِ |
وبعدهُ عبد العظيم الحسني |
|
ومن روى حديثه في السننِ |
وما رواهُ ابن ابي عتابِ |
|
يملأ في الحديث الفَ بابِ |
والنوفلي ناقلُ الاخبارِ |
|
ثم عليٌ بن مهزيارِ |
وبعدهُ قارون ذو الجهاله |
|
والاشترُ الذي جهلنا حاله |
وبعدهُ محمدُ بن الفضلِ |
|
يروي عن الهادي بأحلى قولِ |
ثم ابن اسحاق الفتى يعقوبُ |
|
الشاعرُ الكاتبُ والاديبُ |
قد أدب « المعتز » و « المؤيدا » |
|
لكنهُ فضلَ عليّ اعتقدا |
ومرةً بالمتوكل إلتقى |
|
يسأله عن هاشم اهل التقى |
فقال من للمجد يُنسبانِ |
|
نجلاي هذانِ ام السبطانِ ؟ |
فقال نعلا قمبر خادمهم |
|
افضل من ذين ومن والدهم |
فراح في طريقه شهيدا |
|
وبات في جنته سعيدا (١) |
__________________
(١) بعد استشهاد الامام الجواد عليهالسلام عن عمر قصير حيث كان عمره الشريف ٢٥ سنة مسموماً على يد المعتصم العباسي ، عمّ الأمة الاسلامية آنذاك الحزن والأسى على فقدانه ، وكان عمر الامام الهادي عليهالسلام ثمان سنوات حينما قام بأعباء الامامة ، وكان آنذاك في المدينة حيث سار بسيرة والده الجواد من التصدّي لشؤونها ما يترتب على الامام من الاضطلاع بمسؤوليتها ، ومنها نشر الاحكام الاسلامية ، والدفاع عن بيضة الدين والمذهب ، ورواية الحديث ، وبناء الجماعة الصالحة وغير ذلك.
وتُشير المصادر الى أن الامام الهادي عليهالسلام بدأ ينمّي حركة الوعي السياسي والايماني ، ويستقطب الناس من حوله ، ويمارس دور التربية والتوجيه عن طريق نشر الوعي الاسلامي والمعرفة الصحيحة ، والتعريف بمباديء الاسلام في الحكم والاجتماع والسياسة ، ومن هذا المنطق أخذ يربّي جيلاً من العلماء والرواة على أُسسٍ متينة من العلم ، والتقوى ، والورع ، والثبات على الحق.
وهكذا أصبح الامام الهادي عليهالسلام مرجعاً لأهل العلم ، والفقه ، والتشريع في عصره ، بحيث أحصى الشيخ الطوسي في كتابه « الرجال » أكثر من ١٨٥ تلميذاً ورواية رووا عن الامام الهادي عليهالسلام.
سأكتفي بترجمة موجزة لأشهر اثنين ممن ورد ذكرهم ضمن هذه الملحمة المباركة.
١ ـ السيد عبد العظيم بن عبد الله
بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهالسلام وهو من أكابر المحدّثين والعلماء والزهّاد ، صاحب ورع وتقوى ، ومن
=
__________________
=
أصحاب الامامين الجواد والهادي عليهماالسلام وكان في غاية الانقطاع اليهما ، قد روى عنهما أحاديث كثيرة ، وقد ترجمتْ له كتب الرجال ونقلت اخباره ، ومنها خبر دخوله على الامام الهادي عليهالسلام عارضاً عليه دينه طالباً منه الدعاء بالثبات على المبدأ فقال له الهادي عليهالسلام : يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي أرتضاه لعباده ، فأثبت عليه ثبّتكَ الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
وكان الامام الهادي عليهالسلام قد شهد له بالعلم ، والتقوى ، والورع ، وتزوج عبد العظيم الحسني من بنت عم أبيه « خديجة » بنت القاسم الزاهد بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط عليهالسلام ويعرف بـ « شاه عبد العظيم » ويُنقل عنه أنه طورد من قبل سلطات بني العباس ، وخصوصا من المعتز العباسي ، وأخذ يتنقل من بلدٍ الى آخر فاراً بدينه ، حتى وصل الى « الري » جنوب طهران فوافاه الأجل هناك بين سنة ٢٥٢ هـ و ٢٥٥ هـ وله هناك مقام مشهور تزوره الناس للتبرك به.
