الف سلامٍ لفتى موسى الرضا |
|
يجري على اعتابها بلا إنقضا (١) |
__________________
(١) لما اطعم الامام الرضا عليهالسلام العنب المسموم خرج من المأمون ودخل داره مغطى الرأس ، قال ابو الصلت : خرج الامام عليهالسلام من المأمون مغطى الرأس ، وكنت آنذاك في صحن الدار اذ دخل علي شاب حسن الوجه اشبه الناس بالرضا فقلت له من انت ؟ فقال : انا حجة الله عليك يا ابا الصلت ، انا محمد بن علي « الجواد » ثم مضى نحو ابيه ، ثم روى مسألة تغسيله وتكفينه والصلاة عليه. عيون اخبار الرضا ٢ / ٢٧٢.
لكن الشبلنجي في نور الابصار ينقلها بشكل اخر حيث يقول : قال ابو الصلت : لما امرنا بتجهيز جنازة الامام الرضا عليهالسلام وخرجنا بها الى المصلى أخّرنا الصلاة عليه قليلاً فاذا برجل عربي وقد اقبل على بعير من جهة الصحراء فنزل ، ولم يكلم احداً فصلى عليه فصلى الناس معه ، ثم اختفى فسرعان ما أمر المأمون بطلبه ، فلم يروا له اثراً ، ويقصد الامام الجواد عليهالسلام.
وخلاصة القول وايا كان الامر فأن الامام المعصوم اذا مات ، او استشهد ، او قتل ، فغالباً يصلي عليه امام معصوم يخلفه ، وهذا ما جرت عليه العادة عند الائمة المعصومين ، واشارت الى ذلك المصادر.
وقد افاضت المصادر كثيراً في وصف استشهاد الامام الرضا عليهالسلام وغسله وتكفينه ، وما اظهره المأمون تمويهاً من جزع وبكاء على فقده ، فقد ذكر الطبرسي في اعلام الورى : لما توفي الرضا عليهالسلام انفذ المأمون الى محمد بن جعفر الصادق عليهالسلام وجماعة من آل ابي طالب ، فلما حضروا نعاه عليهالسلام اليهم ، واظهر حزناً شديدا ، وتوجّعاً لفقدانه ، ثم قال وهو يخاطب الجثمان الشريف بحضورهم : يعز علي يا اخي ان اراك بهذه الحال وقد كنت آمل ان اقدم قبلك ولكن ابى الله الا ماراد.
ومن المفيد ان نذكره هنا ان الامام الرضا عليهالسلام كان كثيراً ما يصرح انه سيُدفن جنب هارون العباسي كما اشرنا سابقاً.
وبموت الرضا عليهالسلام ضجت
مدينة طوس وضربت رؤوسها وصدورها عليه ، واقام المأمون تمويهاً الحداد عليه ثلاثة ايام ، وبعد دفنه في مكانه في مدينة مشهد المقدسة صار
قبره مأوى للمحبين وعشاق اهل البيت عليهمالسلام ومهوى القلوب المنكسرة ، ومقصدا لأصحاب الآفات والعاهات لغرض الاستشفاء ببركته ، وصار المسلمون وغير المسلمين يرتادونه من مشارق
=
__________________
=
الارض ومغاربها ، وقد اجريت على مكان قبره على طوال السنين عدة مشاريع توسعة واعمار ، حتى صار تحفة زاهية من تحف العالم الاسلامي ، ولو راجعت كتاب موسوعة العتبات المقدسة ـ قسم خراسان للاستاذ جعفر الخليلي ، لوجدت الكثير من هذه الاشارات لتاريخ الاعمار والصيانة والتوسعة ، ومن الجميل ان نذكر كذلك عند هذه النقطة ابيات للشاعر العراقي المبدع جواد جميل بمناسبة تبديل الشباك ـ الضريح ـ القديم بآخر جديد ، وذلك في عام ١٤١٥ هـ مع ملاحظة ان مادة التاريخ في الاصل لأحد العلماء الادباء في ايران.
هذا عليٌ وابن موسى والرضا |
|
ودليل آيات الكتاب المحكم |
ورث الفخار عن النبي فحيدرٍ |
|
فعن البتول فإكرمٍ عن أكرمِ |
طافت ملائكة السماء بقبرهِ |
|
ما بين معتمرٍ لديه ومُحرمِ |
هو بابُ حطةٍ الذي تهفو لهُ |
|
كلُ القلوب وفي حماه تحتمي |
يا زائراً هذا الثرى طاطأ على |
|
عتباته واسكبْ دموعكَ والثمِ |
واذا سألت عن الخلود فها هنا |
|
أرخ : ( وصلِّ على الضريح وسلمِ ) |
وهكذا رحل هذا الامام العظيم شهيداً مسموماً بسمّ المأمون العباسي اسوة باجداده الذين مضوا قبله بنفس المصير ، واسوة بابناءه عليهمالسلام الذين سيحل بهم نفس المصير ، رحل هذا الامام العظيم بعد ان قدّم للاسلام والمسلمين بعلمه وفكره واخلاقه ، وبما خلفه من تراث ضخم ، ثم انتقلت الامامة من بعده لولده محمد بن علي الجواد عليهالسلام.
فسلام عليه يوم ولد ويوم أُستشهد ويوم يبعث حياً.
الأِهْدَاء
الى سيدي الأمام محمد بن علي الجواد عليهالسلام
الذي تحمّل ثقل الامامة ، وهو فتى لم يبلغ الحلم بعد !!
فكان طوداً شامخاً ، وعَلماً متحدياً
في زمنٍ اختلطت فيه المفاهيم ، وتشوهت فيه القيم والافكار ،
وفقد فيه الانسان بعض معانيه.
أُقدم هذا الجزء من ( قوافل النور )
راجياً ان يكون وثيقة حب ، وولاء ، ومودة ..
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
اضاءة
بعد صدور الاجزاء العشرة من ملحمة « قوافل النور » الشعرية ما كنت احسب اني استطيع مواصلة نظم القوافي ، والمضي قدما في طريق القوافل المباركة بسبب القلق الامني والاوضاع المعقدة التي يعيشها بلدنا الحبيب العراق ، اضافة الى انشغالي بكثرة الاعمال وعدم الاستقرار .. والشعر لا يولد الا في الاجواء الهادئة ، ولكن علاقتي بقوافل النور تعمقت عبر الزمن واصبحت تشكل في خاطري هاجساً يوقظ في مشاعري حركة النظم ، والاهتمام بالشعر والتاريخ كلما حاولت الاسترخاء.
وهكذا رغم زحمة الاعمال ، وبحبوحة الحزن ، والسهر ، واللقاءات ، والسفر الدائم وسط الالغام المتفجرة في طريقنا الصعب الملتوي ، واصلت بتوفيق الله اكمال هذا المشروع فصدر الجزء الخاص بالامام الصادق عليهالسلام وهو اول جزء يطبع في العراق بعد سقوط النظام البائد ، وبعده صدر الجزء المتعلق بالامام موسى بن جعفر الكاظم عليهالسلام وهو من اكثر الاجزاء مادة شعرية وتعليقات ادبية وتاريخية نافعة والجزء الخاص بالامام علي بن موسى الرضا عليهالسلام.
وهذا الجزء الخاص بالامام التاسع من ائمة أهل البيت عليهمالسلام الامام محمد بن علي الجواد عليهالسلام الذي عاش الظروف الصعبة بعد رحلة ابيه عليهالسلام من الحجاز الى خراسان ثم توليه الامامة من بعده في مرحلة معقدة خطيرة على مستوى الفكر وكثرة الصراعات السياسية والاجتماعية.
ولكن الامام الجواد ؛ وبما اوتي من عصمة وحكمة وكرامات ، استطاع ان يوجه اتباع مدرسته بالاتجاه الصحيح ، وان يرسم لهم خطوات الطريق نحو بناء قواعد المدرسة الفكرية والسياسية لأهل البيت عليهمالسلام.
وقد استعرض هذا الجزء ملامح حياة الامام الجواد عليهالسلام ، وفضائله ، ومناقبه ، واهم الاحداث والمحطات التاريخية في حياته الشريفة بالاستعانة بأهم المصادر التاريخية والادبية التي كتبت عن حياته سواء ما كان منها قديماً او حديثاً.
كما جاءت التعليقات في الهامش وافية تعكس الحياة الحافلة بالبطولة ، والبراعة ، والمعطيات الفذة للامام الجواد عليهالسلام.