٢ ـ ابن السكّيت : هو ابو يوسف يعقوب بن اسحاق والسِكّيت لقب ابيه « اسحاق » لأنه كان كثير السكوت طويل الصمت ، كان اسحاق « والده » من أصحاب الكسائي عالماً بالعربية ، واللغة ، والشعر ، وكان ولده « يعقوب » معه يعلّم الصبيان في مدينة السلام ، تتلمذ « يعقوب ابن السكّيت » في صغره على يد والده ، وكذلك على ابي عمرو الشيباني ، والفراء ، وابن الاعرابي ، وغيرهم حتى برع في علوم القرآن ، والنحو ، واللغة ، ووصفه رجال الحديث بكونه ثقة.
قال عنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : ابن السكّيت يعقوب صاحب كتاب « اصلاح المنطق » كان من أهل الفضل والدين موثوقاً بروايته.
وقد حصل خلاف كثير في تحديد ولادته ووفاته ، ولعل الارجح بين اقوال المؤرخين : أنه ولد سنة ١٨٦ هـ وعاش ٥٨ سنة وبذلك يكون استشهاده سنة ٢٤٤ هـ.
وُلد في مدينة « دورق » إحدى مدن « خوزستان » ، ثم إنتقل مع ابيه الى بغداد ، وكان إماميّ المذهب ، ويعدَّ ابن السكيت من أعظم الذين واجهوا الموت ببطولة نادرة.
واجمع المؤرخون بقولهم : كان ابن
السِكّيت إماميّ المذهب ، يميل الى تقديم الامام علي على غيره في العلم والفضل والبطولة ، وقد استقدمه المتوكل العباسي لتأديب ولديه « المعتز
، والمؤيد » وفي إحدى المرات كان ابن السِكّيت مع المتوكل إذ جاءه ولداه فقال له
المتوكل :
=
__________________
=
يا يعقوب أيهما أحبّ إليك انا وولداي هذان ، أم علي ابن ابي طالب وولداه الحسن والحسين ؟
فقال له ابن السِكّيت حالا : إن شسع نعل قنبر « خادم علي » خير منك ومن ولديك ، فأمر المتوكل الاتراك أن يسلّوا لسانه من قفاه فمات شهيداً.
وهذا لعمري موقف الاحرار الذين ضربوا بموقفهم ضد الطغاة أروع المواقف وأسماها ، ويُعبّر هذا عن صدق الولاء لأهل البيت عليهمالسلام وصلابة الموقف ، وقد خلّف من بعده جملة من خيرة المصنّفات في اللغة والنحو ، ومعاني الشعر وشروح لدواوين العرب ، وأشهرها على الاطلاق كتابه « إصلاح المنطق » الذي مدحه الكثير وعنى بشرحه جماعة شرحاً وإختصاراً وقد طبعت من كتبه : إصلاح المنطق ، الاضداد في اللغة ، القلب والابدال ، الالفاظ.
ومن الطريف مما ينقل عنه أنه سقط فيما حذّر فيه غيره من زلّات اللسان حينما أنشد بيتين من الشعر :
يُصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه |
|
وليس يُصاب المرء من عثرة الرّجل |
فعثرتُه في القول تذهب رأسه |
|
وعثرته في الرّجل تبرا على مهل |
جزاه الله عن الدين والمذهب والائمة خيراً كثيراً لصلابة موقفه ضد الطغاة وحشره الله مع الشهداء وحسن أولئك رفيقا.
الوضع السياسي والاجتماعي
واضطربت في عهدهِ الافاقُ |
|
وخرجت بالجبلِ الفسّاقُ |
وقطعوا الطريق والسبيلا |
|
واكثروا الارعاب والتقتيلا |
وقُتلَ « الحُجاجُ » عند الموسمِ |
|
ولم تفدهم نخوةُ المعتصمِ |
ووثبت « سُليم » بالمدينه |
|
واصبحت أسواقها حزينه |
ونهب السرّاق بيت المالِ |
|
واقترفوا مساوئ الافعالِ (١) |
* * *
__________________
(١) كنّا قد أشرنا فيما سبق ضمن سرد حياة إمامنا الجواد عليهالسلام وفي حلقات هذه الملحمة المباركة شيئاً من صفات المعتصم العباسي ، وما يتلوه فيما بعد ، وإرتكابه الموبقات وما رافق عصره من حوادث نتيجة إنشغاله باللهو وشدة تعسفه ، وقد أشارتْ جملة من كتب التاريخ الى ابرز هذه الحوادث ومنها :
ـ خروج جماعة من الفسّاق يلبسون ملابس حمراء في منطقة الجبل ، حيث قتلوا الناس ، وقطعوا الطريق ، وتعرّضوا لحجّاج خراسان ، وقتلوا منهم جماعة ، وقد أرسل إليهم المعتصم قائده « هاشم بن باتيجور » لكنه لم يفلح في القضاء عليهم ، ثم أرسل اليهم بعد ذلك « إسحاق بن ابراهيم » فقاتلهم حتى أبادهم.