وهكذا تبقى ملحمة « قوافل النور » المشروع الادبي والتاريخي الذي افتخر بانتسابي اليه وانسابه لي ، وحسبي ان قلمي لامس السطور العطرة التي تعبق بشذا الائمة الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
والحمد لله ربِّ العالمين
المولد المبارك
في رمضان كانت المدينه |
|
هادئةً تلفها السكينه |
إذ اشرق النورُ على الأكوان |
|
وزُفت البشرى « لخيزرانِ » |
فإنها قد ولدت عظيما |
|
مطهراً مكرماً حليما |
يلوح من جبهته الضياءُ |
|
في وجهه للمصطفى سيماءُ |
فذا عليٌ الرضا يبتسمُ |
|
وفي سجايا فضله يتمتمُ (١) |
* * *
__________________
(١) اتفق بعض المؤرخين على ولادة الامام الجواد عليهالسلام انها كانت في شهر رمضان عام ١٩٥ هـ لكنهم اختلفوا في تحديد يوم الولادة وقد تراوحتْ اقوالهم بين الخامس او خمسة عشر او سبعة عشر او تسعة عشر من رمضان.
بينما اشار البعض الاخر من المؤرخين على انه ولادته كانت في العاشر من شهر رجب بناءً على التوقيع الصادر من الناحية المقدسة في الزيارة المشهورة في رجب وهي :
« اللهم اني اسالك بالمولودين في رجب : محمد بن علي الثاني وابنه علي بن محمد المنتجب واتقرب بهما اليك خير القرب »
ولعل العاشر من رجب سنة ١٩٥ هـ هو التاريخ المشهور بين الشيعة.
وامُهُ أم ولد أشتراها الامام الرضا عليهالسلام في مكة ، وقد أشارتْ المصادر الى تعدّد اسمائها من سبيكة ، الى سكينّة ، الى درّة ، الى سكن ، الى ريحانه ، وقد سمّاها الامام الرضا عليهالسلام فيما بعد الخيزران ، وكانت نوبية من شمال افريقيا اما من مصر او من المغرب ، وقيل هي من نسل مارية القبطية ، جارية وزوجة رسول الله صلىاللهعليهوآله وأم ولدهِ ابراهيم ، وكانت كنيتها « ام الحسن » وكانت من الجلالة ، والشرف ، والطهارة أن وردتْ في حقّها عدة نصوص تُشير الى فضلها.
جاء في كتاب عيون المعجزات للحسين بن عبد الوهاب : لمّا بُشّر الامام الرضا عليهالسلام بولادة ولده الجواد عليهالسلام قال : قُدّستْ أمٌ ولدته قد خُقلتْ طاهرة مطهّرة.
صفاته والقابه
يقول إنهُ شبيه موسى |
|
وهو بهديه شبيهُ عيسى |
ألقابهُ الجوادُ والتقيُّ |
|
والمرتضى القانعُ والرضيُّ |
يُعرفُ بالرفق وبالسخاءِ |
|
والبر والرحمةِ والعطاءِ |
وطالما أطراهُ جُلُ العلما |
|
مكارم تبلغ في المجدِ السما |
فحبهُ فريضةٌ مكتوبه |
|
وفي اتباع نهجهِ مثوبه (١) |
__________________
(١) إن قضية تشبيه الائمة عليهمالسلام في أخلاقهم وبعض صفاتهم بنخبة معينة من الانبياء عليهمالسلام ليستْ بالامر الجديد في حياة الامام الجواد عليهالسلام .
وتذكر المصادر التاريخية ان رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : « مَنْ أراد أن ينظر الى آدم في علمه والى نوح في تقواه والى ابراهيم في حلمه والى موسى في هيبته والى عيسى في عبادته فلينظر الى علي بن ابي طالب ».
وهكذا بعض الائمة في احوالهم كالامام الحسين عليهالسلام وشبهه بنبي الله يحيى عليهالسلام وكُنّا قد تطرّقنا الى ذلك في حياة الامام الصادق عليهالسلام والامام الكاظم عليهالسلام وشرحنا الشبه بل الخصال التي تجمعهم مع بعض الانبياء عليهمالسلام .
وهكذا هو الحال مع الامام الجواد عليهالسلام الذي وردت فيه نصوص تفيد ان له شبه بأثنين من انبياء أولي العزم وهم : موسى ، وعيسى عليهماالسلام إضافة الى نبي الله يحيى عليهالسلام وهذا الشبه نابع من خصلة ، او خصال لازمتْ حياة هؤلاء الانبياء عليهمالسلام واتسمّ بها الامام الجواد عليهالسلام ومن هنا حصلت الملازمة.
وينقل لنا الطبرسي بسندٍ متصل الى صفوان بن يحيى قال : قلتُ للامام الرضا عليهالسلام : إنْ كان كون فالى مَن ؟ ـ يقصد الى مَنْ نرجع بعدك ـ فأشار الامام الرضا عليهالسلام الى ولدهُ ابي جعفر الجواد عليهالسلام وهو قائم بين يديه ، فقلتُ له : جُعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين فقال عليهالسلام : ما يضرُه من ذلك ، وقد قام عيسى بن مريم بالحجّة ، وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين. واعلام الورى ٢ / ٩٣.
=
__________________
=
كما نقل الكليني ايضاً بسند متصل الى علي بن اسباط قال :
خرج عليَّ ابو جعفر الجواد عليهالسلام بعد موت ابيه الرضا عليهالسلام فنظرت الى صغر قامته فقال لي : يا علي ان الله تعالى احتج في الأمامة بمثل ما احتج بيحيى في النبوة فقال : ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) مريم / ١٢ ، الكافي ١ / ٤١٣.
وقد تواترت كتب التراجم والسير إن القاب الامام الجواد عليهالسلام كانت تنبثق من افعاله واخلاقه ومن عمق معارفه ، وعلومه ، حيث يستشف منها عظم شخصيته المباركة ومنها :
الجواد : وهو من اشهر القابه التي عرف بها لانه اكثر أهل زمانه جودا ، وسخاءً ، وعطاء ، حتى غلب هذا اللقب على جده الامام موسى بن جعفر عليهالسلام المدفون معه فقيل « الجوادين » من باب التغليب المعروف في اللغة : المنتخب ، المنتجب ، المختار : كون ان الله سبحانه قد انتخبه ، وانتجبه ، واختاره للامامة الحقة رغم صغر سنه.
الزكي : وذلك لطهارته عن كل رذيلة او رجس.
العالم : وذلك لعظم علومه واتساعها.
التقي : وذلك لانه اتقى اهل زمانه واشدهم خوفاً من الله سبحانه.
باب المراد : وهو من القابه السارية التي لهج بها القريب والبعيد لانه مقصد حاجات الطالبين.
كل هذه الالقاب والصفات تدل على شرف المسمى ، وفيما يلي مقاطع من الارجوزة الشيخ محمد حسين الاصفهاني ـ قدس ـ المتوفي سنة ١٣٦١ هـ قالها في حق الائمة عليهمالسلام ومنهم الامام الجواد عليهالسلام والقابه وصفاته ولا سيما لقبه الجواد :
هو الجواد لا الى نهايه |
|
وجوده غاية كل غايه |
وجوده مصباح انوار الهدى |
|
وجوده مفتاح ابواب الندى |
له يدُ المعروف بالمعارف |
|
فأنها قرة عين العارف |
وباب ابواب المراد بابه |
|
والحرز من كل البلا حجابه |
كهف الورى وغوث كل ملتجي |
|
في الضيق والشدّة باب الفرج |
هو الجواد لا جواد غيره |
|
لا خير في الوجود الا خيره |
وجاء بالتكوين والتشريع |
|
بمقتضى مقامه الرفيع |
=
__________________
=
حتى اذا لم تبق منه باقيه |
|
جاد بانفس النفوس الراقيه |
جاد بنفسه سميما ظاميا |
|
نال من الجود مقاما ساميا |
والعروة الوثقى التي لا تنفصم |
|
تقطعت ظلماً بسم المعتصم |
قضى شهيدا وهو في شبابه |
|
دسّ اليه السم في شرابه |
تعسا وبؤسا لابنة المأمون |
|
من غدرها وحقدها المكنون |
سمتهُ غيلة بامر المعتصم |
|
والحقد داء هو يُعمي ويصم |
قضى شهيداً وبكاه الجودُ |
|
كأنه بنفسه يجود |
ومن المفيد ذكره هنا ان للجواد عليهالسلام كنيتين احدهما المشهورة وهي : ابو جعفر الثاني ، تمييزاً له عن جده الباقر عليهالسلام الذي كنيته ابو جعفر الاول ، وله كنية ثانية وهي : ابو علي ، وذلك لما ولِد له ولده الامام علي الهادي عليهالسلام. اعيان الشيعة ٤ / ١٦١.