ـ خروج جماعة تُعرف بـ « الزّط » بين البصرة وواسط حيث قطعوا الطريق ونهبوا الناس فتوجّه إليهم القائد « أحمد بن سعيد الباهلي » حيث هزّمهم وحملهم الى بغداد ، ثم أسكنهم خانقين تخلصاً من شرّهم.
ـ فساد جماعة من قبيلة « بني سليم » في المدينة المنورة ، حيث عاثوا هنالك فساداً حتى استفحل امرهم ووصل الى الحجاز ، حيث عاثوا في الاسواق فساداً وقاتلوا القبائل ثم قطعوا طريق الناس ، وقد حصل هذا ايام حكم الواثق العباسي سنة ٢٣٠ هـ.
ـ هجوم جماعة من السُرّاق على بيت المال الموجود في قصر الخلافة ، وسرقوا مبلغاً كبيراً من المال وقد حصل هذا ايام الواثق سنة ٢٣١ هـ.
فتنة خلق القرآن
واحتدمت في تلكم الازمانِ |
|
فتنة خلق الله للقرآنِ |
وعصفت بالعلماء المحنه |
|
ونسيت في المسلمين السُنه |
وبعضهم قد ادعى النبوه |
|
لانه لم يخش أيَّ قوه (١) |
__________________
(١) من أشدّ الفتن التي عصفت بالامة الاسلامية هي فتنة خلق القرآن ، حيث ظهرتْ في منتصف العصر العباسي الاول اشاعة ، ومفادها أن القرآن بما أنه كلام الله ، فهل هو يقدم الله تعالى ام انه مخلوق وليس قديم ؟!.
ذكر الدميري : وفي أيام المأمون العباسي ظهر القول بخلق القرآن ، بل قيل أن هذا القول ظهر في أيام هارون العباسي ، وكان الناس فيه بين أخذ وترك ، حتى زمن المأمون ، فحمل الناس والعلماء على القول به ، وكل مَنْ لم يقل بذلك عاقبه أشد عقوبة. حياة الحيوان ١ / ٩٨.
وينقل احد المؤرخين : للمأمون محاسن لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن.
ويبدو من خلال إستقراء الاحداث أن ظهور مثل هذه الافكار الهدّامة ، وشيوعها في الاوساط الاسلامية إنما هي بدع إبتدعها النظام الفاسد لأغراض سياسية ، كتصفية العلماء المعارضين للنظام ، وإشاعة أفكار فاسدة لضعف الوعي الديني ، وإلهاء الناس عن التصدي لفساد الحكم ، وإنشغال الحكّام آنذاك في شهواتهم ، كما يبدو من خلال السرد التاريخي أن أول مَنْ قال بها وأظهرها هو الخليفة هارون الرشيد العباسي ، ثم أظهرها بقوة وعمل بها ، وحمل الناس والعلماء عليها هو المأمون ، وهكذا حتى أشتدّت ايام المعتصم والواثق ، ثم استمرت بين أخذ وتركٍ الى فترة طويلة ، وفيها حمل الناس ، والعلماء قسراً على الاعتقاد ، والقول بان القرآن شيء مخلوق ، وليس هو ذات الله لأن كلامه سبحانه من صفاته ، وصفاته عين ذاته.
وقد حُمل كبار العلماء على القول
بذلك من أيام الرشيد ، وفيما بعد حتى قُتل الكثير منهم ، أو عُذّب ، أو سُجن ، أو نفي ، ولعل أبرزهم إمام المذهب الحنبلي « أحمد بن
حنبل »
=