حياته مع ابيه
عاش بأكنافِ الرضا مكرّما |
|
ولم ينل علومهُ من عُلما |
القى الرضا اليه من اسراره |
|
فصار في ذا موضعِ افتخاره |
يقصدُهُ من يطلب الكمالا |
|
ومن يريدُ ان يرى الجمالا |
يُشبهُ في حديثه النبيّا |
|
يحمل راياتِ الهدى صبيّا |
يُفسّرُ الكتابَ في تدبّرِ |
|
يَرقى به من منبرٍ لمنبرِ |
وخلفهُ تمشي كبارُ العلما |
|
لأن في منهاجه نهجَ السما |
يروي الحديثَ الصدقَ عن آبائهِ |
|
فيرتوي الضمأنُ من روائهِ (١) |
__________________
(١) تشير المصادر الى ان الامام الجواد عليهالسلام قد عاش قليلاً في ظل رعاية ابيه الرضا عليهالسلام فكان من الطبيعي ان يحفه الوالد الكريم بعواطفه يغمره بالطافه ، وفي هذا المجال تشير المصادر الى ان الامام الرضا عليهالسلام كان يعامله بكل تعظيم وتسجيل ، فلا يخاطبه بأسمه بل بكنيته ابي جعفر امام شيعته ومواليه ، وكان الرضا عليهالسلام قد حمله معه من المدينة الى مكة ومنها الى خراسان زيادة في اشهار فضله والتهيأة لأمته ، وكان والده عليهالسلام يعمل بكل جهدٍ لتثبيت قواعد إمامته فكان يقول دائماً : هذا ابو جعفر قد أجلسته مجلسي ، وصيرته مكاني ، ونحن اهل بيت يتوارث اصاغرنا عن اكابرنا.
وكان الرضا عليهالسلام يفيض عليه في هذه المدة القصيرة بغوامض العلوم وأدقّها ، ويرفع له من أخلاق الانبياء عليهمالسلام إعلاماً يقتدي بها ، فتربّى آنذاك تربية الهدى والصلاح ، ونهل من علومه وعلوم آبائه واجداده ما نهل حتى استقام عوده ، واشتدت عريكته ، فصار مرجعاً لأهل زمانه ، وقطبا للامامة والبرهان.
وتشير المصادر الى ان الامام الرضا عليهالسلام كان يشيد بفضله في كل حلبة وميدان فقد ورد في اثبات الوصية حيث انه عليهالسلام قال مرة لصفوان بن يحيى : كان ولدي ابو جعفر محدّثا.
اثبات الوصية ، للمسعودي / ٢١٢
=
__________________
=
ويشير المسعودي كذلك في اثبات الوصية ما يدلل على انه عليهالسلام قد نحله من العلوم والمعارف الشيء الكثير ، فبسند متصل الى كلثم بن عمران قال : لمّا ولد الجواد عليهالسلام كان الرضا طول ليلته يناغيه في مهده ، فلما طال ذلك الى عدة ليالي قلت للرضا عليهالسلام : جعلت فداك الى متى تعوّذه ؟ فقال عليهالسلام : ليس هذا عوذة وانما اغره العلم غرا.
وقد رويت اخبار تشير الى انه عليهالسلام قد ارتقى المنابر وهو صغير ، واظهر فضله وفضل ابائه ، وفي هذا الصدد ذكر البحراني عن حركة الامام الجواد عليهالسلام العلمية حيث قال : جيء بأبي جعفر الجواد عليهالسلام الى مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد شهادة ابيه الرضا عليهالسلام وهو طفل ، وسرعان ما رقى المنبر ثم نطق فقال : انا محمد بن علي الرضا ، انا الجواد ، انا والله لولا تظاهر اهل الباطل ، ودولة اهل الضلال ، ووثوب اهل الشك لقلت قولاً تعجب منه الاولون والاخرون. مستدرك عوالم العلوم ٢٣ / ١٥٩.
ونقل الطبري الامامي بسند متصل الى زكريا بن ادم قال : اني لعند الرضا عليهالسلام اذ جيء بابي جعفر عليهالسلام وله من العمر اربع سنين ، فضرب بيده الى الارض ورفع رأسه الى السماء وهو يفكر ، فقال له الرضا عليهالسلام : بنفسي انت لم طال فكرك ؟ فقال ابو جعفر عليهالسلام : فيما صُنع بامي الزهراء ، فقبله الرضا عليهالسلام بين عينيه ثم قال : بأبي انت وأمي انت لها ـ يعني الامامة من بعده. دلائل لامامة / ٢١٢.
وهكذا عاش الامام الجواد عليهالسلام عزيزاً كريماً في ظل ابيه الرضا عليهالسلام ونهل من علومه واخلاقه الشيء الكثير.
شهادة الامام الرضا عليهالسلام
وحين حانت للرضا الشهاده |
|
جاء الى « مروٍ » بغيرِ العاده |
في قصةٍ مؤلمةٍ حزينه |
|
مغادراً أهليه في المدينه |
ليحضر التغسيلَ والتشييعا |
|
وكي يعيشَ الحادثَ المريعا |
حيث قضى أبوه في غربتهِ |
|
يصارعُ السمومَ في أنتهِ |
عانقهُ وضمّهُ طويلا |
|
يُفضي اليه قولهُ الثقيلا |
مودعاً إياه بالدموعِ |
|
ورهبةِ الفراقِ والخشوعِ (١) |
__________________
(١) ذكرنا ذلك فيما سبق في حياة الامام الرضا عليهالسلام وشهادته ، وذكرنا ان الامام الجواد عليهالسلام قد حضر اباه الرضا عليهالسلام قبل وفاته ، ثم اشرف بعد ذلك على تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ، كما عليه الرواية المشهورة ، وبهذا الصدد ورد في عيون اخبار الرضا للصدوق بسند متصل الى ابي الصلت الهروي قال :
« لما سم الامام الرضا عليهالسلام ودخل داره وهو مغطي الرأس مكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبينما انا كذلك اذ دخل عليَّ شاب حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا عليهالسلام فبادرت اليه وقلت له : من اين دخلت والباب مغلق ؟ فقال : الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق ، فقلت له : من أنت ؟ فقال لي : انا حجة الله عليك يا ابا الصلت ، انا محمد بن علي ، ثم مضى نحو ابيه الرضا عليهالسلام فدخل وامرني بالدخول معه ، فلما نظر اليه الرضا عليهالسلام وثب اليه وعانقه وضمه الى صدره وقبله ما بين عينيه ثم سحبه الى فراشه واخذ يساره بشيء لم افهمه ، ثم قال ابو الصلت : فلما مضى الرضا ـ اي توفي ـ قال ابو جعفر : قم يا ابا الصلت واتني بالمغتسل والماء من الخزانة ، فقلت له : ما في الخزانة مغتسل وماء ، فقال عليهالسلام : انته الى ما امرك به ؟
فدخلت الخزانة فاذا فيه مغتسل وماء فاخرجته وشمرت لاغسّله معه فقال لي : تنحَ يا ابا الصلت فان لي من يعنني غيرك ، فغسله فقال عليهالسلام : قم فان في الخزانة تابوتاً ، فدخلت ووجدت تابوتاً لم اره قط ، فأتيته به فأخذه عليهالسلام ووضع اباه ثم صلى عليه وسرعان ما اختفى عليهالسلام. عيون اخبار الرضا ٢ / ٢٥٣.
امامة الامام الجواد عليهالسلام
من بعد أن أوصى الى الجوادِ |
|
ليصبحَ الامامَ للعبادِ |
وهو ابنُ تسعٍ لم يصل للعشرِ |
|
مشيئة لله كانت تجري |
كان ابن داود صبياً مثلهُ |
|
وقد غدى « يحي » نبياً قبله |
ذرية توارثت علوما |
|
والكل كان بالهدى موسوما |
توارثوها من علوم طه |
|
ومن سجايا حيدرٍ هُداها |
ملهمة أسراها خفيه |
|
كدوحةٍ طيبةٍ قدسيّه |
كان الجواد غصنها الطهورا |
|
في ظلمة الدرب يَشع نورا (١) |
__________________
(١) لقد رسخ الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام إمامة ابنه الجواد كما قام بذلك الائمة عليهمالسلام الذين سبقوه حيث نوهوا باسم من يأتي من بعدهم من أئمة وفي هذا المجال سنعرض المواقف التي تبثّ بها الإمام الرضا عليهالسلام إمامة الجواد ودعا شيعته للاعتصام بها ومن ذلك.
ـ قال الراوي : سمعت الرضا وذكر شيئاً فقال : ما حاجتكم الى ذلك ؟ هذا ابو جعفر قد اجلسته مجلسي وصيرته مكاني ، وقال : إنا أهل بيتٍ يتوارث اصاغرنا عن اكابرنا القذة بالقذة. اصول الكافي ١ / ٢٥٦.
ـ قال الراوي : قلت للرضا عليهالسلام قد كنا نسألك قبل ان يهب الله لك ابا جعفر فكنت تقول : يهب الله لي غلاماً ، فقد وهبه الله لك ، فأقر عيوننا ، فلا أرانا الله يومك ، فأن كان كونٌ فإلى من ؟ فأشار بيده الى أبي جعفر عليهالسلام وهو قائم بين يديه ، فقلت له : جعلت فداك هذا بن ثلاث سنين !؟. قال عليهالسلام : وما يضره من ذلك ، قد قام عيسى بالحجة وهو ابن اقل من ثلاث سنين. اعلام الورى ٢ / ٩٢.
ـ قال الراوي ، سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول : انشدت مولاي علي ابن موسى الرضا عليهالسلام قصيدتي ـ الى ان قال ـ : يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر.
مستدرك عوالم العلوم : ٢٣ / ٧٣.
العلاقة مع المأمون
قرّبهُ المأمونُ في إكرامِ |
|
رغماً على الحُسّادِ والطغامِ |
وأظهرَ الايمانَ بالامامه |
|
سياسةً أبقى بها نظامه |
فزوّجَ الجواد « أمَّ الفضلِ » |
|
مخالفاً في ذاك جلِّ الاهلِ |
وضج اذ ذاك بنو العباس |
|
حيث بدت حميةُ الأرجاسِ |
قالوا نخافُ ان يضَيعَ الامرُ |
|
وهم قليلون ونحنُ كُثرُ |
آلُ عليٍّ وبنو العباسِ |
|
خصومةً معروفةً للناسِ |
لكنما المأمون قال قولا |
|
لستُ كمن قد كان مثلي قبلا |
قد قطعوا أرحامهم وسلوا |
|
سيفاً به لبغيهم محلُ |
فلم يكونوا لي يوماً قدوه |
|
وليس لي في الظالمين اسوه |
هذا أبو جعفر الجوادُ |
|
من شهدت بفضلهِ العبادُ |
وهو وان بدا لهم أُعجوبه |
|
لكن في اكرامه مثوبه (١) |
__________________
(١) لعل في تقمّص المأمون العباسي لباس التشيع ومولاة أهل البيت عليهمالسلام والذي أشرنا اليه من قبل انما جاء نتيجة الدهاء الذي عرف به خلاف ما قيل عنه كون ذلك الأمر كان طبّعاً لا تطبعاً.
فهذا السلوك انما يصرع اليه الطغام من الناس عسى أن يقيهم تقلبات الدهر ، ولا سيما ذوي السلطان منهم ، وهكذا فعل المامون فيما سبق مع الإمام الرضا عليهالسلام وفيما بعد مع ولده الجواد عليهالسلام والذي سرعان ما زوجه ابنته أم الفضل ، رغم ان ذلك له ما يبرّره كون ما ظهر من الإمام الجواد عليهالسلام من الفضائل والمناقب هي التي حملت المأمون على فعله.
=
__________________
=
وفي هذا الصدد ينقل الشيخ المفيد انه : كان المامون قد شغف بابي جعفر عليهالسلام لما راى من فضله مع صغر سنه ، وبلوغه في العلم ، والحكمة ، والأداب ، وكمال العقل ما لم يساوه فيه اَحد من مشايخ أهل الزمان ، فزوّجه ابنته ام الفضل ، وكان مُقبلاً على إكرامه وتفضيله واجلال قدره ، اضافةً الى ان فعله هذا مع الجواد عليهالسلام قد يُخفي ورائه جملة من الأمور منها دفع تهمة اغتيال ابيه الرضا عليهالسلام عنه ، والأبقاء على كسب ودّ العلويين ، والسيطرة على تمرّدهم اِضافةً الى وضع الإمام عليهالسلام تحت عينيه خوفاً منه. الارشاد / ٣١٩.
وتشير المصادر ؛ أن المامون قد لاقى من تقريب الجواد عليهالسلام وتزويجه اعتراض العباسيين من أقاربه ، وخوفهم من قوة شوكة خصومهم العلويين الذين أبعدوا طويلاً عن سدّة الحكم ، لكنّ المامون بّرر فعله هذا لهم بأنه يزيد صلة رحمه ، اضافةً الى رجاحة عقل المأمون وكونه خلاف مَنْ سبقه من الخلفاء في قطع أرحامهم ، والذين اخذوا السلطة بالقهر والأغتصاب وهذا الإمام الجواد عليهالسلام اعجوبة عصره في العقل ، والكمال من ابناء عمومته ، فمَنْ هو أوى بالأكرام والتقديم غيره ؟!!.
المناظرة المشهورة
من شك في علومه فلياتِ |
|
مناظراً أقواله في بيتي |
فاجتمعوا وفيهم « ابنُ اكثمِ » |
|
وهو لدى المأمون أقوى عالمِ |
لكنهُ الجاهلُ والحقودُ |
|
والفاسقُ الخبث والحسودُ |
قد سأل الاماما أي مسأله |
|
غدت على من سمعوها معضله |
فقال : ما تقول فيمن قتلا |
|
صيداً وكان محرماً مبتهلا ؟ |
وبعد ان ساءله الامامُ : |
|
أضمه الحل أم الأحرامُ ؟ |
أجاهلاً كان به أم عالما ؟ |
|
غدا مصراً طائشا أم نادما ؟ |
هل صادهُ في الليل أم نهارِ ؟ |
|
كان صغيراً ام من الكبارِ ؟ |
ثم مضى الإمام في سؤاله |
|
مستفسراً عن فعله وحاله !! |
فبهت إبنُ اكثم وظلا |
|
بصمتهِ لا يستطيع قولا !! |
ففرح المأمون للمناظره |
|
حيث بنو العباس ظلت حائره (١) |
__________________
(١) قال الراوي ؛ بسندٍ متصل الى
الريّان بن شبيب ـ خال المعتصم ـ قال : لمّا أراد المامون أن يزوَّج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد الجواد عليهالسلام بلغ
ذلك العباسيين فغلظ عليهم الأمر وأستنكروا منه ، وخافوا أن ينتهي الأمر معه الى ما انتهى مع ابيه الرضا
عليهالسلام فخاضوا في ذلك ، فقال لهم المامون : لقد اخترتهْ لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم ، والفضل مع سنّه والأعجوبة فيه ، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه ،. فانْ شئتم فأمتحنوا أبا جعفر ، فخرجوا من عنده وأجتمع رأيهم على دعوة « يحيى
ابن اكثم » وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يساله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وإجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم ، ثم أمر المأمون إن يفرش لأبي جعفر دست فجاء ابو جعفر عليهالسلام وهو
=
__________________
=
يومئذ ابن تسع سنين وأشهر ، فقال يحيى بن اكثم : أتاذنْ لي ـ جعلت فداك ـ في مسألة ؟
فقال الجواد عليهالسلام : سل ما شئت ؟
فقال يحيى : ما تقول ـ جعلت فداك ـ في محرم قتل صيداً ؟
فقال ابو جعفر الجواد عليهالسلام : قتله في حلٍ أو حرم عالماً كان بالمحرم أم جهلاً ، قتله عمْداً أو خطئاً ، حرّاً كان المحرّم أو عبداً ، صغيراً كان أو كبيراً ، مبتدأً بالقتل أو معيداً ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ، من صغار الصيد أم من كباره ، مُصرّاً على ما فعل أو نادماً ، في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار ، محرماً كان بعمرة إذ قتله أو محرماً بحج ؟!
فتحيّر ابن اكثم وبان في وجهه العجز والأنقطاع وتلجلج ، حتى عرف عامّة المجلس عجزه ، فلمّا تفرّق الناس وبقي الخاصّة ، قال المامون لأبي جعفر عليهالسلام : جعلت فداك إن رأيت أن تذكر وجوه الفقه فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم لنعلمه ونستفيده ؟
فقال ابو جعفر عليهالسلام : نعم إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة ، وإن اصابه في الحرم فعليه الجزاء مُضاعفاً ، وإذا قتل فرضاً في الحل فعليه حمل قد فُطم من اللبن ، فأذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ. فأذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإنْ كان نعامة فعليه بُدنه ، وإن كان ظبياً فعليه شاة ، فأنْ كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مُضاعفاً هدياً بالغ الكعبة ، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي وكان إحرامه للحج نحره بمنى ، وإن كان إحرام بعمرة نحره بمكة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأثم ، وهو موضوع عنه في الخطأ والكفّارة على الحر في نفسه وعلى السيد في عبده والصغير لا كفّارة عليه ، وعلى الكبير واجبة ، والنادم يسقُط ندمه عقاب الأخرة والمصرّ يجب عليه العقاب في الأخرة.
فقال المأمون : أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك.
ثم طلب المأمون : من الامام ان
يسأل يحيى بن اكثم مسألة كما سأله ، فقال ابو جعفر عليهالسلام ليحيى : إخبرني عن رجل نظر الى إمرأة في أول النهار فكان نظره اليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حُرّمتْ عليه فلما طلع الفجر حُلت له ،
=